عرفان الجميل
نهضت للقائه وقد أقبل عليَّ هاشًّا محييًا، وصافحته شاكرًا له تحيته مجيبًا عليها بأحسن منها، وجلست وجلس وهو يحمد الظروف التي جمعت بيننا في القرية على غير انتظار.
وكان يعلم أني لا تتاح لي فرصة للمجيء إلى القرية إلا اغتنمتها، فمال بالحديث إلى ذلك المعنى، وأخذ يبدئ ويعيد في بيان مبلغ كراهته للقرية، وهو لن يرى أبلغ من أن يقول إنه يكرهها اليوم بقدر ما أحبها بالأمس، وإنما يجيء إليها مضطرًّا في بعض عمله ثم يغادرها أسرع ما يستطيع.
ولما كنت أفهم العلة الحقيقية لتلك الكراهية لم أشأ أن أناقشه فيما أبداه غيرها من العلل الزائفة، بل لقد ثقل عليَّ كلامه، وأنكرت ما يفيض به من تكلف سخيف وما ينطوي عليه من خبث بغيض.
ورأيته يبالغ في الحذر على ملابسه أن يعلق بها التراب، فهو لذلك يمسحه عنها بمديله بين آونة وأخرى لا يمل ذلك ولا يفتر عنه؛ وكيف يطيق أن يرى الغبار على حلته «الإفرنجية»، وإنه ليزهى أكبر الزهو بأن يخطر فيها على أعين الناس في القرية يذكرهم بها كيف أنه أصبح ذلك «الأفندي» الوجيه الذي لا يقل في وجاهته وعظمته شأنًا عن سراة القرية، ولعل هذا المظهر الذي تبتهج له نفسه هو وحده الذي يجعله يطيق البقاء يومًا أو بعض يوم في تلك القرية.
وقطع علينا الحديث قدوم شيخ أربى فيما قدرت على الستين يتوكأ على عصًا غليظة، ويكاد من الضغف لا تقوى على حمله رجلاه، ولم يكن ذلك الشيخ المتهدم إلا والد ذلك الأفندي الوجيه، ونهضت أستقبله مظهرًا له حفاوتي به، وعجبت أن أرى ابنه يقف متثاقلًا متباطئًا، وأسند الرجل عصاه إلى أحد المقاعد وأراد أن يجلس على الأرض، فأمسكت بيده وأجلسته بعد إلحاح على المقعد.
وأطرق الرجل لحظة، ولكني تبينت في عينيه كلامًا؛ وفطنت إلى أنه يرتاح لوجود ابنه معي في تلك الآونة إذ يستطيع أن يسمعه ما يريد ويشهدني على قوله ويبثني شكواه؛ وزدت وثوقًا من ذلك بما رأيته من اضطراب وغيظ على ملامح ابنه الوجيه.
وتنهد الرجل تنهدة طويلة ثم انطلق يتحدث ولم يكن حديثه إلى شكاة مرة موجعة من هذا الذي أنفق عليه الرجل ماله جميعًا، حتى صار إلى ما صار إليه، وذكر لي فيما ذكر والدموع تبلل لحيته البيضاء، أنه ذهب إلى بيت ابنه في المدينة، فأنكر الابن وجوده هناك، فذهب أبوه يطلبه في مقر عمله فدله عليه بعض الخدم، فانتحى به الابن جانبًا هو يحاول كتمان غيظه ثم صرفه بعد دقائق، فما كان الرجل يبلغ عتبة الحجرة حتى سمع ابنه يقول لزملائه ضاحكًا: إن هذا الرجل كان فيما قبل زارعًا أجيرًا عند أسرته، وإنه يطلب إحسانًا … وخنقته العبرات لحظة ثم عاد إلى حديثه يسألني. هل يكون ذلك نتيجة التربية؟ وهل يكون جزاؤه على بيع ما كان يملك في تعليم ابنه أن يقابله بما بقابله به؟ والتفت أطلب الجواب من الوجيه المتعلم الذي يكره القرية وحياة القرية، فهالني ما سمعته من عبارات فاجرة أخذ يوجهها إلى الذي كان سببًا في نعمته، دون أن يستحي، وكانت أقل تهمة ألصقها بأبيه أنه قد صار شيخًا خرفًا لا يؤاخذ.
وبلغ بي الغيظ كل مبلغ ولولا أدب الضيافة لصرفت هذا المتبجح السمج من مجلسي في غلظة، ونصحت للرجل من فرط غضبي، وليتخذني شاهدًا، أن يرفع إلى القضاء دعواه، فنظر إليَّ نظرة شكر ولكنه قال: «يا بني نضحك علينا البلد ونسمع بنا الناس؟ لا، أنا عندي أموت من الجوع ولا يقول الناس إن ابني ناكر للجميل.»
وأخذت أسري عن الرجل بما أستطيع من الكلام وقد عزني في هذا الموقف الكلام، كل ذلك وابنه صامت كأنه جماد لا يتكلم ولا ينصرف على الرغم من عنفي عليه، ثم وعدت الشيخ أني سأبذل قصارى جهدي من أجل راحته وودعته مواسيًا مشفقًا.
وهم ابنه بالانصراف بعده فمددت إليه يدي على كره مني، وجلست وأنا أقول: أيكون بعد ذلك غريبًا أن نجهل القرى وحياة ساكني القرى، وأن نظل وكأننا بما بيننا وبين هؤلاء المساكين من قطيعة شعبان يعيش أحدهما من كد الآخر؟ وإذا كان هذا شأن بعض الأبناء مع الآباء، فكيف تكون الحال فيمن لا تربطهم بأولئك المساكين بنوة أو قرابة؟