حلاقو القاهرة …!
لا تفهم يا قارئي العزيز أني أعقد لك فصلًا تاريخيًّا عن منظر من مناظر القاهرة العظيمة في زمن ابن طولون، أو في زمن الحاكم بأمر الله أو في زمن قلاوون عليهم رحمة الله، فإني لا أكتب إلا عما يقع عليه منظاري، وإنما أنا محدثك عن منظر من مناظر هذه العاصمة الكبيرة قبيل منتصف القرن العشرين.
ولا تتوهم أني فيما أصف لك أذهب بك إلى تلال زينهم، أو إلى أعلى الدراسة أو إلى جوار المحمدي أو إلى ما وراء سيدي الحلي؛ فإنك قد تنكر عليَّ ما أقول لجهلك فيما أظن بمظاهر العيش في هاتيك البقاع … على أنه قد لا يكون جهلك بها أكثر من جهلي.
وإن لك في أقرب شوارع المدينة غنية عن الذهاب إلى أطرافها، فسر في شارع ماسبيرو على ضفة النيل أو في شارع شبرا، حيث المدرسة التوفيقية أو في شارع الملكة نازلي أو حول حديقة الأزبكية، وانظر ماذا ترى.
لا شك أنك رأيت هؤلاء الحلاقين الذين يتربعون على الأرض أو على الأسوار، ويأخذون في حلق رءوس زبائنهم ولحاهم في صورة تدعو إلى الاشمئزاز والأسف والضحك جميعًا.
وقفت على مقربة من أحدهم ورأيته وقد شمر عن ساعديه وأمسك بالموسى ودعا إليه من زبائنه الجالسين حوله من جاء دوره، ومثل الرجل بين يديه وله لحية ما أحسبه أجرى عليها الموسى منذ مثل هذا اليوم من العام الماضي، ووضع الحلاق كفه في إناء بجواره، فاغترف غرفة من الماء بيده ورشها على تلك الأشواك الكثيفة في وجه صاحبنا وأجرى عليها قطعة من الصابون، ثم شحذ الموسى على ذراعه بأن حكها عدة مرات في سرعة عجيبة، ولما استيقن مضيها راح يقطع هذه الأشواك، ثم يمسح ما تجمع منها على حافة سلاحه، في ظهر يساره، أو يأخذها على سبابته، ويقذف بها في الجو لا يبالي أين تقع ولا من تصيب برشاشها من عباد الله!
ونظرت إلى الحلاق وزبائنه أتبين ما إذا كان يخالجهم شيء من المبالاة، فلم أصب في وجوههم إلا مثل ما يرى في وجوه الحيوانات من عدم المبالاة فيما تأتيه من أعمالها جميعًا على أعين الناس؛ وكأن هؤلاء جلوس في دكان لا تقتحمهم فيه الأعين!
وهممت أن أدور بمنظاري عن هذا المنظر الذي لست أدري لم وقفت إليه تلك اللحظة، وقد كنت أبدًا أمر به مسرعًا، وإني لأضيق به أشد الضيق، وكأن الظروف أرادت أن تكيد لي أشد الكيد، فلا تقلع عن معاندتي حتى في مثل هذا الموقف التافه، فهذا أجنبي مقبل ومعه سيدة وفي يده آلة تصوير، وإنه ليضحك ملء شدقيه كأنما يقع من الحلاق وزبائنه على بغية طالما تمناها.
وأعد الإفرنجي آلته للتصوير، ولشد ما غاظني أن أرى الحلاق ومن حوله يضحكون ضحكة البلهاء، كأنما يفرحهم أن «الخواجة» يصورهم، وسمعت ذلك «الخواجة» يقول لصاحبته بالإنجليزية ما ترجمته: «انظري فسنحصل على صورة ظريفة لحلاقي القاهرة.» ودنوت منهما فسلمت وتكلفت الابتسام أولًا، ثم عبست وبالغت في العبوس لأعبر عن احتجاجي الشديد، وتكلمت في لهجة استخزى لها ذلك الغريب، وحار ماذا يقول وأشارت إليه صاحبته فطوى آلة التصوير، وكأنما أملى عليه إحساسه بالغربة أمام احتجاجي أن يتلطف فاعتذر، ولكنه أعقب اعتذاره بقوله: «جميل منك أن تغضب لسمعة شعبك، ولكن أجمل من ذلك أن تزيحوا عن الأعين ما يشوه هذه السمعة.»
وجميل من الرجل قوله هذا لا ريب؛ ولكن ما حيلتي وما أملك إلا القرطاس والقلم؟
ليس يهمني من هذا المنظر وأشباهه ما عسى أن يقول عنا الأجانب بسببه فحسب، وإنما أراه بصرف النظر عن ذلك شيئًا تتأذى به العيون وتشمئز منه النفوس، ولئن لم تقع عليه وعلى أمثاله أعين غير أعيننا، ففيه مما يشعرنا بالضعة والهمجية.
وأعجب من عدم مبالاة هؤلاء الحلاقين «العصريين»، وأدعى إلى الاشمئزاز والألم من همجيتهم إغفال المسئولين أمرهم إلى هذا الحد … ولكن كيف أطمع من هؤلاء المسئولين أن يلتفتوا إلى ما هو أفظع عيبًا من هذا في عاصمتنا الكبرى، وأدعى إلى الخزي والعار، وإنه لكثير في أنحائها، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
على أن هؤلاء جميعًا أهون شرًّا وأقل خطورة من ذلك الذي جلس في طرف المقعد إلى اليسار، وأخذ يبصق كل بضع ثوان بصقة لا يبالي على أنف من، ولا على عين من وقع رشاشها العذب الذي ينثره الهواء على من خلفه، كأنما يتحتم على راكب الترام أن يلبس قناعًا من الأقنعة الواقية!
ومثل ذلك الظريف يتحرك لينزل فيطأ بنعله وجه نعلك، أو يفزع بيده طربوشك فما تدري إلا وقد طار عن رأسك، أو يتحاشى الانزلاق إذ يقرب من السلم فتستقر لطمة منه على عينيك أو خدك أو أنفك، بحيث لو سددها إليك من يتعمد ذلك — لا قدر الله — ما جاءت محمكة كما تجيء من يد ذلك الذي يمر بك أثناء نزوله من الترام، وإنه ليقع منه ذلك فلا يلتفت إليك بكلمة اعتذار أو بنظرة أسف! وسبحان الذي سوى الجبلات، اللطف، اللطف، يا لطيف!
ودع عنك غير من ذكرت «المتشعبطين» على السلم والمتحاربين مع «الكمساري» من أجل مليم مشكوك في أمره، أو على الأكثر من أجل قرش زائف، دع عنك هؤلاء فالأمر بينهم وبين «الكمساري» إلا إذا نفخ في زمارته، فأوقف الترام وأخذ الجميع بذنب صفيق أو صفيقين.
أقسم لك أن ذلك كله حدث في الترام في وقت معًا، فإن لم تصدقني بعد هذا القسم فليس لدي شك في أنك لم تركب هذه المركبة قط.