مصري من الخارج
عرفته قبل أن يسافر ولقيته بعد عودته من الخارج، وأشهد لقد آمنت إيمانًا لن يكون بعده جحود بما للخارج من عظمة، وتعاظمني ما بيننا نحن الشرقيين من بون في الحضارة وبين سادتنا الغربيين، حتى لقد أوشك يتملكني اليأس من أي إصلاح لحالنا، إلا أن نرتل جميعًا عالمنا قبل جاهلنا وكبيرنا قبل صغيرنا — اللهم خلا من سلف له أن سافر — بعثة واحدة في وقت معًا إلى بلاد الغرب لنعود بعدها كأهل تلك البلاد لنا ثقافتهم، ولنا ذوقهم ولنا أسلوبهم فيما يأتون من ضروب التفكير والأعمال، ما جل منها وما هان.
ولا يحملن القارئ كلامي على اللهو والمبالغة، فالأمر أجل وأخطر من أن يسمح بشيء من هذا، ولو أنه رأى ذلك الذي أتحدث عنه، كما رأيته قبل سفره وبعد أوبته، لأيقن أني جاد كل الجد، مقتصد غاية القصد فيما أقول، وحسبك أنه اغترب زمنًا ثم عاد إلى وطنه العزيز، وهو شخص آخر قد تغير تغيرًا جوهريًّا من جميع نواحيه إلا ناحية واحدة ستعلم نبأها بعد حين، وقد تم له ذلك على صورة أرى من الميسور معها عليَّ أن أصدق أن لماء التاميز وغيره من أنهار إنجلترة فعلًا سحريًّا، فما هو إلا أن ينزل المرء فيه أو أن يغترف منه غرفة فحسب، حتى يصبح مهما كانت جنسيته، بل إنه ليصبح وإن لم تك جنسيته إلا تلك الحلقة المفقودة التي لفقها خيال العلماء، إنجليزي المظهر والجوهر والخلق!
ما ذهب صاحبنا هذا مذهبًا في حديث له إلا جعل غايته تلميحًا أو تصريحًا، أن يلقي في روع السامع أنه كان في إنجلترة، وأنه بذلك فوق مستوى من لم يتوافَ له مثل حظه مهما تكن مكانته؛ وكيف يكون لمن لم يحظ بذلك مكانة في نفسه على أية صورة من الصور؟ كذلك يعتقد ذلك الأستاذ الذي يتندر تلاميذه، فيما أعلم من عبثهم، أنهم يحصون عليه إشاراته إلى ذلك الشرف في دروسه، وإن أحدهم ليراهن صاحبه على درس يأمل أن ينسى فيه الأستاذ ذكر ذلك، ولكنه يخسر كل مرة، حتى لتحدثه نفسه أخيرًا أن يذهب إلى أستاذه فيتوسل إليه أن ينسى مرة واحدة، وله ما شاء بعدها من الإذعان والمودة!
وهو لا يسمح أن تكون كفايته موضع شبهة من أحد رئيسًا كان أو مرءوسًا، وإنه ليخطئ الخطأ في جدله لا يختلف اثنان في أنه خطأ، ومع ذلك فإنك لتزحزح الجبل الراسخ عن موضعه ولا تزحزحه هو عن موقفه بأية وسيلة من الوسائل؛ ويظل في مكانه لا ينحرف قيد شعرة، ولن تزداد أنت بمحاولتك عنده إلا أنك تمعن في المكابرة، وتسرف في الحمق، وتبالغ في الغفلة، وإنه لن يؤمن أنه يخطئ إلا إذا كان يجادل أحدًا ممن اغتربوا ولو إلى قبرص!
وليته يقف عند هذا الحد، فإنه ليقحم نفسه في كل جدال، فيستمع لحظة حتى إذا قرر أحد المتكلمين أمرًا جابهه بأنه يقرر الخطأ قائلًا: «لا، هذا خطأ.» يقولها في غير مراعاة منه لأي وضع من أوضاع الذوق، ثم يزيدك نكدًا بأن يسمعك نصف عباراته بالإنجليزية ونصفها بالعربية، ولقد يستكثر النصف على العربية أحيانًا، فلا يأتي منها إلا ببعض ألفاظ، ويمعن في الكيد لك فيستدل على رأيه بما قرأ من كتب يذكر أسماءها، والله يعلم نصيب كل منها من الوجود، ولن يذكر فيما يستدل به من الكتب اسم كتاب عربي، وكيف يفعل هذا وهو لا يتورع أن يقول في صراحة إنه يضن بريال من ماله على شراء أي كتاب عربي، بينما يدفع جنيهًا كاملًا أو أكثر، ثمنًا لأي كتاب إفرنجي؟!
إذا صرفت النظر عن طربوشه وسحنته فأنت منه — إذا تبقى بعد ذلك شيء — حيال إنجليزي لا حيال مصري؛ فسرواله وحلته وحذاؤه، كلها إنجليزية اللون والتفصيل، وغليونه إنجليزي الوضع والهيئة والحجم، وأسلوبه في تفريغ ذلك الغليون بدقة على كعب حذائه وفي حشوه وإشعاله أسلوب إنجليزي على رغمي ورغم غيري من الذين ينكرون عليه كفايته؛ لأن الغيرة تملأ نفوسهم والحقد يوغر صدورهم.
ويسيطر على سلوكه خيال إنجليزيته سيطرة عظيمة عند علماء النفس تأويلها فيما يسمونه مركب النقص؛ أما أنا فعملي عمل المصور الخبيث، فأراه حين يتكلم الإنجليزية مثلًا — وقل أن يتكلم غيرها — يلعب بفكيه لعبًا لن أستطيع أن أنكر ما فيه من مهارة، وإلا كنت مكابرًا حقًّا، وأراه يلعب دور الملحن أيضًا، فهو لا يقنع بالمبالغة في إمالة ما يتطلب الإمالة من الحروف، ولا بتفخيم بعض الألفاظ وترقيق البعض، ولا بمد أواخر كلمات واختطاف أواخر كلمات غيرها، ولا بالإتيان بغنة وشنشنة هناك، ولا بقلقلة لسانه فيما يقابل «الراء» عندنا من الحروف الإنجليزية؛ ليخرجه بعد حشره بين وسط اللسان وسقف الفم … لا يقنع بذلك كله وإنما يحاول أن يكون صوته كصوت الإنجليز، فلا يتسق له — وا أسفاه — إلا خليط من اللغط والمواء يحمل أشد المحتشمين على الضحك، ولقد رأيت أحد الإنجليز يستمع إليه وهم، أراحنا الله منهم، أهل كياسة ودماثة، فلم يتمالك نفسه من الضحك فحجب وجهه بورقة في يده، وضحك ملء نفسه ثم عاد يحاول في جهد الاحتشام والوقار …
وإذا اضطره إلى العربية جانب من عمله جاءك بها في ثوب إنجليزي، وتسمعها على لسانه غربية أكثر عوجًا ولُكنَةً في جرسها وإخراجها، مما لو جرت على لسان أحد أساتذة إكستر أو لفربول تعلمها منذ أسبوعين.
وهو برم بمجتمعنا وتقاليده، فكل شيء فيه سخيف عنده؛ وإنه ليعترف لديك في غير تحرج أو استحياء أنه لا يزور ذوي قرباه إلا كل عامين أو ثلاثة؛ لأن صدره يضيق بما يرى بينهم من تقاليد وعادات بالية عتيقة.
وليس للفن المصري في رأيه أثر في الوجود، ولا للموسيقى المصرية وقع في النفس، ولا للأدب نصيب من الحياة، ولا للحياة المصرية كلها وضع من أوضاع الذوق … لا ولا للشرق جميعًا تراث يصح أن يسمى مدنية!
وبعد فليت هذا الذي يتشبه بالإنجليز هذا التشبه يحاكيهم في غير الحلة والحذاء والغليون واللهجة! نعم ليته ينقل عنهم بعض ما بهروا به العالم من خلقهم، بل ليته علم أن الإنجليز أبعد الناس عن التقليد السخيف؛ لأنهم لا يرون بينه وبين الانحلال والتبذل كبير فرق!
ليته نقل علمهم وأتقن أسلوب تفكيرهم، ثم اقتنع بهذا الجد وحافظ على مظهر قوميته وروح وطنيته، وإن بعض إخوانه ليعود إلى وطنه، وما أغناه ماء التايمز عن ماء النيل، وما إن يرضى بأن يقيم من نفسه دليلًا على شعوره بحقارته!
وما حاجة هذا المتكلف إلى العلم وبيده «رخصة» بأنه كفء على الدوام أحسن أو أساء، وما به حاجة إلى أن يعمل فهو سابق غيره إن جد وإن أهمل وإن ظهر من جهله ما يضحك، مهما يبلغ من كفاية هذا الغير، وذلك بحكم هذه الوثيقة بل هذه الحجة الدامغة التي تغني عن كل شيء! وإن وثيقته هذه لتذكرني «بصكوك الغفران» التي كانت تبيعها الكنيسة للناس في العصور الوسطى، فتغفر لهم ما تقدم ما ذنوبهم وما تأخر.
وإن إكبار المجتمع لأمثال هذا المصري الآتي من الخارج ليجري على أسلوب كأسلوب العلوم الذي تراه في مثل قولهم: «فلان متربي في بلاد بره.» أو كأسلوب بعض جهلاء الذوات في الجيل المنصرم عندما كانوا يقولون: «فلان جي من إستنبول.»
لقد ذهب الزمن الذي كان يراد فيه لغاية مرسومة وضع هؤلاء القادمين من الخارج مهما يكن من عجزهم موضع التفوق، ومات الغرض من ذلك بتيقظ قوميتنا وانبعاث نهضتنا، فحتام نشهد على أنفسنا بالضعة ونقدح في كفاية معاهدنا وأساتذتنا؟ … حتام يا أولي أمرنا … حتام؟!