طغيان النزعة المنطقية عند متأخري النحاة
تقديم
رأينا خلال مسيرتنا في هذا الكتاب أن سيبويه لم يعتنِ بالحدود النحوية، إذ رتب موضوعات المادة النحوية في كتابه على أساس ذكر المادة كاملة دون مصطلح واضح محدد، ثم الدخول إلى الموضوع دون ذكر حد منطقي، وفي أكثر الأحيان يحدد الباب النحوي بالمثال أو ببيان التقسيمات مباشرة، وهذا يؤكد نفي تهمة تأثر كتاب سيبويه بمنطق أرسطو.
وفيما يلي نماذج وصور تُظهر ما وصل إليه الدرس النحوي عند المتأخرين (وأخص مدرسة مصر النحوية، سواءً الذين عاصروا دولة المماليك أو دولة العثمانيين)، من الانغماس الشديد في المنطق ونحوه وهو انغماس تجلى أكثر ما تجلى في التعريفات، والعوامل، والعلل، والأقيسة، والمصطلحات.
(١) التعريفات أو الحدود
وعلى ضوء ما سبق، نذهب الآن إلى النظر في تعريفات النحاة العرب المتأخرين في كتبهم لنرى كيف يقيمونها، ويجرون في أكثرها مجرى أهل المنطق اليوناني في تعريفاتهم الشيئية، وفيما يلي نماذج لحدود النحاة المتأخرين التي امتلأت بها كتبهم ولبعض تعليقاتهم واستشكالاتهم عليها، والتي ظهرت فيها جميعًا إشارات المنطق، وعلاماته، وألفاظه، بوضوح.
ويمكننا أن نسوق ثلاثة نماذج لدور الحدود في الدرس النحوي هنا عند كل من ابن هشام، والصبان، وابن الناظم:
(١-١) ابن هشام
والنموذج السابق عند ابن هشام يكاد ينسحب على تعريفه المصطلحات كلها كالمرفوعات، والمنصوبات، والمجرورات.
والمدقق في التعريف السابق عند ابن هشام يرى أن كل تركيب أو عبارة جاءت تخصيصًا للمعرف بحيث لا يقع التعريف إلا عليه. فبقدر ما يحدث انزياحًا في التعريف إلى اليسار بقدر ما تتضح صورة المعرف في الذهن أكثر بحيث لا يشترك معه غيره، وواضح أن المبتدأ انتهى تعريفه عند قوله: «للإسناد» أي بالعمل والموقع غير أن ما جاءت به من أمثلة زادت المعرف توضيحًا.
ونأخذ أنموذجًا آخر من التعريف عند ابن هشام هو تعريفه «ليت» إذ قال: «ليت حرف لمن يتعلق بالمستحيل غالبًا كقوله:
وقل أن يتخذ التعريف الواحد شكلًا واحدًا عند ابن هشام؛ فالتعريف بالمثال — مثلًا — يكاد يرد مع كل تعريف أيًّا كان أسلوبه متصلًا به، موضحًا له، بحيث يجعل المتعلم أكثر تصورًا لحقيقة المعرف، وهذا النوع من التعريف — أعني التعريف بالمثال — ينسجم مع المنهج التعليمي الذي اختطه ابن هشام لنفسه، وهو يقدم المادة التعليمية لتلاميذه.
(١-٢) الصبان
(١-٣) ابن الناظم
(٢) العلة أو التعليل
وسنرى خلال هذا الفصل أن التعليل الذي نحن بصدد بحثه لا يشتمل إلا على العلتين الأخيرتين: الفاعلية (السبب عند المحدثين) والغائية (الغرض).
وحين النظر في التراث اللغوي النحوي العربي لا نكاد نجد ظاهرةً نحويةً واحدة، أو لغوية لم يلتمس لها النحاة علة، أو سببًا، ولعلهم احتاجوا إلى ذلك حينما تحولت اللغة من منظومة الفطرة (السليقة) إلى منظومة (التعلم)؛ لأن ذلك استوجب أن يبسُط النحوي قاعدته مُردِفًا إياها بالعلة التي اقتضت الحكم حتى يتمكن من إيصالها إلى ذهن المتعلم، غير أن بعض المتعلِّمين بل «المعلِّمين» النحاة كانوا من الأعاجم الذين جبلت ألسنتهم على غير العربية، فلما صارت العربية لغة الدين والدولة التمسها أولئك بشَغف ونَهَم، ولما كانت أذهانهم لا تستجيب دون إظهار علل الأمور، وأسباب الظواهر، والوقوف على حقيقة الأحكام النحوية التي لم يعد الحصر مجديًا في تقصِّيها، لذلك عمد النحاة إلى استنباطها، وتقعيدها، وإلحاق عللها بها.
وبعد حدوث التأثر بعلوم الفلسفة والمنطق صار النحوي أبرَع مِن الفيلسوف في إظهار الأحكام والتماس عللها، ولعل التعريج على مراحل تطور العلة منذ نشوئها حتى القرن الثامن الهجري ذو فائدة في معرفة أهمية العلة ونضج الفكر النحوي عند النحاة المتأخرين، وكذلك الكشف عن بنية التعليل وأسلوب النحاة فيه، وبيان ما بناه النحاة مِن فِكر لغوي أغناه التعليل في كثيرٍ مِن جوانبه لكنه — أي التعليل — في جوانب أخرى ساقه إلى التعقيد والغموض والإسفاف، مما دعا كثيرًا من النحاة إلى الدعوة إلى إلغاء الكثير من مكونات النظام التعليلي على نحو ما دعا إليه ابن مضَّاء القرطبي وسواه من النحاة والدارسين.
وقد قسم الدارسون مراحل تطور العلة النحوية على ثلاث مراحل نجد من المهم تقصيها وتتبعها لمعرفة دور التعليل النحوي في البحث النحوي ومدى نضجه.
(٢-١) المرحلة الأولى
وهي مرحلة نشوء التعليل النحوي التي يُعَد أباها الشرعي عبدُ الله بن أبي إسحاق الحضرمي، وهي تنتهي بالخليل بن أحمد الفراهيدي إذ هو قمتها ونهايتها، وفي هذه المرحلة يمكن وصف التعليل النحوي بالبساطة، إذ لم يكن تجاوُز حدود معناه اللغوي، وقد كان شيئًا طبيعيًّا بعد أن رأى علماء المسلمين حث القرآن على معرفة أسباب الظواهر، واللغة هي إحدى تلك الظواهر الموجودة في الكون.
وقد وسم البعض التعليل النحوي في هذه المرحلة بأنه ليس إلا طرائق تمد النحاة بشيء من المتعة النفسية والذهنية معًا، وللباحث وقفة عند هذا الرأي الذي وسم التعليل بأنه فقط لإثارة المتعة النفسية والذهنية؛ لأنه كان إجراءً عمليًّا لوضع معايير التقعيد وبيانها وعدم تركها مبهمةً أمام متلقي العربية الذين كان جُلهم مِن الأعاجم، إذ لا بد مِن إظهار العلة التي قام عليها حكم لغوي ما؛ لأنَّ مَلكة اللغة عندهم مغايرة، فأي اختراق، أو تحوُّل عن ملكتهم اللغوية الأصلية بحاجة إلى صدمة (علة) لإحداث فجوة في وعيهم لإدخال ملكة اللغة الجديدة التي يرومون تعلمها، وقد اتسم التعليل في هذه المرحلة بما يأتي:
(أ) جزئية الموضوع والنظرة
(ب) التوافق مع القواعد
(ﺟ) الوقوف عند النصوص اللغوية
ومن نافلة القول أن البحث يرى أن الوقوف عند تلك النصوص له ما يسوغه إذ إن النصوص الموقوف عندها كانت نصوصًا تُمثِّل الأنموذج الكلامي الذي لا يعتريه الضعف، أو يَعتَوِره التناقض هذا من حيث النص القرآني الذي هو المصدر الأول، أما المدونة الشعرية العربية فقد جهد العلماء من التثبُّت من صحتها، وكذلك النص الحديثي الذي أحيط بكثير من الملحوظات، والاحترازات لأجل التثبت من كل جزئية من جزئياته.
(٢-٢) المرحلة الثانية
- (١)
الجمع بين الجزئيات المتفرقة.
- (٢)
ضم الجزئيات المتفرقة في إطار كلي يشملها.
(٢-٣) المرحلة الثالثة
وهي المرحلة الأكثر نضجًا وتقدمًا في تاريخ التعليل النحوي إذ صار علمًا له معاييره، ومصطلحاته، وأصوله، وتبدأ هذه المرحلة بالزَّجَّاجي (٣١١ﻫ) صاحب كتاب «الجمل» الذي عُدَّ في تاريخ العربية فتحًا كبيرًا، فضلًا عن أنَّ الدرسَ النحوي شهد تطوُّرًا واضحًا بعد أن توطدت أركانه وتفرعت وتعددت مدارسه، ومن الناحية المنهجية نجد أن التأليف في التعليل النحوي صار مستقلًّا، وأُفرِدت له عنوانات خاصة، وكذلك مصنفات مستقلة، وهذا يُفضِي إلى الاستنتاج بأن التعليل النحوي بدءًا كان ممتزجًا بالنحو حتى هذه المرحلة التي استقل فيها عنه منهجًا وتأليفًا.
كذلك من الطبيعي جدًّا أن نُلفِي ظِلال المنطق الأرسطي الذي أثر في مجمل الفكر العربي الإسلامي حاضرةً في التعليل النحوي الذي تأثَّر بذلك المنطق بشكل مباشر، أو غير مباشر على مستوى التنظير والتطبيق.
- (١)
الربط بين الأحكام والعلل.
- (٢)
التنسيق بين العلل النحوية.
(٢-٤) المرحلة الرابعة٨٠
- (١)
منع، من أن تكون «لكن» عاطفة ثم تناسل عن هذه العلة علة منع أخرى هي «منع» اجتماع حرفي عطف معًا.
- (٢) مخالفة، في كون عدم صحة العطف بالواو، لمخالفة الكلام الذي قبل «لكن» للذي بعدها من حيث الإثبات والنفي.٩٦
و:
وهذا النص يفصح عن جملة من العلل منها «علة افتقار» أي: عدم استغناء الخبر بالفاعل، وهي من جنس العلل التعليمية، والعلة الأخرى هي علة «حمل على الأصل» إذ حمل «قائم» على أصله «قام» لذلك لم يجز فيه كل ما لم يجز في الفعل من جمع، وتصغير، وتثنية.
- (١)
علة مطابقة، وهي علة لفظية تعليمية (أولية) بالدرجة الأساس.
- (٢) علة منع، في عدم تجويز أن يسد الفاعل مسد الخبر، ثم علل هذا التعليل بتعليل آخر هو كون الوصف إذا أخذ رفعًا ظاهرًا عومل معاملة، افعل وكأن المراد أن الوصف الاسميَّ يرد إلى أصليته الفعلية، وبذلك تخرج هذه العلة إلى نمط العلل الجدلية.١١٨
(٣) العوامل
- (١) اهتم ابن النحاس بفكرة العامل، وكانت له آراء مستقلة، عما أشار إليه النحاة السابقون عليه، ومن الأمور التي تفرد بها أنه سمى الأدوات العاملة «حروفًا» حروفًا كانت أم أفعالًا أم أسماء، ولذلك سمى «كان وأخواتها»: «باب الحروف التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار» وهي: كان، وصار، وظل، وبات، وأمسى، وأصبح، ولم يزل، ولا يزال، وما زال، وما دام، وما انفك «ففي هذه التسمية دليل على أنه يقصد ﺑ «الحروف» الأدوات العاملة، وهي هنا أفعال، وفي هذه الأبواب أداتان أدخلهما فيها وهما: «لم يزل ولا يزال» على عادته في عد الأداة الأصلية مسبوقة بتعليل أو نحوه ومتلوة بنفي أداة جديدة، وعد هنا مجيء «لم» و«لا» قبل «يزال» أداتين جديدتين، وكان التقسيم يقتضيه أن يدخل فيها «لن يزال» و«زال» في الدعاء، ولعله سها عنهما.١٢٦
- (٢) ناقش ابن هشام قضية العامل في أمور كثيرة في شروحاته، ومن ذلك مثلًا حديثه عن المرفوعات: «بدأت من المرفوعات بالفاعل لأمرين، أحدهما أن عامله لفظي، وهو الفعل أو شبهه، بخلاف المبتدأ فإن عامله معنوي وهو الابتداء، والعامل اللفظي أقوى من العامل المعنوي، تقول في زيد قائم، كان زيد قائمًا، وإن زيدًا قائم، وظننت زيدًا قائمًا، ولما بينت أن عامل الفاعل أقوى كان الفاعل أقوى، والأقوى مقدم على الأضعف.»١٢٧
- (٣)
قول ابن مالك:
بفعله المصدر ألحق في العملمضافًا أو مجردًا أو مع أل١٢٨وقوله أيضًا:
كفعله اسم فاعل في العملإن كان عن مضيه بمعزل١٢٩ومثال آخر يتعلق بالعامل في «أيِّ»؛ حيث يرى ابن مالك أن الذي في «أي» من تضمُّن معنى حرف الاستفهام معارض يشبهها ﺑ «كل»، و«بعض» وبشبه «أي» الموصوف بها في نحو «مررت برجل أي رجل» ومعارض بالإضافة القياسية، وهي الإضافة إلى المفردات دون لزوم في اللفظ، فاستحقت بذلك التفضيل على أخواتها فأعربت، وعوملت في إضافتها معاملة «كل» و«بعض» لوقوعها موقعهما. مثال الإضافة لفظًا: «أي القوم لقيت؟» وتقديرًا:١٣٠ «بأي مررت؟» كما يقال: «مررت بكلهم وبكل»، و«ببعضهم وببعض» وهي ﮐ «بعض» عند الإضافة إلى معرفة وﮐ «كل» عند الإضافة إلى نكرة.١٣١ - (٤) العامل مؤثر حقيقة، إنه سبب وعلة للعمل، وهذا مشهور وشائع في النحو عند المتأخرين، ويوضح هذا ما يقوله الصبان تعليقًا على ما نقله الأشموني عن شرح التسهيل من أن: «الإعراب ما جيء به لبيان مقتضى العامل «فالعامل» كجاء ورأى والباء «والمقتضى» الفاعلية والمفعولية والإضافة «والإعراب الذي يبين هذا المقتضى» الرفع والنصب والجر، فهذا التعريف يقتضي اطراد الثلاثة.»١٣٢
- (٥) ذهب ابن الناظم إلى أن الخبر في نحو: ضربي العبد مسيئًا، محذوف مقدرًا ﺑ إذا كان، وفاقًا لجمهور البصريين وكان عنده تامة لا ناقصة وذهب أبوه إلى أن الخبر في المثال المذكور، محذوف مقدر بمصدر مضاف لا زمان مضاف لفعله وفاقًا للأخفش، إن كلًّا من ابن الناظم وأبيه انطلق في مبايعته المتقدمين من نظرية العامل؛ لأن الحال عندهم جميعًا فضلة لا يصلح أن يسند إليها المبتدأ وأن يخبر بها عنه، فلذلك قرروا ليتدرج المثال تحت أصولهم الفعلية، وأقول إذا كانت الحال فضلة فقد يمكن حذفها ولا يختل المعنى.١٣٣
- (٦) بنى السيوطي معظم أبواب النحو في كتبه على نظرية العامل بحيث يرد ذكره في كل مسألة إلا ما شذ، ولكثرته لا يحتاج إلى تمثيل، ونكتفي بأمثلة قليلة منها قوله في تعليلهم قولهم: المبتدأ أصل المرفوعات «ووجهه أنه مبدوء في الكلام … وأنه عامل ومعمول، والفاعل معمول لا غير»، وقوله متحدثًا عن رافع المبتدأ والخبر: «في رافع المبتدأ والخبر أقوال فالجمهور وسيبويه على أن رافع المبتدأ هو الابتداء؛ لأنه بُني عليه، ورافع الخبر المبتدأ؛ لأنه مبني عليه، فارتفع به كما ارتفع هو بالابتداء … وقيل تجرده من العوامل اللفظية أي كونه معرى منها …»١٣٤
(٤) رابعًا: القياس
اهتم النحاة العرب بالقياس نتيجة تصورهم لفكرة الأصل والفرع في النحو، وجعلوه منهجًا يقابل السماع، وقد فتنوا به حتى قال الكسائي:
ومن هذا المنطلق فُتِن النحاة بالقياس، وتمسكوا به أشد التمسك، فيقول ابن جني: «مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس.» وقال أستاذه أبو علي الفارسي: «أُخطِئ في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس» وكذلك اهتم المتأخرون من النحاة والأصوليون، ورأوا أن لا نحو من دون القياس، وفي هذا الصدد يقول ابن الأنباري: «اعلم أن إنكار القياس في النحو لا يتحقق؛ لأن النحو كله قياس.»
- المقدمة الكبرى: كل اسم مركب تركيب مزج يبنى على فتح جزأيه.
- المقدمة الصغرى: لا واسمها مركبان تركيب مزج.
- النتيجة: لا واسمها مبنيان على فتح الجزأين.
ولقد استمرت مسيرة القياس المنطقي في الدرس النحوي تتصاعد، وتتفاعل، وتنمو، وتشتد، حتى امتلأت كتب النحو بألوان الأقيسة وأنواعها، وكان لكل نحوي منها نصيب، وأجرى كثيرون من النحاة أقيستهم الخاصة بهم التي خالفوا بها أقيسة الآخرين، وفيما يلي نماذج لبعض أقيسة النحويين المتأخرين التي جرت بها أقلامهم، وحوتها كتبهم وتصانيفهم ليُصَار من خلالها إلى تصور ما كانت عليه أوائل الأقيسة، ثم معرفة المدى الذي وصلت إليه هذه الأقيسة فيما بعد من التأثر بالمنطق ومصطلحاته وبالفلسفة ومناهجها:
-
(١)
قرر النحاة أن وزن «فَعْل» يكون قياس مصدر الفعل الثلاثي المتعدي كرد ردًّا، وذهب سيبويه والأخفش إلى أن المراد بالقياس هنا أنه إذا ورد شيء من هذه الأفعال الثلاثية المتعدية ولم يعلم كيف تكلم العرب بمصدره، فإنك تقيسه على هذا، لا أنك تقيس مع وجود السماع، أما الفراء، فقد ذهب إلى أنه يجوز القياس عليه وإن سمع غيره، وحكى السيوطي في الهمع عن بعضهم أنه قال: لا تدرك مصادر الأفعال الثلاثية إلا بالسماع فلا يقاس على فعل ولو عدم السماع.١٤٩
-
(٢)
ذهب ابن مالك إلى أن ارتفاع الظاهر بأفعل التفضيل لم يُسمَع من العرب إلا بعد نفي، وأنه لا بأس باستعماله بعد نهي أو استفهام فيه معنى النفي، كقولك: لا يكن غيرك أحب إليه الخير منه إليك، وهل في الناس رجل أحق به الحمد منه بمحسن لا يمن.١٥٠
-
(٣)
أجاز ابن مالك تأكيد الضمير المنفصل مطلقًا مرفوعًا كان، أو منصوبًا، أو مجرورًا بضمير الرفع المنفصل نحو: قمت أنا، ورأيتك أنت، ومررت بك أنت، وزيد جاء هو، ورأيتني أنا، أما إذا اتبع المتصل المنصوب بمنفصل منصوب نحو رأيتك إياك، فمذهب البصريين أنه بدل، ومذهب الكوفيين أنه توكيد، وقد رجح ابن مالك رأى الكوفيين، بناء على أن نسبة المنصوب المنفصل من المنصوب المتصل، كنسبة المرفوع المنفصل من المرفوع المتصل في نحو: فعلت أنت، والمرفوع تأكيد بإجماع.١٥١ ومن الواضح أن ابن مالك بنى الحكم على القياس وحده دون سماع.
-
(٤)
ومما بُنِي فيه الحكم على القياس وحده ترخيم المركب المزجي، فالمنقول أن العرب لم ترخمه، وإنما أجاز ذلك النحويون قياسًا على ما فيه تاء التأنيث الذي سمع عن العرب ترخيمه، والعلة في القياس أن الجزء الثاني يشبه تاء التأنيث من وجوه: فتح ما قبله غالبًا، واحترز بغالبًا عن نحو معديكرب، وحذفه في النسب، وتصغير صدره، كما أن تاء التأنيث كذلك.١٥٢
-
(٥)
مما حاد عن القياس في باب التصغير لمخالفته السماع قولهم في المغرب مغيربان، وفي العشاء عشيان، وفي عشية عشيشية، وفي إنسان أنيسيان، وفي بنون أبينون، وفي ليلة لييلية، وفي رجل رويجل، وفي صِبْية بكسر الصاد وسكون الموحدة جمع صبي أصيبية، وفي غِلمة بكسر الغين المعجمة وسكون اللام جمع غلام أغيلمة، فهذه الألفاظ مما استُغنِي فيها بتصغير مهمل عن تصغير مستعمل، أي فمغيربان وما بعده كأنه تصغير مغربان، وعشان، وعشَّاه بتشديد الشين، وأنسيان، وليلاة، وراجل، وأصبية، وأغلمة، وأبنون، ومما حاد عن القياس في باب التكسير لمخالفته السماع فجاء على غير لفظ واحد قولهم رهط وأراهط، وباطيل وأباطيل، وقطيع وأقاطيع، فهذه جموع لواحد مهمل استغني به عن جمع المستعمل، وهكذا رأى النحاة أن ما خالف المسموع في بابي التصغير والتكسير كان حائدًا عن القياس خارجًا عن سنته، أي شاذًّا يحفظ ولا يقاس عليه، والقياس في تصغير المغرب مغيرب، وفي العشاء عشية، وفي عَشِية عُشَيَّة يحذف إحدى الياءين من عشية لتوالي الأمثال، وإدغام ياء التصغير في الأخرى والأصل عشيية بثلاث ياءات، وفي إنسان أنيسين إن اعتبر جمعه على أناسين وأنيسان إن لم يعتبر، وفي بنون بنيون، وفي ليلة لييلة، وفي رجل رجيل، وفي صِبْيَة صُبَيَّة، وفي غِلمة غُلَيمَة، والقياس في تكسير رهط رُهُوط، وفي باطل بواطل، وفي حديث أحدِثَة وحُدُث وأحاديث، وكذا كُرَّاع بضم الكاف وهو مستدق الساق، وقطيع بفتح القاف، وفي عَروض بفتح العين عرائض.١٥٣
وقد تسلم النحاة المعاصرون هذا الإرث على هذا الشكل، فبدءوا يعالجون قضايا النحو المنطقي، وفي مقدمتها قضية القياس في النحو معالجات تفاوتت في القوة والضعف، وفي الكمال والنقص، وفي التأثير وعدمه، واندرجت هذه المعالجات تحت ما سمي بدعوات تجديد النحو أو تيسيره.