ساع في الدرجة الخامسة!
بلغها بدماثة خلقه، لا ريب عندي في ذلك، ومن كان في ريب مما أقول فليعرفه من كثب كما أعرفه، ثم لينظر فإن لم يمح اليقين من نفسه الريبة فأنا المخطئ وهو المصيب …
وإن أنداده ليعجبون كيف يتخطى أكثرهم إلى تلك الدرجة التي باتت عندهم حلمًا من الأحلام، وإنهم ليقسمون أنه دونهم في الكفاية، ويستدلون على ذلك، إذا لم يغن القسم، بأخطائه الجسيمة التي لم يسأل قط عن شيء منها، وذلك ما يزيد دهشتهم وحيرتهم.
ولكني أنا أعجب كيف فاتتهم دماثة خلقه، ورقة شمائله ولطف معاشرته، وإليها مرد ما نال من حظوة! ومتى كانت تقدر الأعمال بالكفاية فحسب؟ وإن من الكفاية لما يلحق بصاحبه الأذى، وإن منها لما يقف بينه وبين ما يشتهي.
رأيته أول مرة فرحب بمقدمي ترحيبًا ملك قلبي، وأقبل عليَّ يحدثني ويجود عليَّ من الألقاب بما كاد يعتريني الزهو، ويداخلني الغرور من أجله، وما هي إلا دقائق حتى كنت منه كما لو كان يعرفني من زمن بعيد، وآية ذلك أنه صار يعرفني إلى أقرانه وهو يشير إلى فطنتي وسعة اطلاعي، ويثني على كرم خلقي، كل ذلك في طلاقة أدهشتني وإن كادت تضحكني ضحكات لست أدري ماذا كنت أسميها!
وتاقت نفسي إلى رؤيته أمام رئيسه، ولم يطل تطلعي فقد أقبل الرئيس فرأيته يثب من موضعه، فينظم وضع طربوشه على رأسه ويزر حلته ويهرول تجاه القادم مبتسمًا، حتى إذا دنا منه أقبل على يده في لهفة ولسانه يلهج بالسؤال عن صحة «سعادة البك» وأنجال «سعادة البك» ويجيب في سرعة ونشاط على سؤال وجه إليه بقوله: «نعم كما أرمت سعادتك يا سعادة البك.» وأعجبني لعمر الحق دماثة خلقه هذه واستيقنت نفسي من أدبه وظرفه.
وانقضى يوم فازددت اطلاعًا على حسن شمائله وجميل تواضعه، فهو يعزو كل شيء إلى همة سعادة البك، وهو لا يفعل شيئًا إلا «بأنفاس سعادته»، وهو لا يكتم خبرًا ولا يضن بحديث سمعه على رئيسه، وإن كان منها ما لا يصح ذكره، فذلك عنده من الأمانة والإخلاص، وإن عبارات الإجلال والتعظيم لهذا الرئيس لتثب إلى ذهنه في سرعة عجيبة ولباقة مدهشة، أعجب معهما لمن ينكرون عليه الكفاية حتى لا يسعني إلا أن أنكرها عليهم هم؛ وإن كنت في ذلك مثلهم، إلا أنني لا تحركني الغيرة للعيب عليه.
ورأيته لا يقع بصره على رئيسه مبارحًا إلا خف إليه مودعًا، ولكنه يمشي على قيد خطوة أو خطوتين وراءه، وذلك لا شك تأدب منه، وإن تقول عليه خلاف ذلك المبطلون، الذين يحقدون عليه لبلوغه دونهم الدرجة التي يتحرقون شوقًا إليها.
وهو مرب على رغم ما سماه به بعض المغيظين منه؛ وإنه ليشعر أن من واجبات مهنته أن يوحي إلى تلاميذه دماثته وأدبه، وأن يلهمهم الصدق ويعودهم احترام النفس، وإنه ليعتقد أنه يفيد طلابه من هذه الناحية أكثر مما يفيدهم غيره من أقرانه، وإلا فمن بلغ منهم مبلغه من الدماثة وكرم الطبع؟
ولن تفوته فرصة لإظاهر دماثته تلك التي أصبحت مضرب المثل بين عارفيه، وهو لا يرمي من وراء ذلك إلى شيء سوى أن يكون فيه لأبنائه أسوة حسنة، ولن يبتغي عليه جزاءً ولا شكورًا، ومن أروع مواقفه التي لست أشك أنها من خير ما يُقتدى به، أنه التقط ذات مرة على مرأى من الطلاب دخينة سقطت على الأرض من يد رئيسه فأعادها إليه، ولكن ما كان أعظم دهشة الطلاب أن يروا ذلك الرئيس يقذف بها بعيدًا بعد أن يأخذها منه، وهو عابس الوجه وعلى شفتيه ما يشبه الازدراء، وما لا يكون إلا استنكارًا، ولقد قارن الطلاب لا شك بين رقة الأستاذ وغلظة الرئيس، ولست أدري أيهما كانت أقرب إلى نفوسهم البريئة.
وشاعت الحادثة في الزملاء الحاقدين منهم والمسالمين، فقال أحدهم: «ما أراه إلا ساعيًا في الدرجة الخامسة.» فقلت: وكيف يكون ساعيًا من كان في الدرجة الخامسة؟ فنظر إليَّ نظرة غاضبة كأنما ضايقه جهلي وقال: وإنك لترى من هؤلاء من هم في الرابعة وإن شئت ففي الثالثة … والطريق إليها جميعًا سهل معبَّد، ولكن لمن يرضى أن يكون ساعيًا.