حجرة التحمس!
ما دخلها قط إنسان إلا انقلب بعد دقائق — مهما بدا من هدوئه أول الأمر — متحمسًا من أشد المتحمسين، شهدت ذلك بنفسي وأنا قابع في ركن منها أتفرج من وراء منظاري على ما لم أستمتع بمثله في أية دار من دور اللهو …
هي حجرة في ديوان إحدى الوزارات كتب على بابها: «المستخدمين» هكذا بالجر! دخلتها والحر شديد وبنفسي ضيق وضجر فسرعان ما روح عني الضحك المتصل، حتى لقد أنساني ضجري كما أنساني ما جئت له.
الحجرة صغيرة مزدحمة بالقماطر أو ما يسميه الموظفون بالمكاتب، وعلى كل قمطر ما عدا واحدًا أضابير من الورق يعلم الله مبلغ ما قضته كل ورقة حيث رأيتها، من عمر …
وأما كل قمطر — ما عدا واحدًا غير ذلك الذي خلا من الورق — موظف، وهم جميعًا فيما يخيل إلي من أعمارهم دون الأربعين، وفيهم من هم دون الثلاثين …
وكان أحدهم يقضم قضمات من رغيف أمامه، ويأتدم بقطعة من الجبن وكان آخر يطالع في جريدة؛ وكان ثالث يشرب القهوة، واشتغل أربعة بأوراقهم، وبقي واحد لا يعمل شيئًا قط فليست أمامه ورقة وليس في يده قلم أو صحيفة أو شيء غير هذا مما يؤكل أو يشرب، وكان ينظر في ساعته بين حين وحين ليرى متى ينصرف … وفهمت أنه من «المحاسيب» الذين يعينون لا ليعملوا ولكن ليرتزقوا …
ودخل كهل هادئ الحركة فقصد أحد القماطر، ورفع صاحبه رأسه فتجهم وتكره إذ رآه، مع أن القادم كان يبسم له ويظهر الاحترام ويختار أرق الكلام؛ ولكن سرعان ما ارتفع صوت هذا القادم وهو يقسم بالله العظيم ثلاثًا، ويهز سبابته كما يفعل الخطيب أنه جاء من أجل مسألته ما لا يقل عن ثلاثين مرة، ولا يدري ما يعمل بعد ذلك، وبلغ به التحمس أن أعلن أنه ذاهب من فوره إلى المدير، وقالها بلهجة من ينذر بالموت كأن الذهاب إلى المدير عنده فيه القضاء على الموظف المسكين، وخرج من الحجرة، وما استدار ليخرج حتى أخرج له ذلك الموظف لسانه، وضحك هو وزملاؤه ملء أشداقهم …
ولم يكد يبتعد خطوة حتى دخل شاب يمسح العرق عن جبينه وصفحة وجهه بمنديله، ودنا من موظف آخر وسأله لعله يذكر موضوعه، فقال له في دماثة متكلفة، وهو يكتم ضحكه: «أيوه يا سعادة البيه، مر علينا بعد ثلاثة أيام تجد كل شيء على ما يرام.» وتحمس سعادة البك تحمسًا صامتًا تجلى في احمرار وجهه، وإرساله الزفرات وانصرف ليمر بعد ثلاثة أيام؛ وتفكه الموظفون بالسخرية من سعادته والتهكم عليه.
ودخل ثالث فسأل أحدهم عن أمر فقال له: «عند فتحي أفندي في الحسابات.» فخرج ثم عاد بعد قليل ليقول: إن فتحي أفندي لا علم له بالأمر فقال له: «اترك لي المسألة ومر بعد يومين أو ثلاثة تجدها خالصة.» ففكر صاحبنا في الأمر قليلًا ثم بدا له فتحمس وصاح قائلًا: «ما هذا؟ أديوان حكومة هو أم دكان؟» ودق القمطر بيده قائلًا إنه ذاهب إلى المدير، وانطلق والتحمس ملء بدنه، وتحمس الموظفون في الضحك منه …
ودخل رابع تبدو عليه الرزانة والتؤدة، فسأل عن عبد المنعم أفندي من يكون فدله أحدهم عليه، فمشى إليه في عسر بين القماطر، وأخرج علبة سكائره ومد بها إليه يده وألح حتى تناول واحدة، ثم كلمه في صوت خافت فتظاهر أنه يفكر، ثم قال: مر غدًا فإن عمر أفندي غائب وهو الذي عنده مسألتك، فقال: لقد جئت مرتين وعملي في حضن الجبل وأنا قادم هذه المرة في «تاكسي»، وهو عند الباب يدور عداده فهلا صنعت معروفًا فأعنتني؟ فأجابه لا يمكن حتى يحضر عمر أفندي، وانصرف عنه إلى أوراقه، فهزَّ صاحب «التاكسي» رأسه مرات وتنهد ثم قال وقد انقلب هدوءه ثورة، وإنه ليدق القمطر بيده دقاتٍ عنيفة: ما هذا، مرة عمر أفندي في البنك ومرة عند المدير ومرة في إجازة … هذا لعب ومسخرة وقلة ذوق … وبدا التحمس في جميع حركاته وإشاراته … وانطلق من الحجرة يتوعد ويتهدد.
وجاء الخادم يطلب عبد المنعم أفندي لمقابلة المدير، فذهب إليه ثم عاد بعد دقيقة، ففتش في قمطر عمر أفندي وأخذ منه أوراقًا، وخرج ثم رجع بعد قليل يقوله لزملائه: «خلصنا منه يا سيدي، وأمضي المدير أوراقه وبلاش غلبة ونفخة كدابة.»
ودخل بعد لحظة شيخ معمم ذو لحية فحيا بتحية الإسلام ثم ضم أطراف جبته بيده، ومضى إلى أحدهم ينفذ في عسر بين القماطر، فقال له: هل وجدت الورق؟ فقال: لا زلت أبحث عنه، وما كاد ينطق بهذا حتى صرخ الشيخ قائلًا: ما هذا؟ حتى متى تسخر من ذقني هذه يا ولد؟ ونهض الأفندي مغضبًا يدق القمطر بقبضته ويقول: عيب يا سيدنا الشيخ لولا أنك كوالدي …
ودق الشيخ بقبضته قائلًا: العيب أن تكذب وأن تضيع الأوراق وتستخف بمصالح الناس وأوقاتهم، وعاد الموظف يدق بيده دقات ويقول: عيب يا سيدنا الشيخ، والشيخ يعقب كل دقة منه بدقة من قبضته القوية حتى أيقنت أن القمطر لا شك متحطم؛ ولكني لم أحفل بالقمطر وإنما خشيت أن تنقلب الدقات لكلمات أو لطمات، فقد بلغ تحمس الشيخ أقصاه، وجحظت عيناه واصفر وجهه ودنا من الفتى ولولا أن سحبه إخوانه سحبًا من وجه الشيخ لأهوى عليه بكلتا يديه؛ وخرج الشيخ وهو يستنزل خيبة الله عليه وعلى زملائه أجمعين!
وساد في الحجرة الصمت لحظة، ولم يفطن الموظفون إلى وجودي إلا وهم في هذه الحال من الخزي والغم، فسألني أحدهم ما طلبي، فأشرت إلى مكتب عمر أفندي، فقال: إنه لن يحضر اليوم؛ ومعنى ذلك أن أنصرف فنهضت للخروج وإني لأقسم للقارئ بمحرجات الأيمان غير متحمس، أني ذهبت إلى تلك الحجرة من أجل مسألتي أكثر من خمسين مرة في مدة سنتين، وقضاؤها والله لا يستغرق ساعة؛ ولم أستدر عند الخروج، بل خرجت بظهري مخافة أن يسروا عن صاحبهم بحركة منهم يكون فيها الزراية عليَّ …
وبعد فهل نعيش حتى نرى دواويننا تتميز ولو بشيء قليل من النظام والسرعة من مصاطب العمد و«وكالات» البلح والصابون، وسوق العصر و«مولد» المحمدي و«تكايا» الأوقاف؟ وحتى نراها تخلو من «تنابلة» السلطان أو مرتزقة «الميري»؟ يومئذ فقط نضع أقدامنا على أول الطريق المؤدية بنا إلى المدنية …