ذات صباح …
أوشكت أن تنشق على الأفق الشرقي كله الصباح الوردية عن جبين الشمس، وأنا جالس في مصلى على حافة ترعة كانت تفهق بذلك الفيض الحبشي الذي حمله النيل من هضبات وادينا الحبيب؛ وكانت تحجبني عن الطريق العريض على الضفة الأخرى للترعة أغصان الصفصاف المتهدلة، التي تمس الماء فتبدو كأنما تحنو على هذا النضار الغالي، وجلست بحيث أتبين المارة في يسر من خلال الصفصاف الحاني، ولا يكاد يتبينني أحد إلا في مشقة …
ورحت أرقب طلوع الشمس على الأفق، ولعلي إنما طلبت الفضاء في السماء حيث غطت الفضاء على الأرض عيدان الذرة، وقد استطالت واستغلظت على سوقها وأخرجت سنابلها، وعيدان القطن وقد طالت فروعها وتدلت زهراتها، فلم يبق أمام ناظري على الأرض إلا ذلك الطريق القريب على الضفة الأخرى للترعة، تتقاطر فيه أسراب الصبايا عائدات بجرارهن من الترعة الكبيرة في هذه البكرية الرخية، خفيفات تتماوج قدودهن الممشوقة الناهدة تحت الجرار الثقيلة الطافحة بالفرات العذب الذي يجري به النيل …
وجاءت فتاتان فآثرتا أن تملآ جرتيهما على مقربة من المصلى، فكنت أراهما من حيث لا ترياني، أما إحداهما فلما لبثت أن عرفتها فهي بهيجة بعينها! بهيجة تلك البنية الريفية التي ما كنت ألقاها وهي بين العاشرة والثانية عشرة إلا استوقفتها وضاحكتها، والتي كنت أحدث نفسي يومئذ بما سوف يكون لها من فتنة وسحر …
وها هي ذي في الثامنة عشرة أو فوقها قليلًا، شمس يضيء جبينها الأبلج كما تضيء شمس الأفق، قد أفرغت فيها الطبيعة الريفية سحرها إفراغًا كما يصنع الفنان بدميته، حين يريد أن يبلغ بها منتهى قدرته، وملأت ناظري من خصرها الدقيق وردفها المليء وصدرها الناهد؛ وشمرت عن ساعديها وكشفت عن ساقيها لتنزل على حجر في الماء، فما حسبت ساقيها وذراعيها لولا تحركها، وتثنيها إلا صنعة فنان بالغ في تسوية مرمره ليتحدى به الطبيعة. أما وجهها فما تغني اللغة عنه، فلن يُتصور جماله إلا أن يُرى …
أما صاحبتها فسمراء لعوب في وجهها وفي هيكلها وفي حديثها ما نسميه خفة الروح، وهي لا تفتأ تضحك وتداعب رفيقتها ولا تزيد بهيجة على أن تبتسم ابتسامة طفيفة لا تلبث أن تنطفئ …
وحيرني هذا الهم في وجه بهيجة، فعلى فمها الدقيق وفي عينيها الواسعتين الزرقاوين الطويلتي الهدب، خيال الألم والحزن الدفين وفي خديها شيء من الشحوب، لولا تلك الحمرة الشديدة التي تمتاز بها صفحة هذا الوجه …
وقالت فاطمة — وهذا اسم صاحبتها كما تبينت — تحدث بهيجة، وهي فوق الحجر يغطي الماء ما فوق خلخالها قليلًا: أأدفعك يا بهيجة في الماء فتغرقين وتلتهمك الجنية؟ وقالت بهيجة: ليتني أغرق فلن ينجيني إلا الموت! ألا ليتني أتزوج الموت نفسه!
وعجبت مما أسمع وازددت تطلعًا إلى معرفة ما يحزنها، فما أشد ما يؤلم النفس مرأى الجمال الحزين، وأنصت إلى فاطمة وقد ألقي في روعي أنها سوف تكشف هذا السر …
وقالت فاطمة، وقد خرجت صاحبتها من الماء بعد أن ملأت الجرتين، وجلست مستندة إلى جذع شجرة: فيم هذا الهم يا أختاه وغدًا ليلة الحناء؟
وحاولت بهيجة أن تبتسم، فما افتر ثغرها الجميل حتى انطبق، وامتلأت مقلتاها الساحرتان بالدمع، وتساتل الدمع فجرى فوق خديها، ثم دفنت وجهها في كفيها وأجهشت إجهاشة كادت تطلق الدمع من عيني … وما أيسر ما ينطلق دمعي فلا أمسكه إلا بجهد …
وأمسكت فاطمة عن الضحك وراحت تهدهد صاحبتها، وتقول: لعل الخير فيما تكرهين، وما عيب حسن وهو ابن الجمل والناقة، في بيته الخير وزوجات إخوته من أحسن البيوت، وإن لم يكن جميلات، وسوف تكونين أنت زينة الدار … وبأي شيء يمتاز إبراهيم عنه؟ وكيف تقوى الواحدة منا على مخالفة أبيها؟ رأى أبوك أن يزوجك من حسن فهل تعصينه؟ وما جدوى البكاء وقد صرت في عصمته؟
وأثار كلام فاطمة حزنها كله فاسترسلت في بكائها، وصحب هذا البكاء أنين متقطع، كأنما كان ما ألقي في سمعها من كلام طعنات خنجر شاعت في جسمها كله ففي كل موضع منه طعنة … ونظرت في وجه فاطمة تحسب أنها من أعدائها، ورأيت في وجهها كأنها تريد أن تري فاطمة ما تعتزم من عصيان …
ولمحتني فاطمة من خلال الصفصاف، فغمزت صاحبتها وهمست في أذنها، ومسحت بهيجة عينيها بذيل ثوبها الأبيض الذي سحبته من تحت ردائها الخارجي الأسود، وأصلحت الفتاتان حويتيهما ووضعتاهما على رأسيهما ومر رجل فأعانهما على حمل جرتيهما وانطلقتا صوب القرية …
ولاحظت على بهيجة أنها لا تكاد تقوى على حمل جرتها، فكانت خطوتها أثقل من خطوات صاحبتها، وكان عودها اللدن يتثنى من إعياء لا من عجب تحت جرتها الثقيلة، وما زلت أتبعها بنظراتي حتى غيبتها عني في منعطف عيدان الذرة …
وبقيتُ ساعة يكرب نفسي ما يحزن بهيجة، كما تُكدر خاطري طيوف منكرة سوداء من السم والحريق والقتل، وإتلاف الزرع من جرائم الريف يمثلها لي هذا السبب الذي سمعته بأذني؛ وطاف برأسي الطلاق والنفقة والهجر والخصام، وبيت الطاعة والمعارك بين الأسر، بله ما روعني من صورة الخيانة والفجور وغيرها من أفعال الظلام، وما تجره في أعقابها من شر وانتقام، كل أولئك مثلته لي ثورة بهيجة …