صاحب الديوان أيضًا
مضيت إلى الديوان للمرة الثانية، وأنا أمني النفس أن أحظى هذه المرة بما لم أحظ به في المرة السالفة من حل لمسألتي؛ ولقد حرصت على أن يكون حضوري إلى الديوان في ساعة بحيث لا يدع مجيئي مجالًا للشك في بدء العمل به؛ فكنت هناك في نحو الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام.
ورأيت في إحدى الردهات من توسمت فيه أنه صاحب ديوان، فاتجهت إليه مبتسمًا محييًا، ورجوت منه أن يدلني أين أذهب للسؤال عن كيت وكيت، فأجاب دون أن يقف، وأنا أسرع الخطو لألحق به، كأنما كان في سبيله لتلافي خطر من الأخطار الداهمة: «عند حسني أفندي في الشطب هناك على شمالك وراء السلم.»
وذهبت إلى «الشطب»، فإذا هو قاعة كبيرة، فيها نحو عشرين من أصحاب الديوان، ورأيتهم جميعًا لأول نظرة، والحق يقال، منكبين على أوراقهم، فقصدت أقربهم إلى الباب، فحييت وقلت: «حضرتك حسني أفندي؟» فلم يزد على أن أشار بإصبعه إلى من أردت دون أن تنفرج شفتاه ولو برد التحية، ولعله كان في شغل بعملية حسابية معضلة، أو بتدبير حل لمشكلة من مشاكل عمله الخطير.
ونظرت إلى حسني أفندي وأنا أخطو إليه، أحاول أن أتبين شيئًا عن خلقه من مظهره، فخانتني فراستي إما لقصر المدة؛ وإما لأني رأيت منظره يدل على ألف معنى فلا يدل من أجل ذلك على معنى! ووقفت أمام مكتبه فحييت في هدوء مبتسمًا متظرفًا أحرص الحرص كله على أن أكون خفيفًا ظريفًا على نفسه ما وسعني الظرف … ولكن ظرفي أو قل تظرفي ذهب عبثًا، فإنه لم يرفع رأسه من بين أوراقه ليراه، ولمحت دلائل الغضب على محياه فتهيبت! ولكني استعنت ثانية بابتسامة عريضة أطرح بها ثقلي، وألبس ما استطعت من الظرف، وكررت التحية فرفع رأسه هذه المرة ونظر إلي قائلًا: «أهلًا وسهلًا يا فندم.» ثم عاد إلى أوراقه كأني ما جئت إلا لأتبادل وإياه عبارة التحية على هذه الصورة الجميلة، ثم أنصرف!
وانتظرت برهة، وهو ينقل عينيه من هذا الدفتر إلى ذاك، ويكتب هنا كلمة وهنا سطرين، دون أن يخطر على باله أن هناك أحدًا يريد التحدث إليه، ولعله قد تعود ذلك فما يأبه لمن يقف أمام مكتبه، ولو ظل هناك إلى موعد الانصراف.
وطال انتظاري حتى أوشك أن ينفد صبري، والمرء على أي حال لا يطيق مهما بلغ من حلمه ألا يأبه به الناس في غير داع إلى ذلك … على أني عدت فتلطفت، وإن كرهت من نفسي هذا التلطف الذي أخذ يسمج كسماجة ذلك الذي لا يريد أن يلتفت إلي، وناديته باسمه في صوت مسموع، ونفسي تحدثني أنه قد يكون بانكبابه هذا على العمل من ذوي النشاط فعسى أن أفيد من نشاطه في إنجاز ما جئت له.
وأخيرًا بدا له أن يستجيب إليَّ؛ فقال في كثير من التؤدة وعدم المبالاة: «نعم يا أفندي.» فأخذت أشرح له أمري، ولكنه ظهر كمن لا يعي مما أقول حرفًا وبدا في وجهه التململ والامتعاض ثم مد يده إلى أوراق كنت أعددتها في يدي، فنظر فيها نظرة ثم قال: «لا، دا هناك في المستخدمين عند عزت أفندي.» وعاد بعدها قبل أن أدير ظهري إلى ما كان فيه من جسيمات المشاكل، كان الله في عونه.
وانطلقت أبحث في «المستخدمين» عن عزت أفندي هذا لأخبره بما قال حسني أفندي الذي في «الشطب»، فكان حالي معه كما كان من سلفه: تشاغل عني وصلف في الرد علي، وما كان جوابه سوى أن قال هو أيضًا: «يا فندم موضوعك ده في الحسابات عند مراد أفندي.» وخرجت من لدنه أسأل نفسي أأخرج من الديوان إلى غير عودة، فقد آلمني ما ألاقيه وليس في مسلكي ولا في مظهري ما يستأهل هذه المعاملة، أم أعتصم بالصبر فأحظى بالمثول بين يدي مراد أفندي أيضًا؟ وملت بعد تردد إلى الرأي الثاني، ولكن مراد أفندي أكد لي أن مسألتي عند حسني أفندي في الشطب، وإلا فهو لا يعرف في الديوان شيئًا.
ولعله كان بين مراد وحسني ما جعل أولهما ينهض ليذهب معي إلى الثاني، وعدت إلى حسني أفندي في الشطب، وبين يدي هذه المرة صاحب ديوان مثله، وبعد نظرات كريهة رماني بها حسني وبعد مشادة ليست بالهينة بين صاحبي الديوان، تبين أن المسألة عند هذا الذي أحالني من أول الأمر على غيره! ولكنه لم ينظر فيها بل استمهلني إلى غد، ولم يسمعني، وقد رأيت ما رأيت إلا أن أخرج وأمري لله!
ولعله في غد يحيلني على أحد الغائبين من أصحاب الديوان، فقد ثبت لدي أن هؤلاء يعرفون الغائب من إخوانهم في أية حجرة، فيحيلون كل قادم عليه، وبهذا يفرغون لحل معضلاتهم الجسيمة كان الله معهم وجزاهم عن عباده الحائرين أحسن الجزاء.