محمد أفندي …!
قيل وما أكثر ما قيل: إن قلة الذوق في مجتمعاتنا مردها في الغالب إلى خلوها من المرأة، وإلى هذا أشار صاحب «الرسالة» في أكثر من مناسبة، وعنده أن الشباب إذا ازدانت مجتمعاتهم بالأوانس شدوا الشكيمة وكبحوا الجماح، وحرص كل امرئ منهم على أن يظهر على خير ما يحب من دماثة الخلق، ورقة الحاشية، ولطف الحديث.
ولكن منظاري — قاتله الله بل عافاه الله وصرف عنه كل غشاوة — يأبى إلا أن يكشف لي عن موقف لا تتحقق فيه هذه الفكرة بل لقد نقضت فيه من أصولها، وجاء الأمر على عكس ما تفاءل المتفائلون وتمنى الكاتبون.
كنت مسافرًا إلى الريف الحبيب في قطار فالتقيت في ممر من ممراته بثلاثة من الشبان تقاربت أعمارهم، وكان كل منهم بادي العافية حسن البزة متهلل القسمات؛ ونادى أحدهم رابعًا لهم كان في اتجاهي يسبقني بخطوات فقال له: أمامك في هذه العربة قبل الآخر بديوان تجد محمد أفندي إلا جانب الشباك الأيمن، وقد حجزنا أمكنة فانتظرنا هناك.
ودخل «رابعهم» هذا الديوان المشار إليه، وأحسست كأني أنجذب إلى هذا الديوان نفسه فدخلت واتخذت مكاني، ولكني لم أجد إلى جانب الشباك الأيمن غير آنسة أجنبية لم تقع عيني في نهاري كله على أجمل منها صورة وأملح منها محيًّا، وبدت لي في منتصف العقد الثالث من عمرها، كالوردة في زمن الورد بلغت أقصى تفتحها ومنتهى ريعانها.
وكانت متجهة ببصرها إلى النافذة، لا تلتفت إلا ريثما ترمق الداخل، ثم تعود فتتجه اتجاهها الأول، وكان على محياها الجميل ما يشبه الهم من فرط سكونها واحتشامها.
وتحرك القطار وجاء الشبان الثلاثة، وجلسوا في ضوضاء بعد أن نظر كل منهم إلى هيئته في المرآة، فأصلح ما تشعث منها، وتشاغلت عنهم بكتاب في يدي، ولكن منظاري لم يغفل عنهم، فرأيتهم يتخاطبون بالأحداق لحظة، وعلى فم كل منهم ابتسامة خبيثة، وكلهم يومئ لصاحبه برأسه نحو النافذة اليمني.
وقطع أحدهم فترة هذه الإشارات اللاسلكية بقوله: «محمد أفندي تقلان علينا يعني قوي.» وضحك الآخرون ضحكات ماجنة مائعة … وفطنت أن محمد أفندي لم يكن غير تلك الآنسة التي تتجه بنظرها إلى الفضاء الممتد خارج القطار! وليغفر القارئ لي بطء فهمي إلى هذا الحد.
وأيقن أربعتهم أنها لا تعرف العربية، فانطلقت ألسنتهم بألوان من القحة، عجبت ولن أزال في عجب، أن لم يبد على وجه أحدهم أي شيء من الخجل، وقد كان من ألفاظهم ما أخجل الآن لمجرد أن أتذكرها! ثم ذهب كل منهم يتظرف بما وسعته سماجته، فهذا يأتي بضروب من النكات لا يسيغها إلا ذوقه وذوق أصحابه، وذلك يداعب خاتمه الماسي وساعته الذهبية، وآخر يخرج حافظة نقوده فيقلب الأوراق المالية ثم يردها إلى جيبه، هذا فضلًا عما تنافسوا في سرده من المغامرات التي صرف فيها ما صرف من الأموال، وكلها بالضرورة من نسج الخيال — كل أولئك و«محمد أفندي» في شغل عن ظرفهم، ولطف حديثهم بالنظر إلى فضاء الأرض.
ولما أفرغوا ما في جعبهم من بارد النكات وسخيف الحكايات، انتظرت أن يتطرق إليهم اليأس أو يمسهم شيء من برودة الموقف فيخجلوا؛ ولكنهم انتقلوا إلى ما هو أدهى وأمر مما كانوا فيه، فراحوا يصفون في طريقة بهيمية جمال تلك الآنسة وهي ساكنة لا يبدو على قسماتها إلا ما يبدو على قسمات تمثال من التماثيل من الثبات على حال واحدة، ثم شاءت لهم دماثتهم أن يجعلوها موضعًا لنكاتهم، فهي ابنة بائع إسفنج في الريف أو هي لا تكلف أكثر من نصف ريال يدفع لخريمي، إلى غير ذلك مما أمسك القلم عن ذكره من عبارات هؤلاء الظرفاء المهذبين!
ودنا القطار أخيرًا من إحدى المدن فنهضت الفتاة لتنزل، ومدت يدها إلى الرف لتأخذ حقيبة صغيرة فتقدم أحد هؤلاء الظرفاء، وأنزلها لها فتناولتها، وهي تقول له في عبارة فصيحة: «أشكرك جدًّا يا أفندي.» ثم خرجت من الديوان.
ونظرت إلى وجوههم وحمرة الخجل تلهب وجنتي، وأشهد لقد شاع في تلك الوجوه الصفيقة شيء من هذه الحمرة، ولكن لعل مرد ذلك إلى وجودي، ولعلهم لو كانوا وحدهم لأجابوها بضحكة من ضحكاتهم، أو بنكتة من ظريف نكاتهم.