في عيد الفسيخ
أرجو ألا يحمل القارئ تسميتي هذه على المزاح، فلست لعمر الحق مازحًا، وما أستطيع أن أسمي الأشياء بغير أسمائها حتى في هذا الزمن الذي يسمى كل شيء فيه بغير اسمه.
وإنما تسمى الأعياد بأبرز خصائصها، على هذا النحو كان عيد الأضحى وعيد الميلاد، وليس في القراء من يستطيع أن يجادلني في أن الفسيخ قد أصبح أبرز خصائص ذلك اليوم الذي نسميه شم النسيم؛ فليت شعري وهذا هو شأن الفسيخ فيه لم لا نسميه عيد الفسيخ، وقد تلاشى في جمال الفسيخ كل جمال؟
الأصل في هذا اليوم أنه عيد الربيع، عيد الورد، عيد النسيم الذي ينفح بالعطر ويزخر بصور الحسن، ولست أشك في أصله؛ ولكني لست أدري ماذا جعل الفسيخ فيه يطغى على الزهر؟ ولعمري ما أرى أي رابطة بين هذا وذاك، وليس من ينازعني حتى المولعون بالفسيخ أنفسهم أن هذا شيء وذاك شيء آخر أبعد ما يكون عنه عنصرًا ومعنى؛ وإن كان في الناس من يقول: «يخلق من الفسيخ شربات.»
درت بمنظاري فحار المنظار أو حارت عيناي من وراء المنظار، ماذا تسجل وماذا تدع؟ أأستطيع أن أمر، دون أن أضحك، بهؤلاء الذين جلسوا للطعام على بسط الربيع، فما كان أمام الكثرة المطلقة منهم إلا هذا الصنف من الطعام الذي يجب أن يكون آخر ما يؤكل خارج المنزل، إن جاز أن يؤكل في أي مكان قط؟ وكان مبعث ضحكي من هؤلاء أنهم يعانون رهقًا شديدًا في تناوله، ومع ذلك فهم يقبلون عليه في شراهة جلعتني أعتقد أن أسمى الجمال عندهم في هذا اليوم هو في ذلك «السلخ»، وذلك «النتش» وما يصحبهما من تلويث الأيدي والملابس فضلًا عن تلويث الجو كله رائحة احتبست منها أنفاس الزهر، دع عنك مخلفاته الثمينة التي تزيد بتناثرها هنا وهناك هاتيك البساتين جمالًا على جمال!
وما كان هذا المنظر وحده هو الذي انقبضت له نفسي، فلقد كان ما رأيت في النهار كله دليلًا لا يكذب على أن الناس ما خرجوا من دورهم لاجتلاء جمال الربيع، والاستمتاع بصفاء الربيع، وإنما جاءوا ليشوهوا جمال الربيع عامدين بكل ما في وسعهم من أسباب التشويه.
على أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء «الأفندية»، الذين تحلقوا على الحشائش فما خفت لهم صوت منذ جلسوا، وما جرت ألسنتهم إلا بكل عوراء مخزية من النكات والحكايات، حتى لعبت برءوسهم بنت زجاجاتهم فازدادوا نكرًا وقحة وعلى جوانبهم أسر فيها أوانس وسيدات؟
وعلى أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء الشباب المتعلمين، الذين يأخذون السبيل على كل غادية ورائحة، ولا يتنادون إلا بأشنع السباب وأوقح الأسماء والذين لا يطربهم أكثر من عبارات السب توجه إليهم ممن يغازلن «ويعاكسن»؟ ثم ما هذه «الشلل البلدي» الذين اصطحبوا من اصطحبوا ممن كن وإياهم على موعد في هذا اليوم الجميل، فجاءوا وجئن يضيفون إلى معاني جماله هذا المنظر المخزي البغيض؟
بل ما هذا الأفندي الوجيه الذي خلع سترته، وألقى بطربوشه ووقف يرقص في حركات بهلوانية وحوله من يصفق له ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه، وهو لا يزداد على التصفيق إلا جنونًا وانتشاءً، ثم لا يفتأ يعاود حركاته كلما استخفه التصفيق ممن أولعوا باستخفافه؟ وما هؤلاء الشحاذون الذين انتشروا هنا وهناك، فكانوا أثقل على الهادئين من المهرجين، ومن الذباب ومن رائحة الفسيخ؟ ما هذا الضجيج، وما هذه الفوضى التي تلاشى فيها جمال الربيع وصفو الربيع، واستخزى لها وجه الربيع، حتى لو استطاع ربيعنا لبحث له عن أرض غير هذه الأرض، وناس غير هؤلاء الناس؟!
رأيت هذا، فذكرت يوم شم النسيم في القرية، وطاف برأسي عذارى الريف يسبقن الفجر زرافات إلى الترع، فيستحممن ويملأن جرارهن ويغطينها بالريحان والنوار، ويعدن مغنيات ضاحكات تنفحهن أنفاس الفجر الندية الرخية، وترمقهن باحتشام عيون الشبان في طريقهم إلى شجر التوت، وفي أيديهم الريحان والسعد والنعناع والورد، فلا يكون بين هؤلاء وأوليائكن إلا الابتسامة الحلوة أو التحية العفة، ويكون نهارهم ونهارهن فيضًا من الجمال والهدوء والانبساط، ومما شاءوا وشئن من هوى عذري تبقى ذكراه وذكرى يومه سحر العام كله.