صاحب الديوان المجد
مجد في عمله، لا يعرف في جده هوادة؛ فإذا رأيته يقرأ جريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات، فمن أعظم التجني عليه أن تحمل عمله على أنه مضيعة للوقت في غير جدوى، فما هو إلا استجمام لا بد منه لمن يعاني مثل عنائه المتصل؛ وإذا رأيته يبدأ عمله عند العاشرة أو في منتصف الحادية عشرة، فاعلم أن ذلك من أثر إجهاده نفسه وتحامله على أعصابه في اليوم السالف، لا شيء غير ذلك، وإذا رأيته يتزاور عن مكتبه، فيحرق دخينة في أثر دخينة، أو يرتشف القهوة في هدوء وسكون، ويقضي في ذلك ساعة أو بعض ساعة، فترفق بهذا الجسم الذي أنهكه الجهد، ولا تأثم فتظن بصاحبه الظنون.
وصاحب الديوان هذا لا يطيق أن يرى وجوه الناس، فإذا أبصر أحدهم مقبلًا، أحس كأنما يقبل عليه مكروه من مكاره الزمن، فيلقاه متأففًا، متبرمًا، وإنه ليتمتم حين يراه بألفاظ لا أدري أيسوقها ضد القادم الكريم، أم ضد المزمن اللئيم الذي وضعه حيث يستقبل هؤلاء، الذين يصرفونه عما هو فيه من جد لا يعرف معه هوادة؟!
دخلت عليه ذات يوم قبيل العاشرة، فرأيته لسوء حظي أو لحسن حظي — لست أدري أيهما الصواب — يترك مكتبه ليغادر الحجرة إلى حيث لا أعلم من الحجرات أو من الجهات، فحاولت أن أستوقفه مترفقًا، فاستمهلني دقيقة واحدة وهو عابس، ثم ازور عني في حركة سريعة خيل إليَّ معها أنه يخشى أن أرجعه بالقوة إلى مكتبه.
ولبثت أنتظره في مقعد تفضل به علي أحد زملائه، مرت اللحظات ثقالًا طوالًا ولم يعد، حتى إذا يئست من رجوعه وهممت بالانصراف رأيته مقبلًا، وجاء وفتح بعض أدراج مكتبه وأغلقها، ولكنه لم يأخذ منها شيئًا ولا وضع شيئًا، وفعل ذلك دون أن يجود بنظرة علي أو أن يخطر بباله أن أحدًا من عباد الله ينتظره لأمر متصل بعمله ولن يؤديه سواه.
واعترضت طريقه إذ رأيته يتأهب للخروج مرة ثانية، وما التقت أعيننا وانفرجت شفتاي في ابتسامة هادئة عن قولي: من فضلك … حتى أشاح بوجهه عني مقطبًا قائلًا في تبرم وضيق: «عن إذنك يا أفندم.» ومضى وإنه لضائق بثقلي وثباتي في موضعي، وخيل إلي بل لقد أيقنت أنه عقد النية على ألا يكلمني ما دمت هناك، كأنه لا مفاوضة عنده هو أيضًا إلا بعد الجلاء!
وصممت من جانبي ألا أنصرف أو يكلمني، وإن أخذتني الحيرة كيف أحمله ولو على أن يلتف إلي فضلًا عن أن يحادثني، ولقد كنت أرجح عودته إلا إذا غادر الديوان إلى داره، وترك طربوشه حيث كان على مكتبه يحدث كل سائل عنه أنه هنا وأنه قادم بعد دقيقة، وإن تتابعت في غيابه الدقائق بل والساعات!
وجاء أخيرًا فاستوى على كرسيه وفتح دفترًا كبيرًا، وراح ينظر فيه وعلى وجهه أمارات الجد وأمارات تجاهله وجودي في وقت واحد، ثم قطع عليه جده المصمم زميل له فأخبره بأن فلانًا من الرؤساء استفهم عنه، فأجاب متكلفًا عدم المبالاة، أنه ما كان يلعب وأنه هلك من الجري هنا وهناك في الأرشيف والمستخدمين وتحت وفوق باحثًا عن أوراق تتصل بما في يده من المسائل.
وظللت ساكتًا لحظة، فأقبل شخص بادي الوجاهة، يطأ أرض الحجرة في صلف وينظر نظرة ذي جاه، وفرحت إذ رأيته يتجه إلى صاحب الديوان المجد، فيسأله في لهجة الآمر عن مسألة طال به انتظار الإجابة عنها؛ وتجهم له صاحب الديوان ولم يأبه، ولما تهدده الرجل أن يرفع الأمر إلى رئيسه، انطلق صاحب الديوان مزمجرًا، ونهض واقفًا يخبط المكتب بقبضة يده عدة مرات حتى لقد أشفق ذلك الرجل أن تمتد واحدة منها إلى صدره أو إلى بطنه فتراجع قليلًا، وقد تطايرت الأقلام من مكانها، وسال المداد من المحابر، وتناثرت الأوراق، وزلزت الدفاتر وخشعت الأصوات في جوانب الحجرة، والتفت أصحاب الديوان يتفرجون على عاصفة جديدة كم رأوا قبلها من عواصف؛ وانطلق لسان المجد الثائر بعباراته المألوفة «يافندي أنت بتهددني؟ من فضلك ما تعطلنيش يافندي … أما شيء غريب والله، روح اشتكي زي ما أنت عاوز … هو أنا فراش عندك؟ الواحد طول النهار هلكان من العمل وجاي حضرت تفلقنا؟»
ولم يكن لي بعد هذا الذي رأيته إلا الجلاء بلا قيد ولا شرط، ولقد أصابني من دوار العاصفة ما زعزع إيماني بقوتي، ولم لا أقرر الحق فأقول: إني منذ رأيت أهاويل الشر في وجه صاحب الديوان هذا قد رضيت من الغنيمة بالإياب؟
وأرجو ألا يظلمه القارئ فيرميه بالإهمال وأكل العيش من طريق غير حلال، فما هو إلا مجد أحسن ما يكون الجد، وإن كنت أيها القارئ في ريب مما أقول فابحث عن رئيسه، فلعلك تجده قد طلب ترقيته مكافأة على جده.