صنع في إنجلترة …
جلسنا نتحدث فمال بنا الحديث فيما مال عن مبلغ شعورنا بقوميتنا، ومبلغ حرصنا على مظهرها، ورحنا نتساءل هل نحن كرماء لضيوفنا حقًّا، أم أن في الأمر شيئًا غير الكرم؟ واحتدم الجدل كالمعتاد وعلت الأصوات، وتشعب الكلام واضطرب نظامه، وضاعت الحجج جميعًا سليمها وسقيمها في ذلك الضجيج المتصل، وكانت أشد الدعاوى إيلامًا لنفوسنا أننا قوم نتلاشى في غيرنا، ويسهل على أي قوة أن تسوقنا حسبما تريد.
وقطع هذا الضجيج دخول صديق لنا في رفقته شاب أخذ يقدمه إلينا، فحيا وحيينا، ثم جلسنا برهة صامتين، واتجهت أنظارنا إلى هذا الشاب الذي بدأت معرفتنا به، وما هي إلا برهة حتى فطنت إلى أن منظاري قد وقع منه على شخصية أضيفها إلى ما عرفت من أشباهها من الشخصيات، التي لا تكاد تفترق إحداها عن بقيتها في شيء.
وفي نفسي عن هذه الشخصيات التي عرفت معان استيقنتها فما أشك فيها أبدًا، بيد أني أميل إلى تبينها في كل شخصية منها، فقد جرى الأمر في ذلك عندي مجرى التسلية، إن جاز أن فيما يؤلم ما يسلي، كما جاز أن في المصائب ما يضحك!
ونظرت فإذا صاحبنا يضطجع في مقعده ويشمخ بأنفه، ورأيته يضع إحدى رجليه على الأخرى أولًا، ثم يمدهما معًا إلى حيث تستقر قدماه على مقعد خال ونعلاه قبالة الجالسين في غير تحرج ولا استحياء …
وأدخل يده في جيبه فأخرج «بيبته» وحشاها وأشعلها، وراح ينفخ في الجو من دخانها، دون أن يشاطرنا ما أخذنا فيه من الحديث. وشعرت وشعر أصحابي جميعًا بهذا التكبر السخيف، كأننا لم نكن أهلًا لمحادثته، ولكن كيف نكون عنده أهلًا لذلك، وليس فينا من خرج من مصر، كما تبين له من كلامنا؟
وكانت تختلج على شفتيه ابتسامة ليس فيها إلا معاني السخرية من عقولنا أو قل: من جهلنا، وفي نفسه أننا لا زلنا على عقليتنا الشرقية جامدين ضيقي المعرفة، وتمنيت أن يتكلم لأرى شيئًا من عقليته الغربية التي عاد بها من إنجلترة …
ولم يطل تطلعي فلقد أخذ يجيب على سؤال وُجه إليه، فسمعت وأنا أجهد في كتمان ضحكي عبارة بين العربية والإنجليزية، فهي عربية الحروف إنجليزية النطق، الأمر الذي جعلها في جملتها قردية اللهجة والجرس …
وكانت لا تسعفه ذاكرته أو كان يتكلف أن ذاكرته لا تسعفه ببعض الألفاظ العربية، فكان ينطق بها إنجليزية ثم يشرحها لنا كأنما يثق أننا لا نفهم تلك اللغة فهمه؛ وكان يكرر قوله: «لما كنت في إنجلترة …»
كأنما يخشى أن ننسى أنه كان هناك، وهو يقدم تلك الحقيقة بين يدي حججه؛ ليجعلها بذلك قاطعة صادعة.
وليته ظل ساكتًا فلقد حمدت الله بعد كلامه الطويل على عقليتي الشرقية … وحيا الشاب تحية نصفها شرقي ونصفها غربي، وانطلق هو وصاحبه، والتفت إلى أحد أقراني، وقال: أرأيت الدليل المادي على صحة ما أقول؟ وقال آخر: ما لهؤلاء لا يتكبرون ولا يزهون، وقد افترضت الدولة فيهم الكفاية لمجرد ذهابهم إلى أوروبا وإن بدا لها من أكثرهم تقصيرهم في أعمالهم، وافترضت في كثير غيرهم ممن لم ينالوا شرف الاغتراب الجهل، وإن بدا لها فطنتهم وكفايتهم فيما يناط بهم؟
وقلت في نفسي: متى يفهم هؤلاء أن ليس بين التكلف والصعلكة كبير فرق؟ وأن في المصريين من سافروا مثلهم فتلقوا العلم في أوروبا، ثم عادوا إلى وطنهم محتفظين بمظاهر قوميتهم فإن قلدوا غيرهم قلدوهم في العظائم، وأخذوا عنهم ما يشرفهم أخذه، ونبذوا ما يشينهم من سخيف المحاكاة …