متحمس …!
يتحمس في كل شيء: في رأيه، في إشارته، في نطقه، في عبارته، في جلسته، في حركته، فيما يختار من ألوان مبلسه، في ضحكته، ولا بد أنه قياسًا علي كل هذا متحمس كذلك في بكائه، وكم تمنيت — على شدة كراهيتي للبكاء — لو رأيته يبكي لأرى مبلغ حماسته في دمعته!
قارب الثلاثين أو جاوزها قليلًا. حديث العهد بشهادة من شهادات إحدى جامعتينا فهو بها معتز مغتبط متحمس في اعتزازه واغتباطه، ولست أجد في ذلك ما يلام عليه فهذا ما يفعله كثيرون غيره ممن يظفرون بالألقاب العلمية الضخمة، ومن منهم لا يحب أن يصبح دكتورًا مرموق المكانة عظيم الخطر؟
وصاحبنا الذي اختلس منظاري النظر إليه ساعة، وحملقت فيه عيناي أكثر من مرة من شدة إعجابي به، ولست أقول من فرط تعجبي منه، قد عقد النية فيما علمت من أنبائه على أن يكون دكتورًا مهما كلفه ذلك من جهد، ثم ما زال حتى ظفر بهذا اللقب في يسر فما أيسر أن تصنع جامعتنا الدكاترة، وإلا فماذا تكون رسالتها في مصر؟ على أنني لا أذكر أني رأيت فيمن يحملون هذا اللقب العظيم من هو أشد ذهابًا بنفسه من صاحبنا هذا، ولا من يصطنع لهجة الأستاذية والضلاعة، ولا من يقطع بالرأي في سرعة ويقين، ولا من يقذف بالأحكام العريضة في سخاء ويسر، كما يفعل هذا الذي أصبح دكتورًا منذ قريب، وهذا هو سر إعجابي به، فما أحسب إلا أنه يستطيع أن يستغني بذلك كل الغنى عن جميع الألقاب؛ لأنه سوف يغدو بما يفعل ويتحمس، فيلسوفًا.
كل وصف عنده، سواء وصف ما يرضيه أو وصف ما يسخطه، يأتي على وزن أفعل كما يقول النحاة، فهذا أحسن مؤلف ظهر حتى اليوم، وفلان أكبر عالم في البلد، وهذا أجهل رجل بكيت وكيت من المسائل، وهذه أحسن خطة؛ وهكذا دائمًا على وزن أفعل النحاة، أو على طريقة أفعل التجار في مثل قولهم: أحسن صنف وأفخم قماش وأجمل لون وأرخص سعر «وأعظم ملبن»!
وهو على أهبة دائمًا لأن يعارضك فيما تبدي من رأي، وليته يقارعك حجة بحجة، أو يُعنَى حتى بمجرد الاستماع إلى أن تتم رأيك، فإنك ما تكاد تشير إلى فكرة حتى تراه يثب عليك وينهال بما حفظ من مسائل، فيورد طائفة مختلفة من الآراء، وليس يهمه إن كانت تتصل من قريب أو من بعيد بما يدور الكلام حوله، وإنما يكفيه أنه هكذا قرأها، وإنه ليوردها أحيانًا مبتورة مشوهة فيقحمها عليك إقحامًا، فإن غيرت مجرى الحديث لتصحح له نصوصه عاند، وأصر على أن الصحيح ما يقول، فلا مناص إذًا من أن تجد نفسك وإياه وقد خضتما في حديث جديد لتنتقلا منه بنفس الطريقة إلى غيره ثم إلى غيره، وحينئذ ينظر إليك نظرة الظافر، ويبتسم ابتسامة من يرثي لضيق عقلك وقلة اطلاعك، وإنه لأهون عليك ألف مرة أن ترضى بذلك من أن تسايره في جدله.
وإنه ليلتفت إلى متحاورين في المجلس فما أسرع ما يجعل من نفسه خصمًا ثالثًا وما سأله أحد رأيه، وإنه ليسفه كلا الرأيين المجادلين، فما تدري ماذا يريد، ثم يهجم هجومه على أسلوبه المعتاد، فهذا الرأي أضعف ما قيل في هذه المسألة، وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة، وقول فلان هذا يرفضه أبسط متعلم، ولا يجوز عند أقل الناس إلمامًا وأضعفهم إدراكًا، وإن الرأي الصحيح بل أدق الآراء وأحذقها هو ما ذكره العلامة فلان والفيلسوف علان في كيت وكيت من الكتب، وإنه ليرتعش من جميع نواحيه وتهتز أطرافه من فرط تحمسه، وتتعاقب الصفرة والحمرة على محياه الكريم، بحيث لو دخل زائر في هذه الحال لما شك أنها معركة تبودلت فيها أقذع التهم وأفحش المطاعن؛ وتراه ينظر إلى كل متحدث نظرة من يريد أن يقول: ما لهذا الجاهل ومناقشة الفلاسفة؛ والغريب أنه يفترض الجهل في كل شخص غيره وإنك لترى في وجهه من الغباء والظلمة ما يحملك على الضحك منه بل الرثاء له …
وإنك لتقرأ في وجهه العجب والغضب من أنك تطاوله، فضلًا عن أن تنكر عليه ما يقول، فهل قرأت مثل ما قرأ أو بعضه؟ وكيف لا تؤمن بطول باعه ورسوخ قدمه، وإنك لتراه يتناول كل معضلة ويجادل في كل فن ولا تغرب عن ذهنه صغيرة ولا كبيرة من المسائل، فإن تكلم في المجلس اقتصادي انبرى له، وإن تحدث لغوي وثب عليه، وإن جادل سياسي أخذه من أقطاره، وإن شرح طبيب سبب علة أبان له وجه الخطأ فيما يقول، وإن أرخ مؤرخ لحادث شهده بنفسه أو روى حديثًا عن عظيم طواه الموت جابهه بما يشبه التكذيب؛ لأنه لا يمكن أن يعتقد وقوع ذلك فإنه أبعد ما يكون عن العقل والمنطق، وأضعف سندًا من أن يعتمد عليه! هكذا يأبى وهو الفيلسوف أن يقبل شيئًا يرفضه العقل، ولو كان مرده إلى النقل …
وبعد فما كانت الحماسة عيبًا، وإننا معشر المصريين لمن أكثر بني الدنيا تحمسًا في معظم الأمور، وإنما هو هذا المنظار اللعين يأبى إلا أن يستخرج من هذه الحماسة الشائعة ما يسوقه مساق التندر والمعابثة، ولست أشك أن القارئ يخالفني أشد المخالفة في إنكاري التحمس، ويرى من أفظع الظلم وأرذل القسوة وأكبر المغالطة، وأوجع الجمود أن أنال باللوم هذا المتحمس النابغة.