من الفأس إلى السلاح
خففت إلى القرية منذ بضعة أيام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يومًا أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حق ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.
وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصيل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف، وأخذت عيناي من بعد شخصًا قادمًا في زي «الأفندية»، فلما صار بحيث أتبينه، رأيته في زي «الجند» وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام مبتسمًا ورفع يده إلى رأسه محييًا بالتحية التي تعلمها في الميدان … وعجب إذ نهضت واقفًا له، وإذ مددت إليه يدي أصافحه في اهتمام ثم جلس على حافة المصلى.
هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا، الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه من حب عف شديد، والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه … ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله: «آه … ياما جرى لك يا قلبي.»
واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم، ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصًا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلًا، فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.
ولمحت في عينيه شيئًا من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن هذا المصلى مكان انتظاره من يهواها قلبه، وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعبًا ممازحًا، فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل … ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، كما تبينت في صفحة وجهه، فوجم برهة، وأدركت أنه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.
ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشى وجهه والخجل يتزايد في عينيه، فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فاضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها … وبدا لي فناديتها حين مرت، فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدتُ، فوقفت، ثم تغاضبتُ فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وهي تتلفت مخافة الرقيب، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل، وملء بدنها الاضطراب والنشوة والدهشة.
وانعقد لسان الجندي فلم يدر ماذا يقول، «فأنقذت الموقف» أنا بامتداحي حياة الجندية وبثنائي في عبارة سهلة يفهمانها على أولئك البواسل الذين يفتدون بلادهم بأرواحهم … ولمعت عينا الجندي الشاب، ثم تندت بدموع الفرح مقلتاه وأنسته الحماسة خجله فقال وهو الذي كان يحمل الفأس بالأمس إنه يفدي بلاده بدمه إذا لزم الفداء … ونظرت إليه الفتاة نظرة عاجلة لم أر فيها إلا معاني الإعجاب والارتياح، ونهضت قائلًا: إني أتركهما برهة ليقولا ما بنفسيها.
وعدت إذ رأيته يضع على رأسها الجرة، وواجهتني ذاهبة صوب القرية، فإذا هي مستبشرة راضية تكتم ضحكتها وفي وجهها شيء من الحياء يخالطه شيء من التصنع؛ ودنوت من ذلك الجندي أسأله لم لا يصف ذلك في موال من مواويله، وهو ذلك الشاعر الذي ما عي لسانه في موقف … ولكنه لم ينطق بموال حينذاك، وإنما راح يتكلم عن حب الوطن وعن معاني الفداء والبطولة، ولشد ما أعجبني قوله: «الواحد منا ما يستهلش خير بلاده إذا ما دفعش عنها بدمه، والراجل إيه فائدة عافيته وشبابه؟ يا ترى يقعد زي البنت؟» وأكد لي أنه لا يأسف على فراق قريته في سبيل وطنه، وتلعثم ثم قال: إن حب بلاده فوق كل حب!
واستأذن الجندي الفلاح فوقفت أصافحه في حماسة وشيعته بنظرات الإكبار وهو يمشي مشية متزنة سريعة، وعجبت كيف تغير الجندية عقلية هؤلاء الفلاحين بمثل هذه السرعة، وأثلج صدري أن أرى في ذلك الفتى المتحمس الدليل الحي على صحة ما يقوم أبدًا في نفسي، من أن هذا الذي يجيل الفأس في تربة وادينا الوديع الهادئ كفيل بأن يدير في يده السلاح بنفس المهارة إذا هو قلد السلاح … ومن أين جاءت جنود تحتمس ورمسيس وإبراهيم؟ وكم بين هؤلاء السذج زرق الجلابيب من قادة أمجاد وعلماء أفذاذ وشعراء فطاحل وساسه أمائل، ولكنهم تركوا في غمار الجهل والفاقة لا يعلمون إلا أن يجيلوا الفأس في ثرى الوادي في صمت وصبر جاهدين.