فتوات ميري!
ما أحسبك أيها القارئ إلا قد اتجه ذهنك إلى ما أريد لأول وهلة، فاستحضرت صورة نفر من شرطتنا الأبطال والعياذ بالله تعالى، وإلا فمن غير هؤلاء يصدق عليهم هذا النعت وهو مصدر وحيه إليَّ كما يوحي الشيء الرائع بالمعنى الرائع؟
ولست أكتم عنك أيها القارئ أني بهؤلاء الأبطال ضائق أبدًا، يغيظني مجرد مرآهم، وأكدر الأصباح عندي صباح يطالعني فيه بطل من هؤلاء قبل أن تقع عيناي على سواه من عباد الله، وإنه والله بعدها ليوم أسود، أظل أسأل الله فيه العافية.
ولست أتبين في نفسي على وجه اليقين ماذا دس فيها الحفيظة على هؤلاء حتى لأطيق كل صنف غيرهم من الأرذال، ولا أكاد أطيق حتى مجرد ذكرهم، ولو تمثلت لي الشياطين وتراقصت حولي بأشكالها وألوانها عن يمين وشمال لأنست إليها، ولألفتها قبل أن أستطيع أن أصبر عل مرأى واحد من هؤلاء «الفتوات الميري».
وأرجع بالذاكرة القهقرى ربع قرن فأراني على سور نادي «سيروس» أتدلى لأهبط في حديقته، وأنا صبي في الرابعة عشرة وفي يدي كتبي جئت بها من المدرسة مضربًا؛ لأستمع إلى سعد يخطب بعد أوبته من جبل طارق، وقد حال العساكر عند الباب بيني وبين آلاف غيري من الدخول، فما أدري إلا وعصا شديدة تهوي على وسطي، فأقع على ظهري صارخًا وتتناثر كتبي ولا ينقذني من الرعب والهلاك إلا أحد الضباط، وأنسى الألم لفرحتي بالدخول إلى حيث أسمع سعدًا … أيكون مرد بغضي هذه الطائفة إلى ذلك الحادث؟ ولكني بيني وبينه ربع قرن.
وتثب ذاكرتي إلى الأمس القريب فأجدني أتهيأ للنزول من الترام ذات يوم، فإذا بعملاق من هؤلاء يتحمس وهو على السلم في تحية أحد ضباطه، ولكن يده الهابطة عن جبينه تقع في عنف على منظاري، فإذا به يطير عن أنفي، ولولا أنه استقر على ذراع أحد الواقفين على السلم لما وقفت له على أثر، على أنني وجدته قد تحطمت إحدى زجاجتيه، ولا تسل عن مبلغ ما نال أنفي من الألم وما ركبه من ورم بضعة أيام، فهل كان هذا اللعين يثأر لنفسه ولطائفته مقدمًا من هذا المنظار؟ لست أدري … وهل يرجع شيء من حفيظتي على هذه الطائفة إلى ذلك الحادث أيضًا؟ ولكني ضائق بهم من قبل ذلك ضيقًا شديدًا …
ولقد زادني غيظًا من هؤلاء وسخطًا عليهم مناظر تتابعت منذ أيام بعضها في إثر بعض، كأنما تآمرت بها الظروف على كيدي.
هذا رجل ملقى على الأرض ذات مساء على الطوار أمام الغرفة التجارية يقيء من فوق ومن تحت، وقد أقيم على هذا الطوار ثلاثة من الشرطة غلاظ شداد؛ ليمنعوا السابلة أن تطأ أقدامهم القيء حذر الموت وانتشار الوباء، وكان أحدهم في وسط الطوار، والثاني في طرفه الشرقي والثالث في طرفه الغربي، وكان ما كلفوا به من أمر جد خطير، ولكنهم اجتمعوا ثلاثتهم يتحدثون وظهورهم إلى المريض والسابلة يطئون القيء، ويحملون منه ما يكفي لإبادة القاهرة كلها، ولست أدري أين ذهب وقتذاك الأطباء والمسعفون، وانزعج أحد المارة لتحذير الناس إياه وهو شاب كان يتأبه ويتنبل بمشيته وملابسه، ولكنه وطيء القيء ونظرت فإذا به جن جنونه وراح يشتم هؤلاء ما وسعه الشتم، ثم دخل صيدلية قريبة فطهر حذاءه وعاد يستأنف الشتم ويتم المعركة … أتظن بعد ذلك يا قارئي العزيز أنهم — أعني هؤلاء العساكر الأماثل — عادوا كل إلى موقفه فلبث فيه؟ كلا والله، فما لبثوا أن تجمعوا ثانية يتحدثون ويضحكون والسابلة يطئون القيء، وهم لا يعلمون مبلغ ما يخوضون من هول، وكان يكتفي أحد الشرطة البواسل بأن يدير وجهه بين حين وحين فيقول لأحد المارة: «ما قلنا يا سيدي ألف مرة: بلاش مرور من هنا.»
ورأيت مرة أخرى عددًا من هؤلاء وعلى رءوسهم خوذات الحديد المهيبة، وقد جلسوا على مقاعد جلبوها من أحد المقاهي عند أول شارع قصر العيني في مدخل ميدان الإسماعيلية، وراحوا يمصون وعلى رءوسهم تلك الخوذات عيدان قصب السكر، يا لطيف … يا دافع البلاء يا رب! هل يرى نزلاؤنا مسخرة في مصر أروح من هذه المسخرة؟
ورأيت مرة ثالثة، فريقًا من هؤلاء — والعياذ بالله مما رأيت — كانوا يضربون بعض المتظاهرين بهراواتهم، فهل رأيت «الفتوات» ذات مرة في أحد أحيائنا البلدية يتهيئون لمعركة، ثم يمعنون في الحي كله تحطيمًا وضربًا لا يبالون ماذا يحطمون ولا من يصيبون؟ على هذا النحو انطلق «الفتوات الميري» يضربون كل مار فيصيبون طبيبًا أو مهندسًا أو شيخًا أو أستاذًا، وكان آلم ما شاهدت ضربة فظيعة تهوي على ظهر تلميذ في نحو الثانية عشرة، فما يكاد يصرخ المسكين حتى تنحبس صرخته في صدره فلا يستطيع إطلاقها من فرط ألمه، وذقت معه الألم مرتين فقد ذكرت العصا التي «أكلتها» على سور نادي سيروس.
وتشاء المصادفات الأليمة أن أصطبح منذ يومين باثنين من هؤلاء الشجعان ينظران في أقفال الدكاكين، في الصباح الباكر وقد ألفيت نفسي حيالهما فجأة عند منعطف في أحد الشوارع … يا حفيظ … قل أعوذ برب الفلق! لقد كان يكفيني من الهم مجرد رؤيتهما، فما بالك أيها القارئ وقد سمعت أحدهما يغني …! إي والله يغني وفي يديه هراوته قائلًا: «أنا من ضيع في الأوهام عمره.» ولست أدري كيف يكون لهذا الحيوان عمر؟ وكيف يضيع في الأوهام عمره وما ضيعه إلا في الجهل والإجرام …
وبعد فلو أني مضيت أسرد ما يغيظني ويحفظني على هؤلاء لضاق عنه أضعاف هذا المجال، فبحسبي تفكهة للقارئ ودرءًا لما قد يكون ناله من سيرة هؤلاء البواسل من ضيق، أن أقص عليهم تلك القصة … أُمِر أحد شرطتنا في حفلة من الحفلات منعًا للتزاحم أن يُدخل الناس، اثنين اثنين، ووقف الشرطي الهمام النبيه، فجاء أحد الباشوات ومشى وحده في غير زحمة، ولكن الشرطي منعه من الدخول فهو لا يدخل حسب الأمر إلا اثنين، وضحك الباشا وعاد فاستصحب سائق سيارته، فما أسرع ما أفسح الجندي لهما الطريق ودخل الباشا يضحك ملء نفسه، ويدق كفًّا بكف ويقص النكتة على المحتفلين قائلًا: «دخلت بنَفَس هذا السائق.»
وهنيئًا لحكومتنا «فتواتها الميري»، فأنا على يقين أنها تتنازل عن متاحفنا جميعًا في يسر، ولا تتنازل عن هذا الطراز العجيب النادر من شرطتها الذين يحق أن تباهي بهم العالم، وتبلغ في مباهاتها حد الإعجاز.