في حجرة صاحب ديوان …!
استأذنت فسرعان ما أذن لي بالدخول عليه، ولقيني بترحاب وبشاشة يعرفهما فيه كل من دخل حجرته، وقل في أصحاب الديوان من كان له مثل أريحيته ونبله على رفعة منصبه وسعة نفوذه، فإن أكثرهم — وا أسفاه — لتسفل نفوسهم بارتفاع مناصبهم، وإنهم ليتأبهون على الناس، ويتكرهون لهم حتى لكأنهم يُحيون ويميتون … وليس لهم في الواقع من الأمر شيء …
وإنه لينزلني منه منزلة الصديق وأنا تلميذه، ويرفع مكانتي عنده، ويحب «منظاري» ولا يفتأ يحدثني عنه.
ومن أعظم ما حببه إلي على كثرة ما أحببت من صفاته، أنه يستمع في أناة عجيبة إلى كل شاكٍ، لا يتبرم ولا يقاطع ولا ينفد صبره، ثم يقول ما له وما عليه، لا يلتوي ولا يغالط ولا يتحفظ.
كان على مقعد قريب من مكتبه وكيله في العمل، وهو يكبر رئيسه فيما أعلم بنحو سبعة أعوام، ويسبقه في التخرج بمثل هذه السنوات، ولم يخف على منظاري أن بنفسه من ذلك شيئًا بل أشياء …
واستبقاني الرئيس بعد أن أفضيت إليه بما جئت من أجله، ودخل شاب بعد أن أُذن له فسلم وظل واقفًا، وقرأت في وجهه أنه يكتم غضبه، وأُذن لقادم آخر فدخل وهو كهل في أول الكهولة فيما قدرت، وأشار إليه الرئيس فجلس على مقعد ينتظر دوره في الكلام … ولمحت كذلك في وجهه أنه يمتلئ حفيظة وغضبًا …
وقال الرئيس للشاب: أظن أنه ينبغي أن تسافر، فإن فلانًا بك مصر على ألا يقبلك بعد اليوم عنده؛ ومشت في هيكل الشاب رعدة وقال في عبارة مضطربة وفي لهجة تصور مرارة نفسه: معنى ذلك أن الموظف بهيم لا إرادة ولا رأي ولا كرامة له؟ … لم لا يُفهم فلان بك أنه أخطأ حتى لا يعود ثانية إلى الخطأ، وإلا فما وجه خطئي أنا كيلا أقع فيه من بعد؟ ينبغي إذًا أن أصانع كل رئيس على حساب الحق والكرامة والصالح العام … لا … لا … هذا كثير …
وظلت في وجه الرئيس بشاشته على الرغم مما كان يرتسم على محياه من علامات الألم لما يقول الشاب، وقبل أن يتكلم الرئيس، انطلق ذلك الكهل الذي كان ينتظر دوره، وقد نهض كالخطيب فقال يخاطب الشاب: اسمح لي أن أنصح لك نصيحة مجرب: طلق الكرامة والذمة والحق والأمانة ما دمت قبلت الوظيفة، كرامة؟ رأي؟ إرادة؟ إنك يا بني تحلم … أنت في مصر. إنك تكلف نفسك رهقًا شديدًا إذا تمسكت منذ الآن برأيك، وحكمت ضميرك وأرضيت خلقك … أنت يا بني عبد … لا تغضب فأنا عبد مثلك … وكل موظف عبد من أكبر كبير إلى أصغر صغير وإنما يستعبد بعضنا بعضًا. كرامة؟ رأي؟ ضمير؟ … أنت فين؟ … المسألة أكل عيش بأي شكل، وكل واحد لا يهمه إلا نفسه … الصالح العام؟ أين هو؟ … إحنا فين؟ … داحنا في مصر …
وظل صاحب الديوان على هدوئه وبشاشته، وجلس الخطيب الكهل بعد كلام طويل من هذا القبيل؛ وأخرج الشاب ورقة من جيبه فدفعها إلى الرئيس، فإذا هي استقالته، وراجعه الرئيس متلطفًا ثم استمهله يومين لينظر في الأمر؛ وخرج الشاب، والتفتُّ إلى الكهل فإذا قضيته هي قضية ذلك الشاب ولكنه كما قال: لا يستقيل؛ لأن له بنين وبنات ينفق على تعليمهم وليس يملك غير مرتبه. ووعد الرئيس كذلك أن ينظر في أمره من أجل أولاده، فانصرف وهو يقول: حسبي الله …
ونظر إلى الرئيس وقال باسمًا: كأني أراك تكتب «منظارك»؛ وما كاد يلتفت حتى طلب الإذن مستأذن فأدخل، فإذا بشاب في نحو الخامسة والثلاثين دمث مهذب فيما يبدو، في وجهه من الهم والكدرة أكثر مما فيه من غضب، وسلم وقال: أنا فلان، وسرد تاريخ حياته، ثم ذكر أن فلانًا من فرقته رقي وهو ثاني الفرقة، وأنه هو لم يرق وهو الأول، ويحب أن يعلم لم تخطاه الثاني، فإن كانت له عيوب فمما يشفي نفسه أن يعرفها، أما أن يقال له: إنك «ممتاز» وأما أن يثني عليه رؤساؤه جميعًا ثم يترك، ويرقى من هو دونه فذلك ما لا يستطيع أن يسيغه ولا أن يحمل على قبوله عقله، وهو ما لا تطيقه كرامته …
وعند ذلك انطلق الوكيل الذي ظل صامتًا منذ أن دخلت، فأخذ دور ذلك الكهل الخطيب، وقال في اتزان ولكن في كثير من التحمس: اسمع يا أستاذ ألا زلت من السذاجة، لا تؤاخذني … ألا زلت من الطيبة بحيث تفهم أن الأمر أمر كفاية واستحقاق …؟! ابحث تجد صاحبك تزوج حديثًا فترقى، أو جرى في ركاب عظيم فنال الأجر، أو هو قريب فلان باشا أو علان بك، أو غير ذلك مما أستحي أن أذكره، فإن استطعت أن تفعل مثله أو يكون لك مثل ظروفه فستظفر بالرقي، وإلا فستبقى حيث أنت إلى أن يشاء الله، أنت في مصر على رأي صاحبنا الذي خرج … أنت في مصر يا بني … انظر فهأنذا بيني وبين الستين أربعة أعوام، وقد تخطاني من لا أحسبهم جاهدوا في الحياة جهادي، وخدموا البلد خدمتي … ثم ضحك ضحكة مرة ونظرت فإذا في وجه الرئيس شيء من الحرج، وفي عينيه ما لا يخفى معناه من اختلاج، وفطن الوكيل فتدارك الأمر قائلًا … لا مؤاخذة يا بك فأنت ذو فضل وما عنيتك بما أقول … معاذ الله، ثم ضحك ضحكة أخرى لم أدر أقصد بها التبسط، أم قصد إظهار ما في نفسه من غضاضة …
وقال الرئيس لهذا الأستاذ: اترك لي مذكرة فسأنظر في أمرك، وقال الأستاذ وهو يهم بالانصراف: إني سأقبل على عملي غير متأثر بشيء وإن كان الألم ملء نفسي، ولكني أخشى أن يأتي الوقت الذي أصبح فيه كالحصان تدفعه العربة إن لم يجرها … وضحك الوكيل قائلًا: … لست أول عبيط ولن تكون الأخير … أتظن أن في الرؤساء واحدًا يعنى بأن يفكر في هذا؟ حسبه التفكير في نفسه!
ونظر الرئيس إليَّ ضاحكًا وقال: وأنت ما شكواك؟ فقلت: إني أستكبر أن أشكو … قال: هل تكتب هذا الذي رأيت وسمعت؟ قلت: لست أصبر إلا بجهد حتى أكتبه.
وقال الوكيل: وما جدوى كتابتك؟ يظهر أنك عبيط آخر …
لا تؤاخذني … اكتب ما شئت إنك لا تسمع من في القبور … أتحسب هذه أمورًا مجهولة تكشف عنها بما تكتب فتنبه ذا غفلة؟ كلا إن ذلك كله معلوم، وقد شاع الفساد حتى شمل الدولاب كله فماذا تقول؟ وماذا تريد بكتابتك … أأنت صاحب معجزة؟ والله لو جاءتك معجزة ما استطعت أن تغير ما نحن فيه … يا شيخ الله يفتح عليك … أنت في مصر … ها … ها … ها … غيِّر الجيل كله وابدأ من جديد!
وتنهد الرئيس وقال: لا أخفي عنكما وأحدكما زميلي والآخر تلميذي، أني كرهت العمل وأني أتمنى لو استطعت أن أفعل فعل ذلك الشاب الذي دفع إلي استقالته … أتدرون ماذا يقول؟ يقول إنه يريد أن يهاجر إلى الأرجنتين لينسى أنه مصري! … إني أريد أن أعمل شيئًا فلا أستطيع.
لقد فسد الدولاب من فوق فنزل الفساد إلى كل جزء … هأنذا أسمع الشكايات طول يومي، ثم أرفع الأمر إلى من هم فوقي فلا أظفر بشيء، وأحمل الأوراق المكدسة إلى منزلي، فأسهر الليل في تصريفها وعملي لا يعدو أن يكون في الغالب تنفيذ ما أومر به.