بين «دغف» وصعلوك ومغفل …!
أبدًا يظل الترام لمنظاري موضع فرجة لا تنفد، وذلك أنه من ناحية ملتقى ضيق يحشر فيه كل ساعة أنماط من الناس من هذا المضطرب الواسع الذي ندعوه المجتمع، ثم هو من ناحية أخرى المركب الوحيد الذي أتخذه في ذهابي إلى مقر عملي وفي أوبتي من هناك، فما كان لي وقد ضممت الفخر من أطرافه كما يقول مهيار وجمعت بين الحسنيين: وظيفة التدريس وحرفة الأدب، أن تكون لي سيارة، وبحسبي أن أركب كل شهر أو شهرين مع صديق في سيارته أو أن أزحم الناس لأتخذ لي موضعًا بشق النفس في سيارة عامة هي والترام شيء واحد!
كان الترام الجاهد بما يحمل من الخلق يجري جري من تقطعت أنفاسه ذات صباح، وكان بيني وبين موعد الدرس الأول دقائق معدودات، وكنت لا أفتأ أنظر إلى ساعتي وإني لضائق بسرعة عقربها بقدر ما أنا ضائق ببطء الترام، أخشى أن أتأخر فلا أدري بماذا أعتذر لتلاميذي، ولا كيف أخفي عنهم خجلي، دع عنك «البك الناظر» ونظراته على رأس السلم وغيظه المكظوم الذي لا آمن أن يظل مكظومًا …
وظللت أدعو الله ألا تفسد الزمارة أو تخرج «السنجة» عن خيوط الكهرباء، أو تتدلى عجوز لتنزل فتزل قدمها، أو يمر رتل من سيارات الجيش فيقف المرور، أو يدفع القدر أحد الناس إلى حيث يلتهمه الترام، وقضيت لحظة أليمة على هذه الحال، أسأل الله وأستعجل الكمساري وأرهف أذني إلى زمارته، وأتلفت نحوه كلما أبطأ في النفخ فيها.
وأبطأ الكمساري، والتفت فإذا شاب «أفندي» يقف على سلم المركبة، والكمساري يرجوه ويتوسل إليه أن ينزل، فلا يجود عليه ولو بنظرة؛ ويغلظ له الكمساري شيئًا فشيئًا، ولكنه يظل ثبت الجنان منتصب القامة مرفوع الهامة؛ وأنظر وقد كاد يخنقني الغيظ، وينظر الراكبون جميعًا نحو ذلك الأفندي عسى أن يستحي، فلا يشاء أن يرد أو يلتفت إلى أحد، ويعود الكمساري فيلين ويستعطف مبتسمًا ابتسامة فيها معنى ذلك الصفاء الذي يسبق العاصفة، ويذكِّر الأفندي بأن منع الوقوف على السلم قد بات أمرًا معلومًا لكل الناس، ولا حيلة له في ذلك فهي مشيئة مجلس الإدارة والحكومة، وعليه وحده الغرم إن تهاون … كان ذلك وصاحبنا لا يلتفت إليه، ثم إنه ييأس أخيرًا فيقابل العناد بالعناد، ويقسم أن لن يسير الترام إلا إذا نزل ذلك الأفندي «المتشعبط»، كل ذلك وهذا الأفندي لا يزداد إلا إصرارًا واستكبارًا!
ويضج الراكبون، ويتقدم أحدهم بالرجاء في رفق إلى ذلك الظريف المتعلق بالترام فيرد عليه بقوله: «موش شغلك يا أفندي.» وتجري على الألسن عبارات الاستنكار والتقريع والتوبيخ … وهو برغم ذلك مصر كأنه يجاهد في قضية من قضايا الأوطان، فلا يعرف فيها معنى الهوان أو الخذلان!
ويأتي صعلوك حافي القدمين، حاسر الرأس، في يده عود ضخم من قصب السكر، كأنه مدفع لمطاردة طائرات العدو، وفي جلبابه آثار تمزيق، كأنه قادم لساعته من معركة، ويتعلق هو أيضًا بالترام، فلا يتمالك الناس أنفسهم أن يضحكوا، على رغم ما كانوا يعانون من ضيق وغيظ!
ويحار الكمساري بين الصعلوك والأفندي، فقد أعلن أولهما أنه لن ينزل حتى ينزل الأفندي، ولم يدر أنه بذلك قد علق الأمر على المستحيل وأصبحت المصيبة مصيبتين؛ وراح يتساءل ذلك الصعلوك في حدة: لم يطلب إليه وحده النزول؟ أذلك لأنه «غلبان»؟ ويصرخ الكمساري في وجه الأفندي ضجرًا، فيرد عليه أخيرًا بقوله: «أما مغفل صحيح.» ويوقن الكمساري أن الحرب واقعة لا محاولة فيرد عليه بقوله: «إذا كنت أنا مغفل تبقى حضرتك دغف.» ويكتفي الصعلوك بذلك فينزل معتذرًا، وقد كان كفيلًا أن يحطم رأس الكمساري بذلك «المترليوز» في يده، لو دعت الحال إلى ذلك.
وينفد صبر المغفل فيجذب «الدغف» من كتفيه ويطول النزال ويعظم هول القتال، ويتزاحم المتفرجون من السابلة ويتعطل الطريق، ويضيع نصف الدرس وتنجلي المعركة أخيرًا عن هزيمة «الدغف» … ويمضي الترام وأنا أسأل نفسي أيهما المغفل حقًّا، وأيهما «الدغف» حقًّا، وأيهما الاثنان معًا؟ ولكني لا أحتاج إلى طويل فكر لأقول: إن المغفل لم يفعل ما يستحق من أجله أن ينعت بهذا اللقب، وإن نعته به من جانب ذلك الأفندي المهذب لهو الغفلة بعينها؛ ثم أسأل نفسي كذلك أي الرجلين كان أفضل وأكبر في أعين الناس أهو الصعلوك أم الأفندي؟ وأيهما إذًا هو الصعلوك حقًّا؟
أولى بنا والله أن نتساءل متى نتعلم النظام، وأن ندرك أن هناك آدابًا اجتماعية عامة لا بد منها ليكون الإنسان إنسانًا؛ أولى بنا أن نعترف بعيوبنا لنصلحها قبل أن نلوك عبارات الكرامة والمدنية والاستقلال، ألا متى نرى شيئًا ولو ضئيلًا من روح المسئولية يسري إلى نفوسنا.
عفوًا يا قارئي العزيز، أو فاغضب ما شاء لك الغضب، فأنا بنجوة من غضبك، لا أتلقى لكمتك ولا أسمع لعنتك.