في حجرة البك الناظر!
«البك الناظر» هي كلمة الإجلال التي يجري بها العرف على ألسنة الطلاب والموظفين والأساتذة في مدارسنا طول العام، وعلى ألسنة آباء التلاميذ وأولياء أمورهم في الأسبوع الأول من العام الدراسي فحسب …
وافتتحت المدارس أول الأسبوع الماضي، وجلس البك الناظر في كل مدرسة على كرسيه المحترم، أمام مكتبه الموقر، وتأهب للقاء طالبي الإذن عليه، وقد استجمع أكثر ما يطيق من الجد حتى لينقلب هذا الجد في كثير من الحالات عنفًا، وأقصى ما يستطيع من الحزم حتى ليستحيل هذا الحزم شططًا، ولا يسعك إلا أن تلتمس العذر لأكثرهم من فرط ما يتوسل المتوسلون ويلحف الملحفون …
ودخلت حجرة البك الناظر في مدرستنا وهو رجل طويل التجرية حازم عن أصالة، تهز كريمًا إذ تهزه، ولكنك على طيبة قلبه مهما بذلت من جهد ومهما اصطنعت من حيلة لا تستطيع أن تزحزحه قيد شعرة عن رأي اقتنع به، وبخاصة فيما يتصل بسلوك طلابه …
واستأذن والد أحد التلاميذ وهو موظف في أحد الدواوين، وطرق الباب طرقة خفيفة، ودخل يظهر التخشع والاحتشام وسلم وتلعثم، ثم أخذ يتوسل إلى الناظر أن يقبل ابنه المفصول رحمةً به؛ وقطع عليه الناظر حديث توسله بقوله: مثلت هذا الدور أول العام الماضي، وقلت هذا الكلام وقبلت ابنك يومها على مضض فما كاد يدخل المدرسة حتى عاد إلى رذالته واستهتاره وطيشه، وكان هذا سبب رسوبه فكيف تعود إلى الرجاء، وكيف يتسنى لي أن أقبله؟
وقال الرجل: وما ذنبي وكيف تأخذني بجريرة ابني؟ وتعجب البك الناظر وأوشك أن يغضب، ثم قال: لم أفصلك ولكني فصلت ابنك، وما ذنب المدرسة وذنب أبناء الناس حتى أضع بينهم تليمذًا كهذا يفسد مدرسة وحده؟ وعاد الرجل إلى التوسل والتضرع والتخشع، واستنفد عبارات الاسترحام من مثل قوله: المسامح كريم … المعروف لن يضيع عند الله … اعمل معروف! وحياة أولادك … وهكذا، حتى استحال الرجاء إلى نوع غريب من التنطع، وضاق صدر الناظر وضاق صدري، ولكني والله قد أخذتني الشفقة وأحسبني لو كنت البك الناظر ما كنت إلا مفسد المدرسة بنصف هذا التوسل بل بثلثه … ولكن ناظرنا لم يشأ أن يستجيب له وخرج الرجل وهو يكاد يبكي …
وما كدت أرثي لحال الناظر مما يلاقي من ضيق حتى طرق الباب قادم آخر، ودخل فإذا برجل يدلف للسبعين فيما يبدو لعيني، حسن الهندام بادي الوجاهة، يتوكأ على عصا ولكنه يخطو في نشاط وإن كان في مشيته عرج، وقال قبل أن يصل إلى المكتب: اعذرني يا سعادة البك إذ أدخل بعصاي فساقي مكسورة في حادث سيارة … وجلس وهو يتنفس في عسر ويحاول أن يجد ريقًا في فمه؛ ليبتلعه فلا يكاد يجد إلا في مشقة؛ ولمحت في عينيه الألم الممض، وتعرفت في وجهه حيرة ذي الكبرياء بين كبرياء نفسه وبين ما تفرضه ظروف الحياة؛ واختلجت شفتا الرجل كأنما يجد عسرًا في إخراج الكلام، ثم تنهد تنهدة طويلة، وقال وإن كلامه ليتقطع بتقطع نفسه: أنا والد فلان وما جئت لأدافع عنه فابني بطال. بطال … وإنما أردت أن أسألكم وأنتم أطباء الأرواح ماذا أصنع لعلاجه؟ لقد ضربته الآن حتى بكيت وبكى؛ وليست لي حيلة فيه، وهو ابن هذه المدرسة طيلة خمس سنوات … وتوقف الرجل ومد يدًا معروقة ناحلة شاحبة وهو يحك سبابتها بوسطاها إذ يشير بهما، وبلع شيئًا من ريقه في عسر وتنهد يستجمع نفَسَه، وقال: أريد أن أقول شيئًا آخر وإن لم يكن في الموضوع … ليس لي ولد غير هذا ولكن لي بنات ستًّا … وهذا موضع أملي وأنا رجل أودع الدنيا، وخدمت الأمة مهندسًا عشرات السنين …
ونظرت فإذا الرجل يحبس دمعه جاهدًا وإذا العرق يلمح في جبينه، وقد أزاح بيده طربوشه عنه وصار يدق بكفه على قبضة عصاه دقات، ويتأوه في صوت خافت، وتدلت شفته السفلى فكشفت عن ثناياه الذهبية التي لاءمت صفرتها صفرة خديه الذابلين الغائرين، والتفتُّ إلى البك الناظر فإذا وجهه رثاء كله لحال الرجل حتى لقد ظننته قبل ابنه؛ ولكنه أشار إلي وقال للرجل: هذا أستاذه فاسمع رأيه فيه … وحرت والله ماذا أصنع وما أستطيع الكذب … وفطن الرجل إلى حيرتي وإنه لذو فطنة وكياسة فقال: أنا أعرف كل شيء وما جئت مدافعًا كما ذكرت، وإنما عدمت الحيلة فأعينوني على أمري؛ وكدت لعمر الله أبكي وأعود فأقول: لو أنني البك الناظر لغفرت لهذا التلميذ ذنوبه الماضية وذنوب عام قادم معًا، أقول ذلك على علم بأنه خروج على ما يسمونه قواعد التربية، ولكن ما الحيلة وأنا رجل ضعيف، وإني أحذر وزارة المعارف أن تجعلني ناظرًا أبدًا، وإلا أفسدت لها الدنيا … وإن كنت لأزعم أن ما أصنعه من مغفرة إنما هو إصلاح، وإن خفي ذلك على فحول التربية الذين يسألون التلاميذ وحدهم عن الفساد.
وقال البك الناظر يوجه الكلام إلى الرجل وهو يدق مقبض عصاه ويتأوه: لو كان الأمر أمر ابنك وحده لقبلته من أجل خاطرك، ولكني أبعدت سبعة غيره، وارتاح الرجل لهذه الكلمة، وقال: هذا كلام طيب أشكرك عليه وهو من كرم خلقك، ثم نهض يبتلع ريقه في عسر، ويستجمع نفسه المتقطع وسلم والألم والحسرة في عينيه وملامحه، وخرج من الحجرة يتكئ على عصاه ويكرر عبارات الشكر والتحية …
وبعد، أفلم يأن لمدارسنا أن تغير أسلوبها، فلا تجعل المسألة يومًا يبدأ وينتهي على أية صورة وبرامج تقطع تأهبًا لامتحانات فاسدة لا تدل على شيء، ثم لا يبقى بعد ذلك التفات إلى خلق، ولا عناية بتربية، ولا رعاية لمستقبل أمة؟ إن على مدارسنا التبعة قبل الآباء في فساد من تطرد من الفاسدين، وإن علينا أن نصلحهم أجمعين، وإلا فبأي وجه نكون من المربين؟!