الفصل السابع

الجدل بين المنطق والنحو وكيف حاول الفارابي والغزالي تطويعهما

تقديم

تحدثنا في الفصل السابق عن مشروعية العلاقة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري، وبيَّنا كيف خضعت البحوث النحوية على أيدي نحاة القرن الرابع للمنطق في كلياتها وجزئياتها؛ أي في مناهجها وأصولها ثم أحكامها، فقد تبيَّن مِن إنتاج هؤلاء النحاة أن هذا التأثير بالبحوث المنطقية قد بلغ درجة الخضوع الكامل لاتجاهات المنطق اليوناني، والالتزام الدقيق بشروطه، ومقدماته، وأشكاله وقضاياه كما لاحظنا ذلك بوضوح عند الرماني.

وقد ساعد على هذا التطور في مجال الدرس اللغوي، وما أسلم إليه من خضوع بحوثه للمنطق اليوناني، حقيقتان بالغتا الأهمية:

الحقيقة الأولى

أن المجتمع العباسي كان قد وصل إلى مرحلة جديدة من مراحل عمره العقلي والثقافي، وهي مرحلة الإنتاج الخاص، أو الأصيل، بعد أن كان في مرحلة البحث، والتطلع، والنقل، فلقد مضى زمن الرشيد والمأمون، وامتلأت دور الكتب وخزائن الخلفاء بما نقل إليها وترجم من علوم الفرس والهند واليونان، وجاء دور التعليق والنقد، والتقويم والشرح، ودور الإنتاج والتأليف، ودور التوفيق والملاءمة بين ذلك المنقول القديم وهذا المؤلف الجديد، وكان القرن الرابع ميدانًا رحبًا لكل ذلك فظهر فيه إنتاج ذلك المجتمع، وكانت نتاج شعوب مختلفة قَوِي بينها الاتصال والتمازُج، ووحدت — أو قاربت — بينها الحياة في مجتمع واحد، وكانت وحدة لم تفقد شعبًا منها خصائصه الأصيلة، ولكنها مع ذلك لم تترك لشعب منها أن يتلوَّن بلون مخالف للمجتمع الذي طابع الفكر فيه إسلامي، ولغة التعبير فيه عربية، ولقد كان ذلك على الرغم من أن هذا العصر الذي نبحث فيه لم يكن الحكم فيه عربيًّا، وإنما كانت فيه للعرب غلبة الدين واللغة، وكان لغيرهم من الأتراك والديلم فيه غلبة الحكم والسياسة.١

الحقيقة الثانية

هي أن الفكر العربي في تلك المرحلة ما لبث أن امتص الحقائق المنطقية وأعطاها طابعه، حتى بدت بعد ذلك جزءًا من هذا الفكر أصيلًا فيه، وليست غريبة عنه ووافدة عليه، وبذلك سهل الخلط بين الخصائص المعبرة عن النظر المنطقي الإغريقي، والخصائص الذاتية للفكر العربي الممتدة عن المنهج الإسلامي، تلك الخصائص التي قنَّنها في علم الأصول الفقهاءُ والمتكلمون معًا، وقد يسَّر كل ذلك للغويين والنحاة أن يخضعوا في بحوثهم للخصائص المنطقية، وأن يطبقوا في تفكيرهم قوانينه الشكلية العلية دون أن يفطنوا إلى نسبة هذه الخصائص والقوانين للمنطق اليوناني، وبخاصةٍ أن هؤلاء اللغويين والنحاةَ لم يكونوا ممن يُعنَون كثيرًا بالبحوث الجدلية أو يتفرَّغون لتحصيل نتائجها. فإن اتصالهم بهذه البحوث اتصال المثقف المُترَف الذي ألمَّ من كل فن بطرف، وليس المتخصص المدقق الذي يتوافر عليها للإلمام بها واستِكنَاهِ حقائقها وإدراك خباياها والوقوف على مساربها.٢

وبهذا الاتصال السريع أدرك بعض النحاة واللغويين أن المنطق مضاد للفكر الإسلامي منهجًا، فهاجمه، ونقد الآخذين به بسبب إدخال العقائد المنطقية اليونانية في العالم العربي الإسلامي، وهذا الإدخال قاد إلى مواجهة بين علماء المنطق وعلماء اللغة، وتكشف مناظرة «أبي سعيد السيرافي» مع «متَّى بن يونس المنطقي القنائي» عن تصادم النحو واللغة بالمنطق والفلسفة اليونانيين؛ حيث يتحول السيرافي في هذه المناظرة إلى منطقي حاذق؛ وهو ما يؤكد على حقيقة مهمة، وهي أن النحاة يلجئون إلى المنطق عند الحاجة لحل إشكالات نحوية ولغوية، ثم بعد ذلك يهاجم بعضُهم المنطقَ بشراسة، وقد ينتقد النحوي النحاة، فيعد حججهم واهيةً كما فعل ابن مضاء القرطبي في مهاجمته للنحو المشرقي.

وفي مناظرة السيرافي لمتَّى بن يونس نلاحظ مدى تصادُم النقول العربية للمقولات الأرسطية للنحو والصرف اليونانيين، ومقارنتها بما أخذ يسود في النحو والبيان العربيين في أوج نموهما، مما حمل «أبا سعيد السيرافي» على توجيه سهام النقد القدحي، وبعنف، للخطاب الفلسفي متشبثًا بالنحو كمنطق للغة العربية.

وسبيلنا الآن في هذا الفصل هو عرض لقضية الجدل بين المنطق والنحو من خلال هذه المناظرة، ثم الكشف عن الكيفية التي طوع بها الفارابي والغزالي علاقة النحو بالمنطق، وذلك على النحو التالي:

(١) الأفكار الأساسية التي احتوتها المناظرة

تُعَد مناظرة أبي سعيد السيرافي لمتَّى بن يونس بشأن المنطق اليوناني من النصوص الأكثر ثراءً في تراثنا العربي-الإسلامي، ومما يزيد من ثرائها قابليتُها للتجدد، وانفتاحها على كثير من القراءات والتأويلات، ولا أدلَّ على ذلك مِن تناول كثير من الباحثين لها في ثنايا كتبهم ومصنفاتهم.

فما هو الجو العام الذي جرت فيه هذه المناظرة؟ وإلى أي حدٍّ يُمكن الاقتناع بما حققه السيرافي مِن الغلبة في هذه المناظرة؟

وفي الإجابة عن السؤال، يمكن القول بأن القرن الرابع الهجري قد شهد نهضة فكرية غير مسبوقة في تاريخ الثقافة العربية، ويمكن أن نرجع أسباب هذه النهضة إلى اتصال الحضارة العربية الإسلامية بثقافات الحضارات المجاورة، سواء بشكل مباشر، كما حصل مع الثقافة الفارسية، أو بشكل غير مباشر، كما هو الشأن بالنسبة للثقافة اليونانية التي نُقِلت إليها عن طريق الترجمة، وقد كان لعلماء السريان الدورُ الكبير في ترجمة الكتب اليونانية، إلى السريانية ثم إلى العربية، فكانوا هم القنطرة التي عبرت عليها علوم اليونان إلى الثقافة العربية، وكان الخلفاء إبان هذا الانفتاح على الثقافات الأخرى، يقربون علماء السريان ويستفيدون مِن خبرتهم في ترجمة الكتب اليونانية ونقلها إلى العربية، ولعل هذه المناظرة التي بين أيدينا تعكس بشكل واضح دور السريان في نقل الثقافة اليونانية إلى العرب، ويتمثل ذلك في شخص «متَّى بن يونس»، بوصفه من الفلاسفة السريان.

بدايةً، يمكن أن نقول إنَّ المناظرة التي جمعت بين «أبي سعيد السيرافي» النحوي و«متَّى بن يونس» الفيلسوف هي مناظرة حوارية حِجَاجية بامتياز؛ ذلك أن الجو الفكري الذي ساد المناظرة وطغى على حجج المتنافسين عكس خلافات حادة وجذرية طالت طبيعة كل علم وطرق استعماله.

ولقد ذكر لنا «أبو حيَّان التوحيدي» نصوصَ تلك المناظرة الشهيرة التي جرت في مجلس «الفضل بن جعفر بن الفرات»، وزير الخليفة المقتدر سنة ٣٢٠ﻫ، ودارت بين «أبي سعيد السيرافي» النحوي، وبين الفيلسوف المنطقي «أبي بشر متَّى بن يونس»، في بغداد، وذلك في كتابين هما «الإمتاع والمؤانسة».٣ و«المقابسات»؛٤ حيث وقعت المناظرة وسط جو من الصراع الفكري بين المناطقة الذين أعلوا من شأن المنطق، وذهبوا إلى أنه لا حاجة بالمنطق إلى النحو، في حين يحتاج النحوي إلى المنطق. ليس هذا فحسب، بل إنَّ أبا بشر «متَّى بن يونس»، هاجم النحاةَ وآثارَهم بقوله: «إنَّ النحوَ يبحث أساسًا في اللفظ، بينما المنطق يبحث في المعنى، وأن المعنى أشرف من اللفظ … وأنه لا سبيل إلى معرفة الحق مِن الباطل، والصدق مِن الكذب، والخير مِن الشر، والحجة مِن الشبهة، والشك مِن اليقين إلا بما حويناه مِن المنطق وملكناه مِن القيام به.»٥
أما النحويون — وهم الفريق الذي واجه المناطقة — فقد ساءهم ما حمله عليهم المناطقة، واختاروا «أبا سعيد السيرافي» النحوي البارع المحيط بدقائق النحو والمنطق والجدل المُناظِرة لينتصر لهم، وقد استطاع أن يحرز نصرًا، ونجح في رد «متَّى بن يونس» ودحض حججه وإظهاره بمظهر الجاهل باللغة والنحو.٦
وننتقل الآن إلى عرض حيثيات المُناظَرة بشيء من التفصيل؛ حيث قال «أبو حيان»: ذكرتُ للوزير مناظرةً جرت في مجلس الوزير «أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات» بين «أبي سعيد السيرافي» و«أبي بشر متَّى» واختصرتها. فقال لي اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئًا يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخَين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتُوعَى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه.٧
ويستطرد «أبو حيَّان» فيقول: «فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمعٍ من هذه القصة، فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح، فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة قال الوزير «ابن الفرات» للجماعة … أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة «متَّى بن يونس» في حديث المنطق فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه، فأحجَم القوم وأطرقوا، فقال ابن الفرات: «والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدكم في العلم بحارًا وللدين وأهله انحصارًا، وللحق وطلابه منارًا، فما هذا التغامُز والتلامُز اللذان تجلون عنهما؟ فرفع «أبو سعيد السيرافي» رأسه وقال: أعتذر أيها الوزير فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا المجلس، وعلى الأسماع المصيخة، والعيون المحدقة، والعقول الجامدة، والألباب الناقدة؛ لأن هذا يستصحب الهيبة، والهيبة مكسرة، ويجتلب الحيا، والحيا مغلبة، وليس البراز في معركة غاصة كالمصراع في بقعة خاصة؛ فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد فاعتذارك عن غيرك، يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره هجنة، والاحتجاز عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلة القدم وإياه نسأل حسن التوفيق والمعونة في الحرب والسلم.»٨
من النص السابق يتضح لنا أن انطلاق المناظرة جاء بِناءً على طلب الوزير «ابن الفرات»، محدِّدًا موضوعها وهو المنطق، وطالب أن ينتدب واحد من الجماعة ليناظر «متَّى بن يونس» ويجزم أن مناظرته تدخل في إطار الدفاع عن الدين ونصرة الحق ويشكل «ابن الفرات» هنا الصوت الثالث في المناظرة وحضوره غاية حجاجية في حد ذاتها.٩

علاوةً على أن هذه المناظرة قد جرَت زمن تغلغل منهجية علوم اليونان في صياغة العلوم اللسانية والإنسانية عند العرب، ويبدو من خلال تتبُّع مراحلها الحوارية والحجاجية أن أبا سعيد السيرافي كان يبتغي الحد من انتشار المنطق بين أهل العلوم الأخرى، نظرًا إلى مخاطره على الفكر، والدين، والجمهور بشكل عام، ويتضح ذلك من أسس المناظرة؛ حيث يُبرِز أبو سعيد من خلالها قصورَ المنطق في طرح أمور تفوق مجالاته نظرًا إلى محدودية العقل وجهل المنطقي بأسرار اللغة، وهو بأمسِّ الحاجة إليها عند التعبير والنقل، وتتلخص هذه الأسس تباعًا كما وردت على لسان المناظرين بمنهجية جدلية تسلسلت بين السائل النحوي والمجيب المنطقي مؤتلفة على النحو التالي:

بناء على طلب الوزير ابن الفرات، نرى أن أبا سعيد يتعهد بتفنيد آراء «متَّى بن يونس» الذي ادَّعى أن الطريقة الوحيدة لتمييز الحق من الباطل، هي بوساطة علم المنطق، فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد. ثم واجه متَّى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به؟ فإنَّا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه، ورد خطئه على سننٍ مرضيٍّ وطريقة معروفة. قال متَّى: أعني به أنه آلة من آلات الكلام يُعرَف بها صحيحُ الكلام مِن سقيمه، وفاسد المعنى مِن صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان مِن النقصان، والشائل مِن الجانح. فقال أبو سعيد: أخطأت؛ لأن صحيح الكلام مِن سقيمه يُعرَف بالنظم المألوف والإعرابِ المعروف إذا كنَّا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يُعرَف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل؛ وهَبْكَ عرفت الراجح من الناقص عن طريق الوزن، فمن لك بمعرفة الموزون، أيما هو حديد أو ذهب أو شَبَه أو رصاص؟ فأراك بعد معرفة الوزن فقيرًا إلى معرفة جوهر الموزون وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها؛ فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعًا يسيرًا من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول:

حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء.

وبعد، فقد ذهب عليك شيء هاهنا، هل كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح وفيها ما يحرز، وهذا وإن كان هكذا في الأجسام المرئية، فإنه على ذلك أيضًا في المعقولات المقررة؛ والإحساسات ظلال العقول تحكيها بالتقريب والتبعيد، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة، ودع هذا؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها، واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم التُّرك، والهند، والفرس، والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضيًا وحكمًا لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المُدرَكة، وتصفح للخواطر السانحة، والسوانح الهاجسة؛ والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية، سواءٌ عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.»١٠

وهنا يعترض أبو سعيد على استخدام مثل هذه الأمثلة التمويهية في المناظرة، ويؤكد أن الطريقة الوحيدة في الأصول إلى المعاني المُدرَكة هي اللغة: «قال: أنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها وقد عَفَت منذ زمان طويل، وباد أهلها، وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون أغراضهم بتصاريفها؛ على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معانٍ متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغةٍ أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية.»

ويذكر «متَّى» إنجازات أهل اليونان في الفلسفة والحكمة، بينما يرفض «أبو سعيد» هذا الادعاء قائلًا بأن العلم والحكمة مبثوثة بالتساوي بين جميع الأمم. كما يرجو «أبو سعيد» لو أن «متَّى» يصرف عنايته إلى معرفة اللغة العربية لأنه يحاور بها ويدارس أصحابه بمفهوم أهلها، ويشرح كتب اليونانيين بعادة أصحابها، لعلم أنه غني عن معاني اللغة اليونانية. ثم يختبر «أبو سعيد» «متَّى بن يونس» اختبارًا أخيرًا، فيسأله عن معاني حرف «الواو»: «ودع هذا؛ أسألك عن حرف واحد، وهو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميزة عند أهل العقل؛ فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطوطاليس الذي تدل به وتباهي بتفخيمه، وهو الواو، ما أحكامه؟ وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه أو وجوه؟ فبهت «متَّى» وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه، لأنه لا حاجة بالمنطقي إليه، وبالنحوي حاجة شديدة إلى المنطق؛ لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرَّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عثر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.»١١

وهذه العبارة هي محور الجدل برمته، حيث يستعد «أبو سعيد» لهذا التحدي، فيقلب المناظرة رأسًا على عقب: «والنحو منطق، ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى، إن اللفظ طبيعي، والمعنى عقلي؛ ولهذا كان اللفظ بائدًا على الزمان؛ لأن الزمان يقفو أثر الطبيعة بأثرٍ آخرَ من الطبيعة، ولهذا كان المعنى ثابتًا على الزمان؛ لأن مُستملَى المعنى عقل، والعقل إلهي؛ ومادة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت؛ وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها، وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسمًا فتعار، ويسلم لك ذلك بمقدار؛ وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضًا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة. فقال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذبتها لي يونان.»

غضب أبو سعيد من جواب «متى» فأجابه قائلًا: «بل أنت إلى تعرُّف اللغة العربية أحوج منك إلى تعرف المعاني اليونانية؛ على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما أن اللغات تكون فارسية، وعربية، وتركية؛ ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل، والفحص، والفكر، فلم يبقَ إلا أحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطوطاليس بها، مع جهلك بحقيقتها، وحدثني عن قائل قال لك: حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها، حال قومٍ كانوا قبل واضع المنطق، انظُر كما نظروا، وتدبَّر كما تدبروا؛ لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نفرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاد والاجتهاد. ما تقول له؟ أتقول: إنه لا يصح له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر، لأنه لا يعرف هذه الموجودات من الطريق التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليده لك — وإن كان على باطل — أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حق؛ وهذا هو الجهل المبين، والحكم المشين.»

ويستطرد أبو سعيد فيقول: «ومع هذا، فحدثني عن الواو ما حكمه؟ فإني أريد أن أبين أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئًا، وأنت تجهل حرفًا واحدًا في اللغة التي تدعو بها إلى حكمة يونان، ومن جهل حرفًا أمكن أن يجهل حروفًا، جاز أن يجهل اللغة بكمالها، فإن كان لا يجهلها كلها ولكن يجهل بعضها، فلعله يجهل ما يحتاج إليه، ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج إليه، وهذه رتبة العامة أو رتبة مَن هو فوق العامة بقدر يسير؛ فلم يتأبَّى على هذا ويتكبر؛ ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سر الكلام وغامض الحكمة وخفِيَّ القياس، وصحيح البرهان، وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها، وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالحق، والتي لها بالتجوُّز؛ سمعتكم تقولون: إن «في» لا يعرف النحويون مواقعها، وإنما يقولون: هي للوعاء، كما يقولون: إن الباء للإلصاق؛ وإن «في» تُقال على وجوه: يقال الشيء في الإناء والإناء في المكان والسائس في السياسة والسياسة في السائس.»١٢
ونكتفي بهذا القدر من السرد لهذه المناظرة، ولننظر ما قاله الدكتور «علي أبو المكارم»، وهو يعلق على هذه المناظرة قائلًا: «إنها لا تعكس موقف أبي سعيد الذي خضع في شرحه لسيبويه «للمنهج المنطقي تقعيدًا وتعليلًا»؛١٣ «وإنما هي تعكس مذهبه الفقهي والاعتزالي في الهجوم على المنطق.»١٤
ومع احترامنا لهذا الرأي، إلا أننا نعتقد أن هذا ليس هو السبب الحقيقي، وإنما هناك سبب آخر، وهو كما قال المستشرق الهولندي فرستيج: «هو ادعاء متَّى أن وظيفة المنطق، أن يكون أداة للتمييز بين الحق والباطل، وأن معنى هذا الادِّعاء هو أن عالِم المنطق أكثر تأهيلًا من النحوي في الحكم على صحة المعاني؛ حيث ينبغي للنحوي أن يشغل نفسه فقط بالتعبير عن تلك المعاني في لغة معينة، وإذا قُبل هذا الادِّعاء لدى المجتمع الإسلامي — وهذا ما كان يخشاه الكثير من العلماء — فهذا يعني الاستسلام الكامل لممثلي الحضارة الوثنية الأجنبية. لذلك كان لزامًا على «أبي سعيد» أن يبين بطلان ادعاءات «متى» وادعاءات رفاقه.»١٥
وكان منهج «متَّى» في أبسط صوره — كما هو وارد في الجدل — يعني أن تلك الألفاظ تنتمي إلى المستوى اللغوي، وهي عرضية، بينما تنتمي المعاني إلى مستوى أعلى، وهذه المعاني كونية موجودة لدى جميع الأمم … وهنا يرفض أبو سعيد مبررًا أن كلمة «معنى» عند النحويين ذات كينونة لغوية متأصلة وهي الناحية الدلالية للتعبير الصوتي، فلكل لغة معانيها الخاصة بها، وعندما يُنظر إلى الأمر من هذا المنظور يتضح أن «أبا سعيد» لم يكن يقبل آراء «متَّى» مطلقًا، ولم يتحده لمجرد المناظرة وحسب، ولو رغب أي واحد في شرح أفكار أرسطو فعليه أولًا أن يكتسب معرفةً واسعةً في اللغة، وإلا فإن المرء قد يغفل عن الخصائص المعينة التي تميز كل لغة والفروقات بين اللغات، وبذلك يزيد ما يريد تِبيانه غموضًا، ولعل مثال حرف العطف «و» وحرف الجر «في» الذي ورد ذكره في مرحلة متأخرة من المناظرة يبين الحاجة إلى ملكة لغوية — تضاهي تلك التي لدى الناطقين باللغة — قبل أن يتجرأ المرء على قول أي شيء باللغة العربية، وعلاوةً على ذلك إذا أخذنا تركيبة جمهور الحاضرين في أثناء هذه المناظرة فلا غرابةَ ألا يجد عالِم المنطق فرصةً، وأن يُهزَم هزيمة نكراء، وكان جميع الحاضرين من المفكرين والمثقفين العرب الذين فرحوا لإذلال واحد من مناصري العلوم الأجنبية على يد عالِم من علماء النحو، مثل «أبي سعيد السيرافي»، يعرض أمام الحاضرين كل براعته ويصحح أخطاء «متَّى بن يونس» ضد النحو العربي كلما سنحت له فرصة.١٦
فضلًا عن ذلك فإن الرواية التي بين أيدينا كتبها واحد من المعجبين بأبي سعيد وأحد تلامذته، وهو «أبو حيَّان التوحيدي»، الذي يؤمن مثل أستاذه بأنَّ المنطق ليس ميزانًا مستقلًّا يُعرَف به صحيح الكلام مِن سقيمه؛ لأن أغراض العقول والمعاني المُدرَكة لا يُوصَل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، فلا يستطيع أحد أن يعرف منطق اليونان إذا لم يعرف لغتهم؛ لأن النحو، والمنطق، واللفظ، والإفصاح، وأنواع الطلب كلها من وادٍ واحد بالمشاكلة والمماثلة. فالمنطق نحو، ولكنه مفهوم باللغة، والنحو العربي منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والعلاقة بين المعاني المنطقية، والألفاظ اللغوية، أن المعاني ثابتة على الزمان فهي من استملاء العقل الإلهي، والألفاظ طبيعية بائدة على الزمان تبدل طبيعة بعد أخرى، ويكفي النحوي أن يفهم من نفسه ما يقول، وأن يفهم عنه غيره، وأن يقدر اللفظ على المعنى، مع أنه ليس في قوة أي لغة أن تحيط بمبسوط العقل، أو تنصب عليه سورًا لا يدع شيئًا مِن داخله أن يخرج ولا من خارجه أن يدخل، ومن يُرِد إدراك منطق اللغة، فإنه يحتاج إلى معرفة حركات الألفاظ وسكناتها ووضعها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها كما يحتاج إلى توخي الصواب في تأليف الكلام بالتقديم والتأخير، ولقد عرف أبو حيَّان هذا النسق العام من خلال ما كتبه عن المناظرة واستوعبه جيدًا.١٧

ومن هذا المنطلق استشعر الكثير من المناطقة والفلاسفة السريان، والذين كانوا يعيشون في كنف الحضارة العربية آنذاك بحرج شديد إزاء الهزيمة المنكرة التي لقيها «متى» في مناظرته، لذلك جاء الفيلسوف المنطقي «يحيى بن عدي» (ت٩٧٤م)، ليلطف الأجواء الساخنة التي حدثت في المناظرة، فكتب رسالة قصيرة لخص فيها مسألة الفرق بين المنطق والنحو، وكان «يحيى» تلميذًا لمتَّى بن يونس وقد ترجم عددًا من كتابات أرسطو، وتعرض الرسالة — التي عنوانها «تبيين الفصل بين صناعتي المنطق الفلسفي والنحو العربي» — هذه المسألة بهدوء بعيدًا عن الأجواء الساخنة للجدل بين «أبي سعيد السيرافي» و«متَّى بن يونس».

وأول شيء يؤكد عليه «ابن عدي» هو: «أن موضوع صناعة النحو وغرضها هو الألفاظ ضمها إياها وفتحها وكسرها، وبالجملة تحريكها وتسكينها بحسب تحريك وتسكين العرب إياها، فإن ذلك هو الذي تقصده، وهو الذي تحدثه فيها، وهو الذي إذا انتهت إليه سكنت عن حركتها، والدليل على ذلك أن الفرق بين الألفاظ المعربة والألفاظ غير المعربة هو أن تلك محركة أو مسكنة بحسب ما تحركها وتسكنها العرب، وهذه ليس تحريكها وتسكينها موافقًا لتحريك وتسكين العرب إياها.»١٨
ولعلنا نستطيع القول إن عبارة «ابن عدي» تلك تُعَد أول محاولة لقصر النحو العربي على الجانب الشكلي من اللغة، وهو ما ساد بعد ذلك في تعريف النحو في كتب النحاة المتأخرين على أنه «علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعرابًا وبناء.»١٩
وينفي «ابن عدي» أن يكون «غرض صناعة النحو هو المعاني»، فيقول: «فلا يغلطنك قصد النحويين بالألفاظ الدالة على المعاني، وإيجابهم فتحًا أو ضمًّا أو كسرًا أو غير ذلك من حركاتها أو سكونها من قبل المعاني التي تدل عليها، وذلك أنهم يضمون الألفاظ الدالة على الفاعلين وينصبون الألفاظ الدالة على المفعول بهم وهذا هو فهم مشبه موهم أن قصد صناعتهم الدلالة على المعاني، فيحملك ذلك على أن تعتقد أن غرض صناعة النحو هو المعاني.»٢٠
ويستطرد «ابن عدي» فيقول: «ولو كان نظرها في المعاني على أنها أغراضها وأفعالها وغاياتها، لوجب أن تكون المعاني هي التي يحدثها النحوي إذا كمل فعله الذي من شأنه أن يفعل من جهة ما هو نحوي، حتى تكون ذات زيد وذات عمرو، وذات الضرب إنما تحدث عن فعل النحوي واستحالة هذا من الظهور بحيث لا يَشُك فيها مَن صحَّ عقله البتة، وإذا تبين أنه لا يجوز أن تكون المعاني موضوعات لصناعة علم النحو ولا غرضًا لها فمن البيِّن أنها ليست من صناعة النحو، وإن كان النحوي قد يقصد بالقول الدلالة على المعاني، فإن ذلك منه ليس من جهة ما هو نحوي، بل من جهة ما هو معبر عما في نفسه بالقول، وما هو معبر عما في نفسه، إنما هو العبارة عن المعاني.»٢١
وينتهي «ابن عدي» إلى القول «إن هاتين الصناعتين مختلفتا الموضوعين والغرضين، وذلك أن موضوع صناعة المنطق هو الألفاظ الدالة لا الألفاظ على الإطلاق … وموضوع صناعة النحو هو الألفاظ على الإطلاق: الدالة منها وغير الدالة.»٢٢ وابن عدي يقصد بذلك أن المنطق يختص ﺑ «الألفاظ الدالة على الأمور الكلية التي هي إما أجناس، وإما فصول، وإما أنواع، وإما خواص، وإما أعراض كلية.»٢٣ أما النحو فيختص بجميع الألفاظ الدالة على هذه الأمور الكلية، وجميع الألفاظ غير الدالة على هذه الأمور الكلية.٢٤
ومِن الملاحَظ أن استنتاج «ابن عدي» يتطابق مع ما خلص إليه «متَّى» ولو أنه مصوغ بطريقة ذكاء؛ حيث إن المعاني هي حِكر على عالم المنطق، وعندما يشغل النحويون أنفسهم بمعنى عبارة معينة، فهم لا يفعلون ذلك كونهم نحويين، بل لأنهم ناطقون أصليون باللغة ويرغبون في التعبير عن آرائهم، ويتعامل مع المنطق، ومن ناحية أخرى مع موضوع العبارات الدالة، وليس مع العبارات لذاتها، كما يتعامل مع تلك العبارات التي تدل على المسائل الكونية، وليس مع المسائل المحددة، ويهدف إلى ربط هذه العبارات بطريقة تتوافق فيها مع الحقيقة (أو الواقع)، وهدف النحو إذن توفير هذه العبارة الصحيحة مع نهايات الحروف (الأصوات الصائتة) الصحيحة على وفق قواعد اللغة العربية، وكما يتضح لنا من هذا الاستنتاج، على الرغم من صياغته المعتدلة فإنَّ يحيى بن عدي يرسم الخطوط ذاتها بين الحقلين ذاتهما كما فعل متَّى من قبل.٢٥
ونظرًا لعجز مثل هذا الاتجاه الذي حاول الفصل بين المنطق والنحو، فإن الربط بين العلمين أصبح هو الاتجاه العام، ومن ثَم فقد بدأت — منذ أواخر القرن الرابع الهجري المصالحة بين العلمين على يد «أبو سليمان السجستاني» المنطقي (ت٣٩١ﻫ) تلميذ «ابن عدي» والذي ينقل عنه «أبو حيَّان التوحيدي» قوله: «إذا اجتمع المنطق العقلي، والمنطق الحسي، فهو الغاية والكمال.»٢٦ بل يقول أقواله المشهورة: «النحو منطق عربي، والمنطق نحو عقلي، وجُل نظر المنطق في المعاني، وإن كان لا يجوز له الإخلال بالألفاظ التي هي كالحلل والمعارض، وجُل نظر النحوي في الألفاظ، وإن كان لا يصوغ له الإخلال بالمعاني التي هي الحقائق والجواهر.»٢٧
ولم يكتف «أبو سليمان» بذلك بل يؤكد أن «… النحو يرتب اللفظ ترتيبًا يؤدي إلى الحق المعروف، أو إلى العادة الجارية، والمنطق يرتب المعنى ترتيبًا يؤدي إلى الحق المُعترَف به من غير عادة سابقة، والشهادة في المنطق مأخوذة من العقل، والشهادة في النحو مأخوذة من العُرف، ودليل النحو طباعي، ودليل المنطق عقلي، والنحو مقصور، والمنطق مبسوط، والنحو يتبع ما في طباع العرب، وقد يعتريه الاختلاف، والمنطق يتبع ما في غرائز النفوس، وهو مستمر على الائتلاف، والحاجة إلى النحو أكثر من الحاجة إلى المنطق، كما أن الحاجة إلى الكلام في الجملة أكثر من الحاجة إلى البلاغة؛ لأن ذلك أول، وهذا ثانٍ.»٢٨ «والنحو أول مباحث الإنسان، والمنطق آخر مطالبه، وكل إنسان منطقي بالطبع الأول، ولكن يذهب عن استنباط ما عنده بالإهمال، وليس كل إنسان نحويًّا في الأصل، والخطأ في النحو يُسمَّى لحنًا، والخطأ في المنطق يُسمَّى إحالة، والنحو تحقيق المعنى باللفظ، والمنطق تحقيق المعنى بالعقل، وقد يزول اللفظ والمعنى بحاله لا يزول ولا يحول؛ فأمَّا المعنى فإنه متى زال إلى معنًى آخر تغير المعقول ورجع إلى غير ما عهد في الأول.»٢٩ «والنحو يدخل المنطق، ولكن مرتبًا له، والمنطق يدخل النحو، ولكن محققًا له، وقد يفهم بعض الأغراض وإن عَرِي لفظُه من النحو، ولا يفهم شيء منها إذا عَرِي من العقل، فالعقل أشد انتظامًا للمنطق، والنحو أشد التحامًا بالطبع، والنحو شكل سمعي، والمنطق شكل عقلي، وشهادة النحو طباعية، وشهادة المنطق عقلية، وما يُستعار للنحو من المنطق حتى يتقوم، أكثر مما يُستعار من النحو للمنطق حتى يصح ويستحكم.»٣٠
ويخلص «أبو سليمان» من شرح العلاقة الخاصة بين النحو والمنطق، فيقول: «… وبهذا يتبين لك أن البحث عن المنطق قد يرمي بك إلى جانب النحو، والبحث عن النحو قد يرمي بك إلى جانب المنطق، ولولا أن الكمال غير مستطاع لكان يجب أن يكون المنطقي نحويًّا، والنحوي منطقيًّا؛ خاصة واللغة عربية والمنطق مترجم بها ومفهوم عنها.»٣١

ولقد حرصت على سَوق عبارات «أبي سليمان» والتي نقلها لنا «أبو حيان التوحيدي»؛ لأنها تشير إلى هذا التحول المهم في الفكر العربي-الإسلامي، وبداية الإعلان الواضح عن فتح أبواب البحث النحوي لدخول الأسس المنطقية في مسائل هذا البحث منهجًا وتطبيقًا.

فبعد البداية القلقة للعلاقة بين المنطق والنحو كما لاحظنا في المناظرة بين «أبي سعيد السيرافي» و«متَّى بن يونس»، تم التوصُّل إلى نوع من الهدنة؛ حيث أُدخِلت القواعد المنطقية في علم اللغة، حتى إن النحويين الذين قاوموا هذه الادعاءات — كما فعل «أبو سعيد» — لم تكن لديهم اعتراضات على إدخال المفاهيم والتعاريف الجديدة إلى ميدان تخصُّصهم، وقد انتفع «أبو سعيد» في شرحه لكتاب سيبويه بالمصطلحات المنطقية وأجاد استخدامها، ليس باستعارتها جملةً وتفصيلًا، ولكن بالاختيار المتأنِّي للمفاهيم التي احتاج إليها في تحليله اللغوي.٣٢
ولم ينتقد «أبو سعيد السيرافي» كتاب سيبويه لنقص التعاريف الاصطلاحية فيه، ولكنه ألمح فقط إلى أن سيبويه لم يشعر بالحاجة إلى تعريف الاسم — مثلًا — كما عرضنا آنفًا في الفصل السابق، ثم يضيف تعريفًا من عنده، فيقول: «وأما الاسم فإن سيبويه لم يحده بحد ينفصل به عن غيره وينماز من الفعل والحرف، وذكر منه مثالًا اكتفى به عن غيره، فقال: الاسم: رجل، وفرس، وحائط، وإنما اختار هذا؛ لأنه أخف الأسماء الثلاثية، وأخفها ما كان نكرة للجنس، وهذا نحو: رجل وفرس وحائط. إن سأل سائل عن حد الاسم، فإن الجواب في ذلك أن يقال: كل شيء دل لفظه على معنًى غير مقترن بزمان محصل، من مضي أو غيره فهو اسم.»٣٣
أما من ناحية علماء المنطق، فبعد أن هدأت الأمور استمر العلماء بهدوء في مزج العناصر المنطقية والنحوية ببعضها، وهذا هوس النهج الذي نجده عند «أبو نصر الفارابي»، الذي يتمتع برؤية واضحة لمجال النحو، ويقوم بجهود حثيثة للتأكيد على أهمية كونه علمًا من العلوم، وهو بذلك يختلف عن رؤية «متَّى بن يونس» و«يحيى بن عدي» السابقة إزاء النحو؛ ونجده كذلك عند «أبي حامد الغزالي» المتوفى سنة ٥٠٥ﻫ من بعده، والذي أعطى شرعية دخول المنطق لعلوم المسلمين بعد الفتوى التي وضعها في أوائل كتابه «المستصفي من علم الأصول»؛ حيث قال بأن «من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلًا.»٣٤ وعلى هذا الأساس رأى أن استخدام منطق أرسطو يعد شرطًا من شروط الاجتهاد وفرض كفاية على المسلمين، الأمر الذي شجع النحاة المتأخرين بعد ذلك إلى مزج النحو بالمنطق بدون خجل أو مواربة.

(٢) خصوصية العلاقة بين اللغة والفكر عند الفارابي

يُعَد «الفارابي» من أوائل الفلاسفة العرب الذين أدركوا قيمة اللغة وضرورة الإحاطة بها لامتلاك ناصية العلوم المختلفة، وعرف الباحثون والمهتمون بالفكر الفلسفي الإسلامي «الفارابي»، وأدركوا مكانته وأثره في علم الخالدين من أسلافنا، بما ترك لنا من مآثر، في التراث الفلسفي العربي في مجالاته ومناحيه من فلسفة إلهية، وطبيعية، وسياسية وأخلاقية، ومنطقية، لكنهم لم يعرفوه كعالم لغوي استطاع أن يطوع اللغة لسائر الأغراض المنطقية، والفلسفية، والعلمية.٣٥
ارتحل «الفارابي» من موطنه إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، عندما بلغ الأربعين من عمره عام ٣٠٠ هجرية، وكانت بغداد آنذاك مركزًا للحضارة العربية، فعكف على دراسة الطب، والموسيقى، والفلك، والرياضيات، وتعلم اللغة العربية، وتبحَّر في النحو، والبلاغة، وتتلمذ على يد «ابن السراج»، المعروف بتوفيقه بين مدرستي الكوفة والبصرة في النحو، واتصل بالأدباء واللغويين في عصره كالتوحيدي والسجستاني، وأتاح له ذلك ثقافةً لغويةً عميقةً انعكست آثارها على ما تركه لنا من مؤلفات طوَّع فيها العربية لأنماط مختلفة من المعرفة، بحيث باتت مفرداتها لا يستعصي عليها معنًى من المعاني في علوم عصره ومعارفه.٣٦
كما تلقَّى الفلسفة والمنطق على يد جهابذة هذا العصر أمثال «يوحنا بن جيلان»، و«متَّى بن يونس»، اللذين ترجما أكثر كتب التراث اليوناني، حتى تمخضت حياته في عاصمة الخلافة عن نشاط فكري لامع في حقول التأليف، والشرح، والترجمة، في شتى فروع الحكمة، والمنطق، والسياسة، والأخلاق، ليس هذا فحسب، بل إن مصنفاته الفلسفية والمنطقية يبدو فيها الأثر الواضح للعلم اللغوي ككتاب «الألفاظ المستعملة في المنطق»، وكتاب «التنبيه على السعادة»، وكتاب «أيساغوجي»، وكتاب «القياس الصغير»، ثُم كتاب «الحروف»، الذي يُعَد موسوعة لغوية عميقة المعنى.٣٧
حاول الفارابي أن يقوم بدور المصلح ما بين المناطقة والنحاة، فقد سمع بالجدل الذي دار بين «متَّى بن يونس» و«أبي سعيد السيرافي»، عن الادعاءات الكونية التي أفصح عنها مؤيدو المنطق حينما أعطوا للنحو مكانة ثانوية؛ حيث كان في بغداد في ذلك الوقت، وكان يَعرف مناصري ذلك الجدل: وقد درس معه «يحيى بن عدي» تلميذ «متَّى»، وكانت تربطه علاقة علمية وثيقة مع شيخ «أبي سعيد السيرافي» وهو «أبو بكر بن السراج»؛ حيث كما ذكرنا من قبل أن الفارابي «كان يتلقَّى عليه النحو، وأنهما اتفقا على ضرورة الاستفادة من قواعد المنطق في خدمة النحو»،٣٨ قال ابن أبي أصيبعة: «وفي التاريخ أن الفارابي كان يجتمع بأبي بكر بن السراج فيقرأ عليه صناعة النحو وابن السراج يقرأ عليه المنطق …»٣٩ وحسب أحد المصادر أخطأ ابن السراج في جمهرة من النحويين، وعنفه صاحبه بشدة فقال: قد ضربتني يا أبا إسحاق وأدبتني، وأنا تارك ما قد درست مذ قرأت هذا الكتاب يعني كتاب سيبويه، لأني تشاغلت عنه بالمنطق، والموسيقى، والآن أنا أعاود.»٤٠
ومهما يكن صدق هذه الرواية، فليس مِن شك في أن النحويين كانوا ينظرون للمنطق والنحو على أنهما متضادان، بينما حاول الفارابي أن يؤسس العلاقة بين العلمين، وقد ساعده على ذلك معرفته الواسعة باللغة العربية، واطلاعُه على اللغة الإغريقية جعله يعي الفروق بين اللغات، وقد اشتغل فعلًا بمقارنتها مع بعضها من وجهة نظر عالم المنطق؛ حيث إن المعاني التي تعبر عنها اللغات المتنوعة كونية، بيد أن الطريقة التي تعبر لغة معينة عن هذه المعاني تكون مختلفة.٤١
علاوةً على أن مصاحبته لابن السراج النحوي كانت تمثل جزءًا أساسيًّا من برنامجه، الذي كان يهدف إلى عقد المصالحة بين العِلمين وتجنُّب الأخطاء التي اقترفها «متَّى بن يونس» في جدله مع «أبي سعيد السيرافي»، وعندما سأل «أبو سعيد»«متَّى بن يونس»، عن معاني حرف الجر «في» في اللغة العربية، فإن جهله بالعبارات المتنوعة التي يُستخدَم فيها الحرف «في» في اللغة العربية قد أبطل ادعاءاته بالمصداقية الكونية للمنطق.٤٢
وكان الفارابي يود أن يبيِّن أن ادعاءات الفلاسفة له ما يسوغه طالما أن نفاذ بصيرتهم إلى قواعد العبارات، ربما أسهم في دراسة اللغة العربية، ولكي يُؤسِّس لهذا الادِّعاء وهو ملاءمة المنطق لدراسة النحو، فقد طوَّر نظرية أصل اللغة من وجهة نظر عالم المنطق، وقد كشف فيها عن إدراكه للفروقات ذات العلاقة بين اللغات بوجه عام، وبين اللغة الإغريقية، واللغة العربية بوجه خاص، وبخلاف «متَّى بن يونس»، الذي كان يرغب في الاستحواذ على الحقل المعرفي الجديد ذي الأصول الإغريقية، كان هدف الفارابي أن يدمج الحقلين ببعضهما بمستوًى أعلى، وترتبط هذه السمة في تفكير الفارابي من غير شك بمبدأ الكونية لديه وقناعته بأن المنطق لا بد أن يتعامل مع شيءٍ ما يتخطى مجال أية لغة معينة ويكون مشتركًا بين جميع اللغات.٤٣
ومن بين الأسئلة اللغوية التي كانت تشغل بال الفارابي، كما كانت تشد اهتمام مفكري عصره، تلك الأسئلة التي عكستها المناظرة التي كانت بين «أبي سعيد» و«متَّى بن يونس»، ولم تكن هذه المناظرة التي انتصر فيها «أبو سعيد» على «متَّى» مناسبة لبلوغ الصراع أشده بين البيان منهجًا ورؤية، وبين المنطق الوافد على الثقافة العربية الإسلامية، منهجًا ورؤية. إنها كانت إعلانًا عن بلوغ الصراع أوجه بين منطق البيان، ومنطق البرهان. لقد كان لا بد إذن من بناء تصوُّر شامل يتم في إطاره، وبالاستناد إليه ترتيب العلاقة بين المنهجين والرؤيتين: بين النحو والمنطق من جهة، وبين الفلسفة والملة من جهة أخرى، وتلك هي المهمة المضاعفة التي اجتهد الفارابي في القيام بها.٤٤
وهنا راح الفارابي يجيب في العديد من مؤلفاته على الأسئلة التي لم يتمكن «متَّى بن يونس» من الإجابة عنها أو أجاب عنها إجابة غير مقنعة، لذلك وجدنا «أبا نصر»، يثير في أكثر من مناسبة علاقة النحو بالمنطق، ويتعرض في كتاب «الحروف» لمعاني الحروف ومواقعها، وأصل اللغة ونشأتها، وعلاقتها بالفلسفة والملة، ونشأة علوم اللسان والصنائع العملية والقياسية، ومسألة الترجمة ونقل المعاني من لغة إلى أخرى، واختلاف اصطلاحات اللغات ومواضعاتها، ودلالة الألفاظ على المعاني، وعلاقة الشكل اللفظي بالمعنى العقلي يدحض بكل ذلك ما ادعاه «أبو سعيد» من أن المنطقيين لا يصرفون عنايتهم إلى اللغة التي يتحاورون بها، ويدارسون أصحابها بمفهوم أهلها.٤٥
ونجد أكثر المعالجات انتظامًا للعلاقة بين المنطق والنحو في كتاب آخر للفارابي هو «إحصاء العلوم»؛ حيث يضع الفارابي النحو ضمن منظومة العلوم، وحسب رأيه فإن للنحو دورًا مهمًّا يؤديه، وربما ليس من قبيل المصادفة أن نجد في تصنيفه للعلوم أن يحتل النحو الموقع الأول، ثم يتبعه المنطق، وعلى الرغم من أنه لا يُخفِي أفكاره المتعلقة بكونية المنطق مقارنة بخصوص النحو، إلا فإن الفارابي لا يقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه «متَّى بن يونس»، عندما قلل من شأن النحو والنحاة، بل إن للعِلمَين مكانتهما الخاصة التي لا يمكن إنكارها.٤٦
ومن هنا أخذ الفارابي يولي الألفاظ بالأسبقية على المعاني، فيقول: «إن صناعة النحو التي تشتمل على أصناف الألفاظ الدالة لا بد أن تكون مقدمة أو مدخلًا في الوقوف والتنبيه على أوائل هذه الصناعة (المنطق)، بل ينبغي على المنطقي أن يتولى بحسن تعديد أصناف الألفاظ التي من عادة أهل اللسان الذي به يدل على ما تشتمل عليه هذه الصناعة، إذا اتفق إن لم يكن لأهل ذلك اللسان صناعة تعدد فيها أصناف الألفاظ التي هي لغتهم.»٤٧
ولم يكتف بذلك، بل يُصرِّح أن اللغة أسبق من الفكر، فيقول: «إن علم اللغة يُعَد مدخلًا أساسيًّا حتى لعلم المنطق ذاته»،٤٨ ومن ثَم يضع علم اللغة أول العلوم، وقد سماه «علم اللسان»، ثُم يليه علم المنطق، ثُم باقي العلوم الأخرى»، ويُعَد الفارابي بشهادة بعض الباحثين «أول من رأى أهمية علم اللغة لدراسة المنطق، وهو يشير إلى علم اللغة بفروعه المختلفة من نحو، وصرف، وكتابة، وقراءة، ويعطي مبحثًا في أنواع الألفاظ، وقواعد كل نوع.»٤٩

ولذلك خصص الفارابي القسم الأول من كتابه «إحصاء العلوم» لتعريف علم اللسان، فيقول: «علم اللسان في الجملة ضربان: أحدهما حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما، وعلم عليه شيء منها، والثاني علم قوانين تلك الألفاظ، وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمي: علم الألفاظ المفردة، وعلم الألفاظ المركبة، وعلم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركب، وقوانين تصحيح الكتابة، وعلم قوانين تصحيح القراءة، وقوانين الأشعار.»

ما يهمنا من هذا التعريف أنه كان النواة التي انطلق منها الفارابي ليُبيِّن التناسُب القائم ما بين صناعة المنطق وصناعة النحو، فهو يشير في التعريف إلى «الألفاظ» و«القوانين»، وأن العلاقة بينهما بما فيها من تلازم وتكامل تمثل العلاقة بين صناعة النحو وصناعة المنطق التي تعتمد على التداخل، وتبتعد عن التعاند والتنافر، يقول: «فصناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، وهذه الصناعة تناسب صناعة النحو، ذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ، فكل ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات، وتناسب علم العَروض، فإن نسبة علم المنطق إلى المعقولات، كنسبة العروض إلى أوزان الشعر.»٥٠
والنتيجة أن النحو ضروري، كما أن المنطق ضروري في ميدانه، يقول الفارابي: «قول مَن زعم أن المنطق فضل لا يحتاج إليه إذا كان يمكن أن يوجد في وقت ما إنسان كامل القريحة لا يخطئ الحق أصلًا من غير أن يكون قد علم شيئًا من قوانين المنطق، كقول من زعم أن النحو فضل إذ قد يوجد من الناس من لا يلحن أصلًا من غير أن يكون قد علم شيئًا من قوانين النحو، فإنَّ الجواب في القولين جميعًا واحد.»٥١
إن هذا الكلام هو رد مباشر على ما ادعاه «أبو سعيد السيرافي» في مناظرته مع «متَّى بن يونس»، من أنَّ المنطق لا حاجة إليه، وأنَّ المعرفة باللغة العربية ونحوها تُغنِي عنه. لذلك رأى الفارابي أنَّ حل هذه المشكلة يكمن أولًا في ترتيب العلاقة بين النحو، والمنطق، مِن حيث علاقة كل منهما باللفظ والمعنى، وهذا الترتيب سيؤدي إلى حسم النزاع، وقد لجأ الفارابي إلى معالجة المسألة من زاوية الخصوص والعموم؛ فالنحو خاصٌّ لأنه يتعلق باللغة، واللغات عديدة مختلفة، وبالتالي فإن لكل لغة نحوها. أما المنطق فهو عامٌّ؛ لأنه يتعلق بالعقل، والعقل واحد لدى الناس جميعًا، يقول: «المنطق يشارك النحو بعض المشاركة بما يعطي من قوانين الألفاظ، ويفارقه في أن علم النحو إنما يعطي قوانين تخص ألفاظ أمة ما، وعلم المنطق إنما يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها.»٥٢
ويبرر الفارابي ذلك بأنه «توجد في ألفاظ الأمم أحوال مُشترَكة من جهة أن الألفاظ منها مفردة، ومنها مركبة، ومنها موزونة وغير موزونة. أما ما يخص كل لسان فمثاله أن الفاعل في العربية مرفوع وأن المضاف لا يدخل فيه ألف ولام التعريف، وهكذا نجد في كل لغة ما يميزها من غيرها من اللغات.»٥٣
علاوة على أن النحو والمنطق يشتركان في ناحية الموضوعات: فالمنطق موضوعه المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، أما النحو فموضوعه الألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات، لذلك فعندما يتعرض المنطق للألفاظ فإنه يبحث في أحوالها العامة ويترك الأحوال الخاصة لعلم النحو، ويؤكد الفارابي هذا التشابه بين العِلمَين في كتابه «التنبيه على سبيل السعادة»؛ حيث يقول: «وبين صناعة النحو وصناعة المنطق تشابهٌ ما، وهو أن صناعة النحو تفيد العلم بصواب ما يلفظ به والقوة على الصواب منه، بحسب عادة أهل لسان ما، وصناعة المنطق تفيد العلم صواب ما يعقل، والقدرة على اقتناء الصواب فيما يعقل، وكما أن صناعة النحو تقوِّم اللسان حتى لا يلفظ إلا بصواب ما جَرَت به عادةُ أهلِ لسانٍ ما، كذلك صناعة المنطق تقوِّم الذهن حتى لا يعقل إلا الصواب من كل شيء.»٥٤
هذا عن التشابُه بين العلمين، وإذا وجد في النحو شيء من العناية بالأحوال العامة فذلك عائد إلى طبيعة اللغة التي يبحث النحو قوانينها: «فعلم النحو في كل لسان إنما ينظر فيما يخص لسان تلك الأمة وفيما هو مشترك له ولغيره، لا من حيث هو مشترك، لكن من حيث هو موجود في لسانهم خاصة، فهذا هو الفرق بين نظر أهل النحو في الألفاظ، وبين نظر أهل المنطق فيها: … [لأن] المنطق فيما يُعطِي من قوانين تشترك فيها ألفاظ الأمم، ويأخذها من حيث هي مشتركة، ولا ينظر في شيء بما يخص ألفاظ أمة ما، بل يوصي أن يؤخذ ما يحتاج إليه من ذلك عن أهل العلم بذلك اللسان.»٥٥
ويوضح الفارابي ذلك بنصٍّ يفيد أن النحويين العرب قد قسموا الكلام في العربية إلى اسم وفعل وحرف، أما أهل النحو في اليونان فقد قسموا أجزاء القول إلى اسم وكَلِم وأداة، فهذا الاشتراك في التقسيم موجود في اللغة العربية واليونانية، وربما في غيرها من الألسنة، فأهل النحو العربي يدرسونه على أنه في لغتهم، واليونانيون يدرسونه على أنه في اليونانية، وفي هذا يقول الفارابي: «وما وقع في علم النحو من أشياء مشتركة لألفاظ الأمم كلها، فإنَّما أخذه أهل النحو من حيث هو موجود في ذلك اللسان الذي عمل النحو له، كقول النحويين من العرب: إنَّ أقسام الكلام في العربية اسم وفعل وحرف، وكقول نحويي اليونانيين: أجزاء القول في اليونانية اسم وكلم وأداة، وهذه القسمة ليست توجد في العربية فقط، أو في اليونانية فقط، بل في جميع الألسنة، وقد أخذها نحوِيُّو العرب على أنها في العربية، ونحويو اليونانيين على أنها في اليونانية.»٥٦
إنَّ نظرية الفارابي هذه في أصالة علم العربية، في ألفاظها، ونحوها، وصرفها، ونثرها، وموزونها، لا تنفي مطلقًا استخدام اللغويين والنحاة علم المنطق من حيث هو أداة التفكير الصحيح، شأنهم في ذلك شأن العلماء الآخرين في شتى مجالات المعرفة، فقد استخدم النحاة المتأخرون المنطق كما استخدمه الفقهاء والمتكلمون والعلماء الآخرون في بحوثهم العلمية والجدلية … دون أنْ يمس ذلك موضوع أصالة تلك العلوم.٥٧
علاوةً على أن الفارابي قد أرسى دعامة العلاقة العضوية بين الفكر واللغة، وجعل منها جزءًا أساسيًّا من نظرته الكلية لعلم اللسان؛ فالمنطق، على حد تعبيره، مشتق من النطق، وهذه اللفظة تقال عند القدماء على ثلاثة معانٍ: أحدها القول الخارج بالصوت، وهو الذي به تكون عبارة اللسان عما في الضمير، والثاني: القول المركوز في النفس، وهو المعقولات التي تدل على الألفاظ، والثالث: القوة النفسانية المفطورة في الإنسان، التي بها يميز التمييز الخاص بالإنسان دون ما سواه من الحيوان، وهي التي بها يحصل للإنسان المعقولات والعلوم والصنائع، وبها تكون الروية، وبها يميِّز بين الجميل والقبيح من الأفعال، وهي توجد لكل إنسان حتى في الأطفال، لكنها نزرة لم تبلغ بعد أن تفعل فعلها.٥٨
ومن هنا نجد أن الفارابي ما فتئ يؤكد العلاقة الحميمة بين المنطق بمفهومه العقلي، وبين النطق والقول، ويذهب في ذلك إلى البحث في الجذور التاريخية لمعاني هذه المصطلحات، ويعود إلى هذه الفكرة في أماكن متعددة من مؤلفاته في «إحصاء العلوم»، وفي رسالته «التنبيه على سبيل السعادة» وغيرها؛ ويمكننا أن نستبين معالم فلسفته العقلية في نظرته إلى علم اللسان، ولا سيما في مجال المنطق الذي اشتهر به، إذ يقول: «وأما موضوعات المنطق، وهي التي فيها تُعطَى القوانين، فهي المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ، والألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات، وذلك أن الرأي إنَّما نصححه عند أنفسنا بأن نفكر ونروِّي ونقيِّم في أنفسنا أمورًا ومعقولات، شأنها أن تصحح ذلك الرأي.» ثم يواصل حديثه حيث يقول: «… بل نحتاج في كلِّ رأي نلتمس تصحيحه إلى أمور ومعقولات محدودة، وإلى أن تكون بعدد ما معلوم، وعلى أحوال وتركيب وترتيب معلوم، وتلك ينبغي أن تكون حالها وألفاظها التي بها تكون العبارة عنها، عند تصحيحها لدى غيرنا. فلذلك نضطر إلى قوانين تحوطنا في المعقولات وفي العبارة عنها، وتحرسنا من الغلط فيها، وكلتا هاتين أعني المعقولات والأقاويل التي بها تكون العبارة عنها يسميها القدماء «النطق والقول». فيسمون المعقولات القول، والنطق الداخل المركوز في النفس والذي يعبر به عنها القول.»٥٩
ويعود الفارابي إلى هذه الفكرة الأساسية في نظريته اللغوية فيقول في رسالته «التنبيه على سبيل السعادة»: «فاسم العقل قد يقع على إدراك الإنسان الشيء بذهنه، وقد يقع على الشيء الذي به يكون إدراك الإنسان، وهذه الصناعة تفيد الخير والسعادة بهذين الأمرين جميعًا، وبها يتقومان، والأمر الذي به يكون إدراك الإنسان — وهو أحد الأمرين اللذين يقع عليهما اسم العقل — قد جَرَت العادة من القدماء أن يُسمُّوه النطق، واسم النطق قد يقع أيضًا على التكلم والعبارة باللسان، وعلى هذا المعنى يدل اسم «النطق» عند الجمهور، وهو المشهور مِن معنى الاسم.٦٠
وأما القدماء من أهل هذا العلم، فإنَّ هذا الاسم يقع عندهم على المعنيين جميعًا، والإنسان قد يصدق عليه أنه ناطق بالمعنيين جميعًا، أعني من طريق أنه مُعبِّر، وأنَّ له الشيء الذي به يدرك، غير أن القدماء يعنون بقولهم في الإنسان إنه ناطق أنَّ له الشيء الذي به يدرك ما قصد تعرفه.٦١
ويعزو الفارابي اللبس في فهم العلاقة بين المنطق وعلم اللسان بعامة وعلم النحو بخاصة، إلى عدم تحديد مفهوم هذه المصطلحات في مسيرتها التاريخية، وأن مفاهيمها قد اختلفت، ولا سيما فيما يتعلق بدلالات «النطق» و«المنطق» و«القول» و«الأقاويل» … إذ يقول: «ولما كان اسم النطق والمنطق، قد يقع على العبارة باللسان، ظن كثير من الناس أن هذه الصناعة قصدها أن تفيد الإنسان المعرفة بصواب العبارة عن الشيء، والقوة على صواب العبارة، وليس ذلك كذلك، بل الصناعة التي تفيد العلم بصواب العبارة والقدرة عليه هي صناعة النحو، وسبب الغلط في ذلك هو مشاركة المقصود بصناعة النحو المقصود بهذه الصناعة في الاسم فقط، فإنَّ كليهما يُسمَّى باسم المنطق، غير أن المقصود في هذه الصناعة مِن المعنيين اللذين يدل عليهما اسم المنطق هو أحدهما دون الآخر.»٦٢
ثم يعود الفارابي إلى توضيح العلاقة بين النحو والمنطق بمفهومه العقلي الذي وضع تعاليمه، ونهَّج مسالكه، وقرَّب موارده إلى المتعلمين، وهو في ذلك لا يخرج عن القواعد التي أصَّلها في فهم علم النحو، يقول أبو نصر الفيلسوف: «… لكن بين صناعة النحو وبين صناعة المنطق تشابه ما، وهو أن صناعة النحو تفيد العلم بصواب ما ننطق به، والقوة على الصواب منه بحسب عادة أهل لسان ما، وصناعة المنطق تفيد العلم بصواب ما يُعقَل، والقدرة على اقتناء الصواب فيما يعقل، وكما أنَّ صناعة النحو تُقوِّم اللسان حتى لا يلفظ إلا بصواب ما جرت به عادة أهل لسان ما، كذلك صناعة المنطق، تقوِّم الذهن حتى لا يعقل إلا الصواب من كلِّ شيء، وبالجملة فإن نسبة صناعة النحو إلى الألفاظ هي كنسبة صناعة المنطق إلى المعقولات.»٦٣
والخلاصة، فإننا نجد أنفسنا أمام نظرية لغوية متكاملة وضع الفارابي الخطوط الرئيسة لبنيتها الأساسية، فقد تحدَّث عن «علم اللسان» العام وعن أصوله العلمية التي تشترك فيه ألسنة الأمم المختلفة، ونظر إلى اللغة نظرة كلية ومتكاملة، وإن هذه العمومية التي رآها في بنية علم اللسان العام قد وجدت طريقها في منهجه العلمي عندما تحدث عن الأجزاء السبعة العُظمَى التي رأى أن علم اللسان ينقسم إليها، وتوقف وقفة متأنية وعميقة عند «علم النحو»، سواء ما كان منه عامًّا ومشتركًا بين ألسنة الأمم المختلفة، أم ما كان نحو لسان من الألسنة لأمة من الأمم، وكان تأكيده العلاقة العضوية بين اللغة والفكر، وبين الألفاظ ومدلولاتها سمة مميزة لنظريته اللغوية، وربما لا نعدو الصواب إذا قلنا: إننا نلمس عنده أصول النظرية الحديثة التي مؤداها أن الإنسان يفكر من خلال اللغة، وأن وضوح اللغة دليل على وضوح الفكرة، وبالتالي فإن سلامة اللغة، ودقة التعبير ترتبطان ارتباطًا وثيقًا بسلامة التفكير، وكان الفارابي في كل ذلك يبحث عن أمثلته في اللغة العربية، ويشير أيضًا إلى نظائرها في اللغة اليونانية، من أجل توضيح الفكرة وتقريبها إلى أذهان المتعلمين.٦٤

(٣) موقف الغزالي من قضية المنطق والفقه

لا شك في أن «الفارابي» هو أول من اهتم من الفلاسفة العرب بالبحث في مشكلة المعنى، والدلالة، ليثبت العلاقة الوثيقة بين النحو واللغة، وأن الإحاطة باللغة ونحوها شرط أساسي لدراسة المنطق، وأن النحو يبحث في اللفظ ومعناه، كما أن المنطق يضع القوانين الضرورية لكل فِكر صحيح، وللمعاني الأولية الثابتة الموضوعة دائمًا في ثوب لفظي، ولا شك كذلك في أن «الفارابي» قد أتى ليصحح ما وقع فيه كل من «متَّى بن يونس» و«يحيى بن عَدِي»، من أخطاء مؤكدًا تلك العلاقة بين النحو والمنطق في كونهما يشتركان في ناحية الموضوعات؛ فالمنطق موضوعه المعقولات من حيث تدل عليها الألفاظ. أما النحو فموضوعه الألفاظ من حيث هي دالة على المعقولات، وبالتالي النحو ضروري في ميدانه كما أن المنطق ضروري في ميدانه.٦٥
وقد لقيت مشكلة المعنى والدلالة والتي عالجها الفارابي في كتاباته، قبولًا لدى بعض النحاة من أمثال «ابن جني»؛ حيث خصص في كتابه «الخصائص» بابًا أسماه «في الرد على مَن ادَّعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني»، يقول فيه: «وذلك أن العرب كما تعني بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلتزم وتتكلف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندهم وأكرم عليهم وأفخم قدرًا في نفوسهم، فأول ذلك عنايتهم بألفاظها فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقها إلى إظهار أغراضها، ومراميها، أصلحوها، ورتبوها، وبالغوا في تحييدها، وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد، فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها، الألفاظ خدمة المعاني والمخدوم لا شك أشرف من الخادم.٦٦
ومن جهة أخرى يؤكد ابن جني نفسه اهتمام المتكلمين والفلاسفة والفقهاء باللغة ومتنها فيقول: «هذا الكتاب ليس مبنيًّا على حديث وجوه الإعراب، وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدأ وإلام نَحَا … يُسهم ذوو النظر، من المتكلمين، والفقهاء، والمتفلسفين، والنحاة، والكتاب، والمتأدبين التأمل له والبحث عن مستودعه.»٦٧
ويؤكد «ابن جني»، أن فقه اللغة من المباحث التفسيرية الوصفية التي تَنبَنِي على درس العلاقة القائمة بين الفكر والتعبير، ودرس التطور التاريخي للغة، واستقراء الظاهرة اللغوية من خلال النصوص والعلاقات بين الألفاظ والعبارات، وهذا ما نلاحظه في الباب الذي عقده ابن جني في كتابه الخصائص تحت عنوان «في ترك الأخذ عن أهل المدر (الحضر) والأخذ عن أهل الوبر (البدو)».٦٨
وننتقل إلى الحديث عن «أبي حامد الغزالي»، فقد تأثر هو كذلك بالفارابي، حين فضل أن يخوض في أبحاث لغوية قبل أن يبحث في موضوعاته المنطقية، والكلامية، والفلسفية؛ وخاصة في كتابه «المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»، إذ يقدم البحث في أسماء الله وصفاته بعدة فصول يتناول فيها مباحث لغوية بحتة؛٦٩ يقول مثلًا إنه يوجد شيء واحد، وله أكثر من اسم، فنسمي هذين الاسمين مترادفين ولا يختلف مفهومهما، ولا يتفاوت بزيادة أو نقصان، وإنما تختلف حروفهما فقط مثل الخمر هو العقار، والليث هو الأسد،٧٠ وتُوجَد أسماء أخري ليست مترادفة رغم أنها جميعًا تدل على شيء واحد؛ ذلك لأن مفهوماتها مختلفة لاختلاف معانيها، مثل قول القائل «الصارم هو السيف» و«المهند هو السيف» فإن الصارم والمهند مختلفة المعنى وليست مترادفة إذ إن الصارم يدل على السيف مِن حيث هو قاطع، والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى الهند.٧١ ويوجد أيضًا اسم واحد له معانٍ مختلفة مثل العين تطلق على عين الشمس، والدينار، وعين الميزان، والعين المتفجرة من الماء، والعين الباهرة من الحيوان، ويجب تمييز كل معنًى من معاني الكلمة بالقرينة.٧٢ وتوجد أيضًا «أساميُّ متقاربة في المعنى» ولا يجوز أن نراها مترادفة، فمثلًا يفرق العرب بين استعمال الكبير والعظيم، ولو كانا مرادفين لتواردا في كل مقام، وتقول العرب فلان أكبر سنًّا من فلان ولا تقول أعظم سنًّا، وكذلك الجليل غير الكبير والعظيم، فإن الجلال يشير إلى صفات الشرف، ولذلك لا يقال فلان أجل سنًّا من فلان، ويقال أكبر سنًّا، ويقال الفرس أعظم من الإنسان، ولا يقال أجلُّ من الإنسان، فهذه الأسامي، وإن كانت متقاربة المعاني فليست مترادفة …»٧٣

والغزالي من الشخصيات الإسلامية البارزة التي عرفت بإنتاجها المتنوع في مجالات اللغة، والمنطق، والفقه؛ ولذلك استطاع الغزالي أن يستحوذ على اهتمام كثير من الدارسين في النحو العربي، وبالذات نحاة الأندلس.

ما يهمنا هنا هو أن الغزالي استطاع أن يُزِيح الخجل الذي يعانيه النحوي في مزجه النحو بالمنطق، وذلك حين أعلن عن ضرورة إدخال علم المنطق في علوم المسلمين؛ وذلك مِن خلال المقدمة المنطقية التي وضعها في أوائل كتابه «المُستصفَى من علم الأصول»، والتي يُعلن فيها بأن «مَن لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلًا.»٧٤
وعلى هذا الأساس رأى الغزالي أن استخدام منطق أرسطو يعد شرطًا من شروط الاجتهاد، وفرض كفاية على المسلمين، وإلي هذا يشير «ابن تيمية» بقوله: «لم يكن أحد من نُظَّار المسلمين يلتفت إلى طريق المنطقيين، بل الأشعرية، والمعتزلة، والكرامية، والشيعة، وسائر الطوائف، كانوا يعيبونها، ويثبتون فسادها، وأول من خلط المنطق بأصول المسلمين (يعني علم أصول الفقه) أبو حامد الغزالي، فتكلم فيها علماء المسلمين مما يطول ذكره.»٧٥
وقد كان عند الغزالي العديد من الدوافع التي جعلته يدافع عن المنطق بحماس واضح، ومن أهم هذه الدوافع دافعان:
  • أحدهما: أن الغزالي كان من أكبر مفكري الإسلام إيمانًا بفائدة المنطق في مجال الدراسات الفقهية، كما كان أكثرهم توفيقًا في تطبيق مبادئ القياس المنطقي العامة على أمور الفقه، فقد أدرك الغزالي أن «قبول القياس الفقهي يتوقف، على ما فيه مِن معقولية، وأن الوسيلة إلى ذلك هو المنطق بصوره وقواعده.»٧٦
  • والثاني: هو الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد المخالفين والمهاجمين لها من أصحاب الملل والنِّحَل أو ضد الفرق الإسلامية التي جنحت عن الدين فكرًا وسلوكًا، كان من أسباب اصطناع المنطق، بوصفه الأداة الفعالة في التفنيد، والنقد، والإثبات العقلي، وبذلك يمكن أن تكون تدعيمًا قويًّا لطريقة المتكلمين الجدلية. لهذا دافع الغزالي عن المنطق وتصدَّى للمهاجمين له؛ لأنَّ ترك المنطق فوات للمصلحة التي يجنيها المتكلم وانسحاب من الميدان الذي يعج بأعداء العقل والمعقول، ومهما كانت الأسباب التي دفعت الغزالي إلى اتخاذ طريق المنطق والدفاع عنه بحماس. فما يهمنا الآن هو كيف استطاع الغزالي مزج المنطق بالفقه؟
لقد اتجه الغزالي إلى علوم الأوائل بالدرس والتمحيص، ولكنه وإن كان قد ناهض الجزء الإلهي وبعضًا من الجزء الطبيعي من الفلسفة اليونانية، وانتقد مَن تأثَّر بها مِن فلاسفة المسلمين المشائيين، وخاصة ابن سينا، وضمن نقده هذا كتابه «تهافت الفلاسفة»، فإنه قد استهواه الجزء المنطقي فقال فيه: «أما المنطقيات فأكثرها على وجه الصواب والخطأ نادر فيها، وإنما يخالفون (أي الفلاسفة) أهل الحق فيها بالاصطلاحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد، إذ غرضها تهذيب طرق الاستدلالات، وذلك مما يشترك فيه النظار.»٧٧

ولذلك فقد ألف كتبًا بسط فيها مباحث المنطق، ويبين فائدته ونجاعته، مثل «معيار العلم»، «محك النظر»، «القسطاس المستقيم»، إلى جانب مقدمات لبعض كتبه الأخرى، وضعها فيه، كمقدمة «مقاصد الفلاسفة» و«المُستصفَى من علم الأصول».

ثم خَطَا أبو حامد الغزالي خطوة أخرى، فأصدر ما يشبه الفتوى بوجوب أن يتعلم المنطق كل باحث في العلوم الإسلامية، كي تكون علومه موثوقًا بها؛ حيث قال في مقدمة كتابه «المُستصفَى»: «نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول، وانحصارها في الحجج والبرهان، ونذكر شروط الحد الحقيقي، وشروط البرهان الحقيقي، وأقسامها … وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلًا.»٧٨
وقد وجه الغزالي حملته الإقناعية بالمنطق إلى الفقه، خاصة في سبيل مزجه بالمنطق، وجعل استنباطاته واستخراجاته تسير عليه، فهو إلى جانب استصدار فتواه السالفة في مقدمة المستصفى، وهو كتاب في أصول الفقه، مما يوحي بأن محتوى الفتوى متوجه أساسًا إلى الناظرين في الفقه، إلى جانب ذلك يغتنم كل فرصة ليخصص الفقه في حديثه عن جدوى المنطق، كمنهج للبحث في العلوم، فيقول متحدثًا عنه: «يشمل جدواه جميع العلوم العقلية منها والفقهية، فإنا سنعرفك أن النظر في الفقهيات لا يباين النظر في العقليات في ترتيبه وشروطه وعياره، بل في مآخذ المقدمات فقط.»٧٩
ولم يبقَ هذا الحث على استعمال المنطق في الفقه على المستوى النظري فقط، بل إن الغزالي انتهى من ذلك إلى مرحلة التطبيق العملي، فألف كتبًا يبين فيها كيفية استعمال الطرائق المنطقية في البحوث والمناظرات الفقهية؛ ويقول في هذا المعني: «لما كانت الهمم في عصرنا ماثلة من العلوم إلى الفقه، بل مقصورة عليه، حتى حدانا ذلك إلى أن صنفنا في طرق المناظرة فيها: مآخذ الخلاف أولًا، ولباب النظر ثانيًا، وتحصين المآخذ ثالثًا، وكتاب المبادئ والغايات رابعًا، وهو الغاية القصوى في البحث الجاري على منهاج في ترتيبه وشروحه، وإن فارقه في مقدماته.»٨٠
وكأنما قد توقع الغزالي أن عمله هذا ما زال في حاجة إلى البيان بإجراء أمثلة محسوسة، تمزج فيها المسألة الفقهية المعنية بالقاعدة المنطقية المعينة، وهو ما قد يدفع آخر الاعتراضات عن الذين لا يستسيغون مزج المنطق بالفقه، فأورد هذا الاعتراض ورد عليه؛ فقال بعد تقريره لأشكال القياس الحملي وأضرابه: «فإن قيل فهل لكم في تمثيل المقاييس الأربعة عشرة (المقصود بها أضرب القياس الحملي الصحيحة) أمثلة فقهية لتكون أقرب إلى فهم الفقهاء، قلنا، نفعل ذلك ونكتب فوق كل مقدمة يحتاج لردها إلى الأول بعكس، أو افتراض، أنه بعكس، أو بغرض، ونكتب على الطرق إلى أنه قياس يرجع إن شاء الله تعالى، أمثلة الشكل الأول: كل مُسكِر خمر، وكل خمر حرام …»٨١
وعلى هذا النسق راح الغزالي في تقريراته المنطقية؛ خاصة في «معيار العلم»، يبرر أمثلة فقهية بشكل واسع، يقول الغزالي: «رغبنا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الباب أمثلة فقهية فتتمثل فائدته وتعم سائر الأصناف جدواه.»٨٢
فهو يجعل المنطق معيارًا للعلم، بل إنه يريد إدخاله في الدراسات الفقهية، ولكن هذا لا يعني أنه يرى أن طرق الاستدلال في الفقه تتفق تمامًا مع قواعد الاستدلال البرهاني، بل توضح الفرق بين الاستدلالات ذات الطابع الظني، وهي كافيه في الفقه، وبين الاستدلالات المنطقية ذات الطابع اليقيني.٨٣
ولكن «الغزالي»، يشعر أن هناك مَن ينكرون عليه استعمال المنطق في الأمور الفقهية، وعدم جدوى العقليات في المسائل الفقهية، فيرد عليهم قائلًا: «ولعل الناظر بالعين العوراء نظر الطمع والإزراء ينكر انحرافنا عن العادات في تفهم العقليات القطعية بالأمثلة الفقهية الظنية، فليكف من غلوائه في طعنه وإزرائه، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها، فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفي بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد ليقيس مجمله إلى ما هو معلوم عنده، فيستقر المجهول في نفسه.»٨٤

ويرى الغزالي أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإدخال المنطق في تلك العلوم الفقهية، واتخاذه قانونًا لها، وكيف يتوصل الإنسان إلى المجهول عن طريق المعلوم، فالفقيه بما لديه من فقه، والمتكلم بما لديه من كلام، والفيلسوف بما لديه من فلسفة … إلخ.

ويرى المستشرق الألماني «جولد تسيهر (ت١٩٢٢م)»، أن الغزالي «لم يكن يقصد النيل من نظريات الفقه وأقواله الثابتة، وإنما أراد بكتبه المنطقية أن يبين أهمية المنطق بالنسبة لتنظيم البحوث الدينية، تنظيمًا يقوم على منهج في البحث المستقيم، وأن يوصي باتباعه.»٨٥
ولكي يؤكد الغزالي أكثر على يقينية المنطق كطريق للاستدلال، نراه يؤكد في كتابه «معيار العلم» على ضرورة استخدام الاستقراء المنطقي بوصفه طريقًا من الطرق التي توصل إلى النظر المنطقي، وبوصفه كذلك طريقًا من الطرق التي توصل إلى المعرفة الظنية، وهي المطلوبة في الفقه، وهو يعرفه من الناحية المنطقية، فيقول: «هو أن يتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكمًا في ترك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به.»٨٦
ويضرب مثالًا لهذا الاستقراء في الفقه فيقول: «الوتر لو كان فرضًا، ولما أُدي على الراحلة، قلنا باستقراء جزئيات الغرض من الرواتب وغيرها كصلاة الجنازة والقضاء وغيرها.»٨٧
ثم يرى الغزالي أن الاستقراء نوعان: استقراء كامل، وهو يمثل معيار اليقين، واستقراء ناقص، وهو يفيد الظن، وهو ما يقبله في الفقه، وكلاهما يصلح أن يكون معيارًا للعلم، ويورد لنا مثالًا للاستقراء الناقص في فقه الأحناف، فيقول: «الوقف لا يلزم في الحياة؛ لأنه لو لزم لما اتبع الشرط الواقف، فيقال له: لم قلت إن كل لازم فلا يتبع شرط العاقد؟ فيقول: قد استقرَيتُ جزئيات التصرفات اللازمة من البيع، والنكاح، والعتق، والخلع، وغيرها، ومَن جوز التمسك بالتمثيل المجرد الذي لا مناسبة فيه يلزمه هذا، بل إذا كثرت الأصول قوي الظن.»٨٨ وبهذا يصبح الاستقراء ناقصًا؛ حيث يقول الغزالي: «إن تصوُّر الاستقراء عند الكمال أوجب تصور الاعتقاد الحاصل عند اليقين، ولم يوجب بقاء الاحتمال على التعادل، بل رجح الظن أحد الاحتمالين، والظن في الفقه كافٍ.»٨٩

فالاستقراء الفقهي إذن عنصران: هما استقراء الجزئيات أولًا، ثم ترجيح بعض تلك الجزئيات على الأخرى، واستخلاص الحكم العام ينتجه هذا الترجيح.

وتبرز محاولة الغزالي الحقيقية لمزج المنطق بالفقه في كتابه «محك النظر»، حيث يشرح فيه «قياس الدلالة»، وهو «قياس اﻟ «إن»» عند المنطقيين، وقياس العلة، وهو «قياس اﻟ «لم»» عند المنطقيين، ويدعمهما بأمثلة فقهية، يقول الغزالي: «أما قياس الدلالة فهو أن يكون الأمر المكرر في المقدمتين معلولًا ومُسبَّبًا، فإن العلة والمعلول، يتلازمان، وإن شئت قلت المُوجِب، والموجَب، فإن استدللت بالعلة على المعلول، فقياسك قياس علة، وإن استدللت بالمعلول على العلة، فهو قياس دلالة، ومثال قياس العلة في الفقه، الاستدلال بإحدى النتيجتَين على الأخرى في الفقه، قولنا في الزنا أنه لا يوجب الحرمة حرمة المصاهرة، لأنه وطءٌ لا يوجب المحرمية، وما لا يوجبه المحرمية لا يوجب الحرمة، وهذا لا يوجب المحرمية. فإذن لا يوجب الحرمة، والمشترك في المقدمتين المقرون بقولنا؛ لأن المحرمية وهي ليست علة الحرمة، ولا الحرمة علة لها، بل هما نتيجتَا علةٍ واحدة، وحصول إحدى النتيجتين يدل على الأخرى، بواسطة العلة، فإنها تلازم علتها، والنتيجة الثانية أيضًا تلازم علتها، ومُلازِم المُلازِم مُلازِمٌ لا محالة، فإن ظهر أن المحرمية علة الحرمة لم يكن هذا صالحًا، لأن يكون مثالًا لغيرنا، ومثال قياس الدلالة من الفقه قولك: هذه عين نجسة، فإذن لا تصح الصلاة معها، وقياس العلة عكس قياس الدلالة، وهو أن تقول هذه عين لا تصح الصلاة معها، فإذن هي نجسة.»٩٠ ونلاحظ في قياس العلة، وقياس الدلالة، أن الغزالي قد تأثر بأستاذه الجويني فيهما. ثم يتكلم الغزالي بعد ذلك عن مدارك الأقيسة الفقهية.٩١
علاوةً على أن الغزالي يبدأ في وضع اصطلاحات جديدة في محك النظر، علاوةً على ما وضعه من اصطلاحات في كتابه «معيار العلم»، فيستبدل كلمتي «التصوُّر والتصديق» بكلمتي «معرفة وعلم» متابعًا في ذلك النحويين.٩٢ ويعبر عن القضايا الكلية المجردة بالوجوه أو الأحوال، وهما تعبيران كلاميان أو الأحكام وهو تعبير فقهي.٩٣
ويعرض الغزالي أحيانًا لاصطلاحات طوائف المسلمين المختلفة في الموضوع والمحمول، فيقول إنهما يُسمَّيَان عند النحويين مبتدأً وخبرًا، وعند المتكلمين صفًة وموصوفًا، وعند الفقهاء حكمًا ومحكومًا، ويختار الغزالي مِن بين تلك التعاريف تعريفَ الفقهاء.٩٤ كما يشير إلى أن الحد الأوسط في القياس عند المناطقة يُسمَّى علةً عند الأصوليين.٩٥

ومن هنا يتضح لنا مدى أهمية المنطق عند الغزالي، ومدى أهمية المزج الذي أفاد منه من الفقه الإسلامي، وهو أمرٌ إنَّ دل على شيء، فإنه يدل على أن الغزالي يُعَد — بحقٍّ — واحدًا مِن أهم وأعظم مفكري الإسلام الذين دعموا، وطوروا عملية مزج المنطق بالفقه بعد الإمام «أبو المعالي» الجويني و«ابن حزم».

١  د. مازن المبارك: الرماني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه، دار الفكر، دمشق، سوريا، ١٩٩٥م، ص٢٤.
٢  د. علي أبو المكارم: تقويم الفكر النحوي، ص١١٢.
٣  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، صحَّحه وضبطه أحمد أمين وأحمد الزين، دار مكتبة الحياة للطبعة والنشر، بيروت، ١٩٥٣م، الجزء الأول، ص١٠٧–١٢٩.
٤  أبو حيَّان التوحيدي: المقابسات، تحقيق حسن السندوبي، ط١، المكتبة التجارية، القاهرة، ١٩٢٩م، ص٦٨–٨٦.
٥  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص١٠٧-١٠٨؛ وينظر كذلك: المقابسات، ص٦٨.
٦  د. محمد علي أبو ريان: دراسة تحليلية مقارنة بين النحو والمنطق ضمن كتاب الفارابي والحضارة الإنسانية، بغداد، ١٩٧٥م، ص١٩٣-١٩٤؛ وينظر كذلك: د. إبراهيم السامرائي: الفارابي وعلم النحو، ضمن كتاب الفارابي والحضارة الإنسانية، بغداد، ١٩٧٥م، ص٣٣٠-٣٣١.
٧  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص٨٩، ١٠٨-١٠٩؛ وينظر كذلك: أبو حيَّان التوحيدي: المقابسات، تحقيق حسن السندوبي، ط١، المكتبة التجارية، القاهرة، ١٩٢٩م، ص٦٨–٨٦.
٨  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، بيروت، ١٩٥٣م، الجزء الأول، ص١٠٨–١٢٨. أبو حيَّان التوحيدي: المقابسات، ص٦٨–٨٦.
٩  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص١١٠؛ وينظر كذلك: أبو حيَّان التوحيدي: المقابسات، ص٧١–٧٣.
١٠  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص١١١؛ وينظر كذلك: أبو حيَّان التوحيدي: المقابسات، ص٧٧-٧٨.
١١  أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ج١، ص١١٢-١١٣؛ وينظر كذلك: أبو حيان التوحيدي: المقابسات، ص٧٩–٨٢.
١٢  أبو حيَّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة ج١، ص١١٤–١١٩؛ وينظر كذلك: أبو حيان التوحيدي: المقابسات، ص٨٣-٨٤.
١٣  د. علي أبو المكارم: تقويم الفكر النحوي، ص٦٧.
١٤  نفس المرجع، ص٩٧.
١٥  كيس فرستيج: أعلام الفكر اللغوي «التقليد اللغوي العربي»، ص٩٥.
١٦  نفس المرجع، ص٩٦-٩٧.
١٧  أبو حيان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، ص١٠٧–١١١؛ وينظر كذلك: المقابسات، ص٦٨–٧٢.
١٨  كيس فرستيج: نفس المرجع، ص٤٢.
١٩  الصبان محمد بن علي (١٢٠٦ﻫ/١٧٩٢م): حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، ط١، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٤١٧ﻫ/١٩٩٧م، ص١٤-١٥.
٢٠  يحيى بن عدي: تبيين الفصل بين صناعة المنطق الفلسفي والنحو العربي، تحقيق جيرهارد أندرس، مجلة تاريخ العلوم عند العرب، م١ عدد ١–١٩٧٧م، ص٤٢.
٢١  نفس المصدر، ص١٤.
٢٢  نفس المصدر، ص٤٩-٥٠.
٢٣  نفس المصدر، ص٤٧.
٢٤  محيي الدين محسب: الثقافة المنطقية، ص٦٠–٦٢.
٢٥  كيس فرستيج: المرجع السابق، ص٩٩-١٠٠.
٢٦  أبو حيان التوحيدي: المقابسات، ص١٧٠.
٢٧  نفس المصدر، ص١٧٠.
٢٨  نفس المصدر، ص١٧١-١٧٢.
٢٩  نفس المصدر، ص١٧٢.
٣٠  نفس المصدر، ص١٧٠-١٧١.
٣١  نفس المصدر، ص١٧٢.
٣٢  كيس فرستيج: المرجع السابق، ص١٠٠-١٠١.
٣٣  السيرافي: شرح كتاب سيبويه، ج١، ص٥٣.
٣٤  أبو حامد الغزالي: المُستصفَى مِن علم الأصول، تحقيق محمد أبو العلا، مكتبة الجندي، القاهرة، ١٩٧٠م، ص١٠.
٣٥  د. زينب عفيفي: فلسفة اللغة عند الفارابي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ٢٠١١م، ص٥.
٣٦  د. عبد الكريم خليفة: اللغة والنحو في فكر الفارابي الفيلسوف، بحث منشور بمجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد ٣٤ جمادى الأولى–شوال ١٤٠٧ﻫ، السنة الثانية عشرة كانون الأول–حزيران ١٩٨٨م، ص١١-١٢.
٣٧  د. زينب عفيفي: نفس المرجع، ص٥.
٣٨  د. محسن مهدي: مقدمة كتاب الحروف للفارابي، دار المشرق، بيروت، ١٩٧٠م، ص٤٥.
٣٩  ينظر: عيون الإنباء في طبقات الأطباء، ج٢، ص١٣٦.
٤٠  ينظر: الفهرست، ص٦٨.
٤١  كيس فرستيج: أعلام الفكر اللغوي «التقليد اللغوي العربي»، ص١٢١.
٤٢  نفس المرجع، ص١٢٢.
٤٣  نفس المرجع، ص١٢٣.
٤٤  د. حسن الهلالي: الفارابي وتصحيح العلاقة بين المنطق والنحو، مثال منشور بمجلة آفاق الثقافة والتراث، العدد الرابع والخمسون، جمادى الآخرة، ١٤٢٧ﻫ/يوليو (تموز) ٢٠٠٦م، ص٦٧.
٤٥  نفس المرجع، ص٦٧.
٤٦  كيس فرستيج: أعلام الفكر اللغوي، ص١٣١.
٤٧  الفارابي: الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بغداد، ص٤٢.
٤٨  الفارابي: إحصاء العلوم، تحقيق د. عثمان أمين، دار الفكر العربي، ط٢، القاهرة، ١٩٤٩م، ص١٣. د. عبد الكريم خليفة: اللغة والنحو في فكر الفارابي الفيلسوف، بحث منشور بمجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد ٣٤ جمادى الأولى–شوال ١٤٠٧ﻫ، السنة الثانية عشرة كانون الأول–حزيران ١٩٨٨م، ص١٤-١٥.
٤٩  محمد جلوب فرحات: دراسات في علم المنطق عند العرب، مكتبة بسام، الموصل، بغداد،١٩٨٧م، ص٥١.
٥٠  مازن الوعر: العلاقة بين علم اللسان وعلم المنطق عند الفيلسوف الفارابي، بحث منشور بمجلة جذور، ج١٤، مج٧، رجب ١٤٢٤ﻫ/سبتمبر ٢٠٠٣م، ص٣٢٥؛ وينظر كذلك: د. عبد الكريم خليفة: اللغة والنحو في فكر الفارابي الفيلسوف، بحث منشور بمجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد ٣٤ جمادى الأولى–شوال ١٤٠٧ﻫ، السنة الثانية عشرة كانون الأول–حزيران ١٩٨٨م، ص١٦-١٧.
٥١  مازن الوعر: نفس المرجع، ص٣٢٦؛ وينظر كذلك: د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص١٧-١٨.
٥٢  نفس المرجع، ص٣٢٥.
٥٣  نفس المرجع، ص٣٢٦.
٥٤  نفس المرجع، ص٣٢٦.
٥٥  نفس المرجع، ص٣٢٧؛ وينظر كذلك د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص١٨-١٩.
٥٦  الفارابي: إحصاء العلوم، ص٧٧؛ د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٠-٢١.
٥٧  د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٠.
٥٨  نفس المرجع، ص٢١.
٥٩  الفارابي: رسالة التنبيه على سبيل السعادة، ص٢٢٩؛ وينظر كذلك د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٣.
٦٠  نفس المصدر، ص٣٠؛ وينظر كذلك: د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٣-٢٤.
٦١  الفارابي: إحصاء العلوم، ص٧٤؛ وينظر كذلك: د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٢.
٦٢  الفارابي: رسالة التنبيه على سبيل السعادة، ص٢٣٠؛ وينظر كذلك: د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٣.
٦٣  نفس المصدر، ص٢٣٠؛ وينظر كذلك: د. عبد الكريم خليفة: نفس المرجع، ص٢٣-٢٤.
٦٤  د. عبد الكريم خليفة: اللغة والنحو في فكر الفارابي الفيلسوف، بحث منشور بمجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد ٣٤ جمادى الأولى – شوال ١٤٠٧ﻫ، السنة الثانية عشرة كانون الأول–حزيران ١٩٨٨م، ص٢٣–٢٥.
٦٥  الفارابي: إحصاء العلوم، ص٦٦–٦٨؛ وينظر كذلك: د. زينب عفيفي: فلسفة اللغة عند الفارابي، ص١٧٤-١٧٥.
٦٦  ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، القاهرة، ١٩٥٢م، ج١، ص٢١٥–٢٢٠؛ وينظر كذلك: د. زينب عفيفي: فلسفة اللغة عند الفارابي، ص١٧٤.
٦٧  ابن جني: نفس المصدر، ج١، ص١١–٢٢٠؛ وينظر كذلك: د. زينب عفيفي: نفس المرجع، ص١٤١.
٦٨  ابن جني: نفس المصدر، ج٢، ص٥؛ وينظر د. زينب عفيفي: فلسفة اللغة عند الفارابي، ص١٤٠.
٦٩  الغزالي: المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، مكتبة الجندي، القاهرة، ١٩٦٨م، ص١٥–٢٥.
٧٠  نفس المصدر، ص١١.
٧١  الغزالي: نفس المصدر، ص١١.
٧٢  نفس المصدر، ص٢٨.
٧٣  نفس المصدر، ص٢٨.
٧٤  الغزالي: المستصفى من علم الأصول، ص١٠.
٧٥  ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد): نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، تحقيق سليمان الندوي، المطبعة القيمة، بومباي، ١٩٤٩م، ص٢١٦.
٧٦  الغزالي: معيار العلم في فن المنطق، تحقيق: سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦١م، ص٩.
٧٧  الغزالي: مقاصد الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، القاهرة، د.ت.، ص٣٢.
٧٨  الغزالي: المُستصفَى، ج١، ص١٠.
٧٩  الغزالي: معيار العلم، ص١٣-١٤.
٨٠  نفس المصدر، ص١٤.
٨١  نفس المصدر، ص١٢٠-١٢١.
٨٢  نفس المصدر، ص١٤.
٨٣  نفس المصدر، ص١٥.
٨٤  نفس المصدر، ص١٤-١٥.
٨٥  تسيهر (أجناس جولد): موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتابه التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، دار النهضة العربية، القاهرة، ١٩٤٦م، ص١٥٦.
٨٦  الغزالي: معيار العلم، ص١٢٩.
٨٧  نفس المصدر، ص١٣٠.
٨٨  نفس المصدر، ص١٣١.
٨٩  نفس المصدر، ص١٣٣.
٩٠  الغزالي: محك النظر، تحقيق د. رفيق العجم، دار الفكر اللبناني، بيروت، ١٩٩٤م، ص٨٠–٨٢.
٩١  نفس المصدر، ص٩٤.
٩٢  نفس المصدر، ص٨-٩.
٩٣  نفس المصدر، ص٣١.
٩٤  نفس المصدر، ص٣١.
٩٥  نفس المصدر، ص٣٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤