صاحب الديوان
إياك أن تظنه «ديوان شعر» فمثل هذا أهون من أن يحفل به إلا من كانوا مثله من ذوي الأحلام والأوهام، في هذه الدنيا التي باتت لا تحفل بالأحلام ولا بذوي الأحلام.
ولعلك فطنت بعد هذا ما أعنيه بهذا اللقب؛ ثم لعلك فهمت لم أسميه «صاحب الديوان»، فما كان لفظ «الموظف» أو «المستخدم» وما يجري مجراهما مما يفي بالغرض في معرض الحديث عن ذلك الذي توافى له من أسباب الجاه والسلطان ما يسمو به على الناس، رضوا بذلك أو لم يرضوا؛ وما أرى نعته بمثل تلك الألقاب المتواضعة إلا ضربًا من الخطأ أسبق مجمع اللغة في تلافيه، فأضع له هذا الاسم الجديد، وبودي لو وقعت له على اسم آخر أكثر فخامة وأضخم جرسًا وأبلغ رهبة.
ولست أدري وقد وقع منظاري على أنماط وأشكال من أصحاب الديوان من منهم أدير إليه الحديث أولًا، فأجعله في طليعة أصحابه فإني لست بمعفيهم جميعًا من حديثي، ولو لحقني بعدها من سطوتهم ما أعض أصبع الندم عليه.
أأبدأ بالحديث عن ذلك الشاب الماجن المتظرف الذي لا تساوي الدنيا في نظره شيئًا؟ أم أبدأ بصاحبه المتزمت المتبرم الذي يحمل الدنيا كلها على رأسه؟ أم أدعهما إلى ذلك الكهل الذي أخلق برد الشباب على مقعده وهو يلتفت إلى الماضي في حسرة، ويحتمل الحاضر في ملل، وينظر إلى المستقبل في يأس، ولا يني عن احتقار من هم دونه والحقد على من خلفوه وراءهم وكانوا وإياه في صف واحد عند بدء الشوط؟ أم أبدأ من عل غير متهيب، فأتحدث عن ذلك الذي يخضع له هؤلاء جميعًا، ويتملقه أكثرهم وليس فيهم من لا يكره أن يودع كرسيه في أقرب فرصة؟
الحق أني حائر، ولا مخرج لي من هذه الحيرة إلا بأن أعرض عليك صورة لفريق أصحاب الديوان في قاعة من قاعاتهم قد وقفت منهم، بل جلست جلسة المتفرج ساعة.
دخلت تلك القاعة في شأن من الشئون، فوجدت نحو خسمة عشر من هؤلاء ينصتون إلى من يتلو عليهم حديثًا وهم على مكاتبهم يرنون إليه حتى إذا فرغ من قصته انطلقوا يضحكون في صخب عظيم، ثم أخذ كل منهم يسابق الآخر في التعقيب عليها بما يسعه من نكتة أو قصة مشابهة، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير، وأنا واقف في ركن عند مدخل القاعة لا أدري من أقصد، ولا أجد من يلتفت إليَّ كما لو كنت «صاحب ديوان» مثلهم لا حرج علي ولا غرابة في أن أكون معهم في حجرتهم.
وكان قد مضى على بدء العمل أكثر من ساعة، ولكن أغلب المكاتب كان لا يزال خاليًا من الأوراق، وبعضها كانت خالية حتى من أصحابها، ونظرت إلى الباب فإذا فريق من الصبية يدخلون وفي أيديهم أصناف «الصينيات»، فهذا يحمل «الفول»، وذلك يقبل «بالطعمية»، وثالث لا يحمل غير القهوة.
وأخذ أصحاب الديوان في تناول طعام فطورهم أو في شرب القهوة، اللهم خلا ثلاثة أو أربعة، راح أحدهم يقرأ في جريدة الصباح وراح الآخر ينظر إلى السقف كأنما كان يفكر في حل معضلة، ولعله كان ينتظر أن يفرغ صاحبه من جريدته ليتناولها بعده، وأخذ الثالث يفتح قمطرات مكتبه ويغلقها ولا يخرج منها شيئًا، أما الرابع فقد تناول بعد «الدوسيهات» وصار ينظر فيها واحدًا بعد الآخر، ثم فتح أحدها أمامه، وأخذ يصفر بشفتيه لحنًا جميلًا.
وكنت قد جلست على مقعد خال بجانبي، وليس ما يمنع — وإن لم يكن في يدي عمل — أن أكون أحدهم، ولعلهم ظنوا — إن كان فيهم من عني بأن يظن — أني أنتظر أحد الغائبين بناءً على موعد سالف؛ وكان علي في الواقع أن أنتظر، ولكني كنت أنتظر الحاضرين حتى يفرغوا من طعامهم وشرابهم، أو قراءة صحفهم لأستطيع أن أعرف من بينهم من يوجد لديه حل مسألتي.
ودنوت من أحدهم فسألته فسرعان ما أحالني على موظف سماه في «قلم» من الأقلام، ورأيت في وجوه إخوانه كأنهم رأوا فيَّ فريسة جديدة لعبثهم، وتبينت فيها ضحكات مكتومة، فقد أحالني على موظف غائب وعلمت أنها حيلتهم في صرف كل قادم أو في «زحلقته» على اصطلاحهم.