صاحب السطان الزائف
ليس لديه من دواعي السلطان غير رتبة البك، أما المال فحظه الحقيقي منه قد لا يسلكه حتى في أمثالنا من عباد الله القانعين المتواضعين، ومع ذلك، فقد توافى له من البأس والسلطان ما يندر أن يتوافى لغيره من ذوي الثراء العميم والحسب القديم؛ واتفق له في غير مشقة من وسائل جمع المال ما لو اتفق لسواه من أهل الكدح والجد، لعد عندهم من أنعم الله التي ينسى معها كل عنت ويهون في سبيلها كل نصب … وهو والحق يقال أحد أفراد أسرة فيها من رزق حظًّا عظيمًا من الثراء، وإن لم تكن كغيرها من الأسر الكبيرة القائمة حولها معرقة في الفضل والحسب.
كان يتداخلني العجب كلما ترامى إليَّ شيء من أنبائه، حتى لقد تاقت نفسي آخر الأمر إلى رؤيته كما كانت تتوق وهي غريرة إلى رؤية الغول مثلًا، ولكن على بعد وفي مأمن من أظفاره وأنيابه وكما كانت تتوق قبل اليوم إلى رؤية الدتشي مثلًا وغيره من غيلان الإنسانية، رؤية آمنة من غير الورق أو السينما! ولقد تميل النفس إلى رؤية ما تكره كما تميل إلى رؤية ما تحب وهذا من عجائب غرائزها!
وتحققت لي رؤيته أخيرًا في قريتنا وهي ملتقى عدد من القرى، بينها قرية ذلك الآمر الناهي، وكان ساعة رأيته يجلس في حاشية من «محاسيبه» أمام مقهى من المقاهي على الطريق العام، وهو لا يحلو له الجلوس إلا حيث يراه الغادون والرائحون، فما يراه أحد من ذوي المكانة إلا أقبل عليه مرحبًا مسلِّمًا، وما من صاحب حاجة إلا ويشكو إليه حاجته، ويلتمس عنده طلبته.
وجلست غير بعيد أنظر إليه في جلبابه الفياض، وقد دفع طربوشه إلى مؤخر رأسه، واتكأ على عصاه تحت إبطه، وشمخ بأنفه، ورفعه رأسه إلى آخر ما يسمح به وضع طربوشه الذي ظللت أتوقع من حين إلى حين سقوطه وراء ظهره، حتى رأيته يهوي فعلًا ولكن ليرفعه أحد الجالسين في أقل من ارتداد الطرف، وقد تزاحم عليه نفر منهم يطمع كل واحد أن يحظى بشرف إزالة ما علق به من التراب بِكُمِّ جلبابه.
وجاء الندُلُ مذ رأوه فأحنوا جباههم ورفعوا أيديهم يحيون «سعادة البك» في ابتسام واحتشام، ودارت أقداح الشاي والقهوة على الجالسين، وكان لا يني البك عن طلبها لكل قادم في لهجة كريمة حازمة.
وشكا البك من غبار الطريق، وسأل محنقًا: ماذا يصنع المجلس القروي إذًا؟ ووعد أن يتحدث في ذلك إلى المأمور فسيلقاه في المركز غدًا، وإذا جاء ذكر المأمور تقدم رجل في يده عريضة، وهو يقول: «يا سعادة البك الله يخليك …» وقطع عليه سعادة البك كلامه متسائلًا: ألم تنته مسألته بعد؟ ثم تناول منه ورقته ودسها في جيبه، وصرفه طالبًا إليه أن يقابله عند باب المركز صباح الغد، وما لبثت العرائض أن تزاحمت على جيب البك … فهذا يرجو أن يكون خفيرًا، وذلك يطمع أن يعين فراشًا، وفلان يرجو نقل ابنه إلى بلد قريب، وآخر يستعجله ما وعد في أمره، وهو يكرر لهم جميعًا وعوده مؤكدًا مستمهلًا إلى أمد قريب …
وتسلل أحد جلسائه إلى هؤلاء، فتحدث إلى كل منهم على انفراد برهة، ثم عاد إلى حيث يجلس سيده وفي جيبه هو أيضًا ورق ولكن من نوع آخر!
ولاح ضابط الشرطة مقبلًا فأفسح الجالسون له مكانًا قبل وصوله، وأقبل فسلم على البك في اهتمام عظيم، لا تفلته عبارة من عبارات الترحيب ولا يفوته شيء مما يحفظ من التحيات، يشفعها جميعًا بألقاب التعظيم والتبجيل وبدا لي أنه ضابط ذكي إذ كان يزيد في ترحابه وتحياته كلما رأى أثرها الطيب على قسمات البك، وقل في الضباط من لا يتقن هذا التهويل في مناسبة كهذه، فهو لا يكلفهم شيئًا، أما ما يعود عليهم منه فأقل ما يرجونه أن يكف عنهم أمثال صاحب السلطان هذا ألسنتهم عند أولي الأمر؛ إن لم يجودوا عليهم بالثناء والإطراء بل وبالشفاعة والرجاء، إذا اقتضى الحال شفاعة أو رجاءً.
وارتاح البك إلى حضور الضابط، فانطلق يتحدث عن مقابلاته التي ضاق بها ذرعًا، فحسبه أن قابل فلانًا وفلانًا من الوزراء في أسبوع أكثر من ثلاث مرات، أما مقابلاته للمدير فأكثر من أن يحصرها عد؛ ثم يمسك البك قليلًا ويعود فيقسم بحياة أبيه، وقد تصنع الغضب، أنه لولا ابتغاء وجه الله لما رضي بأن يسود وجهه من أجل الناس على مثل تلك الحال الأليمة.
وتعلق منظاري بمرآه فما يكاد يتحول عنه؛ وذكرت ما ترامى إليَّ قبل من أنبائه، وصدقت ما كنت أحمله قبل رؤيته على المبالغة؛ فهذا الرجل جدير حقًّا أن يذهب بنفسه كما علمت، وقد توسلت به بغي معروفة فراح يرجو لها من بيدهم الأمر ألا يحول الشرطة بينها وبين ما تأتيه من الفجور في أحد الموالد، لا لشيء إلا ليثبت جاهه في ساحة المولد … وهذا الرجل جدير بأن يوهم أغرار الناس بأنه قادر حتى على أن يحول بينهم وبين يد العدالة، وإلا فكيف ذهب يتوسل إليه ليشفع لهم، كما قد علمت علمًا لا يداخله شك، من كانت تهمتهم جريمة القتل؟ وهذا الرجل جدير حقًّا بأن يفهم كل من له به صلة بأن جاهه لا يقف عند الخفراء والفراشين، وإنما يتعدى هؤلاء إلى العمد وإلى من هم أكبر خطرًا من العمد من جماعة الموظفين، وهذا الرجل جدير بأن يحتجز سيارات النقل عند مدخل قنطرة على حدود قريته، فلا تمر إلا أن تدفع قدرًا معينًا من المال، وأخيرًا هذا الرجل جدير بأن يصب نقمته على من يشاء، وأن يختص بنعمته من يشاء، وله في مجال النقم حديث طويل أراه نقمَة بالغة أن أوذي به أنفس القراء.
أما زرعه إذا حان وقت الزرع، وأما حصاده إذا أراد الحصاد، فحدث عنهما ولا حرج، فأهل قريته جميعًا لا يسألونه على جهودهم أجرًا إلا الرضا …
على أن حظه من الزرع والحصاد لا يتطلب عظيم مشقة لقلة ما يمتلك من الأرض، إلا إذا شاء له جاهه فاستأجر أرضًا من أصحابها وزرعها في نظير أجر لا يحظى بمثله في قلته غيره من الناس.
وحمدت الله أن لم تقع عليَّ عين البك، فلقد كنت منه كالجن أراه من حيث لا يراني، فما لي طاقة بأن أتلقى منه نظرات الكبرياء والاحتقار التي رأيته يشيع بها كل فرد ممن يسميهم المتعلمين، سواء من سلم عليه منهم أو من أعرض عنه، وكان لا يفوته أن يسأل عمن يعرض عنه ثم يذكر آباءهم متسائلًا — وإنه ليعلم — تساؤل الساخر المستطيل، وهو يرد إلى هذا الصنف ممن يسمون المتعلمين في القرى كل أسباب الفساد والرذيلة، ولست أدري ماذا كان عسيًّا أن يحدث بيني وبينه إذا أخذتني عيناه فنظر إلي وهو لا يعرفني، مثل هاتيك النظرات؟ على أنه لم يفطن إلى مكاني وكفى الله المؤمنين القتال!
وأرسل البك في طلب سيارة فحضرت، ووقف السائق حتى نهض البك للركوب فخف به جلساؤه، ونادى أحد الندل ووضع يديه في جيبه، ولكن النادل أسرع قائلًا: «الحساب خالص يا سعادة البك.» وأشار إلى أحد الحاضرين، وتظاهر هذا بالحياء، وشكره البك واتخذ مكانه في السيارة بعد أن سلم على مودعيه، وركب معه من يستصحبهم من أهل قريته.
وانطلقت السيارة تحمل ذلك الوجيه العظيم، ومن عجيب أمره أنه على عظمته التي رأيت لا يملك سيارة، ولكن كل سيارة في هذه الجهة ملك له، فهي جميعًا رهن إشارته، ولن يعدم أن يجد «الحساب خالص» إذا اتخذ إحداها، على يد رجل ممن يصحبونه، وهو غالبًا لا يتخذ سيارة إلا إذا أحضرها له صاحب حاجة يرجو قضاءها على يديه، فإن اتخذ سيارة في أمر خاص به وركبها وحده، فهو لا يمسك الأجر عن صاحبها إلا إذا سها، وقليلًا ما يسهو؛ لأنه قل أن يتخذ سيارة وحده.
وبعد، فأمثال هذا العظيم الجلف في الريف غير قليلين، ولكنا نقول على رغم ذلك: إننا في عهد العرفان والنور، وليت شعري إذا كان هذا في عهد النور، فكيف كانت الحال في عهد الظلام، وكيف تكون حالنا غدًا إذا نحن أغمضنا العيون عما يشين، ولم نتلمس السبل للخلاص منه؟