صاحب السلطان الزائل
أقبل فسلم في صوت كأنه الهمس، وأحسست ولم أكن عرفت بعد شيئًا من أمره روح المذلة في صوته؛ ومد إلى من نهض لتحيته يدًا معروفة كأن بها استخزاء من أن تصافح الأيدي الممدودة إليه، ونهضت فيمن نهضوا فسلمت وأنا في حيرة من عبارات التحية تزجى إليه مشفوعة بلقب «البك».
وأخذت نعته بهذا اللقب على أنه من المزاح، فكثيرًا ما رأيت بعض المازحين في القرية ينادون بهذا اللقب رجلًا عندنا بلغت به الفاقة حدًّا جعله مضرب المثل في البؤس، وجعل لقب «البك» مضافًا إليه رائع البلاغة فيما يتضمن من تهكم، وفيما يثير من ضحك باستعماله هذا الاستعمال.
ولكني لم أر للمزاح أثرًا في وجوه الجالسين، بل لم أر فيها إلا التزام الجد والحرص على مظهر الاحتشام والسكون، وفهمت أن الابتسام يتقى بين الجلوس فيما يدور بينهم من حديث، وبخاصة إذا خوطب صاحبنا على أنه البك، فما تكاد تنفرج الشفاه حتى تنضم في استدراك سريع.
واتجه منظاري إلى هذا البك الجديد، وأخذت أختلس النظر إليه وكان كلما زدته نظرًا، زادني دهشة ذلك اللقب، الذي يسبغ عليه في جد لا أثر للعبث فيه، وظللت أنظر إلى معطفه الذي تراكم عليه ما تراكم من آثار الزمن، وإلى جلبابه الذي لم أعرف ماذا كان لونه قبل أن يعلق به ما علق من تشويه، والذي راح يستر خروقه بأطراف ذلك المعطف الذي يعد تسميته بالمعطف، وهو على تلك الحال من قبيل تسمية صاحبه بالبك! أما طربوشه، فقد اتسق في هذا النظام اتساقًا بليغًا، إذ كانت أسطوانته من لون وقرصه من لون آخر، غير أن أحد جانبيه أكثر كدرة من الجانب الثاني، وإن كانت تلك الألوان جميعًا بقايا حمرة زائلة.
وعرفه إلي وعرفني إليه أحد الخبثاء الذي أخذ ينظر إلى منظاري، وكأنه كان يرى فيه — كما حدثني بذلك بعد — آلة تصوير، وما كاد يذكر لي اسمه حتى ذهب اللغز من ذلك اللقب الذي لقب به، وقلت في نفسي: أهذا هو الذي سمعت من أخباره ما سمعت؟
وتزاحمت في ذهني صور ما علمت من أنبائه، وبرزت من بينها صورة كانت بين غيرها من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام، فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة، ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!
واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعة فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي واستكباره، يحيط به خيال استخزائه الحالي ومسكنته، والحق لقد كانت نظراته مزيجًا عجيبًا من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة «الكوكايين»!
ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان، وهو ينظر إلي نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه، على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس، ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحيانًا على الاستخزاء، وإن كان الاستخزاء قد بات طابعه الجديد.
وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة، وفي وجهه أمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفتيه ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه، وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية، فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من «الكبريت».
وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلى إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضًا يجمع بين الحياء والاستعلاء.
ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد، وهو لا يفتأ يكرر قوله: «شرفت بلدنا يا بك! أهلًا وسهلًا بابن الأكابر، دي البلد كلها منورة بوجودك فيها! الله يرحم والدك البك الكبير.»
وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها عنده بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهدًا برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعًا؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلًا: «هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول: إن دبلت الوردة ريحتها فيها.»
ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها شيئًا فيها، ويتملكني الإشفاق حينًا، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة، وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد يقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزاء، وتطابق الجريمة والعقاب …
ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو كذلك من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.
وتكلم أخيرًا صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! … ولعله كان يحس أن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء، ومن درر حديثه قوله: «ياما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية أو مصر فيعود بعد أسبوع سالف أجرة الوابور … دا أنا كنت هارون الرشيدي اللي بيقولوا عليه.»
وقلت: وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعًا، فتلعثم قليلًا وقال: لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك … آه من البنك!
وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث فلم يشعر بقيمة ملكه حتى ذهب عنه كما جاء إليه، ثم سألته عن مصير هذه الضياع فقال: الخواجه خريستو تاجر القطن، وأحزنني أن يمتلك مثل خريستو من ثرى هذا الوادي أرضًا أولى بها بنوه، أرضًا كانت تكفي لأن يعيش عليها أكثر من مائتي أسرة من تلك الأسر التي تكدح صابرة في وهج الشمس، وتسقي بعرق جباهها تربة وادينا ولا تمتلك الواحدة أكثر من فدانين أو ثلاثة فدادين.
وسألته عن شعورده إذا مر اليوم بهاتيك الضياع، ولشد ما أدهشني قوله إنه لم يرها كلها، وإنه لا يعلم إلا موضع ما كان يحيط بقصره منها؛ فلقط كان أمر زراعتها وتعهدها مفوضًا إلى نظاره الثلاثة الذين يمتلك الواحد منهم اليوم ما لا يقل عن ثلاثين فدانًا، من أرض أجداده.
وكان مجلسنا هذا في دكان بدال، ولما هم البك بالانصراف طلب من التاجر أشياء، ولكن التاجر نفى وجودها عنده، فلمحت عينا البك بعض الأصناف المطلوبة على رف من الرفوف، فأشار إليها قائلًا: «أمال إيه ده!» وأجاب التاجر بأن غيره دفع ثمنها وسيرسل في طلبها، وضحك صاحب السلطان ضحكة مرة وهو يهز رأسه قائلًا: «هيه … طيب! السلام عليكم.» ثم خرج، وتنفس التاجر الصعداء.
واتجه إلينا ذلك التاجر وقال في لهجة اعتذار: إن قريبه فلان بك الذي ينفق عليه أمره ألا يعطيه شيئًا إلا بإذن كتابي قال: «دا مسكين ضيع كل ما يمتلك في المكيفات اللهم احفظنا، وباع عفش بيته، وهل تاب بعد كده؟ لا، دا صنف لا يستحق النعمة.»
ومضيت وفي نفسي كلمة التاجر الأخيرة، وأنا أحدث النفس قائلًا: كم ذا بمصر من هذا الصنف الذي لا يستحق النعمة!