الفصل الثامن

ابن حزم وإشكالية الثقافة المنطقية عند نحاة الأندلس

تقديم

عُنِيَ الأندلسيون عنايةً فائقةً بجميعِ أنواع العلوم في تاريخ الحضارة الإسلامية من علوم الدين، واللغة، والأدب، والنحو، والصرف، والتاريخ، وعلوم الطبيعة، والطب، والموسيقى، والهندسة، والرياضة، والفلك، والمنطق، والفلسفة، وكانت علوم الدين واللغة أساسًا للتربية العقلية، فكنت لا تجد طبيعيًّا ولا فيلسوفًا إلا وله علم بالفقه والنحو والشعر.١
ولقد ازدهرت دراسة النحو في الأندلس؛ حيث كان للنحو مكانة سامية، ومنزلة رفيعة، لدى الأندلسيين، فكانوا يعدونه أصلًا من أصول ثقافتهم وكان العالِم عندهم لا تكون له قيمة في نظرهم إلا إذا كان بارعًا في علم النحو؛ يقول «ابن سعيد المغربي»: «وهم — أي في الأندلس — كثير، والبحث فيه (أي في النحو)، وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أي علم لا يكون متمكنًا مِن علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق، فليس عندهم بمُستحِقٍّ للتميز، ولا سالم من الازدراء.»٢
وكانت بداية الاتجاه النحوي في الأندلس في منتصف القرن الثاني الهجري، فكان أول مَن جمع بين علوم الدين واللغة «أبو موسى الهواري» في خلافة «عبد الرحمن بن معاوية»، فلقى الإمام مالكًا وأقرانه من الأئمة، كما لقي الأصمعي وأبا زيد وأقرانَهما.٣
وبدأ النحو في الأندلس، كما بدأ في المشرق، عبارة عن قطعة مختارة في لفظ غريب يشرح، أو مشكلة نحوية توضح على النحو الذى نراه في «أمالي القالي»، و«الكامل للمبرد»؛٤ ثم ألفوا نحوًا في مسائل جزئية، كما فعل «أبو علي القالي» نفسه في «فعلت وأفعلت»، والمقصور والممدود، وكما فعل «ابن القوطية»٥ في كتابه «الأفعال».٦
ويُعَد «جودي بن عثمان»، أول نحوي بالمعنى الدقيق؛ حيث رحل إلى المشرق، وأخذ عن الرياشي، والفراء، روى عن «الكسائي» كتابه، واستصحبه معه في عودته إلى القيروان، غير أنه اتجه إلى قرطبة وسكن فيها بعد قدومه من المشرق، وهو يعد أوَّل من أدخل كتاب الكسائي في الأندلس كان نحويًّا عارفًا، أدَّب في قرطبة أولاد الخلفاء، وتصدَّر فيها لإفادة الطلاب في النحو، وألَّف كتابًا فيه، تُوفِّي سنة ثمان وتسعين ومائة.٧
وفي مطلع القرن الثالث الهجري تكاثر هؤلاء القراء والمؤدِّبون، فتميَّز مِن بينهم «عبد الملك بن حبيب السلمي» (ت٢٣٨ﻫ)، وكان إمامًا في الفقه، والحديث، والنحو، واللغة، ولكنَّه كان جامعًا لضروب الثقافة الإسلامية وقد ذكره «ابن الفرضي» في كتاب «طبقات الأدباء» فجعله صدرًا فيهم وقال: «إنه كان فقيهًا، مفتيًا، نحويًّا، لغويًّا، نسابةً، أخباريًّا، عروضيًّا، فائقًا، شاعرًا، محسنًا، مترسلًا، حاذقًا.»٨
وخلال هذه الفترة كان النحاة الأندلسيون قد اعتنوا بالنحو الكوفي، وقدموه على النحو البصري، ولم تكن العناية بالنحو الكوفي مِن فراغ؛ بل كان أمرًا له مُبرراته وأسبابه، أهمها هو أن مدرسة البصرة التي أسست النحو قبل مائة عام تقريبًا مِن نشأة مدرسة الكوفة التي كانت قد اكتملت آراؤها النحوية، وتبلورت وأصبحت منتشرة في البلاد، ولما جاء الأندلسيون لطلب النحو مِن المشارقة، كان النحو الكوفي وقتذاك في بداياته، وكانت الآراء النحوية المطروحة بسيطة غير معقدة تلائم مستواهم العلمي في مجال النحو فأخذوا بها، لسهولتها لذلك كان اهتمامهم بالنحو الكوفي متقدمًا على البصري في البداية.٩

ومضت السنون والنحو الكوفي يسيطر على الساحة الأندلسية حتى اشتدت سواعد الأندلسيين، ووجدوا أنهم قادرون على تجاوز النحو المختصر، إلى النحو الآخر، وهو نحو البصرة وقياساته وأحكامه، ليتخلصوا من الفوضى التي يوقعها بعض دُعاة النحو الكوفي باعتمادهم الصارم على قاعدة بمجرد سماع مثال واحد فقط، وهذا الأمر أوجَدَ الاضطراب والفوضى في النحو العربي، وأفسد سماع الكسائي — شيخ المدرسة الكوفية — للشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، وجعله أصلًا يقيس عليه، أفسد النحو العربي، لذلك وجَّه علماء الأندلس جهودهم نحو البصرة وعلمائها، فأخذوا النحو البصري الذي طبع به نحوهم فيما بعد.

ويعد العالم «الأُفشَنيق محمد بن موسى بن هشام» المتوفى سنة ٣٠٧ﻫ، أول مَن اهتم من الأندلسيين بالنحو البصري؛ حيث يُروَى عنه أنه سافر إلى المشرق ولَقِيَ «أبا جعفر الدينوري»،١٠ وأخذ عنه كتاب سيبويه، وبدأ يقرؤه بقرطبة لطلابه.
وفي أواخر القرن الثالث حاول «أبو موسى بن هاشم» (المتوفى سنة ٣٠٧ﻫ) أن يدخل إلى أرض الجزيرة كتاب سيبويه.١١ وما إن دخل كتاب سيبويه أرض الأندلس، إلا وقد ذاع صيته وعمت شهرته، حتى وجد له بين العلماء من يتلقاه شَرِهًا فَرِحًا بغنمه الجديد، فوجَّه الكثير من علماء الأندلس جهودهم نحو الكتاب الوافد عليهم من المشرق، وذلك بشرحه أو الاستدراك عليه،١٢ أو دراسته وتدريسه، وقد بلغ الشغف بكتاب سيبويه مبلغه «حتى كان الناس يتساءلون هل يقرأ كتاب سيبويه، فإن قيل لا، فيقولون: لا يعرف شيئًا.»١٣
ولا يلبث «محمد بن يحيى المهلبي الرباحي الجياني» (المتوفى سنة ٣٥٣ﻫ)،١٤ أن يفتح عصر الاهتمام البالغ في موطنه بكتاب سيبويه، وكان يعاصره في قرطبة أبو علي القالي الذي نزل الأندلس (سنة ٣٣٠ﻫ)، وقاد فيها نهضةً لغويةً ونحويةً خصبة.
فقد عرفت الأندلس، منذ منتصف القرن الرابع الهجري، أجيالًا مِن علماء النحو، ازدهرت بهم قرطبة، وأصبحوا قِبلة الطلاب يأخذون عنهم الكتاب، فلم يُطِلَّ عصر ملوك الطوائف إلا ومدرسة الأندلس النحوية قد استقرت، وغدا شيوخه يقفون على قدم المساواة مع شيوخ المشرق، وأصبح مِن النادر أن نعثر على مِن يطلب العلم عن المشارقة؛ حيث اتضحت معالم الدراسة اللغوية في الأندلس واكتملت، وشعر الأندلسيون بأن لديهم حظًّا موفورًا منها، ولا أدل على ذلك مِن أنَّ أعلام اللغة والنحو في هذا العصر، وهم «ابن سيدَه» (ت٤٨٥ﻫ)، و«ابن الأفليلي» (ت٤٤١ﻫ)، و«ابن سراج» (ت٤٨٩ﻫ)، و«أبو الوليد الوقشي» (ت٤٨٩ﻫ)، و«الأعلم الشنتمري» (ت٤٧٦ﻫ)، وللأعلم الشنتمري شروحٌ عديدة على كتب النحو منها «النكت»، وهو شرح لكتاب سيبويه وأيضًا له شرح لكتاب الجمل للزجاجي، ومن أهم نحويي الأندلس الذين يدين لهم الدرس النحوي إلى يومنا هذا.١٥
وعلى هذا أخذت دراسة النحو تزدهر في الأندلس منذ عصر ملوك الطوائف، فإذا نحاتها يخالطون جميع النحاة السابقين من بصريين، وكوفيين، وبغداديين، وإذا هم ينتهجون نهج الآخرين من الاختيار من آراء نحاة الكوفة والبصرة، ويضيفون إلى ذلك اختيارات من آراء البغداديين، وخاصةً أبا علي الفارسي، وابن جني، ولا يكتفون بذلك، بل يسيرون في اتجاههم من كثرة التعليلات والنفوذ إلى بعض الآراء الجديدة.١٦

ولقد نضج النحو في القرن السادس الهجري، وذاعت شهرة الأندلسيين فيه، ومن بين هؤلاء ابن السيد البطليوسي (ت٥٢١ﻫ)، فكان يقرئ الطلاب في قرطبة، ثم في بلنسية النحو، وعني بكتاب الجمل للزجاجي، و«ابن الباذش الغرناطي» (ت٥٢٨ﻫ)، الذي كان ذا معرفة واسعة بعلم العربية، وصنَّف شروحًا على كتب مختلفة للبصريين والبغداديين، و«ابن عطية الغرناطي»، صاحب المحرر الوجيز، والمتوفى (٥٤١ﻫ)، و«أبو القاسم السهيلي» (ت٥٨١ﻫ) مؤلف نتائج الفكر، وغيره، و«ابن خروف» (ت٦٠٩ﻫ) وابن عصفور الإشبيلي (ت٦٦٩ﻫ)، صاحب كتاب المقرب والممتع في التصريف وغيرها من الكتب المهمة في مجالي النحو والصرف، ومنهم ابن مالك الطائي الأندلسي (ت٦٧٢ﻫ) صاحب الألفية المشهورة في النحو، وله كتب مهمة في النحو منها كتاب التسهيل، الذي نال اهتمامًا بالغًا من النحاة، فكثرت شروحه والتعليقات عليه، ومنهم أبو حيَّان الأندلسي (ت٧٤٥ﻫ) صاحب المؤلفات المهمة في النحو، لعل من أهمها كتاب «التذييل والتكميل في شرح التسهيل»، و«ارتشاف الضَّرَب من لسان العَرَب» وغيرها، وكان أبو حيان إلى جانب ذلك مفسرًا له أهم كتاب في التفسير اللغوي والبلاغي هو «تفسير البحر المحيط» الذي يُعَد بحق بحرًا محيطًا وكتابًا موسوعيًّا في تفسير القرآن.

وهكذا برز الأندلسيون في النحو، وبرعوا فيه، وأحيوا عصر الخليل وسيبويه، كما يقول ابن سعيد، ولعل السر في ذلك هو ما كان لهؤلاء من فطرة عجيبة في قوة الذاكرة والحفظ التي اعتقد أنها من أثر جمال الطبيعة في نفوسهم، فكانوا في عناية الاستحضار للمسائل البديهية.»١٧

والسؤال الآن: كيف انتقلت الثقافة المنطقية عند نحاة الأندلس؟

كان الانتقال على مرحلتين: المرحلة الأولى كانت عن طريق «ابن حزم»، حينما ألف كتابه «التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية»، بَيْد أنَّ هذه المرحلة لم تكتمل بسبب النزعة الظاهرية التي كان ابن حزم يعتنقها، الأمر الذي جعلته يدخل الثقافة المنطقية إلى العلوم بشكل جزئي، وليس كليًّا بسبب رفضه للعلل، والأقيسة الفقهية والنحوية، وهذا أدَّى بالكثير من النحاة الأندلسيين خلال القرنين الخامس والسادس إلى الإعراض عنها تمامًا، ومما عزز هذا الإعراض ثورة ابن مضاء الأندلسي الذي تَبنَّى ظاهرية ابن حزم بمحاولته إنكار العلل والأقيسة في النحو المشرقي.

والمرحلة الثانية بدأت بدخول كتب أبي حامد الغزالي المنطقية لأرض جزيرة الأندلس عن طريق تلاميذه ومريديه من أمثال أبي بكر بن العربي ومحمد تومرت اللذين أقنعا الكثير من النحاة الأندلسيين بتبني مشروع الغزالي في مزج المنطق بعلوم المسلمين بدلًا مِن مَشروع ابن حزم الذي أفسدته نزعته الظاهرية والتي أنكرت العوامل والعلل والأقيسة، ووجدوا مؤيدين ومشجعين لذلك من النحاة من أمثال ابن سيدَه، وابن السيد البطليوسي، وابن الباذش، وابن عطية الغرناطي، وأبو القاسم السهيلي، وابن عصفور، وصولًا إلى ابن الأزرق (ت٨٩٦ﻫ) في القرن التاسع الهجري.

وعلى ذلك تدور محاور هذا الفصل على النحو التالي:
  • موقف ابن حزم من المنطق الأرسطي.

  • أدلة ابن حزم لإبطال القياس الفقهي.

  • مبررات نجاح مشروع الغزالي على حساب مشروع ابن حزم.

  • الثقافة المنطقية عند نحاة الأندلس (البطليوسي أنموذجًا).

(١) موقف ابن حزم من المنطق الأرسطي

لو أننا استقرأنا موقف مفكري الإسلام من علوم الأوائل، خصوصًا في القرنين الرابع والخامس الهجريين، لوجدنا أنَّ الكثيرين منهم قد ثاروا على الفلسفة عمومًا، والمنطق على وجه التخصيص. «وقد ظهر الكفاح ضد المنطق في صورة معارضة خطيرة كل الخطورة، فاعتبروا الاعتراف بطرق البرهان الأرسططالية خطرًا على صحة العقائد الإيمانية؛ لأن المنطق يهددها تهديدًا جديًّا كبيرًا، وعن هذا الرأي عبر الشعور العام لدى غير المثقفين في هذه العبارة التي جرت مجرى المثل: «من تمنطق فقد تزندق».»١٨
وقد بلغ هذا الاتجاه ذروته في السادس والسابع عند «تَقِي الدين عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح الشهرزوري (٦٤٣ﻫ–٦٧٧ﻫ)، حينما أصدر فتواه الشهيرة بتحريم المنطق والاشتغال به، وبالفلسفة تعلمًا وتعليمًا؛ فتساءل: هل أباحه واستباحه الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون، والسلف الصالحون؟ وهل يجوز استخدام الاصطلاحات المنطقية أم لا في إثبات الأحكام الشرعية، وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا؟ وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرًا به؟ وما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره؟ وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروف بتعلمها وأقرانها والتصنيف فيها، فهل يجب على سلطان البلد عزله وكفاية الناس شره؟١٩
وقد أجاب ابن الصلاح على هذا بأن: «المنطق مدخل الفلسفة، والفلسفة شر، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشرع، ولا استباحه أحد من الصحابة، والتابعين، والأئمة المجتهدين، والسلف الصالح، وسائر مَن يُقتدَى به.»٢٠
ثم يجيب ابن الصلاح عن النقطة الثانية من السؤال، وهي استخدام الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الفقهية فيقول: «إنها من المنكرات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية افتقار إلى المنطق أصلًا وما يزعمه المنطقي بالمنطق من أمر الحد والبرهان فقائع قد أغنى عنها الله كل صحيح الذهن، ولا سيما مَن خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحر الحقائق والرقائق علماؤها، حيث لا منطق، ولا فلسفة، ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه المنطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشيطان.»٢١

وكان من نتيجة هذه الفتوى تحريم النظر في كتب أصول الفقه التي مزجت فيها الأصول بالمنطق مثل: «البرهان» للجويني، و«المستصفى» للغزالي، وغيرهما من الكتب الأصولية المهمة.

وهناك فتوى لابن الصلاح تثبت هذا تمام الإثبات، فقد سُئِل عن كتاب من كتب الأصول ليس فيه شيء من علم الكلام، ولا من المنطق، ولا ما يتعلق بغير أصول الفقه: هل يحرم الاشتغال به أو يُكرَه؟ وفي الواقع أن المقصود بهذا السؤال هو الجانب السلبي من المسألة، أي عدم إباحة دراسة كتب الأصول الممزوجة بالمنطق. أجاب ابن الصلاح بأن كتب الأصول إذا خلت من منطق أو فلسفة فمن المعلوم دراستها.٢٢
ويستطرد ابن الصلاح فيضمن فتواه بأن على ولي الأمر أن يخرج معلمي المنطق الأرسطي من المدارس، وأن يعرضهم على السيف حتى يستتيبوا.٢٣
تلك هي عناصر فتوي ابن الصلاح، كان لها مِن الأثر البالغ في العالم الإسلامي؛ حيث يأخذ بها كل من خاصَموا المنطق والفلسفة بعد ذلك، ونحن نعرف أن أبا الوليد الباجي — خصم ابن حزم المشهور — قد نصَّب نفسه عدوًّا للمنطق، وكيف أفتى بعدم جواز قراءته إلا لبيان فساده، فضلًا عن أنه هو الذي نقل إلى أهل الأندلس أن المنطقي ببغداد «مُستحقَر مُستضعَف»،٢٤ وقد ذكر لنا ابن حزم نفسُه أنه رأى «طوائف من الخاسرين شاهدهم أيام عنفوان طلبه، وقبل تمكن قواه في المعارف … كانوا يقطعون بظنونهم الفاسدة، من غير يقين أنتجه بحث موثوق به، على أن الفلسفة، وحدود المنطق، منافية للشريعة.»٢٥ ونستنتج من هذه العبارة أن اشتغال ابن حزم بدراسة الفلسفة والمنطق قد بدأ في مرحلة مبكرة من مراحل تطوره الفكري، مما يؤيد قول صاعد الأندلسي: «وكان ابنه الفقيه أبو محمد وزيرًا لعبد الرحمن المستظهر، ثم نبذ هذه الطريقة، وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن، فعني بعلم المنطق، وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة.»٢٦
وليس بدعًا أن يكون المنطق من أوائل العلوم التي أقبل على دراستها ابن حزم، حيث كان من أهم أغراض المشروع الثقافي لابن حزم، كما يذهب الكثير من الباحثين هو تأسيس الشرع على القطع، وضبط القواعد المتبعة في العلوم الدينية، وهو مقصد لا يتأتى إلا بالاستعانة بعلوم الأوائل ومن بينها، وأهمها المنطق من حيث هو أداة ضابطة للتفكير، تُضفِي عليه الصرامة والدقة الضروريتين للحفاظ على هوية الشرع، وعلى كماله وحمايته من خطر الإضافات والزيادات، لا على المستوى الشرعي فحسب، بل حتى على المستوى العقائدي؛ حيث خطر التأويلات وتهديدها ممثلًا في الملل والنحل التي جنحت عن الإسلام دينًا وسلوكًا في نظر ابن حزم، مما يتطلب دعم العقيدة الإسلامية مجسمًا في علوم الأوائل؛ وبخاصة المنطق، وذلك من أجل بناء الشرع على القطع ودعم المنقول بالمعقول.٢٧

ومن أجل ذلك ألف ابنُ حزم كتابه «التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية» وفي مقدمة هذا الكتاب قسم ابن حزم الناظرين في كتب المنطق إلى أربعة أضرب، الثلاثة منها خطأ، والرابع حق مهجور.

  • فأحد الضروب الثلاثة: «قوم حكموا على تلك الكتب بأنها محتوية على الكفر وناصرة للإلحاد، دون أن يقفوا على معانيها أو يطالعوها بالقراءة، ويحكم ابن حزم على هذه الطائفة بأنها مخالفة لروح الشرع.»
  • والضرب الثاني: قوم يعدون هذه الكتب هذيانًا لا يفهم، وهراء من القول، وهذرًا من المنطق، والجملة فأكثر الناس سراع إلى معاداة ما جهلوه وذم ما لم يعلموه، ويصف ابن حزم أصحاب هذا الرأي بالجهل، ويتساءل معهم قائلًا: «فإن قال جاهل: فهل تكلم أحد من السلف الصالح في هذا، قيل له: إن هذا العلم في نفس كل ذي لب، فالذهن الذكي واصل إليه بما مكنه الله تعالى من سعة الفهم إلى فوائد هذا العلم، والجاهل متسكع كالأعمى حتى ينبه عليه، وهذا شأن سائر العلوم، فما تكلم أحد من السلف رضوان الله عليهم في مسائل النحو، ولكن لما فشا الجهل بين الناس باختلاف الحركات التي باختلافها اختلفت المعاني في اللغة، وضع العلماء كتب النحو فرفعوا إشكالًا عظيمًا، وكان ذلك معينًا على الفهم لكلام الله وكلام نبيه، وكان من جهل ذلك ناقص الفهم عن ربه. فكان هذا من فعل العلماء حسنًا وموجبًا لهم أجرًا». ثم يتابع ابن حزم فكرته في تبرير دراساته للمنطق فيقول: «وكذلك هذا العلم (المنطق) فإن من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه … وجاز عليه من الشغب جوازًا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدًا والتقليد مذموم.»
  • الضرب الثالث: قوم قرءوا هذه الكتب بعقول مدخولة، وأهواء مريضة غير سليمة، وقد أشربت قلوبهم حب الاستخفاف، واستلانوا مركب العجز واستوبئوا نقل الشرائع وقبلوا قول الجهال إنها كتب إلحاد، فمَروا عليها مَرًّا لم يفهموها، ولا تدبروها، ولا عقلوها، فوسموا أنفسهم بفهمها وهم أبقى الناس عنها وأنآهم عن درايتها.
  • الضرب الرابع: قوم نظروا فيها بأذهان صافية، وأفكار نقية من الميل وعقول سليمة فاستندوا بها ووقفوا على أغراضها، فاهتدوا بمنارها، وثبت التوحيد عندهم ببراهين ضرورية لا محيد عنها، ووجدوا هذه الكتب كالرفيق الصالح.
يستفاد مما سبق أن موقف ابن حزم من علوم الأوائل؛ وخاصة المنطق موقف المؤيد والمناهض للذين هاجموا هذه العلوم، متهمهم بالشغب؛ لأنهم يحكمون بغير علم، ويرفضون المنطق عن جهل بمسائله وقوانينه. فكان اهتمام ابن حزم بالمنطق له أسبابه ودوافعه، متمثلة في دوافع دينية أصولية، إذ إن دراسة المنطق تساعد على فهم الكتاب، والسنة، واستنباط الأحكام، كما أن العلم بمسائله وقواعد البرهان منه يعين الفقيه على التمييز بين صحيح الآراء من فاسدها، وأخرى دوافع جدلية وهي وثيقة الصلة بالأولى، إذ ينبغي للفقيه أو المتكلم أن يتسلح بالمنطق في مواجهة أعداء العقيدة، وهذا بدوره يتطلب أن يتعرف (أي الفقيه أو المتكلم) بأساليب البرهان، ووضع التحديدات الدقيقة لرفع الغموض والالتباس الناجم عن توظيف الألفاظ في غير ما يقتضيه معناه، وثالثة تعليمية تهدف إلى تقريب المنطق من الأفهام، وتيسره للغير حتى تتحقق الفائدة منه، وفائدته أنه يمثل آلة نافعة لكل مستدل.»٢٨
ومن هذا المنطق يبطل ابن حزم القول بأن تعاطي المنطق بدعة، فكما أن النحو وغيره من علوم اللغة استحدثت، ولم يخض السلف الصالح فيها، نظرًا لظهور الحاجة إليها بعد ما تفشَّى اللحن، أي ظهور الحاجة لقواعد تقنن استعمال اللغة، كذلك المنطق ظهرت الحاجة إليه أيضًا كمعين على فهم النص والاستدلال على صحة مضامينه «فإن من جهله (أي المنطق) خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه ، والسلف الصالح في حاجة إلى كل ذلك، لأنهم عاصروا النبوة، وعاشوا في فترة لم يوجد فيها مشاغبون يخلطون الحق بالباطل.»٢٩ ويبدو من حديث ابن حزم، كما يؤكد بعض الباحثين،٣٠ أن هناك ثلاثة دوافع تظهر معها الحاجة إلى صناعة المنطق في مجال العلوم الدينية، هي:
  • (١)

    فهم بناء كلام الله ورسوله، وفهم أحكامه وطرق استنباطها.

  • (٢)

    الرد على المشغبة، وهو أمر يقتضي التسلح بالأفانين التي يلجئون إليها لإثبات دعواهم الباطلة.

  • (٣)

    التمييز بين الحق والباطل، وهو أمر يتم بطبيعة الحال لا بصورة مجردة، بل اعتمادًا على النص الديني.

ومن الملاحظ أن الدافع الأول دافع أصولي فقهي كما ذكرنا، فمعرفة القضايا وأقسامها ومعرفة الكلي والجزئي، والسلب والإيجاب، ليس له فائدة سوى فهم الأحكام الإلهية والعلاقات بينها، وطبيعة الجهات الشرعية، وهذا مدلول امتزاج المنطق بالفقه، ومعنى امتزاجها، أي فهم الفقه لا يقوم إلا بالمنطق لأن من طبيعة الفقه أن يؤدي بنا إلى كيفية وقوع الأسماء على مسمياتها، ووجوه ارتباط القضايا والأحكام ببعضها البعض.٣١
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه بخصوص موقف ابن حزم الأصولي من المنطق الأرسطي نذكر رأي «روبير برونشفيك»، حيث يذهب في إحدى دراساته إلى أن ابن حزم نموذج من الفلاسفة المسلمين الذين قالوا بإمكان تطبيق واقتباس المنطق الأرسطي جزئيًّا في الأحكام الشرعية، وخلافًا للغزالي الذي قال بالإمكان الكلي ولابن تيمية الذي قال بالاستحالة المطلقة.٣٢
بَيْد أن المسألة في الإشكالية الحزمية لم تُطرَح على هذا النحو، أي لم يكن أمام ابن حزم اختبار موقف من الموقفين إمكان اقتباس أو عدم إمكانه، بل كان أمام محاولة إثبات كيف أن فهم النص الديني، وفهم أحكامه يحتاج ويستدعي اللجوء إلى المنطق.٣٣
ثم يربط ابن حزم بين دراسة المنطق وفوائده للفقيه، فيجعل فائدة المنطق عامة، كما صرح بذلك الفارابي وابن سينا من قبل، وفوائده في فهم كتاب الله وحديث نبيه ، وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح أعظم وأعم.٣٤
وانطلاقًا من هذا، حاول ابن حزم تطويع منطق أرسطو، كي يغدو آلة ضابطة للتفكير عامة، وللتفكير الفقهي على الخصوص، فقد تجاوز نقائض المنهج القياسي القائم على العلة والتعليل، وذلك أن فهم الأحكام الشرعية، وفهم كيفية أخذ الألفاظ على مقتضاها، وفهم العام والخاص، والمجمل والمفسر، وبناء الألفاظ بعضها على بعض، وتقديم المقدمات، وإنتاج النتائج، والصحيح من القياس والفاسد منه، يتطلب معرفة بالمنطق وتسلحًا به، وهو علم لا غناء عنه بالنسبة للمتكلم، والفقيه، والمحدث، والناظر في الآراء، والديانات، والأهواء، والمقالات؛ لأن مهمته الوقوف على كافة الحقائق وتميزها من الأباطيل.٣٥

وما من شك هنا أننا بإزاء مرجعية جديدة لها تجلياتها الواعدة، وذات اتصال بكل منحًى ثقافي ليكون مجالًا للمعالجة في ضوئها، ومن هنا نلمس أن ابن حزم كان يعرف طريقة جديدة، بحيث وضع الأسس والقواعد التي تصلح للسير عليها تمهيدًا لإعمالها في مختلف الدعاوى وفي بناء مذهبيته الظاهرية.

(٢) أدلة ابن حزم لإبطال القياس الفقهي

لم يلبث ابن حزم بعد تأليفه كتاب التقريب لحد المنطق، الذي تعرض لسوء فهم من بعض علماء عصره ولاحقيهم، نظرًا لاحتوائه الجديد المعدل لآراء أرسطو وغيره، أن أعمل فكره في إبطال القياس الفقهي؛ حيث كان يرى أن تأسيس الفقه على المنطق الأرسطي، يتطلب إسقاط لفظ «القياس» مكتفيًا بكلمة «البرهان»، نظرًا لعدم يقينية نتائجه، مما يجعله دعوة بلا برهان،٣٦ أو يجعل نتائجه على أكثر تقدير قائمة على الظن والترجيح، ويسوق ابن حزم الأدلة لإبطال القياس الفقهي، ونلخصها فيما يلي:
  • أول هذه الأدلة: أن الله سبحانه وتعالى أنزل الشرائع فما أمر به فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما لم يأمر به ولم ينهَ عنه فهو مباح مطلق حلال، والنصوص جاءت بكل ما هو محرم، وجاءت بكل ما هو مأمور به، والباقي على أصل الإباحة، فمن أوجب من بعد ذلك شيئًا بقياس أو بغيره، فقد أتى بما لم يأذن به الله تعالى، ومن حرم من غير النص، فقد أتى بما لم يأذن به الله تعالى.٣٧
  • الدليل الثاني: أنه لا قياس في موضع النص عند القياسين، وإنما القياس في غير موضع النص، ومن قال إنه لم يشمل النص كل شيء، فهو يناقض قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا،٣٨ وقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.٣٩ وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «اللهم هل بلغت؟ قالوا نعم. قال: اللهم فاشهد.» فإن هذه النصوص كلها تدل على أن النصوص قد اشتملت على كل شيء فلا حاجة إلى قياس بعدها.٤٠
  • الدليل الثالث: أن القياس في غير موضع النص، مبني على الاشتراك في الوصف الذي اعتبر علة الحكم بين الأصل المنصوص على حكمه، والفرع غير المنصوص على حكمه، وإن هذا الوصف لا بد من دليل عليه، فإن كان هذا الدليل هو النص، فإن الحكم في الفرع أخذ من ذلك النص، وليس هذا قياسًا، وإن لم يؤخذ من نص ولا إجماع، فمن أي شيء عُرِف؟ وإن تُرِك ذلك من غير بيان إشكال وتلبيس، وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى شيء من دين الله تعالى، الذي قد بينه سبحانه غاية البيان على لسان رسوله .٤١
  • والدليل الرابع: أن النبي أمر المؤمنين بأن يتركوا ما تركه الرسول، وما تركه رب العالمين من غير نصٍّ على أصل ما كان عليه، فقد قال عليه الصلاة والسلام «دعوني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على نبيهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»، وبهذا يتبين أن ما لم ينص عليه فليس للعبد أن يحرمه بقياس، ولا أن يأمر فيه بقياس، وألا يكن ممن يزيد على شرع الله، ولم يكن أخذ بذلك الحديث الصحيح.٤٢
  • والدليل الخامس: يتمثل في نصوص كثيرة صريحة في إبطال القياس، من مثل قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ»،٤٣ وقوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ،٤٤ وقوله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ،٤٥ وقوله تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ.٤٦
هذه هي الأدلة التي يسوقها ابن حزم لإنكار القياس الفقهي، على أن هذا لا يعني أن ابن حزم يطعن في أساس هذا القياس، بل يرى أن هذا الأساس قائم على الاستقراء؛ فقياس الفقهاء كما يراه ابن حزم هو استقراء، وفي هذا يقول: «… فمن ذلك شيء سمَّاه أهل ملتنا القياس، فنقول إن معنى هذا اللفظ، هو أن تتَّبِع بفكرك أشياء موجودات يجمعها نوع واحد، وجنس واحد، ويُحكَم فيها بحكم واحد، فتجد في كل شخص من أشخاص ذلك النوع، أو في كل نوع من أنواع ذلك الجنس صفة قد لازمت كل شخص مما تحت النوع، أو في كل نوع تحت الجنس، أو في كل واحد من المحكوم فيهم، إلا أنه ليس وجود تلك الصفة مما يقتضي العقل وجودها في كل ما وجدت فيه، ولا تقتضيه طبيعة ذلك الموضوع، فيكون حكمه لو اقتضته طبيعته أن تكون تلك الصفة فيه ولا بد، بل قد يتوهم وجود شيء من ذلك النوع خاليًا من تلك الصفة.»٤٧
ومن جهة أخرى هاجم ابن حزم القياس الفقهي، لكونه يقوم على قياس الغائب على الشاهد في أمور لا يصلح فيها هذا القياس، وفي هذا يضرب ابن حزم مثالًا فيقول: «ما دمنا في حياتنا العادية لا نرى فاعلًا، وهذا غير جائز؛ لأن الغائب هنا هو ما فوق الطبيعة والعقل. أما إذا كان الغائب ما غاب عن العقل، بل هو شاهد فيه كمشهود ما أدرك بالحواس، ولا فارق، وهذا ما يضمن إمكانية التعميم وصحة الانتقال من الجزئي إلى الكلي، وإذا أيقن المرء أن الحواس مُوصِّلات إلى النفس، وأن النفس إنما يصح حكمها بالمحسوسات، وإذا صح عقلها من الآفات، لم يجد المرء حينئذٍ لما يشاهده بحواسه، فضلًا على ما شاهده بعقله دون حواسه، فلا غائب من المعلومات أصلًا، وإذا غاب عن العقل لم يجز أن يعلم البتة.»٤٨
ويذكر ابن حزم أن لجوء الفقهاء إلى إطلاق لفظ «القياس»، والذي هو في الحقيقة مجرد عطية استدلالية منطقية، تتركب من مقدمتين ونتيجة تلزم عنهما ضروريًّا ليس إلا حيلة ضعيفة سوفسطائية لتسمية استقرائهم «قياسًا».٤٩
هذا هو باختصار موقف ابن حزم من المنطق الأرسطي، وقد بدأ فيه ابن حزم مولعًا به، الأمر الذي جعله يصرح بأن هذا المنطق أداؤه جيد ومثمر في الدراسات الفقهية، وهنا يؤكد المستشرق «جولد تسيهر» أن اشتغال ابن حزم بالمنطق قد صدر في جانب كبير منه عن رغبته الدفينة في خدمة الدراسات الدينية.٥٠ فلم يكن من الغرابة في شيء أن يستمد معظم أمثلته المنطقية من الفقه، كما سيفعل الغزالي بعد ذلك في كتابه المستصفى، وهذا ما فطن إليه الدكتور «إحسان عباس» في مقدمته لكتاب التقريب لابن حزم حينما كتب يقول: «ولم يكن ابن حزم منفردًا في محاولته تقريب المنطق بالاستكثار من الأمثلة التشريعية، ولكن لعله أول من فتح هذا الباب، مثلما حاول ابن سينا استمداد الأمثلة من الطب، ومن بعد جاء الغزالي، فعاد يستمد الأمثلة من الفقه، فكتاب التقريب يثبت أن الغزالي مسبوق إلى هذه المحاولة.»٥١

وأنا أؤيد هذا الرأي تمامًا في أن ابن حزم أول مَن مَزَج المنطق بالفقه الإسلامي قبل الغزالي، لكن نجد هناك سؤالًا مهمًّا، وهو لماذا رأى الباحثون والمؤرخون الغزالي أول من أدخل منطق أرسطو في ميدان الفقه الإسلامي، مع العلم بأن ابن حزم هو العالم الحقيقي الذي أدخل منطق أرسطو في هذا الميدان؟

(٣) مبررات نجاح مشروع الغزالي على حساب مشروع ابن حزم

أعتقد أن هناك عوامل جعلت الباحثين والمؤرخين، لا يرون ابن حزم صاحب فكرة مزج الفقه بالمنطق، وأهم هذه العوامل هي:

  • العامل الأول: ويتمثل في تمسك ابن حزم بالمذهب الظاهري، حيث إن الفكرة الشائعة عند بعض الباحثين والمؤرخين عن هذا المذهب، أنه يرفض الاستدلال، وجميع ضروب القياس الفقهي، ويوقعه في ضيق الأفق النظري، ممثلًا في إبطال القياس والرأي والاستحسان والتعليل.
    ومن هنا حكم هؤلاء الباحثون والمؤرخون على المذهب الظاهري، بأنه رِدة ونكوص إلى النص، وعودة إلى الجمود والتقليد؛ لأن الاعتماد على الأثر وحده، والتمسُّك بالدلالة الحرفية للألفاظ يتضمنان، وبكيفية آلية وحتمية رفض كل عمل للعقل، وتدخل للفكر، وعدم الانثناء نحو الرأي، فالالتزام بالنص — قرآنًا وسنة — ثابتة في حدود المعنى الظاهر بحكم دلالة اللغة الواضحة، من شأنه أن يطرد العقل، وينزع عنه كل قدرة على إقرار شيء ما مِن الأشياء، أو استنباط حكم ما من الأحكام، فكل ذلك مُوَكل إلى الشرع. كما أنه في رأيهم واعتقادهم مذهب ينسحب فيه الفكر، أو التفكير فاسحًا المجال أمام النص، وتاركًا الأمر للتقليد الأعمى، والجمود والتزمت، ومن هنا اتُّهِمَت الظاهرية بالرجعية.٥٢

    وليس أدل على صدق هذا القول مما ذهب إليه الجويني في كتابه «البرهان» من نقد للمذهب الظاهري، حيث يقول عن رفض الظاهريين للقياس الفقهي، وقد استجرأ على جحد هذه الأقيسة أقوام يُعرَفون بأصحاب الظاهر، ثم إنهم تحزَّبوا أحزابًا، وتفرَّقوا فرقًا: فعلا بعضهم وتناهى في الانحصار على الألفاظ، وانتهى الكلام إلى أن قال: فمَن بَالَ في إناءٍ وصبه في ماء، لم يدخل تحت نهي الرسول عليه السلام، إذ قال «لا يبولن أحدكم في الماء الداكن، وهذا عند ذوي التحقيق جحد الضرورات ويستحق منتحله المناظرة، كالعناد في بدائة العقول.»

    ومما يُحكى في هذا الباب جَرَى لابن سريج مع أبي بكر ابن داود، قال له ابن سريج: أنت تلتزم الظاهر، وقد قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ،٥٣ فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين، فقال مجيبًا: الذرتان ذرة وذرة. فقال ابن سريج، فلو عمل مثقال ذرة ونصف، فتبلد، وظهر خِزيه، وبالجملة لا ينكر هذا إلا أخرق ومعاند.٥٤
  • العامل الثاني: ويتمثل في جرأة ابن حزم وقسوته على معارضيه من الأشاعرة، لقد كان ابن حزم صارمًا في جدله، مُفحِمًا في حجته، لا يأخذ خصومه الأشاعرة في هوادة، ولا يخاطبهم في لين، وليس أدل على ذلك من نقده لمسألة السببية، حيث يقول: «ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة، وقالوا ليس في النار حر، ولا في الثلج برد، ولا في العالم طبيعة أصلًا، وقالوا إنما حدث حر النار جملة، وبرد الثلج عند الملامسة، وقالوا ولا في الخمر طبيع إسكار. قال ابن حزم ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلًا، وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن يسموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة؛ لأنهم جعلوا امتناع شق القمر، وشق البحر وامتناع إحياء الموتى، إنما هي عادات فقط، قال ابن حزم معاذ الله من هذا، ولو كان ذلك عادته لما كان فيها إعجاز أصلًا.»
    ثم يضيف: «وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل، فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدًا، ولا يمكن تبديلها عند كل ذي عقل؛ لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي لئلا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر، التي إن زالت عنها صار خلًّا وبطل اسم الخمر عنها، وهذا كل شيء له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة.»٥٥
  • العامل الثالث: ويتمثل في أن كتاب «التقريب لحد المنطق» لابن حزم، قد نظر إليه معظم الباحثين والمؤرخين من زاوية ما إذا كان محتوى الكتاب يفيد أن ابن حزم مع أو ضد المنطق اليوناني، وذلك دون اهتمام بنوعية القراءة التي قام بها مؤلفه لمنطق أرسطو، والتي هي قراءة تعكس عنف المواجهة والاصطدام بين فكر ابن حزم الفقيه وفكر أرسطو الفيلسوف.
    ومما يدل على ذلك ما ذكره صاعد الأندلسي (ت٤٦٢ﻫ)، حيث قال: … وممن اعتنى بصناعة المنطق، خاصةً من سائر الفلسفة هو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، فعني بعلم المنطق، وألف فيه كتابًا سماه «التقريب لحد المنطق»، بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف، واستعمل فيه أمثلة فقهية، وجوامع شرعية، وخالف أرسطوطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مَن لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط، بَيِّن السقط، وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة، حتى نال منها ما لم ينله أحد قط بالأندلس قبله.٥٦
  • العامل الرابع: ويتمثل في أن الفترة التي عاش فيها ابن حزم، كانت فترة لا يزال ينظر فيها إلى مؤلفاته بعين السخط والاستهجان والإغفال والترك، زيادة في الحرق والتمزيق، وفي هذا يقول ياقوت الحموي (ت٦٢٦ﻫ) نقلًا عن أبي مروان بن حيان: «كان ابن حزم حامل فنون، وفقه، وجدل، ونسب ما يتعلق بأذيال الأدب مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة، ولا سيما المنطق فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في شكوك المسالك وخالف أرسطوطاليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض، ومال أولًا النظر به في الفقه إلى رأي الإمام الشافعي رحمه الله وناضل عن مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه حتى وُسِم به ونُسِب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء وعِيب بالشذوذ. ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب «داود بن علي»، ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، وكان يحمل عمله هذا ويجادل مَن خالفه فيه على استرسال في طباعه، وبذل بأسراره. فلم يَكُ يلطف صدعه (أي قوله وجهره)، بما عنده بتعريض، ولا يرقه بتدريج، بل يصك به معارضه صك الجندل (أي الحجر) وينشقه متلقعه (المتلقع: الذي يرمي الكلام رميًا) انشقاق الخردل، فنفر عنه القلوب، وتوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فمالوا على بغضه ورد أقواله، فأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه وحذروا سلاطينهم من فِتَنه، ونهوا عوامهم عن الدُّنو إليه والأخذ عنه، والعمل على حرق كتبه، فأحرق بعضها بإشبيلية ومزقت لانية.»٥٧
    من هذا النص يتضح لنا كيف قوبل الفكر الحزمي بعين السخط والاستهجان والإغفال، زيادة على الحرق والتمزيق، مما يفوت على الباحثين والمفكرين المنصفين فرصة الحصول على نسخ من مؤلفاته، ومن ثَم لم تحظَ كتب ابن حزم المنطقية، والفقهية، واللغوية، بالأهمية التي كان ينبغي أن تحظى بها، ولذلك نلاحظ أن ابن خلدون لا يذكر كتاب «التقريب لحد المنطق» في الفصل الذي خصصه في «المقدمة»؛ وبالذات في الفصل الذي عقده عن «علم المنطق». كما لا يذكر كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» في الفصل الذي خصصه في «المقدمة» لعلم أصول الفقه وأركانه هي الكتب الأربعة التي ألفها كل من «الجويني» و«الغزالي» و«القاضي عبد الجبار» و«أبي الحسين البصري»، وهي على التوالي «البرهان»، «المستصفى»، «العُمد»، «المعتمد» في أصول الفقه.٥٨
  • العامل الخامس: إن بعض الفقهاء المتعاطفين مع ابن حزم، والذين ينظرون إليه بعيون سلفية، من أمثال ابن تيمية، ينكرون عليه أنه صاحب فكرة مزج الفقه بالمنطق، وينسبون الفضل في ذلك للأشاعرة، وبخاصة الغزالي، يقول ابن تيمية: «لم يكن أحد مِن نُظَّار المسلمين يلتفت إلى طريق المنطقيين، بل الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وسائر الطوائف، كانوا يعيبونها ويُثبِتون فسادها، وأول من خلط المنطق بأصول المسلمين (يعني علم أصول الفقه) أبو حامد الغزالي، فتكلم فيها علماء المسلمين مما يطول ذكره.»٥٩

تلك هي أهم العوامل التي أدت إلى عدم اعتبار الباحثين والمؤرخين، ابن حزم صاحب مشروع مزج الفقه بالمنطق، مع العلم بأنه الأصولي الحقيقي السابق إلى مزج الفقه بالمنطق في الفكر الإسلامي، وليس الغزالي كما يزعم البعض.

وأيًّا ما كان الأمر بخصوص النزاع حول الأولوية بين «ابن حزم» و«الغزالي»، في مزج الفقه بالمنطق، ومع تأكيدنا على رد هذه الأولوية إلى «ابن حزم»، فإن ذلك لا يحول بيننا وبين القول بأن الجهد الذي قام به «ابن حزم» في سبيل مزج المنطق بالفقه، بقطع النظر عن قيمته الموضوعية، وبقطع النظر عن مدى تناسق دعوته هذه مع موقفه العام من الفلسفة اليونانية التي رفض فيها إلهياتها، وقبل منها المنطق، بقطع النظر عن ذلك كله، فلم يكتب له النجاح بسبب موقف الكثيرين من معاصري ابن حزم الذين وقفوا من المنطق الأرسطي موقفًا عدائيًّا، سواء أكان ذلك لظنهم بأن كتب أرسطو محتوية على الكفر وناصرة للإلحاد أم لاعتقادهم بأنها هذر من العقول (والناس أعداء ما جهلوا)، أم لعجزهم عن فهمها والإحاطة بمعانيها؛٦٠ الأمر الذي أدى في النهاية إلى التقليل من قيمة الجهد العلمي الذي قام به ابن حزم، حينما حاول تقريب المنطق إلى أذهان العامة من الناس، ولذلك وجدنا الكثير من المؤرخين ينتقدون مشروع ابن حزم في التقريب، ولينظر القارئ ما ذكره «الحميدي» في جذوة النفس على سبيل المثال وهو يقول عن كتاب: التقريب لابن حزم بأنه: «… سلك في بيانه، وإزالة سوء الظن عنه، وتكذيب الممخرقين به، طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمنا»؛٦١ وكذلك ما قاله عن هذا الكتاب أيضًا صاعد الأندلسي في معرض حديثه عن ابن حزم، إذ قال: «فعني بعلم المنطق، وألف فيه كتابًا سماه التقريب لحدود المنطق، بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف، واستعمل فيه أمثلة فقهية، وجوامع شرعية، وخالف أرسطوطاليس، واضع هذا العلم، في بعض أصوله، مخالفةَ مَن لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط، بَيِّن السقط.»٦٢
ونفس النقد وجهه النحوي المعروف بأبي حيان الأندلسي (٦٥٤–٧٤٥ﻫ) معاصر «ابن حزم»، وإن لم يُشِر إلى كتاب التقريب، إلا أننا نراه يتحدث عن خروج ابن حزم على قواعد المنطق الأرسطي فيقول: «كان أبو محمد حامل فنون: من حديث، وفقه، وجدل، ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة، غير أنه لم يخلُ فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسور على الفنون، لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زل هنالك، وضل في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسطوطاليس واضعه، مخالفةَ مَن لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه.»٦٣
والسؤال الآن: هل اصطناع ابن حزم مصطلحات منطقية جديدة يعد سببًا كافيًا للقول إن كتابه في المنطق «كثير الغلط، بَيِّن السقط» أو هل يكون في تحاشي ابن حزم لاستعمال الحروف والرموز في التعبير عن القضايا، مبرر كاف بأنه خالف أرسطو، مخالفة من لا يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه، ويبدو لنا أن مجرد الإكثار من إيراد الأمثلة الشرعية لا يكفي للطعن في قيمة الجهد الذي قام به ابن حزم، حينما حاول تقريب المنطق إلى أذهان العامة من الناس، كما أن تجنب التمثيل بالحروف والرموز لا ينطوي في حد ذاته على أية مخالفة خطيرة بررت في ظنهم الحكم على صاحب هذا الكتاب بأنه لم يفهم أرسطو ولم يدرك دلالة منطقه.٦٤

والحق أننا لو أمعنا النظر إلى هذه الانتقادات التي وجهها هؤلاء المؤرخون لابن حزم لتُبيِّن لنا أن القضية ليست قضية الأخطاء التي وقع فيها ابن حزم في فهمه لمرامي وأغراض المنطق الأرسطي بقدر ما هي مسألة نفسية؛ فهؤلاء المؤرخون ليسوا على علم بالمنطق الأرسطي، وخباياه، ومسالكه، ودروبه، وتشعباته، وتدقيقاته، ولذلك فإن انتقاداتهم كانت بسبب تمسُّك ابن حزم بالنزعة الظاهرية التي تمسَّك بها في الفقه، والتي أدت به إلى إنكار مبدأ العِلية وتجنب استعمال لفظ القياس … إلخ.

على أية حال فإنه إذا كانت الأقدار قد شاءت بأن لا تحظى محاولة ابن حزم في كتابه التقريب بالقبول لدى الأندلسيين؛ فإن محاولة أبو حامد الغزالي قد كان لها من النجاح في إدخال المنطق إلى حظيرة العلوم الإسلامية، فمنذ أواخر القرن الخامس الهجري اتجه الكثير من مفكري الأندلس على اختلاف تخصصاتهم إلى «دراسة المنطق اليوناني، وخلطوه بأصولهم ونحوهم وتكلموا فيه بما يطول ذكره.»٦٥

وما يهمنا هنا موقف فقهاء ونحاة الأندلس من دعوة الغزالي لمزج المنطق بالفقه، وهل استجابوا لها أم لا؟

كان معظم فقهاء ونحاة الأندلس من أتباع المذهب المالكي، وكان موقفهم في أول الأمر من توجه الغزالي نحو مزج المنطق بالفقه موقفًا سلبيًّا؛ حيث يذكر بعض المؤرخين أن كل العلوم عند الأندلسيين لها حظ كبير واعتناءٌ إلا الفلسفة والمنطق والتنجيم، فإن لهم حظًّا عظيمًا عند خواصهم، ولا يناظرهم بهم خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أُطلِق عليه اسم زنديق وقيدت أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة وأحرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله تقرُّبًا لقلوب العامة، وكثيرًا ما كان ملوكهم يأمرون بإحراق كتب الفلسفة والمنطق إن وجدت.٦٦
ويروي لنا «الحاج يوسف بن محمد بن طملوس (ت٦٢٠ﻫ)» في حديثه عن زهد العلماء بالأندلس في صناعة المنطق، إذ يقول: «فإني رأيتها مرفوضة عندهم مطروحة لديهم لا يحفل بها ولا يلتفت إليها، وزيادة إلى هذا أن أهل زماننا ينفرون منها، ويرمون العالِم بها بالبدع والزندقة.»٦٧ بل لقد بلغت معاداة الفقهاء للمنطق إلى حد أن «أهل المنطق بجزيرة الأندلس كانوا يعبرون عن المنطق ﺑ «المفعل» تحرزًا من صولة الفقهاء، حتى إن بعض الوزراء أراد أن يشتري لابنه كتابًا في المنطق فاشتراه خفية خوفًا منهم.»٦٨
ولهذا السبب يذكر «ابن طملوس»، أن الإمام الغزالي، حينما كتب في المنطق، لم يعرض بحوثه المنطقية تحت اسم المنطق، ولكن تحت أسماء أخرى ﮐ «المعيار» و«المحك» و«الميزان»، وذلك لكي يتفادى غضب الفقهاء ومحاربتهم له، فانتشرت كتبه في الأرض على عكس الفارابي،٦٩ وذلك بعد جهد جهيد. فلقد قوبلت كتب الغزالي في أواخر دولة المرابطين بالإعراض والتبرُّم، حيث يقول «عبد الواحد المراكشي (ت٦٤٧ﻫ)»: «ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله بالمغرب، أمر أمير المسلمين «علي بن يوسف» بإحراقها، وهدد بالوعيد الشديد، من سفك الدماء، واستئصال المال، إلى من وجد عنده شيء منها، واشتد الأمر في ذلك»؛٧٠ ويقول أيضًا ابن طملوس «ولما امتدت الأيام وصل إلى هذه الجزيرة كتب أبي حامد الغزالي متفننةً، فقرعت أسماعهم (أي أهل الأندلس) بأشياء لم يألفوها ولا عرفوها، وكلام خرج به عن معتادهم من مسائل الصوفية وغيرهم من سائر الطوائف الذين لم يعتد أهل الأندلس مناظرتهم ولا محاورتهم، قبعت عن قبوله أذهانهم، ونفرت عنه نفوسهم، وقالوا إن كان في الدنيا كفر وزندقة، فهذا الذي في كتب أبي حامد الغزالي.»٧١
وإذا كان هذا النفور قد نشأ نتيجةً عمَّا آل إليه أمر الغزالي من النزعة الصوفية، تلك التي بدت غريبة كل الغرابة عن أذهان أهل المغرب في ذلك العهد؛ إلا أن الأقدار قد شاءت أن يدرس على يدي الغزالي اثنان من المغاربة الأندلسيين، أصبحا من ألمع الرجال في ذلك العصر، وانتهت إلى أحدهما رئاسة العلم بما فيه الفقه بالمغرب، ووضع الثاني مذهبًا إصلاحيًّا سياسيًّا، كان أساسًا لقيام دولة من أعظم ما عرف بلاد المغرب العربي، بل بلاد الإسلام، وقد تأثَّر الرجلان بتفكير الغزالي وبعلمه، وعمل كل بطرقه على نشر ذلك وتدعيمه بالغرب.٧٢
أما أول الرجلين، فهو «أبو بكر بن عبد الله بن العربي (٤٦٨–٥٤٣ﻫ)» الفقيه المالكي الأشعري، فقد التقى بالغزالي في رحلته العلمية إلى المشرق العربي، وتتلمذ عليه، ولازمه مدة، ودرس عليه بعض كتبه، وقد ذكر هو نفسه ذلك، إذ قال: «قرأت عليه جملة من بعض كتبه، وسمعت كتابه الذي سماه بالإحياء لعلوم الدين.»٧٣
ومن المؤكد أن يكون مِن بَين تلك الكتب بعض كتب الغزالي المنطقية، وذلك لأننا نجده يتكلم فيها كلام من خبرها، وعرف محتواها، إذ يقول: «وأبدع (أي الغزالي) في استخراج الأدلة من القرآن على رسم الترتيب في الوزن الذي شرطوه على قوانين خمسة بديعة، في كتاب سماه «القسطاس المستقيم» ما شاء، وأخذ في «معيار العلم» عليهم طريق المنطق، فرتبه بالأمثلة الفقهية والكلامية، حتى محا فيه رسم الفلاسفة، ولم يترك لهم مثالًا ولا ممثلًا، وأخرجه خالصة عن دسائسهم.»٧٤ ثم إن الإمام ابن العربي، لما عاد إلى الأندلس من رحلته جلب معه كتبًا للغزالي، ومن بينها كتبه المنطقية ﮐ «محك النظر» و«معيار العلم».
وأما ثاني الرجلين، فهو «محمد بن عبد الله بن تومرت (٤٧٤–٥٢٤ﻫ)» الذي ارتحل إلى المشرق العربي، لطلب العلم، ودرس بمكة، وبغداد، ودمشق، والإسكندرية.٧٥ وقد قابل الغزالي، وأخذ عنه المذهب الأشعري.٧٦
وقد أشار ابن خلدون إلى مكانة ابن تومرت فقال: «كان إمامًا من أئمة العلم، ذا مَلكة راسخة، وقوة على النظر والجدل، بحيث يضاهي كبار الشخصيات العلمية البارزة، والتي ظهرت في المشرق لعهده من أصحاب المقالات والمدارس في علمي الأصول والكلام، فضلًا عن تضلُّعه في الفقه والحديث».٧٧
ويشير ابن خلدون إلى تأثُّر ابن تومرت بالمدرسة الأشعرية فكرًا ومنهجًا، فيقول إنه: «لقي بالمشرق أئمة الأشعرية من أهل السنة (يقصد الغزالي)، وأبا بكر الطرطوش، وأبا العباس الجرجاني، وأبا بكر الشاشي، وغيرهم من فقهاء المدرسة النظامية في ذلك الوقت، وأخذ عنهم، واستحسن طريقتهم في الانتصار للعقائد السلفية والذبِّ عنها بالحجج العقلية الدامغة في صدور أهل البِدعة، وأنه ذهب إلى رأيهم في تأويل المتشابه من الآيات والأحاديث، بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن أتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه اقتداءً بالسلف في ترك التأويل وإقرار المتشابهات كما جاءت، فطعن على أهل المغرب ذلك، وحملهم على القول بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم، وألف في العقائد على رأيهم مثل «المرشدة في التوحيد».»؛٧٨ كما يذهب ابن طملوس فيقول: «ثم إن ابن تومرت عمل على إفشاء آراء الغزالي، وندب الناس إلى قراءة كتبه ودراستها والعمل بها.»٧٩
يتَّضِح لنا مما سبق أن ابن تومرت ومن قبله ابن العربي، لم يقُم كلٌّ منهما مباشرة بإدخال المنطق في الدراسات الفقهية والنحوية، بل كان ابن العربي يرى وجوب التَّحري في ذلك، لأنه إذا ما أسند إلى غير كفء باء بالضرر الكبير، وقد كان يوحي بذلك إلى تلاميذه إذ يقول لهم: «الذي أراه لكم على الإطلاق أن تقتصروا على كتب علمائنا الأشعرية، وعلى العبارات الإسلامية، والأدلة القرآنية، فإنَّ أبا حامد (يقصد الغزالي) وغيره، وإن لبس للحال معهم (أي الفلاسفة) لبسوها (باستعمال المنطق) وأخذ نعيمها ورفض بؤسها … فليس كل قلب يحتمله … فهو وإن كان سبيلًا للعلم ولكنه مشحون بالغرر٨٠ … أما أن الرجل إذا وجد من نفسه منة أو تفرسَ فيه الشيخ المعلم له ذلك، فلا بد من توقيفه على مآخذ الأدلة.»٨١
كما أن ابن تومرت كان مصروفًا عن ذلك إلى وضع الأسُس الإصلاحية العامة لقيام دولة الموحِّدين، ولكنهما قد مهَّدا الطريق تمهيدًا إلى ذلك بما قد أفشيا عمومًا من أفكار الغزالي، وكتبه وبما قد زكياه ودعَوَا إلى دراسته واحترامه وتبجيله، ولما كان ابن العربي شديد الأثر في جيل الفقهاء والعلماء من تلاميذه، ولما كان ابن تومرت صاحب سلطة روحية قامت عليها دولة الموحدين بأكملها، فإن الغزالي قد بدأ يكبر في عيون أهل المغرب والأندلس كما يذكر ابن طملوس «واختفى ما كان عساه أن يشكل شقًّا لمعارضته بشدة، كما حدث بالمشرق؛ بل قد راجت كتبه، وأخذ الناس في قراءتها وأعجبوا بها، وبما رأوا فيها من جودة النظام، والترتيب الذي لم يروا مثله قط في تأليف، ولم يبق في هذه الجهات من لم يغلب عليه حب كتب أبي حامد الغزالي.»٨٢
ومن بين تلك الكتب كتبه في المنطق، ويظهر أن كتب المنطق قبلها لم تصل بلاد المغرب إلا نادرًا، كما يفهم من كلام ابن طملوس؛ حيث يقول: «فلمَّا أردت مطالعتها (أي كتب المنطق) لم يكن بيدي قبلها كتاب أنظر فيه، غير أني عندما تصفحت كتب أبي حامد رأيت من تلويحاته وإشاراته، التي تكاد أن تكون تصريحًا أن له فيها تأليف، فاطلعت على هذه الكتب المذكورة من كتب أبي حامد.»٨٣

(٤) الثقافة المنطقية عند نحاة الأندلس (البطليوسي أنموذجًا)

بعد هذه التهيئة النفسية والذهنية لتقبُّل المنطق وإدخاله في الدراسات الفقهية والنحوية التي استغرقت ما يقارب القرن، أصبح المنطق أحد العلوم التي تؤخذ من المشرق، حينما يرتحل أهل المغرب إليه لأجل الدراسة، وأصبح النحاةُ يدرسونه كسائر العلوم التي يدرسونها، وربما تكون البادرة الأولى البارزة في ذلك ما تمثل لابن السيد البطليوسي الذي تميز بثقافة فلسفية إلى جانب ثقافته اللغوية النحوية، وقد ألف في هذا الباب كتابه «الحدائق في المطالب العالية الفلسفية» وذكرت له المصادر أيضًا كتاب «شرح الخمسة المقالات الفلسفية»،٨٤ وكذلك «إصلاح الخلل الواقع في الجمل» وفي هذا الكتاب الأخير تناول ابن السيد مسائل نحوية كثيرة، واستخدم فيها معرفته المنطقية وتصدَّى بهذا النهج لكثير من علماء النحو والمنطق؛ حيث أورد تعريفات أبي القاسم الزَّجَّاجي وغيره إضافة إلى تعريفات بعض المناطقة للاسم والفعل والحرف وغيرها، ورأى أن كثيرًا من التعريفات قاصرة عن تحقيق الغاية؛ لأنها لا ترقى إلى درجة التعريف بالحد، وعدها من ثَم تعريفات بالرسم، ومثال هذا أن الزَّجَّاجي قد عرف الاسم بأنه «ما جاز أن يكون فاعلًا، أو مفعولًا، أو دخل عليه حرف من حروف الجر».٨٥ ويعلق ابن السيد على هذا التعريف وغيره بأن القوم قد: «حدوا الاسم بحدود لا تستغرق أقسامه.»٨٦
كذلك تناول ابن السيد تعريفات المناطقة الاسم، فاستعرضها ورأى أنها قاصرة أيضًا عن الإحاطة بأقسام الاسم، ومثل ذلك تعريف «أبي يعقوب الكندي (١٨٥–٢٥٦ﻫ)»، وجماعة من المنطقيين الذين ذهبوا إلى أن الاسم: «صوت موضوع بإتقان لا يدل على زمان معين، وإن فرقت أجزاؤه لم تدل على شيء من معناه.»٨٧ ويقول ابن السيد: «إن هذا التعريف غير صحيح؛ لأنه ينطبق أيضًا على الحرف.»٨٨ أما ابن المُقفَّع فقد حد الاسم في كتابه الموضوع في المنطق بأنه «الصوت المخبر الموضوع غير المؤقت الذي لا يبين الجزء منه عن شيء من المُسَمَّى.» ويرى ابن السيد أن هذا غير واضح. فإذا ما وصلنا إلى الفارابي وجدنا ابن السيد يوافق على التعريف ويقول: «لم نَرَ فيه لأحد من المنطقيين حدًّا أحسن، ولا أثقف من تحديد أبي نصر الفارابي فإنه قال: الاسم لفظ دال على معنًى يمكن أن يفهم بنفسه وحده من غير أن يدل ببنيته لا بالعرض على الزمان المحصل الذي فيه ذلك المعني.»٨٩ ومن هنا يقدم ابن السيد تعريفه الخاص للاسم فيقول: «الاسم كلمة تدل على معنى في نفسها غير مقترن بزمان محصل يمكن أن يفهم بنفسه.»٩٠
وننتقل إلى الفعل، حيث يعترض ابن السيد على تفسير الزَّجَّاجي للفعل، وذلك حين قسم الأفعال إلى قسمين: ماضٍ ومُستقبَل، ورأى ابن السيد في هذا مغالطة وإنكارًا للفعل الحاضر وتشبُّهًا بدعوى السوفسطائية الذين شككوا في الحقائق، ومِن جملة ما شككوا فيه «الزمن» حين رفضوا وجود الحاضر، ويقول ابن السيد: «أن يقال لقائل هذا: هل أنت موجود الآن، أو غير موجود؟ فإن قال إنه موجود ولا يمكنه أن يقول غير ذلك. قيل له: أفي زمان ماضٍ أنت الآن، أم في زمان مستقبل؟ فإن قال إنه في أحدهما قيل له: فأنت إذن معدوم موجود في حال واحدة، ويجب أن يقال له إذا كنت موجودًا كلمناك في هذه المسألة لأنك الآن معدوم، وإن قال: لست في ماضٍ، ولا مستقبل، أثبَتَ واسطةً بينهما، وناقَض.»٩١
ويرى ابن السيد أن الفرق بين الماضي والمستقبل دقيقٌ للغاية؛ فالفعل الحاضر يتمتع بالديمومة، ومن ثَم لا يلبث أن ينقلب إلى المستقبل ليصبح جزءًا منه ماضيًا؛ فالزمن عنصر سيَّال لا يثبت على حال، ولا يجمد عند طرف.٩٢
ويقسم ابن السيد الزمان إلى قسمين: (أ) زمان نحوي: وهو القسمة المعروفة: ماضٍ، وحاضر، ومستقبل. (ب) زمان فلسفي تكون فيه الحدود غير دقيقة، إذ يتمتع بالديمومة وعدم الثبات بحيث يصير الزمان بعناصره الثلاثة كأنه كتلة واحدة متلاحمة الأجزاء، يصعب الفصل بينهما فيلتبس علينا وجود الحاضر، إذ يصعب استخراجه من تيار الزمن العام.٩٣

وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، وهي أن ابن السيد يرى أن المنطق وثيق الصلة بالنحو، ذلك أن «بين الصناعتين مناسبة من بعض الجهات.» ولا ينبغي أن تقودنا هذه الصلة إلى اعتبارهما متماثلين، فلكل صناعة قوانينها الخاصة، ويقص علينا ابن السيد في هذا الصدد حادثتين، الأولى: عن مسألةٍ تنازَع فيها مع الفيلسوف «ابن باجة» (المُتَوفَّى سنة ٥٢٢ﻫ أو ٥٢٣ﻫ) الذي كان معاصرًا حيث أخبره ابن باجة بأن قومًا من نحويي سرقسطة اختلفوا في قول «كُثَيِّر»:

وأنتِ التي حَبَّبتِ كلَّ قَصِيرَةٍ
إليَّ وَمَا تَدري بذاكَ القَصَائِرُ
عنيتُ قَصِيرَاتِ الحِجَالِ وَلم أُرِدْ
قِصَارَ الخُطَا شَرُّ النِّساءِ البَحَاتِرُ
فقال بعضهم «البحاتر» مبتدأ و«شر» خبره، وقال بعضهم يجوز أن يكون «شر النساء» هو المبتدأ و«البحاتر» خبره، وأنكرت هذا القول وقلت لا يجوز إلا أن يكون «البحاتر» هو المبتدأ و«شر النساء» هو الخبر (ضمير القول عائد لابن باجة)، فقلت له الذي قلت هو الوجه المختار، وما قاله النحوي الذي حكيت عنه جائز غير ممتنع فقال: وكيف يصح ما قال وهل غرض الشاعر إلا أن يخبر أنَّ «البحاتر شر النساء» وجعل يُكثِر من ذِكر الموضوع والمحمول ويورد الألفاظ المنطقية التي يستعملها أصحاب أهل البرهان، وكان رد ابن السيد عليه أنه لا يجوز إدخالُ صناعةٍ في صناعةٍ أخرى، وفي صناعة النحو «مجازات ومسامحات لا يستعملها أهل المنطق، وهناك خصوصيات نحوية لا مكان لها في المنطق.»٩٤
وصناعة النحو قد تكون فيها الألفاظ مطابقةً للمعاني، وقد تكون مخالفة لها إذا فهم السامع المراد فيقع الإسناد في اللفظ إلى شيء وهو في المعنى مسند إلى شيء آخر فيجيز النحويون في صناعتهم «أعطى درهم زيدًا»، ويرون أن فائدته كفائدة قولهم: «أعطى زيد درهمًا» فيسندون الإعطاء إلى الدرهم في اللفظ وهو مسند في المعنى إلى «زيد» فهذه الألفاظ غير مطابقة للمعاني؛ لأن الإسناد فيها إلى شيء، وهو في المعني إلى شيء آخر. أما في القضايا المنطقية فالأمر مختلف عن هذا، فهناك قضايا تنعكس فيصير موضوعها محمولًا، ومحمولها موضوعًا، والفائدة في الحالين واحدة، وصدقها وكيفها محفوظان عليها، فإذا انعكست القضية ولم يحفظ الصدق والكيفية، سُمِّي ذلك انقلاب القضية لا انعكاسها، مثال المنعكس من القضايا قولنا: «لا إنسان واحد بحجر»، وعكسها «لا حجر واحد إنسان»، وهذه القضية قد انعكست موضوعها محمولًا، ومحمولها موضوعًا، والفائدة في الأمرين واحدة، ومن القضايا التي لا تنعكس قولنا: «كل إنسان حيوان»، فهذه القضية صادقة إذا صيرنا المحمول موضوعًا أصبحت: «كل حيوان إنسان» فعادت قضية كاذبة.٩٥
وهنا يرى ابن السيد أن علم النحو تظهر فيه اختلافات ومسامحات واجتهادات ليست موجودة في علم المنطق الذي ينبني على قواعد ثابتة مؤتلفة لا مجال لتجاوزها، وهي المشكلة التي أثارها مع ابن باجة، فبينما يريد ابن باجة أن يوحد بين قواعد النحو والمنطق، دلل ابن السيد على أنه لا يمكن الأخذ بذلك؛ لأنه لا يجوز إدخال قوانين صناعة في صناعة أخرى، ولأنَّ لعلم النحو خصوصيةً وتميزًا ليست لعلم المنطق، فقواعد النحو خاصة مرنة، بينما قواعد المنطق ثابتة عامة، وهذا هو نفس ما أكد عليه من قبل «أبو سليمان السجستاني (ت٣٨٠ﻫ)».٩٦
وهذه الثقافة المنطقية الواسعة، التي تميَّز بها ابن السيد قد ألقت بظلالها على الكثير من نحاة الأندلس، ومِن هؤلاء «ابن سِيدَه»، وهو يُعَد أكبر عقلية أندلسية عملًا في فن المعاجم. كان ممن عُنِي بعلوم المنطق عنايةً طويلة؛ حيث أثَّرت الفلسفة والمنطق في نشاطهم العلمي. قال القاضي صاعد: «وألف فيها تأليفًا كبيرًا مبسوطًا ذهب فيه إلى مذهب متَّى بن يونس، وهو — بعدَ هذا — أعلم أهل الأندلس قاطبةً بالنحو، واللغة، والأشعار، وأحفظهم لذلك حتى إنه يستظهر كثيرًا من المصنفات فيها، كغريب المصنف، وإصلاح المنطق.»٩٧
ويتحدث ابن سِيدَه في معرض الفخر بما يُحسِنه من العلوم فيقول: «وذلك أني أجد علم اللغة أقل بضائعي، وأيسر صنائعي إذا أضفته إلى ما أنا به من علم حقيق النحو، وحوشي العروض، وخفي القافية، وتصوير الأشكال المنطقية، والنظر في سائر العلوم الجدلية التي يمنعني من الإخبار بها نُبوُّ طباع أهل الوقت، وما هم عليه من رداءة الأوضاع والمقت.»٩٨
وكان «أبو الوليد الوقشي الطليطلي» من المقننين في العلوم المتوسعين في ضروب المعارف من أهل الفكر الصحيح والنظر الناقد والتحقق بصناعة الهندسة والمنطق.٩٩ وكانت لسعيد بن الأصفر أحد علماء اللغة مشاركة في المنطق.١٠٠ ولا ننسى أبا الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، فإنه كان عالمًا في اللغة مشتغلًا بعلوم الأوائل وبخاصة المنطق، وكانت تجري بينه وبين ابن حزم مناظرات في بعض الموضوعات الفلسفية، وعليه أطلق ابن حزم صفة الملحد.١٠١
ولا تحدِّثنا المصادر بشيء عن ثقافة ابن الأفليلي المنطقية الفلسفية، ولكنها تقول إن ابن الأفليلي لحقته تهمة في دينه مع آخرين مِن الأطباء فأخِذَ وسُجِن، ويدل نص ابن بسَّام حين يقول: «ولحقته تهمة في دينه»، على أن الأمر كان مُتصِلًا بشيء من دراسة الفلسفة والمنطق، وهؤلاء الذين يسميهم ابن بسام الأطباء، لا يمكن أن نفهم سبب تتبعهم إلا إن فهمنا أن اللفظة تعني الفلاسفة أو المشتغلين بعلوم الأوائل، إذ لم يحدث أبدًا أن كان الأطباء محط تهمة أو هدفًا لاضطهاد الحكام.١٠٢ ولا بد أن تكون هذه التهمة كذلك، أعني ذات صلة بالدراسات الفلسفية، وإلا لما استطعنا أن نُوفِّق بين معنى التهمة في الدين وبين قول فقيهٍ مُحدِّثٍ مثل ابن بشكوال في الثناء على ابن الأفليلي: «وكان صادق اللهجة حسن الغيب صافي الضمير حسن المحاضرة مُكرِمًا لجليسه.»١٠٣

فنحن إذن إزاء ظاهرة لافتة للنظر، هي هذا الترابط بين الثقافة المنطقية، والفلسفية، وبين الاتجاه اللغوي، وليس من اليسير أن نتبيَّن مدى التأثير المُتبادَل بين هذين الاتجاهين، ولكن من المُسَلم به أن الدراسات المنطقية، والفلسفية، والعلمية قد منحت الاتجاه اللغوي دقة وشمولًا، وهيَّأت الجو للبحث النظري في اللغة، ولكنَّ عواملَ جديدةً حالت دون الإمعان في هذا اللون من الدراسات بسبب الإلحاح الشديد في الدعوة إلى مزج النحو بالفقه بدلًا من مزجه بالمنطق، وصاحب هذا الاتجاه هو ابن مضاء (أحمد بن عبد الرحمن بن محمد) المولود في قرطبة سنة ٥١٢ﻫ، والمُتَوفَّى سنة ٥٩٢ﻫ. لقد عاش في عهد عبد المؤمن المُتَوفَّى سنة ٥٥٨ﻫ والتحق ببلاطه حوالي ٥٤٥ﻫ حين وفد إليه من قرطبة ضمن الوفود الأندلسية التي جاءت لتقديم التهاني، واستمر في البلاط الموحدي على عهد يوسف بن عبد المؤمن المُتَوفَّى سنة ٥٨٠ﻫ الذي عينه قاضيًا للقضاة، وهو المنصب الذي استمر فيه على عهد ابنه يعقوب المنصور، إلى أن تُوُفِّي سنة ٥٩٢ﻫ قبل ثلاث سنوات من وفاة هذا الأخير. هذا وقد اشتهر ابن مضاء، خصوصًا في العصر الحاضر، بكتابه «الرد على النحاة»، وهو المؤلف الوحيد الذي وصل إلى أيدي الباحثين، بعدما اكتشفه ونشره الدكتور «شوقي ضيف»، مع مدخل حول ما سمَّاه «ثورة ابن مضاء»، فهالته تلك الطرفة النفيسة، ورأها امتدادًا لثورة الموحدين على فقهاء المشرق، وعلى آرائهم ومذاهبهم في التشريع.

لقد كان بين النحو والفقه نَسَب وآصرة متينة، ولذلك وجدنا ظلال ثورة فقهاء الظاهرية القائمة على إهدار القياس، وعدم الخوض في التفاصيل والجزئيات، والاعتماد على ظاهر القرآن والسنة في استنباط الأحكام الفقهية والشرعية، وهذه الثورة كان ابن حزم قد وصفها من قبل في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» قائلًا: «وذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة. قالوا: لا يجوز البتة في شيء إلا بنص كلام الله تعالى أو بنصِّ كلام النبي أو ما يصح عنه عليه السلام من فعل أو إقرار.»١٠٤
وهذه الثورة يتبناها أول مرة في بلاد الأندلس وليُّ الأمر من المُوحِّدين وهو يوسف بن عبد المؤمن؛ حيث حمل على الفقه المالكي في بلاد الأندلس ورمى به غرضًا بعيدًا، فأحرق كتبه، ونكل بحملته، ولقد كان لهذا الأمر صدًى لدى ابن مضاء الذي أراد أن يُصانِع ولاةَ أمورِه في حملتهم، فعقد اللواء لحملة أخرى ليست في الفقه، ولكن في النحو، إذ بدا له أن النحو الذي أُثِر عن المشارقة، قد شرق بألوان القياس، والتعليل، والتأويل، وهي مبادئ كان مذهب الظاهرية يناقضها ويقوم على إبطالها، واجتهد ابن مضاء من خلال آرائه النحوية في كتابه «الرد على النحاة» في بيان فساد مذهب النحاة بمغالاتهم في النظر والاحتكام إلى الرأي والتأويل، قال: «وإني رأيت النحويين — رحمة الله عليهم — قد وضعوا صناعة النحو لحفظ كلام العرب من اللحن، وصيانته من التغيير، فبلغوا من ذلك الغاية التي أمُّوا وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا، إلا أنهم التزموا ما لا يلزمهم وتجاوزوا منها القدر الكافي فيما أرادوه منها، فتوعرت مسالكها ووهنت مبانيها وانحطت عن رتبة الإقناع حججها.»١٠٥
ولقد كانت غاية ابن مضاء في كتابه واضحة، فقد رأى أن النحو بحاجة إلى إصلاحٍ مما أفسده من التمحل وتنقيةٍ مما شابه من التكلف وتخليص مما لحق به مِن التقدير والتأويل، ولقد كشف عن هذه الغاية التي تحدوه في أول كتابه إذ قال: «قصدي في هذا الكتاب أن أحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه.»١٠٦
ثم يشرع في بيان ذلك مبتدئًا بنقد نظرية العامل، مطالبًا بحذفها من النحو ليس فقط لكون النحو في غير حاجة إليها، بل أيضًا لأنها مبنية على تصوُّر خاطئ. يقول: «فمن ذلك ادِّعاؤهم أن النصب، والخفض، والجزم لا يكون إلا لعامل لفظي، وأن الرفع منه ما يكون بعامل لفظي وبعامل معنوي، وعبروا عن ذلك بعبارات توهم في قولنا «ضرب زيدٌ عَمرًا» أن الرفع الذي في «زيد» والنصب الذي في «عمرو» إنما أحدثه «ضرب».١٠٧
وهذا في نظر ابن مضاء خطأ؛ لأن «من شرط الفاعل أن يكون موجودًا حينما يفعل فعله»، هذا في حين لا يحدث الإعراب فيما يحدث فيه إلا بعد عدم العامل، فلا ينصب «زيد» بعد «إن»، في قولنا «إن زيدًا …»، إلا بعد عدم «إن»، أي بعد أن لم تَعُد موجودة في الكلام. هذا إذا رأينا أن العامل الذي نصب «زيدًا» في العبارة المذكورة عامل لفظي «إن». أما إذا قيل له إن العامل معنوي، وليس لفظيًّا فإن ابن مضاء يجيب قائلًا إن «الفاعل» عند مَن يقولون بهذا — خاصة المعتزلة — على نوعين: فاعل بالإرادة كالحيوان، وفاعل بالطبع كالنار التي تحرق الخشب. أما ألفاظ اللغة، فهي لا تفعل لا بإرادة ولا بالطبع. أما القول بأن المقصود بفكرة العامل في النحو هو مجرد «التشبيه والتقريب، وذلك أن هذه الألفاظ التي نسبوا العمل إليها إذا زالت زال الإعراب المنسوب إليها، وإذا وجدت وجد الإعراب، وكذلك العلل الفاعلة عند القائلين بها …»، فإن ابن مضاء لا يعترض على ذلك من حيث المبدأ، فهو يرى أنه كان من الممكن التسامح في ذلك «لو لم يسُقهم جعلُها عواملَ إلى تغيير كلام العرب وحطه عن رتبة البلاغة إلى هجنة العي وادعاء النقصان فيما هو كامل، وتحريف المعاني عن المقصود …»١٠٨
ويستمر ابن مضاء في نقد نظرية العامل، فيعترض على تقدير العوامل المحذوفة، وعلى تقدير متعلقات المجرورات، وعلى تقدير الضمائر المستترة، وعلى تقدير الأفعال. كما يعترض على آراء النحاة في التنازُع، والاشتغال، وفاء السببية، وواو المعية، لينتقل إلى الدعوة إلى إلغاء العلل الثواني والثوالث،١٠٩ وإلغاء القياس، وإلغاء اختلافات النحاة. يقول: «ومما يجب أن يسقط من النحو الاختلاف فيما لا يفيد نطقًا؛ كاختلافهم في علة رفع الفاعل، ونصب المفعول، وسائر ما اختلفوا فيه من العلل الثواني، وغيرها، مما لا يفيد نطقًا، كاختلافهم في رفع المبتدأ، ونصب المفعول، فنصبَه بعضُهم بالفعل، وبعضُهم بالفاعل، وبعضُهم بالفعل والفاعل معًا، وعلى الجملة كل اختلاف فيما لا يفيد نطقًا.»١١٠
ولنقف برهةً عند مبررات ابن مضاء في إلغاء القياس، فقد رأينا آنفًا أنَّ ابن حزم اعترض بشدة على استخدام القياس المنطقي؛ لأنه يقود إلى استنتاجات لا يُسمَح للبشر بالتوصل إليها، وربما تكون العواقب وخيمة جدًّا في النظرية اللغوية، ولكن المبرر الأساسي يتضمن جهلَ الإنسان بالمقارنة مع القدرة الكلية لله عز وجل، وفي كتاب الإيضاح للزجاجي والذي سبقت الإشارة عنه في الفصل السابق، يميز المؤلف بين ثلاثة مستويات من التفسيرات للظواهر النحوية: العلل الأولية، وهي القواعد النحوية كما يعرفها الناطق الأصلي باللغة؛ والعلل الثانوية، وهي التي تعمل حسب المضارعة بين عناصر منظومة اللغة، وأخيرًا، تشكل العلل النظرية والجدلية أعلى مستوًى، أي العلل التي تكشف من خلال التفكير التأملي، وعند التفكير منطقيًّا يستطيع النحوي أن يكشف سبب كون الظواهر النحوية على ما هي عليه.١١١
ومن وجهة نظر ابن مضاء، فإن طريقة التفكير بخلق الله تعالى قد تتفاقم إلى حد الكفر، ومثلما ينبغي للبشر أن يطيعوا الأحكام التي بيَّنها الله تعالى في القرآن الكريم من غير أن يسألوا لماذا تكون هذه الأحكام على ما هي عليه، ولكن ينبغي أن يتقبلوها؛ لأنها ببساطة أوامر الله تعالى، فإن المتكلم يجب أن يتقبل القواعد النحوية من غير التأمُّل بالأسباب وراء هذه القواعد، يقول ابن مضاء: «ومما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام زيد» بم رفع؟ لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول ولم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: هكذا نطقت به العرب. ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر، ولا فرق بين ذلك، وبين مَن عرف أن شيئًا ما حُرِّم بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل لم حُرِّم؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه.»١١٢
ويتبين من هذا النص الصلة الفقهية لاحتجاجات ابن مضاء ضد النظرية اللغوية، فهو ليس ضد دراسة اللغة في حد ذاتها (في حقيقة الأمر نراه يكثر من الاقتباسات في احتجاجاته من المؤلفات اللغوية لكي يبين لنا أنه يعرف ما يقول)، ولكنه يود أن يخلص النظرية اللغوية من الشوائب المؤذية التي لا نفع فيها لغرض الفهم الفضل للغة وتشكل تهديدًا للمؤمن الأصولي.١١٣
ويتقبل ابن مضاء العلل الأولية فقط في مناقشته الجدل النحوي، ومن منظوره هو فإن هذه ليست عللًا على الإطلاق، ولكنها حقائق قد يلحظها الناطق الأصلي، وعندما تلحظ أن الفاعل في الجملة في حالة الرفع، فإنك ستعرف أن كل فاعل يكون مرفوعًا؛ لأنَّ هذه قاعدة من قواعد اللغة العربية، ولكن ليس هناك حاجة إلى التفسير المفضل أبعد من هذه الملاحظة التي تقوم على الحقيقة التجريبية، ويورد ابن مضاء أمثلة في واحد من الأبواب الأخيرة من رسالته على التمارين عديمة الجدوى التي يُخضِع النحويون تلاميذَهم لها لمجرد أنهم يريدون أن يدربوهم على اختراع تفسيرات أكثر تعقيدًا للظواهر اللغوية، كما أننا نعلم من مصادر أخرى أن النحويين يخترعون الصيغ الافتراضية لكي يستنطقوا تلاميذهم عن القواعد الصوتية، وفي مثال مبالغ فيه يسأل النحوي تلاميذه عن الصيغ المختلفة التي يمكن اشتقاقها من الفعل الذي يتكون من ثلاث همزات، ويعلق ابن مضاء على هذا التمرين بقوله: «وهذا في مسألة واحدة فكيف إذا أكثر من هذا الفن، وطال فيه النزاع، وامتدت إليه أطناب القول، مع قلة جدواه وعدم الافتقار إليه، والناس عاجزون عن حفظ اللغة الفصيحة الصحيحة، فكيف بهذا المظنون المستغنى عنه.»١١٤

وهكذا يظهر أنَّ ثورة ابن مضاء ليست سوى محاولة إصلاح محدد مستلهم من آراء ابن حزم في نفي القياس والتعليل، فرمى إلى استبعاد العوامل التقديرية، والعلل الثواني والثوالث، والصيغ التمرينية غير المسموعة، وأنكر منها كل ما ليس له نظير.

واضح أننا هنا إزاء رؤية ظاهرية للنحو العربي يسهل ربطها بظاهرية ابن حزم، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن ابن مضاء ألف كتابه بعد سنة ٥٨١ﻫ،١١٥ أي زمن يعقوب المنصور الذي تولى الحكم سنة ٥٨٠ﻫ، والذي اشتهر بالمبالغة في الأخذ ﺑ «الظاهر» واعتماد الأصول وحدها، ونهى عن تقليد أحد من الأئمة القدماء، بل إنه أمر بإحراق كتب المذاهب الفقهية، وقيل في ذلك: «وكان قصده محو مذهب مالك مرةً واحدةً وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث.»١١٦

يمكن القول إذن إن كتاب «الرد على النحاة» لابن مضاء القرطبي يندرج، بكيفية عامة، في نفس الخط الفكري المؤسس للمشروع الثقافي لدولة الموحدين، وأنه منخرط بصفة مباشرة في حملة «يعقوب المنصور» من أجل تكريس العمل ﺑ «الظاهر».

بَيْد أنه على الرغم من الهزة الكبيرة التي أحدثها ابن مضاء من خلال كتابه «الرد على النحاة» في منهج النحو العربي وأدواته لما فيها من مخالفة المألوف الغالب في الدرس النحوي الذي انغمس في المنطق والفلسفة آنذاك انغماسًا كبيرًا، فإن أفكارَه لم تلقَ الاهتمام والالتفات، وربما كان تجاهلهم لها في نظرهم هو عدم ردهم عليها، وليس في ذلك ما يُثِير الغرابة، طالما أن قبول نقطة الافتراق (عن المتوارث) في الرسالة قد يساوي التخلي عن الأشياء التي يعتز بها النحويون، فبم يُعز صنيع الشيخ أدنى صورة من صور التعليق أو المواجهة، غير ما كانوا يبدونه من الامتعاض من هذا الاجتراء على أكابر النحاة، والخروج على أصولهم ومنهجهم، وقد كانت جرأة ابن مضاء معهودة معروفة بين نحاة عصره، ولذلك رد عليه ابن خروف (ت٦٠٩ﻫ) في هذا التطاول والاجتراء في كتاب سماه «تنزيه أئمة النحو عما نسب إليهم من الخطأ والسهو»، ولما بلغ ذلك ابن مضاء، اغتاظ وقال: «نحن لا نبالي بالأكباش النطاحة وتعارضنا أبناء الخرفان.»١١٧
ثم لم تلبث قوة الدفع أن تلاشَت مع الزمان الذي لم يمتد به كثيرًا، وأخذ النحاةُ يعودون أدراجهم إلى مألوف درسهم، وإلى ما كانوا عليه من خلط للنحو بالمنطق، ومَن أخذ بالفكر العقلي الموغل في التجريد، وتعلقوا مرة أخرى بما كانوا قد ابتعدوا عنه فترةً يسيرةً مِن الزمان من مناهج أسلافهم، وأساليبهم، وطرائقهم، وأفكارهم الفلسفية القديمة، وتركوا آثارًا وآراءً تعكس ما عادوا إلى الانغماس به على نحو ما كان يفعَل نحاةُ المشرق آنَذاك، وهي آثار وآراء منسوبة إلى كبار النحاة الأندلسيين في ذلك الزمان ﮐ «الشلوبين» المُتَوفَّى سنة ٦٤٥ﻫ، وابن هشام الأنصاري المُتَوفَّى سنة ٦٤٦ﻫ، وابن الحاج المُتَوفَّى سنة ٦٤٧ﻫ، وغيرهم، وما تزال هذه الآثار والآراء ماثلة في كتب النحو بين أيدي الباحثين حتى الآن.١١٨
وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة نود مناقشتها قبل أن ننهي هذا الفصل، وهي تتعلق بالعلاقة بين نكبة ابن رشد وابن مضاء، فمن المعروف أن ابن مضاء كان كما ذكرنا قاضيًا للقضاة (بمثابة وزير العدل)، وهو المنصب الذي استمر فيه على عهد يعقوب المنصور إلى أن تُوُفِّي سنة ٥٩٢ﻫ، ونحن نعرف أن حملة هذا الأخير على الفلسفة والفلاسفة قد بدأت قبل وفاة ابن مضاء بوقت طويل، ونعلم أيضًا أن المؤامرة على «ابن رشد»، قد بدأت بشكل علني عام ٥٩١ﻫ، ونعلم ثالثًا أن محاكمة ابن رشد قد تمت في السنة نفسها التي تُوُفِّي فيها ابن مضاء أو بعدها بقليل.١١٩
وإذن فالسؤال الذي يطرح نفسه أولًا هو: كيف كانت علاقة ابن مضاء بالحملة على الفلسفة والفلاسفة عمومًا، وبنكبة ابن رشد خصوصًا؟ إن ما يفرض طرح هذا السؤال كما يقول الدكتور «محمد عابد الجابري»، هو كونه كان قاضيًا للقضاة، وبالتالي فمِن المُحتمَل أن يكون له دور ما في تلك الحملة والنكبة؛ لأنه هو «المرجع» الذي يعتمد عليه الخليفة في مثل هذه الأمور، وهذا السؤال، وإن كان لا يملك ما يسمح لنا حتى باقتراح فرضيةٍ بشأنه، إلا أنه كان ذلك عن أحد وجهَي القضية التي تطرح نفسها على الباحث بخصوص العلاقة التي يمكن أن تكون بين نكبة ابن رشد وبين ابن مضاء بوصفه قاضي الجماعة أيام تلك النكبة. أما الوجه الآخر فيخص هذه المرة العلاقة بين كتاب ابن مضاء «الرد على النحاة»، وكتاب ابن رشد «الضروري في النحو»، وما يبرر طرح هذه المسألة هو أن الرجلين عاشَا متعاصرَين (وُلِد ابن مضاء قبل ابن رشد بأربع سنوات فقط وتُوُفِّي قبله بثلاثٍ لا غير)، وقد عملا معًا منذ شبابهما في بلاط الموحدين؛ خصوصًا مع يوسف بن عبد المؤمن، وابنه يعقوب المنصور، وقد توليا في عهدهما منصب القضاء في بعض المدن، ثم منصب قاضي القضاة … إلخ، وأكثر من ذلك — وهذا ما يهمنا هنا أكثر — ألَّف كل منهما كتابًا في النحو، وقد أراد كل منهما بكتابه تبسيط النحو العربي وتيسيره — وإن كان ذلك من جهتين مختلفتين تمامًا — والسؤال الذي يطرح نفسه هنا سؤال مضاعف: فمِن جهة لماذا لم يُشِر أي منهما، لا من قريب ولا من بعيد، إلى كتاب الآخر، مع أنهما يشتركان في الهدف، وإن اختلفا في المنهج والرؤية؟ ثم أي منهما أسبق من صاحبه إلى تأليف كتابه؟ ذلك لأنه إذا كنا نعلم أن ابن مضاء قد ألف كتاب «الرد على النحاة» بعد سنة ٥٨١ﻫ، أي زمن يعقوب المنصور، فإننا لا نعلم شيئًا عن تاريخ تأليف ابن رشد ﻟ «الضروري في النحو».١٢٠
وهنا يقول الدكتور الجابري: «… يمكن أن نُرجِع سكوت كل منهما عن صاحبه بكونهما ينتميان، على صعيد كتابَيهما على الأقل، إلى بُعدَين مختلفَين في المشروع الثقافي الموحدي: بُعدٌ يرتبط بظاهرية ابن حزم على مستوى العقيدة والشريعة، وإلى هذا البُعدِ ينتمي ابن مضاء كما بينا، وبُعد يرتبط بفكر أرسطو على مستوى المنطق والعلوم العقلية، وإلى هذا ينتمي ابن رشد كما هو معروف، وهو يرتبط بأرسطو في كتابه «الضروري في النحو» ليس على صعيد ما يُسمَّى ﺑ «تأثير المنطق الأرسطي في النحو العربي»، بل صعيد منهج التأليف العلمي. أما ارتباطه بالموحدين في هذا الكتاب كما في كثير من كتبه فلم يكن فقط على مستوى «السياسة الثقافية» فحسب، بل أيضًا على مستوى الاستجابة للطلب.»١٢١
إن «ابن رشد» يُصرِّح في كتابه هذا — كما فعل في كتب أخرى — أنه ألَّف كتابه هذا تلبيةً لأمرٍ صدر إليه من أحد أمراء المُوحِّدين، لا يذكر اسمه، ولكن يقول عنه إنه هو الذي «أرشد الغاية التي بها استقام نحو هذا النظر وجرى في هذا المسلك»، بمعنى أنه هو الذي اقترح عليه تأليف كتاب في النحو على الطريقة التي سلكها فيه.»١٢٢
ويُفهَم من سياق كلام ابن رشد أن «الغاية» التي طُلب منه تحقيقها بكتابه هذا هي ما أفصح عنه في مقدمته، حيث كتب يقول: «الغرض من هذا القول أن نذكر من علم النحو ما هو كالضروري لمن أراد أن يتكلم على عادة العرب في كلامهم ويتحرى في ذلك ما هو أقرب إلى الأمر الصناعي، وأسهل تعليمًا، وأشد تحصيلًا للمعاني.»١٢٣ وإذن فالغاية هي تأليف كتابٍ في النحو على الطريقة العلمية التي تراعي تنظيم مسائل العلم تنظيمًا منطقيًّا يصير به «أسهل تعليمًا وأشد تحصيلًا للمعاني».
الكتابان، (كتاب ابن مضاء، وكتاب ابن رشد)، تجمع بينهما الغاية وهي تيسير النحو العربي، ولكن تفرق بينهما الطريقة والمرجعية: ابن مضاء يتحرك داخل بنية النحو العربي، كما كانت منذ سيبويه، مع «إسقاط كل ما لا يفيد نطقًا»، الشيء الذي يربطه بظاهرية ابن حزم. أما ابن رشد فيريد أن يعيد بناء النحو العربي وفق «الترتيب» الذي هو «مشترك لجميع الألسنة»،١٢٤ وهو في هذا ينطلق من مشكاة أبو نصر الفارابي الداعي إلى خصوصية العلاقة بين اللغة والفكر في وحدة لا تتجزأ، أو لا تنفصم عُراها.
١  ينظر: حسن موسى الشاعر: خطاب الماردي ومنهجه في النحو، مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ضمن العددين التاسع والسبعين والثمانين، السنة العشرون، رجب–ذو الحجة ١٤٠٨ﻫ، السعودية، ص١٣.
٢  أحمد بن محمد المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، ١٩٦٨م، ج١، ص٢٢١.
٣  ينظر: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، ص٢٧٦.
٤  هو محمد بن يزيد المبرد، من أئمة البصريين في النحو واللغة، تُوفِّي ٨٥ﻫ؛ ينظر كذلك: أخبار النحويين والبصريين للسيرافي، ص٧٢.
٥  هو محمد عبد العزيز بن إبراهيم الأندلسي، أبو بكر المعروف بابن القوطية، من أعلم أهل زمانه باللغة والأدب (ت٣٦٧ﻫ): ينظر: وفيات الأعيان، ١، ٥١٢.
٦  أحمد أمين: ظهر الإسلام، ج٣، ص٩١.
٧  ينظر: طبقات النحويين للزبيدي ص٢٧٩، وتاريخ آداب العرب للرافعي، ج٣، ص٣١٥.
٨  ينظر: الأزدي (أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف المتوفى سنة: ٤٠٣ﻫ): تاريخ ابن الفرضي، الدار المصرية، القاهرة، ١٩٦٦م، ج٢، ١٤٨؛ وينظر كذلك: ألبير مطلق: الحركة اللغوية في الأندلس منذ الفتح العربي حتى نهاية عصر الطوائف، بيروت، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، ١٩٦٧م، ص٤٥.
٩  ينظر: وائل أبو صالح: الدرس النحوي بالأندلس، القاهرة، ١٩٨١م، ص٢٢٩؛ وينظر أيضًا: منى أحمد الحسين كرار: أثر المدرسة البصرية في النحو الأندلسي، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم درمان، كلية الدراسات العليا، كلية الدراسات الإسلامية، ٢٠١٢م، ص٤٥.
١٠  هو أبو علي أحمد بن جعفر الدينوري، أخذ عن المبرد وثعلب والمازني، صنف المهذب في النحو وغيره، تُوفِّي بمصر سنة ٢٨٩ﻫ.
١١  منى أحمد الحسين كرار: نفس المرجع، ص٤٧.
١٢  وائل أبو صالح: التربية اللغوية في الأندلس، ص٢٢٧.
١٣  الطنطاوي: نشأة النحو، ص١٦٠.
١٤  شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص٢٩٠.
١٥  نفس المرجع، ص٢٩٠.
١٦  نفس المرجع، ص٢٩٢.
١٧  د. عبد العال سالم مكرم: الحلقة المفقودة في تاريخ النحو العربي، منشورات مؤسسة الوحدة للنشر والتوزيع، الكويت، ١٩٧٧م، ص٣٢٢.
١٨  جولد تسيهر: «موقف أهل السنة الأوائل بإزاء علوم الأوائل»، بحث منشور بكتاب «التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية»، ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، القاهرة، ١٩٤٠م، ص١٤٧.
١٩  ابن الصلاح (تقي الدين عثمان الشهرزوري ت٦٤٣ﻫ): فتاوى ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والعقائد، المطبعة المنيرية، بيروت، ١٩٧٠م، ص٣٥-٣٦.
٢٠  نفس المصدر، ص٣٢.
٢١  نفس المصدر، ص٣٦.
٢٢  نفس المصدر، ص٣٧.
٢٣  نفس المصدر، ص٣٨.
٢٤  سعيد الأفغاني: مقدمة «ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل» لابن حزم، طبعة جامعة دمشق، ١٩٦٠م، ص١٢ بالهامش.
٢٥  ابن حزم: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، تحقيق إحسان عباس، مكتبة الحياة، بيروت، ص١١٥-١١٦.
٢٦  الأندلسي (القاضي صاعد بن أحمد، ت٤٦٢ﻫ): طبقات الأمم، نشره الأب لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكية، ١٩١٢م، ص٧٦.
٢٧  ابن حزم: التقريب لحد المنطق، ص٣.
٢٨  نفس المصدر، ص٤؛ وينظر أيضًا وديع واصف مصطفى: ابن حزم وموقفه من الفلسفة والمنطق والأخلاق، المجمع الثقافي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ١٩٩٩م، ص٢٠٩.
٢٩  نفس المصدر، ص٩.
٣٠  يفوت (د. سالم): ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ١٩٨٦م، ص٤٣٩.
٣١  يفوت (د. سالم): نفس المرجع، ص٤٤٢.
٣٢  Brunschivig, R: Pour ou Contre la Logoque Grecque, Chez les Theolugiens Jurists de l’Islam: Ibn Hazm, Al-Ghazali, Ibn Taimyya, in Oriente Accidente nel Medioevo: Filosofiae, Scienze, Rome, Acadmianazionale del Lintei, 1971, pp. 304-305.
٣٣  يفوت (د. سالم): نفس المرجع، ص٤٤٢.
٣٤  ابن حزم: التقريب، ص٩-١٠.
٣٥  يفوت (د. سالم): نفس المرجع، ص٤٤٢.
٣٦  ابن حزم: ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل، ص٥.
٣٧  ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق محمد أحمد عبد العزيز، مكتبة عاطف، القاهرة، ١٣٩٨ﻫ/١٩٧٨م، ص١٢٥٨.
٣٨  سورة المائدة، آية ٣.
٣٩  سورة النحل، آية ٤٤.
٤٠  ابن حزم: المصدر السابق، ج٨، ص١٣٥٩.
٤١  نفس المصدر، ج٨، ص١٣٥٩.
٤٢  نفس المصدر، ج٨، ص١٣٦٢.
٤٣  سورة الحجرات، آية ١.
٤٤  سورة الإسراء، آية ٣٦.
٤٥  سورة الأنعام، آية ٣٨.
٤٦  سورة البقرة، آية ١٥٠؛ وينظر أيضًا: نفس المصدر، ج٨، ص١٣٦١.
٤٧  ابن حزم: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، ص١٦٣-١٦٤.
٤٨  ابن حزم: نفس المصدر، ص٤.
٤٩  يفوت (د. سالم): ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، ص٢٢٥-٢٢٦.
٥٠  جولد تسيهر: التراث اليوناني في الحضارة في الحضارة الإسلامية، ص١٥٢.
٥١  إحسان عباس: مقدمة «التقريب لحد المنطق والمدخل إليه»، ص ل.
٥٢  أبو عيد (د. عارف خليل): الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي، رسالة دكتوراه غير منشورة مودعة بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، جامعة الأزهر، ١٩٧٨م، ص٨٧؛ وينظر أيضًا: عبد الله بن عبد الله الزايد: ابن حزم الأصولي، رسالة دكتوراه غير منشورة مودعة بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، جامعة الأزهر، ١٩٧٤م، ص٧٣-٧٤؛ وينظر أيضًا ناصر هاشم محمد: المنطق عند ابن حزم، رسالة ماجستير (غير منشورة) مودعة بكلية البنات، جامعة عين شمس، ١٩٩٢م، ص١٩٤-١٩٥.
٥٣  سورة الزلزلة، آية ٧.
٥٤  الجويني (أبو المعالي): البرهان في علم أصول الفقه، تحقيق د. عبد العظيم محمود الديب، دار الوفاء للطباعة والنشر، ط٣، القاهرة، ١٩٩٢م، ج١، ص٥٧٥.
٥٥  ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، الجزء الخامس، مكتبة السلام العالمية، القاهرة، بدون تاريخ، ص١١-١٢.
٥٦  صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، ص٧٦؛ وينظر أيضًا ياقوت الحموي (ت٦٢٦ﻫ): معجم الأدباء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٩٩١م، المجلد الثالث، ص٥٤٧؛ وينظر أيضًا الفقطي: كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص١٥٦.
٥٧  ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج٣، ص٥٥١-٥٥٢.
٥٨  ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد الخضرمي، ت٨٠٨ﻫ): المقدمة، ص٤٥٥.
٥٩  ابن تيمية: الرد على المنطقيين، ص٢١٦.
٦٠  زكريا إبراهيم: ابن حزم المفكر الظاهري الموسوعي، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ص١١٠.
٦١  الحميدي: جذوة النفس، طبعة مصر، ١٩٥٢م، ص٢٩١.
٦٢  صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، ص٧٦.
٦٣  ياقوت الحموي: معجم الأدباء، طبعة القاهرة، ج١٢، ص٢٤٧؛ وينظر كذلك: الذخير لابن بسام، ج١، ص١٤٠.
٦٤  زكريا إبراهيم: ابن حزم المفكر الظاهري الموسوعي، ص١٢٧.
٦٥  السيوطي (جلال الدين): صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، ص١٣؛ وينظر أيضًا النجار (د. عبد المجيد): الصلة بين المنطق وبين الفقه كما انتهت عند ابن عرفة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ١٩٩٢م، ص١١٤.
٦٦  ابن طملوس (الحجاج يوسف بن محمد): المدخل لصناعة المنطق، المطبعة الإبيريقية، مدريد، مجريط، ١٩١٦م، ج١، ص٨–١٠.
٦٧  المراكشي (عبد الواحد بن علي، ت٦٤٧ﻫ): المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، ١٩٦٣م، ص١٧٣.
٦٨  ابن طلموس: نفس المصدر، ج١، ص١١-١٢.
٦٩  النجار (د. عبد المجيد): الصلة بين المنطق وبين الفقه كما انتهت عند ابن عرفة، ص١١٨.
٧٠  ابن العربي (أبو بكر بن العربي): العواصم من القواصم، تحقيق د. عمار الطالبي ضمن كتابه آراء أبو بكر بن العربي الكلامية، طبعة الشركة التونسية للنشر والتوزيع، الجزائر، ١٩٧٤م، ج٢، ص٣٠-٣١.
٧١  نفس المصدر، ج١، ص١٠٦.
٧٢  النجار (د. عبد المجيد): المهدي بن تومرت، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ١٩٨٣م، ص٣٥٨.
٧٣  ابن خلدون (عبد الرحمن): تاريخ ابن خلدون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ١٤١٣ﻫ/١٩٩٢م، ج١، ٢٦٦.
٧٤  نفس المصدر، ج٦، ص٢٦٦–٢٦٧.
٧٥  النجار (د. عبد المجيد): المهدي بن تومرت، ص٧٣-٧٤.
٧٦  ابن تومرت (أبو عبد الله محمد بن عبد الله): مجموع أعز ما يطلب، نشرة لوسياني، طبعة فونتانهو، الجزائر، ١٧٠٤م، ص١٧٣-١٧٤.
٧٧  نفس المصدر، ص١٦٨.
٧٨  ابن خلدون: المقدمة، ص٤٤٥.
٧٩  ابن طلموس: نفس المصدر، ج١، ص١٢.
٨٠  الغرر جمع، غَرَّه يغره غرًّا وغره وفي الحديث الشريف المؤمن غِر كريم. أي ليس بذي نكر، فهو ينخدع بانقياده ولينه وهو ضد الخب: يقال فتًى غِر وفتاة غِر، وقد غَرِرت تَغَرُّ غرارةً، يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، ولكنه كرم وحسن خلق، ومنه حديث الجنة: يَدخُلني غِرَّة الناس، أي البُله الذين لم يجربوا الأمور فهم قليلو الشر منقادون. فإنَّ من آثر الخمول وإصلاحَ نفسه والتزوُّدَ لمعاده ونبذَ أمور الدنيا فليس غِرًّا فيما قصد له ولا مذمومًا من الذم. انظر ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، بدون تاريخ، ج٥، ص٣٢٣٢.
٨١  ابن العربي (أبو بكر بن العربي): العواصم من القواصم، النجار (د. عبد المجيد)، مقال منشور ضمن كتابه فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ١٩٩٢م، ص١٠٧.
٨٢  ابن طلموس: نفس المصدر، ج١، ص١٢-١٣.
٨٣  نفس المصدر، ج١، ص١٢-١٣.
٨٤  ينظر كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة د. رمضان عبد التواب، ط٣، دار المعارف، القاهرة، الملحق ١: ٧٥٨.
٨٥  ينظر: ابن السيد البطليوسي: إصلاح الخلل الواقع في الجمل، تحقيق حمزة عبد الله النشرتي، دار المريخ، الرياض، السعودية، ١٩٧٩م، ص٥؛ وينظر: حسن عبد الرحمن علقم: الجوانب الفلسفية في كتابات ابن السيد البطليوسي، دار البشير، عمَّان، الأردن، ١٩٨٧م، ص١٢٧.
٨٦  ينظر: ابن السيد البطليوسي: نفس المصدر، ص٥؛ وينظر: حسن عبد الرحمن علقم: نفس المصدر، ص١٢٧.
٨٧  ينظر: نفس المصدر، ص١٥؛ وينظر: نفس المرجع، ص١٢٧.
٨٨  ينظر: نفس المصدر، ص١٥؛ وينظر: نفس المرجع، ص١٢٧.
٨٩  ينظر: نفس المصدر، ص١٦؛ وينظر: نفس المرجع، ص١٢٧.
٩٠  ينظر: نفس المصدر، ص١٤؛ وينظر: نفس المرجع، ص١٢٧.
٩١  ينظر: نفس المصدر، ص١٩-٢٠؛ وينظر: نفس المرجع، ص١٢٧.
٩٢  حسن عبد الرحمن علقم: نفس المرجع، ص١٢٨.
٩٣  نفس المرجع، ص١٢٨.
٩٤  نفس المرجع، ص١٣٢.
٩٥  نفس المرجع، ص١٣٣.
٩٦  نفس المرجع، ص١٣٥.
٩٧  طبقات الأمم، ص٧٧.
٩٨  ابن سِيدَه: المحكم، ج١، ص١٦.
٩٩  صاعد الأندلسي: طبقات الأمم، ص٧٤.
١٠٠  الصلة، ٢١٨.
١٠١  الفصل في الملل والنحل، ج١، ص١٧.
١٠٢  الذخيرة، ج١، ص٢٤١.
١٠٣  الصلة، ص٩٤؛ وينظر كذلك: الحركة اللغوية في الأندلس، ص٢٣٢.
١٠٤  الإحكام في أصول الأحكام، ج٧، ص٥٥.
١٠٥  ابن مضاء القرطبي: الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، ط٢، القاهرة، ١٩٨٢م، ص٧٢.
١٠٦  نفس المصدر، ص٧٢.
١٠٧  نفس المصدر، ص٧٢.
١٠٨  نفس المصدر، ص٧٢.
١٠٩  نفس المصدر، ٨٢.
١١٠  نفس المصدر، ص١٤١.
١١١  كيس فرستيج: أعلام الفكر اللغوي، ص٢٠٩.
١١٢  ابن مضاء القرطبي: نفس المصدر، ص١٣٠.
١١٣  كيس فرستيج: أعلام الفكر اللغوي، ص٢١٠-٢١١.
١١٤  ابن مضاء القرطبي: نفس المصدر، ص١٤٠-١٤١.
١١٥  انظر د. شوقي ضيف: مقدمته لكتاب الرد على النحاة، ص١٥.
١١٦  د. محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط١٠، لبنان، بيروت، ٢٠٠٩م، الفصل ١٢، الفقرة ٥.
١١٧  ينظر بغية الوعاة، ج٢، ص٢٠٣؛ وينظر كذلك: نشأة النحو لمحمد طنطاوي، ص٢٣٢.
١١٨  عبد الكريم الأسعد: بين النحو والمنطق وعلوم الشريعة، ص٣٤-٣٥.
١١٩  د. محمد عابد الجابري: التجديد في النحو بين ابن مضاء وابن رشد، مجلة فكر ونقد — عدد:٤٩ / ٥٠ — المغرب، ٢٠٠٢م، ص٤٥.
١٢٠  نفس المرجع، ص٤٦.
١٢١  ابن رشد: الضروري في صناعة النحو، تحقيق منصور على عبد السميع، دار الفكر العربي، ط١، بيروت، ٢٠٠٢م، ص٧٥–٧٧.
١٢٢  د. محمد عابد الجابري: ابن رشد سيرة وفكر دراسة ونصوص، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، بيروت، ٢٠٠٧م، ص١٠؛ وينظر أيضًا: التجديد في النحو بين ابن مضاء وابن رشد، ص٤٧.
١٢٣  ابن رشد: الضروري في صناعة النحو، ص٢٦.
١٢٤  د. محمد عابد الجابري: التجديد في النحو بين ابن مضاء وابن رشد، ص٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤