بين معمَّم ومقبَّع ومطَربش!
الحر شديد تلفح زفراته الوجوه، والترام مزدحم بالناس قعودًا ووقوفًا، وما منهم إلا من ملأ الفتور بدنه كأنما أخذتهم جميعًا سنة فهم صامتون مطرقون. وليس ما يدب فيه النشاط والقوة إلا هذا الترام السريع الذي ينحدر إلى القاهرة من مصر الجديدة منطلقًا كالسهم، يهز ركابه الوسنانين هزات قوية تنفض عنهم بعض فتورهم، وتكاد تلقي بالجالسين منهم على أطراف المقاعد إلى أرض العربة، في منعرجات الطريق …
وفي زاوية من العربة جلس ثلاثة: معمم على أحد المقاعد يواجهه على المقعد المقابل مقبع ومطربش.
أما المعمم فهو في حدود الأربعين أنيق الثياب جدًّا، نظيفها كأنما هو قادم بها من فوره من دكان الخياط، ولست أدري ماذا يصنع يوم العيد ليشعر الناس أنه «غَيَّر» ملابسه، ممتلئ البدن، أبيض الوجه في حمرة، متورد الوجنتين، تنبئك ملامح وجهه بأنه فكه خفيف الروح، وتحدثك عيناه ولفتاته ونظراته فيمن حوله — على الرغم من الفتور الذي لحقه كما لحق غيره — أنه «ابن بلد» بأوسع معنى لهذه الكلمة.
أما المقبع فهو عُتُلٌّ في نحو الستين، ثقيل الظل جامد الطبع فيما يبدو من ملامحه وهيكله جميعًا، وبخاصة حاجباه الكثيفان ومنخاراه الواسعان وعيناه الضيقتان، وفمه الذي ما إن رأيته حتى جزمت بأنه لم يبتسم مرة في سنواته الستين، ولو طُلب إليَّ أن أؤدي يمينًا عن هذا لأديتها في غير حرج.
أما المطربش فأرجو أن تعفيني من وصفه، فذلك هو أنا صاحب المنظار!
وحدث بين هؤلاء الثلاثة ما بعث الركاب جميعًا من سِنتهم، وما أضحكهم على الرغم من الحر والغبار وجهد اليوم …
مد المقبع إحدى رجليه فوضعها على المقعد حتى مس حذاؤه ملابس المعمم أو كادت، فنظر إليه هذا نظرة استنكار عله يسترد رجله، ويبعد ذلك الحذاء الذي خيل إليَّ لكبره أنه مركب من مراكب الأطفال؛ فقال له المعمم: «من فضلك يا خواجه.» وأشار إلى حذائه؛ فنظر إليه المقبع متثاقلًا، وقال: «لا … أنا حر.» ونطق الحاء خاءً فازداد ثقلًا على ثقل.
وازداد وجه المعمم حمرة ورأيته أخذ يتحمس، ولكنها حماسة من يعرف كيف يسلك في مثل هذا الموقف ما يشاكله من مسلك: «أنت حر في بيتك ولكن هنا لا …» ونطق المعمم كذلك الحاء خاء، كأنما هو حيال «نص» لا يملك له تبديلًا.
ولم يلتفت المقبع إليه فازداد بذلك جمودًا على جمود!
ولم يَرُع هذا العتل إلا رجلا الشيخ جميعًا تمتدان، فتستقران لا على المقعد ولكن في حجره، وقد ضغط الشيخ بنعليه على بطنه وهو يقول: «أنا كمان حر.» وأصر على جعل الحاء خاءً.
وضحكت حتى تبادر دمعي وضحك من شهدوا المنظر جميعًا، وطار عنهم فتورهم؛ ونهض المقبع كأنما لدغته عقرب، وهو يرطن بلغته، وكأنما فمه بالوعة غصت بالماء وقد انتفخ شدقاه فازداد غلظًا على غلظ.
ونظر إليَّ المعمم وهو بين الضحك من فعلته، وما أثارته من ضحك عام وما كُللت به من نجاح أعجبه، وبين الغيظ مما يرطن به المقبع، وقال لي: «ترجم حرفيًّا ما يقول لألقي به تحت الترام.» فأحجمت وما زدت على أن ضحكت، فقال الشيخ وقد حبس ابتسامته وبدا الجد في وجهه: «أتمتنع عن ترجمة ما يقول هذا الخنزير؟ أهذه غيرتك على كرامة بني وطنك؟»
ورأيتني على رغمي قد دخلت خصمًا ثالثًا في القضية!
ونظرت إلى الشيخ وقلت: «أفتراني — يرحمك الله — أتبين شيئًا مما يقول؟ ومع ذلك فهل تظنه يمتدحك ويثني عليك؟»
وأعجب الشيخ ردي فابتسم أو كاد ثم عاد إلى عبوسه وتقطيبه، على أنه ما لبث أن ضحك مع من ضحكوا لهذا الرد.
ورأيت أني أحرجت الشيخ إذ حرمته مما أراد أن يتعلل به من جهله بما يقول خصمه، وكفى الله المؤمنين القتال … وصار لزامًا أن يلقي بذلك المقبع تحت الترام وإلا فقد قبل شتائمه.
وأنقذ المقبع من الموت المحتم تحت عجلات الترام، أو قل: أنقذ الشيخ من حرجه وقوف الترام على آخر محطة، بحيث لم تعد عجلاته تفعل شيئًا!
وانطلقت وأنا أدير في رأسي هذه القضية الصغيرة التي فسرت لي تفسيرًا عمليًّا معنى الحرية، وظللت ساعة لا تبرح خيالي رجلا الشيخ يضغط بنعليهما على بطن ذلك المقبع، الذي ظن أنه لا يزال لقبعته ما كان لها قبل من هيبة!