عُجُولٌ وأَنَاسِيُّ …!
– يا شيخ … يا معلم، صلِّ عا النبي!
– أصلي عا النبي إيه … اسكت يا عم خليك في حالك …!
صاح بالعبارة الأولى رجل في المدخل الشمالي لميدان السيدة زينب، ينادي بها فظًّا غليظ القلب من بني آدم كان بالليل يسوق أمامه عددًا من العجول الصغيرة قد سلكها جميعًا في حبل، وصار يدفعها بإحدى يديه في غير هوادة إلى حيث تذبح، ويهوي على أجسامها لا يبالي أين يقع ضربه بحبل غليظ معقد كلما أبطأت، أو على الأصح كلما جَهِدَتْ وتقطعت أنفاسها فاضطرها الإعياء والكلال إلى الإبطاء …
ورد ذلك الفظ في غلظة ووحشية يطلب إلى من يسأله الرفق أن يبقى في حاله فلا يتدخل في شأنه؛ وما ملك هذا إلا أن يحوقل ويستغفر الله ويستعيذ به، ويركن بعد لسانه إلى أضعف الإيمان!
ونظرت فإذا بذلك الغليظ الفظ يزيد الضرب بحبله على أجسام هاتيك العجول الجاهدة، ويزيدها دفعًا ولكمًا؛ ووقع أحدها على الأرض فجذب الصف كله وجذبه الصف فانقلب على ظهره، وزعق زعقة مثلت لي ألمه بصورة لم يكن ليمثلها لي كلامه لو أنه تكلم! … زعقة أشبه بزعقة الآدمي يبتعثها منه الألم وفمه مزموم، فهي بين حنجرته وخيشومه … وكأنما يقول العجل الصغير: آه … وخُيِّل إليَّ كأنما يدعو العجلُ ضاربه أن يصلي على النبي! وأهوى الغليظ الجلف بحبله المعقد على العجل المسكين وحده، وقد تمدد على جنبه وهو يحاول أن يضع صدغه على الأرض، فتجذبه العجول وقد اضطرب نظامها، وإن جسده كله لينتفخ ويهبط في سرعة من فرط ما يلهث، وإنه ليحاول النهوض من ألم الضرب فما يزيد على أن يبسط أرجله ويثنيها في الهواء تارة، وعلى الأسفلت الجامد جمود قلب هذا الغليظ تارة أخرى … ثم جذبه الجلف من إحدى أذنيه ومن ذيله جذبة قوية وركله ركلة شديدة، فوقف على رجليه يلهث، ومشى مع بقية العجول، وصاحبه الفظ يمسك بذيله مخافة أن يقع ثانية على الأرض …!
وتحرك قلبي لما رأيت، ولكنني لم أستطع أن أصنع شيئًا، ولا يعيبن القارئ عليَّ أضعف الإيمان، فالرجل غليظ وحبله أغلظ، وما تعلمت الملاكمة، أو كانت لي حتى بمخاطبة الغلاظ الجهال طاقة … ولم يكن على مقربة مني شرطي أستعينه … شرطي؟ والله لو وُجد لسخر مني أن أدعوه إلى مؤاخذة الرجل على صنعه، ولظن بعقلي الظنون …
وأعيذك أيها القارئ أن تعجب أن يتحرك قلبي لمثل هذا المنظر، فما أحب إلا أن تكون رفيقًا، وإذا أنت ترفقت بالعجول كنت حريًّا أن تترفق ببني آدم … ولقد تداعى لهذا المنظر الأليم في ذهني معنى … بل معان … فكم من الآدميين من يرتبطون هكذا على خسف، ويسقطون من كلال وإعياء، وعلى جنوبهم وظهورهم تهوي أيد خفية بما هو أقسى من الحبل المعقد الغليظ … أجل كم من آدمي في الأصفاد والأغلال، وإن لم تعض بساقيه سلسلة، أو يخنق عنقه غُل … كم من البشر من يساقون كما تساق هذه العجول ليكدحوا في لظى الصيف، وفي زمهرير الشتاء؛ كي يسعد فريق مثلهم من بني آدم بطيبات الحياة، وأي فرق لعمري بين هذا وبين الرق؟!
آهٍ لقلبي … وأفٍّ لمنظاري … يا عجبًا! ما أسرع ما تمثل لي هذا المعنى الذي طاف بخاطري، فإذا هو صورة مجسدة تدب على الأرض، فها هو ذا عسكري غليظ شديد يسوق أمامه رهطًا من الغلمان، قد ربط ذيل هذا في ذيل ذاك، أو يد هذا في يد جاره، إن لم يكن لهما ذيلان يربطان، وقد التقطهم جميعًا من الشارع، وكان ذلك في نفس الميدان من مدخله الجنوبي، ولا بد أن قطيع العجول قد مر برهط الصبية قبل أن تقع عيني عليهم بدقيقتين أو ثلاث!
وأخذ العسكري الغليظ الفظيع يهوي بكفه الثقيلة المعقدة بما يتحلى به من خواتم غليظة، على قفا هذا الصبي الهزيل مرة، وعلى قفا ذاك المريض النحيل مرة، والويل لمن يلتفت وراءه من الصبية؛ وكان هؤلاء المساكين كلما سمعوا وقع الكف الثقيلة المعقدة على قفا أحدهم، رفعوا أكتافهم ونزلوا برءوسهم ليخفوا أقفيتهم، والرعب ملء جسومهم وحسبهم ما هم فيه من جوع وعري ومرض وشقاء …
ولم أُطِقْ صبرًا فدنوت من هذا العسكري العاتي، فليس في يده حبل أخاف منه، وإنه لحري أن يغره تدخلي وجرأتي فيحسبني من رجال النيابة مثلًا أو من أولي الجاه على أي حال، وقلت في لهجة الآمر لا في لهجة المستفهم: «لا تضرب هؤلاء المساكين يا شاويش.»
وصدق ظني فقد رفع العسكري يده إلى رأسه بالتحية، وراح يفهمني أن هؤلاء هم سارقو الجيوب وخاطفو الحلي … و… و… فقاطعته وأنا أوهمه أني أحفظ رقمه قائلًا: «لا تضربهم مرة ثانية.» ونظر إليَّ هؤلاء المساكين وقرأت في كل وجه من وجوههم الشاحبة معنى هو أسمى من أن أصفه بالشكر … ووقعت نظراتهم من نفسي موقعًا لن ينهض لتصويره أبلغ الكلام …
وتدخل شاب حاسر الرأس عليه حلة أنيقة وتحت إبطه مجلات وكتب، فخاطب الشرطي في عنف قائلًا: «ألك أولاد يا شاويش؟ أترضى أن يعامل أولادك هذه المعاملة؟» ثم أدار إليَّ الحديث قائلًا: «ومع ذلك فنحن كما نزعم أمة متمدنة … في أي بلد متمدن يوجد مثل هؤلاء المساكين في الشوارع على هذه الصورة؟ وأين ما نسمع عنه من أسماء المبرات وجمعيات الإحسان والخير؟ … لقد مر بي منذ لحظة قطيع من العجول يدفعه فلاح عات كما يدفع هذا الشرطي الصبية، فاشمأزت نفسي لذلك المنظر وتكدر خاطري، ثم ما لبثت أن رأيت هؤلاء المساكين … ألا إن بيننا وبين الرقي أجيالًا وأجيالًا، وإنما تخدعنا العمارات الضخمة والسيارات الفخمة والعواصم الكبيرة.»
وانطلق الشاب وقد غاب عن بصره وبصري الشرطي والغلمان، وقلت لنفسي: ما أوسع الفرق بين مصير العجول ومصير الصبية، فإنما تساق هذه العجول إلى حيث تريحها سكين الجزار، ويساق هؤلاء الصبية إلى حيث ينتظرهم العذاب الأليم!