صاحب الديوان الظريف
أما إنه ظريف حقًّا فذلك ما يتبين من هذا الحديث الذي أسوقه عنه، ولكم تمنيت لو كان أصحاب الديوان جميعًا على شاكلة هذا الشاب الذي ساقتني الظروف السعيدة إليه …
ولن يتسع المجال إذا أردت أن ألم بنواحي ظرفه جميعها؛ ولذلك فحسبي أن أقصر الحديث على آخر لقاء كان بيني وبينه.
دخلت حجرة عمله فما رآني مقبلًا عليه حتى خف للقائي ضاحكًا مرحبًا يمد لمصافحتي يمناه، ويقدم إليَّ كرسيًّا بيسراه على صورة لفتت أنظار الكثيرين ممن حوله من أصحاب الديوان، وأمثال هؤلاء لن يلفت أنظارهم الرصينة المنكبة على حل المعضلات إلا أمر غير مألوف.
وجلست ترمقني العيون برهة وحرت أول الأمر كيف أبدأ الكلام وما جئت زائرًا، ولا أنا بصديق لهذا الذي أسرني ظرفه، وما كانت معرفتي به إلا من كثرة ترددي عليه من أمر لي عنده.
وبدأ هو الكلام فقال: «قهوة ولا قرفة ولا شاي يا سعادة البيه؟» واعتذرت شاكرًا فما زاده اعتذاري إلا إلحاحًا، بل وتوسلًا أن أتنازل فآخذ شيئًا مما ذكر، ولست أدري ماذا كان بلغ من قوة إلحاحه، بل قوة تراجعه لو تبين على وجهي أمارة القبول، على أني — والحق يقال — لم أر في وجهه إلا أنه جاد، وإلا فبما يفسر هذا التوسل الذي ما فتر والذي لم ينته في الوقت نفسه آخر الأمر إلى شيء؟
وابتسمت وتواضعت وتصنعت الحياء وقلت في رفق يتناسب مع ما لقيت من ظرف: «لعلك انتهيت من مسألتي.» فقال: «أيوه يا فندم قربنا … حالًا إن شاء الله، الحكاية كثرة عمل والمدير كل ساعة يطلبنا، وكل عام وأنت بخير إجازة المولد … على كل حال كن مطمئنًّا إحنا محاسيب يا فندم …»
وجاء أحد السعاة فاستدعاه لمقابلة المدير، فنظر إليَّ كأنما يقول هكذا لا يني المدير عن طلبه، وأخذ في يده مجموعة من الأوراق كان ينظر إليها في اهتمام، واستأذنني وهو يرجو أن يعود فلا يجدني.
وجلست أنا متعجبًا حائرًا كيف يكون هذا الذي أرجو منه حل مسألتي محسوبًا لي، وهو لا يعرفني كما ذكرت إلا من ترددي عليه؟ وتنازعني الضحك والغضب، فأما الضحك فمن هذه الحركات «البهلوانية» المحكمة؛ وأما الغضب فلأنه يظن أني لست أفهم أنه يسخر مني، دع عنك إهمال أمري الذي استمهلني آخر مرة جئته فيها من أجله ثلاثة أيام، فما عدت إليه منذ ذلك اليوم إلا بعد ثلاثة أسابيع، ومع ذلك يقول: «قربنا» والمسألة في غير مبالغة لا تستغرق منه أكثر من ربع الساعة!
وعاد فوجدني لا أزال في موضعي، فتلاقى في وجه التجهم والابتسام في وقت واحد، وهو من كثرة مرانه يعرف كيف يبتسم بأحد صدغيه، ويتجهم بالصدغ الآخر … ثم غلبت ابتسامته تجهمه في أسرع من ارتداد الطرف، ونظر إلى من ابتسم إليه من أصحاب الديوان ابتسامة فهمت منها أنهم يضحكون منه؛ لأنه لم يستطع أن يصرفني أو يضحكون من أني على الرغم من ألاعيبه بقيت ثابتًا لا أتحول.
وجاء شخص غيري رقيق الحال يلبس جلبابًا عليه معطف يسأله هو أيضًا عن مسألته، فقال في نفس ظرفه وأدبه: «حاضر يا عم — إن شاء الله — تجينا بعد يومين تكون مبسوط.» ولما شكا الرجل وغضب قال له باسمًا: «حلمك يا بويا إن الله مع الصابرين قلت لك: إن شاء الله تكون مسرور.» ولما أدار الرجل ظهره لينصرف نظرت إلى صاحب الديوان، فإذا به يخرج له لسانه، وابتسم ابتسامة عريضة وضحك من رآه من أصحاب الديوان، وكثيرًا ما أضحكهم بمثل هذه الأمور كما قرأت ذلك على وجوههم.
واتجه إليَّ قائلًا: «شرفت يا بيه.» وفهمت معناها فليست إلا مطالبة بالجلاء، وهممت أن أنصرف، وقد تأكد لي ما سبق أن عرفته من أن الأوراق عند أصحاب الدواوين قسمان، قسم يعلم به المدير أو الرئيس، وهذا هو الذي ينجز ويعد، وقسم لا علم للرئيس به، وهذا لا يتناوله أصحاب الديوان، ولو بمجرد القراءة، وعلى مصالح الناس ألف سلام!
وسلمت فنهض يصافحني في ظرفه ولباقته، وهو يقول: «ما تأخذناش يا بيه، والله الواحد خجلان … حالًا إن شاء الله.» ومضيت ولكني التفت عند الباب أنظر إليه، فلست أدري لم أُلقي في روعي أنه ظل يخرج لي لسانه منذ ودعته.