القاهرة ليلة الجمعة!
أحب الطواف بأنحاء العاصمة ليلة الجمعة من كل أسبوع، فأسير أينما اتجهت بي قدماي لا أدري متى أقف ولا من أي طريق أعود، ولقد أقصد أحيانًا إلي حيث تقوم دور الملاهي، وأنا لسوء حظي أو لحسنه — حسبما يرى القارئ — أجدني أبدًا غريبًا في ذلك الحي، بل إني في الواقع غريب في المدينة كلها على الرغم من أني قضيت فيها من عمري سنين!
وعين الغريب كثيرًا ما ترى ما لا تراه الأعين التي ألفت ما تقع عليه، ولعل هذا هو الذي يحبب إلي ذلك الطواف الطويل، ولقد كانت آخر مرة طفت فيها بذلك الحي ليلة الجمعة الماضية … على أني وددت ليلتئذ لو أن قدمي سارتا بي إلى مكان غير ذلك المكان، فلقد كنت أحس شيئًا من الهم على الرغم من أن جيبي كان لا يزال عامرًا بمرتبي الذي تناولته قبلها بيوم، وخشيت أن يؤثر ذلك الهم في تصوير ما تقع عليه عيناي.
ووقع ما خشيته فأنا أرى كل شيء بقلبي لا بعيني، فها هي ذي مناظر شاهدت مثلها كثيرًا، ولكنها تزيدني همًّا على هم.
هذه «شلة» من الرفاق أنستهم جيوبهم التي أحسب أنها كانت لا تزال عامرة مثل جيبي، وأنساهم شبابهم ما يجدر من الاحتشام بأمثالهم من «الأفندية»، فأخذوا يتصايحون ويهوشون وينادي الواحد منهم صاحبه بأفظع ما يتصور من عبارات السباب، كأنما راحوا يتنافسون في فحش القول … ولمحني أحدهم وهو يعرفني، وقد عرفته من قبل وقورًا هادئًا فاندس من الخجل واختفى في أصحابه.
ودرت بعيني، ولكنهما وقعتا على قوم آخرين أراهم أجدر من سالفيهم بالوقار والتحشم، فإن ذلك مما تقضي به على الأقل طرابيشهم «الميري» وسراويلهم التي تزينها الأشرطة الحمر المهيبة، ولكنهم كانوا أكثر من السابقين تهريجًا وتبذلًا، ولا عجب فهم فرحون مزهوون بهذه الملابس التي باتوا يخطرون فيها على أعين الناس.
ولكم كنت أضيق بهم حينما كانوا يزحمون الغادين والرائحين، وعلى الأخص الغاديات والرائحات …
والتفت على صوت هرج شديد، فرأيت في مقهى قريب معركة حامية وعلمت من أمرها أن أحد «اللاعبين» هجم بسكين المائدة على صاحب له؛ لأنه أخذ منه آخر قرش بقي معه، ولم يشأ أن يقرضه من تلك القروش شيئًا يعود به إلى عياله.
ورأيت في مطعم حول بعض موائده الممدودة رهطًا من أولئك الغلمان الذين يلقطون بقايا الدخائن، ويترامون على ما يلقى إليهم من فتات تلك الموائد، ينازع بعضهم عليها بعضًا كما تفعل الكلاب، فيزيدون المنظر بذلك سوءًا وقبحًا، ومضيت أخرج من هذا الحي فلم يعد لي في تلك الليلة جلد على رؤيته، فما كدت أنعطف في أول شارع حتى ألفيت في المنعطف «لقاءً» تكتفه الريبة، ﻓ «هو» يضحك مرتبكًا و«هي» لا تكاد تضحك حتى يطفئ الخوف والقلق ضحكها … ومررت بهما وأنا أسائل نفسي: أله زوجة ولها زوج؟
وكأنما تأبى المكاره إلا أن تأتي في وقت معًا! فهذا مترنح متخلج يمسك أصحابه بذراعية مخافة أن يقع، وهو شاب بادي الوجاهة، ولقد سقط طربوشه حينما قربت منه ولست أدري لم قصدني أنا، فالتفت إليَّ ضاحكًا وقال: «من فضلك ناولني البلغة يا أفندي.»
وألفيت عند محطة الترام أنماطًا من الشباب فرادى وجماعات، ورأيت منهم من مرت بهم جميع المركبات وهم مع ذلك وقوف في أماكنهم يمدون أعينهم إلى كل مركبة في مكان معين منها، وعلام يستعجل هؤلاء العودة إلى منازلهم ولا تزال بينهم وبين امتحاناتهم شهور؟
وأراد نكد طالعي أن يكون آخر ما يقع منظاري عليه جماعة من أولئك الغلمان في إحدى الطرق ينبشون صندوق القمامة، يبحثون فيه عما يقتاتون به … وكثيرًا ما رأيت مثل هذا المنظر — وا أسفاه … فرفعت بصري إلى أعلى وقد ضاق بالأرض وما عليها، فوجدت القمر من فرجة بين بيتين عاليين، وأحسست أنه في تلك المدينة غريب مثلي، ولست أدري لماذا فسرت ابتسامته في تلك الساعة بأنها سخرية من حياة المدينة ومفارقاتها؟ … وأشد ما أمضني أني لم أر شيئًا مما كرهت من أحد غير بني قومنا الأعزاء، على كثرة ما بين ظهرانينا من النزلاء!