زهرة وزهرة …
جلست أنتظر في حجرة مدير المكتب حتى يأتي دوري، فيؤذن لي بالدخول على كبير من أصحاب الديوان في إحدى الوزارات، وكانت الحجرة ملأى بالمنتظرين مثلي؛ وكلما رن الجرس وأسرع المدير إلى الحجرة المهيبة وخرج منها، تأهب كل امرئ يحسب أن الإذن له، فيشير المدير إلى من يعرف، وينادي اسم من لا يعرف، فيصلح الداخل حلته ويزرها ويعدل رباط رقبته، وقد ينزع طربوشه ويمسحه بمنديله أو بطرف ردنه، ويضعه على رأسه في اهتمام، ويدق الباب في احتشام، ويدخل ثم يخرج بعد حين وعلى وجهه غبَرة أو ابتسامة … وكان يقع منظاري على هؤلاء، وأنا أحمد الله أن لم تكن بي حاجة إلى هذا الكبير، فما جئت إلا لأقدم إليه «كتابي» …
ودخل أكثر من بالحجرة وخرجوا، وبقيت سيدة على أحد المقاعد، حيث وقع نظري عليها منذ دخلت هذه الحجرة … سيدة هي الحزن نفسه تمثل إنسية في ثياب الحداد!
كنت أنظر إلى وجهها الضارع فتغمز على قلبي وعلى كبدي هذه اللوعة الناطقة فيه، وكانت تدور طرحة سوداء بهذا الوجه، وهو في لون العاج المصفار، فتزيد بياض صفحته وتبرز معنى الثكل فيه … وكانت هذه السيدة الحزينة تنظر دائمًا إلى الأرض، فلا تكاد ترفع بصرها حتى ترده إلى حيث كان في ضراعة وتخشع، وكم كان يحزن نفسي ما أراه من حمرة في جفونها، كلما التقى بصري بعينيها الواسعتين الهادئتين، اللتين أطفأ الحزن والسقم ما كان فيهما من بريق!
وكانت هذه الزهرة الذابلة رائعة الحسن على الرغم من لوعتها وضراعتها، تروعك ملاحة وجهها بقدر ما يروعك حزنها … وهكذا جعل الحزن روعتها روعتين، وجعل ما يحسه القلب حيالها من لوعة كأنما يذوقها مرتين!
وكانت شابة لا تزيد على الثلاثين فيما أحسب، وفهمت أنها أرملة كبير من أصحاب هذا الديوان، فعجبت كيف يدعها موظفو المكتب حيث هي فلا يعينونها على ما جاءت له من أمر، ولو لم يكن زوجها من أصحاب هذا الديوان من قبل، لكان لها من هذا الحزن الضارع أكبر شفيع … بل لكان لها من مجيئها ولم تخلع ثوب الحداد بعد، ما هو خليق أن يلين لها القلوب ولو كانت من الصخر …
ولكن … فيم العجب، ولو أن زوجها نفسه قد أحيل على المعاش، كما يقول أصحاب الديوان، وجاء بعد يوم واحد إلى نفس الديوان، لتنكر له من كانوا من قبل يرجون مودته، ولحياه من يحييه، وكأنما يريد أن يفهمه أنه يتفضل عليه بهذه التحية، فكيف وقد طواه الموت؟!
بهذا حدثتني نفسي وأنا أنظر إلى هذه التي يغطي السواد جسدها كله، فلا يُرى إلا وجهها ويداها، والتي كنت أتخيل أن ما يطرأ على خاطري من هذه المعاني هو عين ما كان يطرأ على خاطرها في تلك اللحظة …
ودخلت بعد حين غانية أخرى في زينتها ودلها وألوانها، تخطو خطوات رشيقة سريعة، وتتثنى وتتخلج كأنما تمشي لا برجليها وحدهما، وإنما بهيكلها كله، وقد فاح في الحجرة عطورها، وارتفع بالتحية صوتها، وهي تقول إنها تريد أن تقابل سعادة البك.
… وجلست هذه الزهرة الناضرة، وقد هش لها مدير المكتب، وأقبل عليها يحدثها حتى ما كان يعي تحيات القادمين ولا نداء الموظفين، ولا يفطن إلى ما يلقونه إليه من أوراق! … حتى الجرس نفسه — جرس الرئيس المهيب — كان يتوانى في إجابته، ثم يهرول ليعود بعد لحظة يصور لمحدثته مبلغ ما لدى رئيسه من أوارق ينظر فيها؛ وذلك كي يجعل له عليها فضل الحصول على الإذن …
ودخل الحجرة بعض الخبثاء من الموظفين يتظاهرون أنهم قدموا لعمل … فكانت تناديهم بأسمائهم، فيسرعون إليها فتسأل الواحد منهم عما تمَّ في مسألتها … فيحدثها في تظرف واهتمام، ويصف لها مقدار ما يبذل من جهد وعناية في هذا الأمر، وهي تخرج الكلام من فمها تارة ومن أنفها تارة، ولا تكاد تستقر في موضعها وتتهددهم ضاحكة أنها سوف تشكوهم إلى سعادة البك، وأنهم ليؤكدون لها في ميوعة وخبث أنهم «في الخدمة»، وأن «الهانم» لن تعود بعد يومين إلا وقد انتهى كل شيء … وتنظر إلى هذا فتقول: يا لئيم! وإلى ذلك فتقول: يا نصاب! وإلى ثالثهم فتقول: يا مكير! وتغمز بعينيها وتضحك … ويتكلمون بالأحداق، أو يتغامزون بالأيدي، وينصرفون ليقولوا خارج الحجرة ما يشاءون!
وتنظر المحزونة إليها فيتضاعف حزنها، وإن صاحب القلب المحزون ليعرف أقصى حزنه حين يجد نفسه وحده بين قوم لاهين ضاحكين! وأنظر إلى هذه الثكلى لا يُعنى بها أحد، ولا يفكر في أمرها أحد، فتشمئز نفسي من لؤم هذه الحياة!
ورن الجرس، فخف المدير إلى حجرة رئيسه، ثم عاد يشير إلى صاحبته لتدخل، ومشت إلى الباب في خفة كأنما تريد أن تجري، ورائحة عطرها تملأ الخياشيم … ونظرتُ إلى تلك الزهرة التي لا يفوح منها عطر، فإذا حمرة تورِّدُ هذا العاج المصفار في وجهها هي حمرة الغضب، وإذا بجفونها المقروحة تتندى، وإذا بها تمسك دموعها في جهد!
وتمشي إلى مكتب المدير في أناة وخشوع، وتقول له في صوت مختنق متهدج … إنها تعتذر إذ لا تستطيع البقاء، فما يزيد على أن يقول لها في سماجة: «على كيفك يا ستي … الناس لسه منتظرين كلهم أهم … وأنا أعمل إيه؟»
وانصرفت المسكينة فما بلغت الباب حتى انهمرت دموعها، فمسحت عينيها بمنديلها، وما في الحجرة ممن ينتظرون الإذن إلا من تحرك قلبه شفقة عليها ورثاءً لها!
ولا أريد أن أذكر للقارئ متى جاء دوري أنا «المؤلف الفاضل»، أحد حملة القلم المتواضعين الذي ما جئت أرجو في شيء، والذي يعرفني منذ سنوات هذا الكبير الذي لا تخلو من أمثاله وأمثال مديره أكثر الدواوين!