يا خسارة!
المجلس حافل كعهده كل ليلة بالشخصيات من كل نمط، ففيه القاضي والمحامي والأستاذ والنائب والكاتب والشاعر والصحفي وغير هؤلاء ممن أداروا ظهورهم للعمل، وركنوا إلى المعاش أو إلى الراحة …
ويتشقق الحديث حتى لينسى السامرون كيف بدأ ولا أين اتجه، ثم لا يلبث أن ينتهي بنكتة أو ينقطع بسلام قادم يأبى على عادتنا إلا أن يصافح الجالسين، من يعرف منهم ومن لا يعرف في حماسة وشوق …
وظل هذا حال المجلس ساعة ثم انتظم الحديث وأخذ سمته إلى غايته، واتجهت الأنظار إلى شاب من صحابتي لم أقدمه إلى أحد، وإن كان يعرف الكثيرين بأسمائهم وأشخاصهم.
أخذ هذا الفتى يتكلم بعد صمت، وأنصت السمار إليه أول الأمر يتبينون من هذا القادم الجديد، وإني لأعلم من قبل أنه سوف يأسرهم بحديثه، ففي صوته ما ترتاح إليه الآذان من إشباع في غير غلظ، ومن رنين في غير حدة، وفي منطقه ولهجته من الظرف والهدوء وحسن السياق ما يجذب إليه النفوس من حيث لا تشعر؛ وفي محياه من الفتوة والقسامة، وفي عينيه من البريق والدعة، وفي فمه من الابتسام والسلام، في كل أولئك وفي حسن إشارته وإيماءته ما يجعله حِدِّيث مجالس من طراز نادر.
هو في الخامسة والثلاثين أو زاد عليها قليلًا، مهندم الثياب في تواضع يدل على رقة الحال أكثر مما يدل على السعة، ولكن خفة روحه وبراعة تحدثه يصرفان الأعين عن ثيابه إلى شخصه ثم عن شخصه إلى حديثه …
واتجه الحديث بعد أن انتهى شوط منه إلى السياسة بعد الأدب، فأعجب هذا الشاب الواسع الاطلاع سامعيه على اختلاف مذاهبهم، إذ أشار إلى أن بعض النقص في كمال هذا الزعم يعوضه بعض الكمال في نقص ذاك.
وانتقل الكلام إلى الاقتصاد فأنصت مليًّا ثم أدلى برأيه، فلخص ما سمع من آراء تلخيصًا جميلًا، فكأنما أتى برأي جديد، وهو لم يأت بشيء إلا ما نسقت فطنته وأدت بلاغته …
ومال الحديث بالسامر إلى قضية المرأة والرجل، فقال: إنه لا الرجال صالحون للحكم على النساء، ولا النساء صالحات للحكم على الرجال، وهذه هي القضية التي لا يوجد فيها حَكم من غير الطرفين، ولسوف تنعقد جلساتهم ثم تؤجل إلى أجل غير مسمى؛ وذلك لأن الرجال والنساء لا يرتضون الحكم الأول الذي صدر من الغيب على آدم وحواء …
وضحك السامرون وخرجوا من الجد إلى المزاح، وراح كل يدلي بما يحفظ من نكتة أو يذكر من نادرة، ثم أنصتوا إلى صاحبي الشاب فأضحكهم جميعًا بنكاته وأقاصيصه، وراعهم بحافظته وسرعة انتقاله من نكتة إلى نكتة، وهو ينسبها جمعيًا لأصحابها بل ويذكر الصحف التي نشرتها والمناسبة التي أخرجتها.
وبدا لأحد الجالسين فسأل هذا الشاب ما عمله؟ وابتسم الشاب ابتسامة عريضة تجلت فيها خفة روحه، ولكن مازجها شيء من الدعابة الناقمة، وقال: أنا ناظر مدرسة …
وعاد سائله يستفهم أثانوية أم ابتدائية هذه المدرسة؟
ورد الشاب بقوله: «لا يا فندم إلزامية بس.»
وصاح أحد الجالسين من غير وعي قائلًا: «يا خسارة!»
وضج بعض الجالسين بالضحك؛ ونظر آخرون في ساعاتهم يريدون أن ينصرفوا؛ وصمت في غيظ وعبوس شخص كان يناديه تارة يا أستاذ وتارة يا بك، وانتحى البعض جانبًا مُزْورِّين وهم ينظرون نظرات كريهة إلى هذا الذي أعجبوا به منذ دقائق.
وارتفع صوت أحد الفضلاء يقول للذي أعلن الخسارة: حسبتك والله تقول: «ونعم» … حتام يا قوم تغرنا الألقاب والرتب؟ وحتام نحترم الرجل لجاهه أو لماله أو للقبه؟ أليس في ذلك معنى من معاني العبودية؟ وكم عندنا من نظار المدارس الابتدائية أو الثانوية من نضعهم إلى جانب هذا الأستاذ في سعة اطلاعه ورجاحة عقله. ألا إن المرء بأصغريه … ألا إن المرء بأصغريه.
أما صاحبي فلم يأبه بما حدث؛ لأنها كما حدثني ليست أول مرة يلقى فيها مثل ما لقي، وما زاد على أن ضحك ملء نفسه من المزْوَرِّين جميعًا، وإن كنت أحسست في ضحكه المرارة والألم …