الإسلام والشيوعية
اطلع «ماركس» و«إنجلز» على بعض مراجع «الأنثروبولوجي» — علم الإنسان التي تكلم أصحابها عن عبادات القبائل الأولى؛ لأنهما يستدلان بأحوال المجتمع في تلك القبائل على سبق النظام الشيوعي البدائي — لنظام الملك الخاص والطبقة المستأثرة بوسائل الإنتاج. ولكن لا يظهر من كلامهما على الأديان الكبرى أنهما توسعا في الاطلاع عليها، ولا يظهر من كلامهما العاجل عن الإسلام والمسلمين أنهما اطلعا على قواعد الإسلام، كما يفهمها من يتصفح القرآن الكريم والأحاديث النبوية، فضلًا عن أقوال الأئمة والحكماء الإسلاميين.
وقد قلنا في ختام الفصل السابق: إننا مطالبون بإفراد القول عن الإسلام في مذهب الشيوعيين؛ لأننا أحق من الكتاب الغرباء عنه بجلاء الشبهات التي يوردها عليه من يجهلونه، أو يسيئون النية في تصوره وتصويره، ونزيد على ذلك أنَّ دراسة الشيوعية في آرائها عن الدين خاصة تستوجب دراسة الدين الإسلامي قبل غيره من الأديان العالمية الكبرى؛ لأنه يتضمن وحده معظم الشواهد التي تدحض آراء الشيوعيين في نشأة الدين؛ ولأن الإسلام نظام اجتماعي إلى جانب عقائده وشعائره الدينية، ونظرة الشيوعيين إليه في دور تطبيق المذهب الشيوعي على الخصوص كنظرتهم إلى مزاحم خطير، يخشون منه أن ينازعهم السلطان على عقول الأمم وضمائرها في مسائل الأخلاق والمعاملات، مع ما يوحيه إلى العقول والضمائر من إيمان وثيق لا طاقة به لفلسفة الحياة كما يبسطها الماديون.
فعلى صفحات وجه هذا الدين الحنيف — ولا إيغال في أعماقه بعد — حجة ناهضة لا تنهض معها حجة للذين يزعمون أنَّ الدين خدر للشعوب يروضها على الفقر والمسكنة، ويلهيها بالآخرة عن نعيم الدنيا؛ ليستأثر به سادة المجتمع ويغتصبوا منه علانية — أو يسرقوا منه خلسة — ما طاب لهم أن يغتصبوه أو يسرقوه.
فالإسلام يأبى للمسلم أن ينسى نصيبه من الدنيا، ويأمره أن يأخذ من طيباتها، ويعيد عليه هذا الأمر في آيات متعددة من القرآن الكريم: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ.
وليس من الإسلام أن يتجرد المسلم من زينة الدنيا ليُقبل على الآخرة، بل هو مأمور بأن يأخذ نصيبه من الزينة وهو بين يدي الله، وأن يعد زينة القوة من نعمه التي يشكره عليها: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.
ولم يخطر لعدو من أعداء الإسلام أن يتهمه بتحسين الجبن والاستكانة لأتباعه؛ بل خطر لهم أن يصفوه بنقيض ذلك، ويبالغوا فيما وصفوه فيقولوا عنه: إنه دين السيف أو دين القتال.
ولا مبالغة في وصف الإسلام بهذه الصفة، إلا أن يكون معناها عند قائلها أنَّ الإسلام يعرف السيف ولا يعرف غيره، أو أنه يضع السيف في غير موضعه، ويبطل الحجة والبرهان جهلًا بها حيث لا موضع للغلبة والإكراه.
وليس السيف من شريعة الإسلام بهذا المعنى، فقد كان الإسلام مبتلى بسيوف أعدائه قبل أن يكون له سيف يذود به عن نفسه، ولم يأمر الإسلام قط بتجريد السيف عدوانًا على أحد، ولم يجرده قط في سبيل الدعوة إلا ليحارب به قوة تقاوم الدعوة بالسيف، فحارب الدولة البيزنطية والدولة الفارسية؛ لأن الخلاف بينهما لم يكن خلافًا على الحجة والإقناع، وفعل ذلك بعد إبراء الذمة من دعوة العواهل المتحكمين في بيزنطة وفارس إلى الكلمة السواء، فلما أعرضوا عنه وتوعدوه وحالوا بينه وبين أسماع الناس جرد عليهم السيف، إذ لا محيص له من تجريده، وكان الاحتكام إلى السيف هنا كأشرف ما يكون الاحتكام إليه في قضية من قضايا الدنيا أو الدين.
وأصدق ما يقال عن الإسلام في أمر السيف: إنه يأمر بالسيف؛ لأنه ينهى عن الجبن وينهى عن العدوان، ولم يأمر به ليوضع في غير موضعه أينما كان.
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ، وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ.
ومقاتلة البغي واجبة على المسلم كلما أوجبتها الضرورة في صد العدوان من الأجانب عنه، أو في صد العدوان بين طائفة وطائفة مثلها من المسلمين: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ.
والمسلم فيما دون الحرج الذي يوجب القتال لا يعفى من إصلاح السيئات التي يؤمر باجتنابها، إذ هو مطالب بتقويمها إذا استطاع بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإنه لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. ومن الواجبات الاجتماعية المفروضة على الجماعة في الإسلام أن يكون منها آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، يتولون عنها هذه الفريضة التي لا تنساها جماعة إنسانية إلا بادر إليها الفناء، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وما هلكت الدول كما جاء في الكتاب الكريم إلا لأنهم كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ. وقد حق الهلاك على المستضعفين؛ لأنهم يعتذرون بالضعف، وهم قادرون على النجاة بأنفسهم من الخضوع للسادة المتحكمين فيهم: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.
ومهما يتعنت صاحب الهوى في توجيه الكلمات ومعانيها، فما هو بقادرٍ على أن يتخذ من أوامر الإسلام حجة لتسخير المجتمع في خدمة أصحاب الأموال أو القابضين على وسائل الإنتاج، كما يقول المفسرون الماديون للأديان، فقد كان السادة في الجزيرة العربية يربحون من الربا المضاعف ومن احتكار التجارة، فجاء الإسلام بتحريم هذا وذاك أشد التحريم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وقال عليه السلام: «من احتكر طعامًا أربعين يومًا يريد به الغلاء، فقد برئ من الله وبرئ الله منه.»
ويمنع الإسلام الاحتيال بالمتاجرة بالأعيان سترًا للربا الذي يحرمه، وفي ذلك يقول عليه السلام: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى.»
ومن الاحتكار الممنوع أن يجتمع المال في أيدي طبقة من الأمة كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ.
ومن المحتكرين من يكنزون الذهب والفضة والقناطير المقنطرة وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
فإذا قيل عن هذه الأوامر والنواهي: إنها خدمة لأصحاب الأموال، وتيسير لاستغلالهم أرزاق الفقراء، فليس للكلام من معنى يقبله العقل أو يأباه.
ولم يكن في سنة الإسلام أن يبيح لمنكر أن يقول كما قيل كثيرًا: إنَّ الشرائع إنما توضع للفقراء ولا تسري على الأغنياء، فقد كانت التفرقة بين الناس في الحدود أشد ما حظره النبي وحذر منه قومه، وكان ممن وجب عليهم الحد في حياته عليه السلام سيدة من أسرة مخزومية، فشفع لها عنده أسامة بن زيد، فزجره وقام في الناس خطيبًا فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.»
ولنا — بعد — أن نمتد بأطراف البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها الإسلام إلى أقصى تخوم الجزيرة العربية، فلا نرى في هذه البيئة الكبرى حجة لمن يقول: إنَّ الدين ينشأ في البيئة لخدمة سادتها واستبقاء سيادتهم عليها، فقد كان سادة العرب على خصلةٍ لم يشتهروا بخصلةٍ أشهر منها، وهي الكبرياء بالنسب والعصبية العربية.
كانوا فيما بينهم يفاخر بعضهم بعضًا بعراقة الأصول والأجداد، وكانوا في جملتهم يفاخرون الأمم بالنسبة العربية ويسمونها الأعاجم، كأنها كانت عندهم خلقًا من الحيوان الأعجم، وكان أميرهم يترفع عن مصاهرة الأكاسرة وهو تابع لهم في دولتهم؛ لأن عزة الملك لا ترفعه إلى مقام الكفاءة العربية، فلو صدق القائلون بأن الدين من إملاء السادة في بيئتهم لما خرج من هذه البيئة دين إنساني يخاطب الناس كافة، ويستنكر المفاخرة بالأنساب والعصبيات، ويسوي بين العرب والعجم، وبين القرشي والحبشي، بل يفضل الأعجمي على العربي والحبشي على القرشي إذا فضله بالصلاح والتقوى.
وقد كان الإسلام صريحًا في هذا الأدب الإنساني منذ نشأته الأولى، ولم تأت فيه وصايا المساواة عَرَضًا في سياق وصاياه النافلة التي تستحب ولا تكره مخالفتها، ولكنها جاءت في الكتاب الكريم والأحاديث النبوية مؤكدة مقررة على صيغةٍ لا هوادة فيها، وكانت سنة النبي عليه السلام في توكيدها وتقريرها من السنن التي لا تخفى على أحدٍ من أصحابه، فيما عم أو خص من قدوة حياته الشريفة، صلوات الله عليه.
فمن القرآن الكريم نعلم أنَّ النبي — صلوات الله عليه — مرسل للناس كافة وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وأن الناس أمة واحدة يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وأن الحياة الباقية لا أنساب فيها، ولا فضل فيها لغير العمل الصالح والكفة الراجحة: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
والنبي صلوات الله عليه يقول: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى» ويتمم بلاغ الرسالة فيقول في خطبة الوداع: «أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد: كلكم لآدم وآدم من تراب. إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربيٍّ على عجمي ولا لأحمر على أبيض ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى.»
وكان أبو ذر الغفاري من أقرب الصحابة إليه عليه السلام، ولكنه سمعه مرَّة يقول لرجلٍ أسود: يا ابن السوداء، فبلغ به الغضب غايته، وعبَّر عليه السلام عن ذلك بامتلاء الكيل، فقال: طفَّ الصاع! وأعادها مرَّة أخرى، ثم قال: «ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى وبعملٍ صالح.»
هذا الأدب الإلهي الذي لا تفاضل فيه بين الناس بغير الأعمال قد نشأ في وكر الأنساب والعصبيات، فليس في نشأته هذه ما يفسر نشوء الأديان لخدمة السادة في المجتمع واستبقاء سيادتهم عليه.
وإذا خابت الفلسفة المادية في تفسير نشأة الإسلام بإملاء البيئة أو بإملاء السادة عليها، فإنها لأخيب من ذلك في تفسير هذه النشأة بإملاء الديانات التي سبقت الإسلام، واتصل أتباعها بالجزيرة العربية، فإن اليهود كانوا يدينون بأن إسرائيل شعب «يهوا» وأن يهوا إله إسرائيل، وأن أبناء إبراهيم من سلالة إسحاق هم دون غيرهم المفضلون بموعد الرضوان، ولما ظهرت المسيحية بين أبناء إسرائيل، توجهت بالدعوة إليهم أول الأمر؛ لأنها تحمل البرهان إليهم في مواعيد الأنبياء التي يدينون بها، واتفق في أوائل الدعوة — كما جاء في إنجيل متى وإنجيل مرقس — «أن امرأة كان بابنتها روح نجس سمعت بالسيد المسيح فأتت وخرجت عند قدميه، وكانت أممية وفي جنسها فينقية سورية، فسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها، فقال لها: دعي البنين أولًا يشبعون. ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فأجابت وقالت: نعم يا سيد! والكلاب أيضًا تحت المائدة تأكل من فتات البنين، فقال لها: لأجل هذه الكلمة اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك.»
وأصرت إسرائيل على الإعراض عن الدعوة المسيحية، فاتجه بها السيد المسيح إلى الأمم وضرب المثل لهم بالمدعوين إلى وليمة يرفضونها، فيشهدها من حضرها بغير دعوة: «إذ أرسل الداعي عبيده في طلب ضيوفه فقال هذا: إني اشتريت حقلًا وعلي أن أخرج فأنتظره، وقال ذاك: إني اشتريت أزواجًا من البقر وسأمضي لأجربها، فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلًا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي من تراهم من المساكين. فعاد العبد وقال لسيده فعلت كما أمرت، ولا يزال في الرحبة مكان.
قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي، فلن يذوق عشائي أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»
ثم انتشرت الدعوة في غير بني إسرائيل، وكان من استجاب لها أولى بها ممن أعرض عنها؛ لأنهم أصبحوا «أبناء إبراهيم بالروح.»
ثم جاء الإسلام من جوف الجزيرة العربية ليعم بالدعوة أبناء آدم كافة، ومنهم أبناء إبراهيم بالجسد وأبناؤه بالروح، فلم يكن في نشأته ما يفسره إملاء السوابق الدينية، أو يفسره إملاء البيئة العربية، وجاء مع دعوته الإنسانية بآدابه الاجتماعية أو الفردية، التي يكابر المتعنت في تعنته ما استطاع المكابرة، ولا يستطيع أن يفسرها بممالأة الأغنياء والمحتكرين، أو بأنها خدر للنفس يروضها على الذل والاستكانة، أو يلهيها عن الدنيا بخيال الآخرة، فإن الفجوة الواسعة بين حقائق الإسلام، وهذه التفسيرات المادية تلوح للناظر من اللمحة الأولى، ولا تجشمه أن يتعمق إلى قرارها.
وكأنما قُضِيَ على الفلسفة المادية أن تبتلى بكل حجة من قبل الإسلام على أوفاها، فلا توسط بين حقيقة الإسلام وبين فروض الفلسفة المادية: دعوة عالمية من طرف تقابلها من الطرف الآخر تبعة فردية يستقل بها الإنسان في طويته، كأنه وحده عالم قائم بنفسه.
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ.
إن هذه التبعة تكليف لا يدين به ضمير يتعاطى من الدين خدرًا يذهله عما حوله وينسيه ما هو حق له وما هو واجب عليه، وحسب الإسلام عند الشيوعية أنه يفندها هذا التفنيد الصادع في جميع مقوماته ليستحق منها عداوة شديدة، تخصه بها الأديان العالمية التي يتبعها ملايين الخلق في الزمن الحاضر، إلا أنها — على هذا — كانت تعمه وسائر الأديان بعداوتها، ولا تميزه بعداوة خاصة، وهي في دور الدعوة وترويج النظريات، وظلت كذلك حتى دخلت في دور التطبيق، وحلت محل القيصرية الروسية في علاقاتها بالعالم الآسيوي داخل بلادها وعلى تخومها، فاستجد لها من أسباب العداء له سبب أقوى لديها من كل سبب؛ لأنها وجدت فيه نظامًا اجتماعيًّا يتعرض لكل مشكلة من مشكلاتها، ولم تجد مثل هذا النظام لملةٍ من الملل التي تعاملها، وتجتهد في نشر الدعاية بين أبنائها.
فالنظام الاجتماعي — أو السياسي — الذي أخذت به اليهودية قبل عشرين قرنًا لا يسري اليوم على بقعة من الأرض، ولا يخشى منه على الدعاية الشيوعية في المستقبل، والمسيحية قد نشأت بين مزدحم الشرائع والنظم السياسية من جانب الهيكل وجانب الدولة، فتركت معترك السياسة، وقصرت دعوتها على الأخلاق والعبادات.
أما الإسلام فقد نشأ في بيئةٍ يتركها للفوضى والاختلال إن لم يأخذها بنظام وافٍ من نظم الحكم والتشريع، وقد أخذها بهذا النظام، وأودعه من دواعي التوفيق ما يلائم الزمن بعد الزمن والبيئة بعد البيئة، ولا يضيق فيه باب الاجتهاد كلما وجب الرجوع إليه في أحوال غير الأحوال التي نشأت فيها الدعوة الإسلامية. وجاء القرن العشرون ولم تفارقه مرونته التي تصلح للحياة العصرية ولا تستعصي مع الزمن على التجديد، ولا يخفى أن العهد بالأديان العالمية التي يتبعها الملايين أنها تملك هذه الحيوية لتعيش بها في الأجيال المتعاقبة، أو تفقدها، فتنحل وتزول ويخلو مكانها لدعوة من الدعوات كيفما كانت، أو تتخبط في مكانها بين الإنكار والشك والبوار، فكانت للإسلام هذه الحيوية التي أعيت خصومه في حرب الاستعمار وحرب الإلحاد والإنكار.
ومن أجل هذه الحيوية، جردوا له كل ما تجرده الدولة ذات المذهب على خصوم مذهبها، وشنوا عليه حملة شعواء من أشنع حملات القمع والاضطهاد، وحملة أخرى في مثل شناعتها من حملات التشويه والتشريد مع تكميم الأفواه عن المناقشة أو الدفاع.
ونحن لا نستقصي في هذا الكتاب أخبار القمع والاضطهاد التي ترامت إلينا من أرجاء العالم الإسلامي في القارة الآسيوية؛ لأن استقصاء هذه الأخبار موكول إلى مقصدٍ آخر غير مقصدنا من بحوث هذا الكتاب، وهو مناقشة المبادئ والآراء، والإبانة عن مواطن الضعف والخلل في أساسها الذي تقوم عليه. وقد يغنينا عن استقصاء تلك الأخبار في عرض الطريق أن نشير إلى «مصادرة» الفريضة، التي تظهر مصادرتها على البعد، ولا يجدي فيها التكذيب والتمويه، تلك هي فريضة الحج في كل عام، فإنَّ حجاج الأمم الإسلامية كانوا يلتقون في مكة بالألوف من أبناء الأقطار الأوربية والآسيوية الذين كانوا يخفون إلى الأماكن المقدسة كل عام قبل قيام الدولة الشيوعية، فلما قامت هذه الدولة امتنع وفودهم سنوات، ثم وصل منهم من استطاع الوصول بعد ذلك، فلم يجاوز عددهم ثلاثين أو أربعين حاجًّا في كل مرَّة، كان يبدو عليهم أنهم يحسون فيما بينهم رقابة شديدة عليهم، وأنهم ربما كانوا مندوبين لغرض يحملون عليه غير أداء الفريضة.
وتلاحقت — في خلال حملة القمع والاضطهاد — تلك الحملة الأخرى من حملات التشهير والتشويه، ونمت عليها أقوال الصحف والنشرات، وبعض الكتب الموسوعة التي تقضي عليها مادتها باستيعاب موضوعاتها، ومنها موسوعة الثقافة الشيوعية، فإنها وصمت الإسلام بوصمة الرجعية ومعاونة الاستغلال، واعتبرته من عقبات التقدم وموانع الحضارة العصرية، وأفردته بالعداوة التي تستحقها كل عقيدة تصلح لمنازعة المذهب المادي على ضمير الإنسان.
•••
وما كانت الخصومة الشيوعية لتتورع عن الدعاية الرخيصة، كلما أعوزتها أسانيد الدعاية المُقَنَّعَة؛ لأن القناع سابق للدعاية في خطط الشيوعية، وأرخص ما تكون دعايتهم إذا آنسوا العجز عن إقناع خصومهم، ومن هذا القبيل كانت حملة التشهير والتشويه التي اصطنعوها في دعايتهم على الإسلام، فليس لها من معنى يخرج به القارئ من جملتها وتفصيلها غير معنى واحد، وهو أنَّ الإسلام لم يتنزل في القرن العشرين.
فما كان دين من الأديان ليهاجم بدعاية أرخص من هذه الدعاية المفروغ منها؛ لأن الأديان لا توجد لتلغى وتعاد كل صباح ومساء، فإما أن توجد لتدين أمة في أجيالها المتعاقبة، أو لا توجد على الإطلاق، ولا يتصور لها وجود، وإذا كان طول الأجل مأخذًا على الدين، فالإسلام لا يؤخذ بهذا المأخذ الهزيل؛ لأنه آخر الأديان الكتابية في تاريخ الظهور.
إنما تؤخذ على الإسلام آدابه وفرائضه التي جاء بها يوم ظهوره، وإنما تؤخذ عليه هذه الآداب والفرائض إذا جاءت رجعية في حينها لا تصلح شيئًا مما تصدت لإصلاحه، ولا تفتح في الغد طريقًا للمصلحين.
ولم يكن الإسلام كذلك من وجهته العامة، ولا كان كذلك من وجهة المآخذ التي أحصاها الشيوعيون، وأهمها الرق وتعدد الزوجات وحدود العقاب وشروط المعاملات الاقتصادية، وسنرى أنَّ الإسلام لم يأت بحكم من الأحكام في مسألة من هذه المسائل إلا كان فيه إصلاح للحالة التي كان عليها في عصر الدعوة، وحض على الإصلاح في العصور المباشرة التي تليه.
فالإسلام لم يشرع الرق الذي كان مشروعًا قبله في جميع الأديان الكتابية، وكان الفيلسوف «أرسطو» يسوغه بآرائه الاجتماعية والسياسية، وقسم الجنس البشري إلى فريقين: فريق يعمل بعقله ومشيئته، وفريق يؤدي للفريق الأول أعماله كما تؤديها الآلات.
لم يشرع الإسلام الرق، بل شرع العتق وحض عليه، وجعله من وسائل القربى والتكفير عن السيئات.
وما أباحه الإسلام من الرق لا يزال مباحًا إلى اليوم بين أمم الحضارة في حروبها، فإن الأسرى يعتقلون ويسخرون في العمل، ولا تفك قيودهم إلا بالمبادلة أو سداد الغرامة والتعويض، وهذا هو الرق الذي أباحه الإسلام، وأوجب معه المن بالعفو أو الفكاك أو المكاتبة: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا.
ولا يبيح الإسلام استرقاق الأسير في كل قتال، بل يشترط في القتال أن يعلنه الإمام مع عدو لا ذمام معه ولا معاهدة، ويأمر بمعاملة الأسرة معاملة لا يحلم بها أسير في حرب من حروب الحضارة الحديثة، وينهى أن يذكره صاحبه فيسميه «عبدي» مؤثرًا على هذه التسمية الزرية أن يدعوه ﺑ «فتاي»، كما يدعو ابنه في كثير من الأحيان.
وإذا كان الإسلام لا يسوي بين الأحرار والعبيد في جميع الحقوق، فالأسرى في العصور الحديثة لا حقوق لهم ولا مساواة بينهم وبين من يأسرونهم ما داموا على ذمة الفكاك أو الفداء، وغاية الفرق بين العصر الحديث والعصر القديم أنَّ الدول في هذا العصر تتولى المبادلة على الفداء بعد معاهدة الصلح بين الغالب والمغلوب، وأما في العصور الغابرة فلم تكن للدول عناية بهذه المبادلة ولا بالتعاهد على الصلح في جميع الأحوال، ومن لم يَفْدِهِ أهله من الأسرى فلا شأن به للدولة التي كان ينتمي إليها، ولا استثناء لذلك في شرائع الحرب والسلم إلا بعد قيام الدولة الإسلامية، وتفرقتها بين الأمم المسالمة والأمم المعاهدة والأمم المقاتلة، فإن الدولة الإسلامية قد أوجبت على الإمام فكاك الأسرى من جنوده ما استطاع.
•••
والنظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام قد صنع في مسألة تعدد الزوجات ما قد صنعه في مسألة الرق، حالة سيئة تعانيها المرأة من حرمان المجتمع والقانون أصلحها الإسلام ومهد لمسايرة التقدم الطبيعي الذي يأتي مع الزمن من ضروب الإصلاح.
وعلينا قبل الاستطراد إلى الكلام عن مركز المرأة في الإسلام أن ندفع وهمًا يعلق بالأذهان عن الأديان الكتابية وتعدد الزوجات، فإن الشائع بين الغربيين والمتفرنجين من الشرقيين أنَّ الإسلام هو الدين الكتابي الوحيد الذي لم يحرم تعدد الزوجات، وذلك وهم يخالف النصوص ووقائع التاريخ، فإنَّ تعدد الزوجات بغير قيد هو القاعدة الغالبية في زواج الآباء والأنبياء الذين ذكرت زوجاتهم في كتب العهد القديم، وليس في الأناجيل نص على تحريم ما أباحه العهد القديم، ولكن الآباء الأوائل في المسيحية كانوا يحثون على الرهبانية، ويستحسنون للأسقف أن يكتفي بزوجةٍ واحدة إذا لم يستطع أن يترهب؛ لأن شرًّا واحدًا أهون من شَرَّين. وقد أفتى القديس «أوغسطين» في كتابه عن الزواج الأمثل بإباحة التسري لمن عقمت زوجته وثبت عليها العقم، وحرم مثل ذلك على المرأة التي يعقم زوجها؛ لأن الأسرة لا يكون لها غير سيد واحد، وكان لشرلمان أولاد شرعيون من عدة زوجات معترف بهن، وبحث المشرع المشهور «جورتيوس» موضوع تعدد الزوجات من الناحية الفقهية، فصوب شريعة الآباء في العهد القديم، وقال «وسترمارك» المؤرخ الحجة في شئون الزواج: إنَّ الكنيسة والدولة كانتا تُقِرَّان تعدد الزوجات إلى القرن السابع عشر، وكان يقع غير نادر في الحالات، التي لا تحفظ في سجلات الكنيسة أو الدولة.
فالإسلام لم ينفرد بين الأديان الكتابية بإباحة تعدد الزوجات، ولم يوجبه على أحد لأنه أباحه، بل أوجب على الزوج أن يعدل في المعاملة إذا بنى بأكثر من زوجة، وصرح القرآن الكريم بصعوبة العدل بين النساء وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.
فحكم الإسلام في تعدد الزوجات هو الحكم المطلوب من كل شريعة تقابل كل حالة محتملة، ولو وقعت في كل ألف حالة حالة واحدة، يكون فيها تعدد الزوجات خيرًا من الطلاق أو من العقم، لَعِيبَ على الشريعة أن تتجاهلها ولا تحسب حسابها، وإنه لمن السخف أن يقال: إنَّ تطليق الزوجة المريضة أو قبول العقم أفضل في جميع الأحوال من الجمع بين زوجتين، وإنه لأسخف من هذا أن يقال: إن متاجرة المرأة بعرضها عند التفاوت بين عدد الرجال والنساء أكرم من تعدد الزوجات، وإنه لمن التعاق السمج أن يقال: إنَّ الإغضاء عن الإباحة الفعلية يجعل الشريعة صالحة لقديسين يبنون بقديسات، ويجعل الدنيا سماء للملائكة، لا يقع فيها إلا ما ينبغي أن يقع في السماوات، وأنه ما على الشريعة إلا أن تقول: إنَّ الناس كذلك ليكونوا طائعين أو راغمين، ثم يعلموا أنهم كذلك، وهم يعلمون رجالًا ونساء أنَّ الزواج الذي يخرج عليه الزوجان معدود بعشرات الألوف.
ولقد يعذر من يرى أنَّ الزواج علاقة لذة ومتعة جسدية، إذا أغضى عن الفارق الطبيعي بين الجنسين، ويعذر مثله من يرى أنَّ انقطاع النسل فضيلة في حالتي الرهبانية والزواج، ولكنه لا عذر لمن يؤمن بأن الزواج للنسل، ثم يتجاهل التفرقة الطبيعية بين وظيفة الذكر ووظيفة الأنثى في الحياة النوعية، فإن هذه التفرقة لا تهمل كل الإهمال إلا تباعد ما بين الطبيعة وبين المجتمع من وشائج الحياة، وليس من المطلوب أن يلد الرجل من مئات النساء، ولكنه لا يكون في جميع الأحوال كالمرأة التي لا تلد إلا من رجل واحد في عدة شهور.
•••
قلنا: إنَّ الإسلام قد عالج تعدد الزوجات، كما عالج الرق في عصر الدعوة: حالة سيئة أصلحها، وتطور منظور مهد له وأشار إليه، ولم يضع قط عقبة في طريقه، والحالة السيئة التي أصلحها الإسلام أنَّ تعدد الزوجات، كان مباحًا مطلقًا من كل قيد في البلاد العربية وفيما جاورها، وكان رأي المرأة في الزواج مهملًا لا يعتد به سواء خطبت لرجل متزوج أو غير ذي زوج، فقيد الإسلام هذه الإباحة المطلقة، وجعل للمرأة رأيًا مشروطًا في زواجها، ونبه الرجل الذي يتزوج بأكثر من واحدة إلى وجوب العدل في المعاملة، ثم نبهه إلى صعوبة العدل وفضيلة الاكتفاء بزوجةٍ واحدة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.
إصلاح ليس بالقليل، ولا ينبغي أن يحسب قليلًا حتى في موازين المستغلين له من دعاة القرن العشرين، فإنهم لخلقاء أن يسألوا أنفسهم: هل كان من المفيد تحريم تعدد الزوجات لو أراد أحد تحريمه، ولم يقنع يومئذ بذلك الإصلاح؟ ما كان ذلك التحريم بالجد الذي يقدم عليه مشرع في شئون الاجتماع، وما كان له من وصف يوصف به، إلا أنه عبث تتنزه عنه حكمة التشريع، ولن يكون التحريم إلا عبث عابث حين تكون الإباحة حكمًا عالميًّا، قد انعقد عليه إجماع الشرائع والعادات والأديان.
وربما كان العمل المنتج في هذا الإصلاح منوطًا بإسناد حق الموافقة إلى المرأة قبل البناء بمن يخطبها، سواء كانت ولية أمرها، أو كان لها ولي ينوب عنها، والنبي عليه السلام يقول: «لا تُنْكح الأيِّم حتى تُستأمر ولا البكر حتى تُستأذن»، وقال: «الثيِّب أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها.»
فهذا الحق ينقل أمر إنصاف المرأة إلى يديها، فإن قبلت تعدد الزوجات راضية، فهي أولى باختيار ما يرضيها، وإن قبلته لضرورة لا محيص عنها، فوجود هذه الضرورة في المجتمع ردٌّ كافٍ على من يتغافل عنها ولا يلتفت إليها، وما كانت المرأة لتقبلها يومًا، إلا وهي توقن أنَّ قبولها أوفق لها من رفضها.
•••
على أنَّ تعدد الزوجات على إطلاقه قبل الإسلام، لم يكن يضيم المرأة كما كان يضيمها قضاء الذلة التي رانت عليها في شعوب الحضارة وشعوب البداوة على السواء، وكانت بعض الحضارات — كالحضارات المصرية القديمة — تميل إلى إنصافها في حقوق الأسرة والمجتمع، ثم شملتها النكسة العامة التي غمرت العالم الإنساني في الحقبة التي مرت به من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن السادس بعده، إذ كان هذا العالم الإنساني قد غثيت نفسه بمساوئ الترف المادي والانحلال الخلقي، فخرج منها بعقيدة احتقار الجسد، وتصوير المرأة في صورة النجاسة المحذورة؛ لأنها عنوان المتعة الجسدية والشهوات الحسية، فهبطت في معيار الأخلاق والعقائد إلى حطة النجاسة، وبقيت في معيار التشريع حيث أبقتها أم الشرائع في العصور القديمة — دولة الرومان — ولم تزد في شريعتها كثيرًا عن منزلة الرقيق المملوك الذي لا يستقل عن مشيئة رب الأسرة بحقٍ من الحقوق.
وأما في بلاد العرب فقد كانت للمرأة حالات تتراوح بين الكرامة والمهانة، أحسنها لم يرتفع عن حالة الطفل القاصر في رعاية أهله، وأسوأها تدل عليه عادة وأد البنات خشية العار أو خشية الإملاق، فهذه الحالة العامة في شعوب الحضارة والبداوة هي التي أنقذها منها الإسلام؛ لأنه رفع عن الجسد وصمة النجاسة، ورفع عن المرأة وصمة العار، ووهب لها في المعاملات حقوق الشخصية المستقلة التي تملك ما عندها، وتملك أن تنيب عنها من يديره لها، ولو لم يكن وليها أو قريبها، وفرض لها المساواة المثلى التي تستقيم مع اختلاف الجنسين، ولم يحرمها من المساواة إلا ما يعد الحرمان منه نوعًا من الإعفاء عند تقسيم العمل بين الجنسين المختلفين.
•••
والمساواة المثلى هي العدل الذي لا ظلم فيه على أحد، ولهذا لم يستطع فقهاء التعريفات أن يجعلوها مساواة في الواجبات؛ لأن المساواة في الواجبات مع اختلاف القدرة عليها ظلم قبيح، ولم يستطيعوا أن يجعلوها مساواة في الحقوق؛ لأن المساواة في الحقوق مع اختلاف الواجبات ظلم أقبح من ذلك؛ لأنه إجحاف يأباه العقل، وإضرار يحيق بالمصلحة العامة، كما يحيق بمصلحة كل فرد من ذوي الواجبات والحقوق.
وقوام الأمر إذن أن تكون المساواة العادلة مساواة في الفرص والوسائل، فلا يحرم إنسان فرصته لإحراز القدرة، التي تمكنه من النهوض بواجب من الواجبات، ولا يحرم وسيلته التي يتوسل بها إلى بلوغ تلك الفرصة ما استطاع من وسائل السعي المشروع.
والمساواة في الفرص مفهومة بين أبناء الجنس الواحد؛ لأنها ممكنة في حدود الوظائف الطبيعية، وأما غير المفهوم فهو المساواة في الفرص بين جنسين مختلفين في التركيب والاستعداد، وفيما ثبت من الواقع في تواريخ جميع الأمم، وفيما يتطلبه المجتمع من تقسيم العمل بين هذين الجنسين.
هذا الاختلاف واقع دائم لا حيلة فيه لأصحاب التعريفات أو أصحاب الدعايات السياسية، ولا تجدي في إلغائه وإلغاء دلالته تعلة من التعلات التي يردونه إليها، فلا ينتهون منها إلى غير السفسطة والمحال.
فكل ما يقال في تعليل ذلك راجع إلى علة واحدة، وهي تفوق الرجل على المرأة في القدرة والتأثير على العموم، فليست جهالة القرون الأولى بسبب صالح لتعليل هذه الفوارق العقلية بين الرجال والنساء في جميع الأمم؛ لأنَّ الجهل كان حظًّا مشتركًا بين الجنسين ولم يكن مفروضًا على النساء وحدهن دون الرجال، ومن زعم أنَّ الرجل فرض الجهل على المرأة فقبلته وأذعنت له، فقد قال: إنه أقدر من المرأة، أو إنه أحوج إلى العلم وأحرص عليه منها. وليس الاستبداد في القرون الأولى سببًا صالحًا لتعليل تلك الفوارق؛ لأنَّ استبداد الحكومات كان يصيب الرجل في الحياة العامة، قبل أن يصيب المرأة في حياتها العامة أو حياتها البيتية، ولم يمنع الاستبداد طائفة من العبيد المسخرين أن ينبغ فيهم العمل الصالح والشاعر اللبق والواعظ الحكيم والأديب الظريف.
وليس عجز المرأة عن مجاراة الرجل في الأعمال العامة ناشئًا من قلة المزاولة لتلك الأعمال؛ لأنها زاولت أعمال البيت ألوف السنين ولا يزال الرجل يَبُزُّهَا في هذه الأعمال كلما اشتغل بصناعاتها، فهو أقدر منها على الطهو وعلى التفصيل وفنون التجميل وتركيب الأثاث وكل ما يشتركان فيه من أعمال البيوت. وقد يرجع الأمر إلى الخصائص النفسية فيحتفظ فيها الرجل بتفوقه على الرغم من استعداد المرأة لتلك الخصائص من أقدم عصور التاريخ، فالنواح على الموتى عادة تفرغت لها المرأة منذ عرف الناس الحداد على الأموات، ولكن الآداب النسوية لم تخرج لنا يومًا قصيدة من قصائد الرثاء تضارع ما نظمه الشعراء الرجال سواء منهم الأميون والمتعلمون، وقد كان أكثر الشعراء في العهود القديمة من الأميين. بل هناك خاصة نفسية لا تتوقف على العلم ولا على الحرية ولا نوع العمل أو الوظيفة في المجتمعات أو البيوت وهي خاصة الفكاهة وخلق الصور الهزلية والنكات التي يلجأ إليها الناس حين يحال بينهم وبين التعبير الصريح.
•••
إن هذه الاعتبارات موضوعة حتمًا بين يدي كل تشريع يتحرى مصلحة المجتمع في حاضره ومستقبله، ومتى نظر التشريع إلى هذه الاعتبارات، فإنه لا يقيم العدل بين الجنسين على أساس المساواة في الفرص ولا على مطالبة كل منهما بواجبات كواجبات الآخر أو تخويله حقوقًا كحقوقه، وليس أمامه من أعدل الجنسين غير العدل على أساس تقسيم العمل بينهما، كما يتوفر عليه كل منهما، وهذا هو العدل على سنة المساواة بين الواجبات والحقوق، وأن تكون حقوق الجنس مكافئة لواجباته، وواجباته مكافئة لحقوقه. ومن الهزل — لا من الجد في شيء — أن نعلم أن تربية البنين وتنشئة الجيل الجديد وتنظيم البيت والأسرة واجب على المرأة قبل الرجل، ثم نزعم أنها مساوية له إذ تقوم بهذا الواجب وتقوم بأعباء الرجل في الأعمال العامة على السواء.
وعدل المساواة بين الواجبات والحقوق هو عدل الإسلام في بيان حقوق المرأة وحقوقها هي على الرجل وحقوق الرجل عليها وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.
وإن تقسيم الواجبات والحقوق في الإسلام على هذا القسطاس لهو تقسيم الفطرة الذي نرجع إليه قسرًا كلما شردنا عن طريقه، وما نخال أنَّ تقسيم الفطرة مجهول بعد تقرير مكان المرأة الطبيعي في القيام على شئون البيت وتربية الجيل الجديد، ومن حقها إذن على الرجل أن يتولى الإنفاق عليها وعلى البيت، إذ كانت لا تستطيع أن تعول أبناءها وتكدح لنفسها.
نعم، إنَّ المرأة في المجتمعات الحديثة تضطر إلى العمل لكسب معيشتها، إلا أنَّ هذا الاضطرار خلل في المجتمع يؤسف له ولا يغتبط به ولا يبنى عليه قوام الحاضر والمستقبل، وقديمًا كان الطفل الصغير مضطرًا إلى العمل لكسب معيشته، فلم يكن هذا فضيلة للمجتمع الذي يحدث فيه تستوجب التشجيع والإقرار، وتستقيم عليه أسس التربية والتشريع، بل كان خللًا وخيم العاقبة تتضافر الجهود على سداده وتحريمه، وتحاربه الشرائع والآداب على الرغم من الاضطرار إليه في كثيرٍ من الأحوال.
وإن الخلل الذي يلجئ المرأة إلى السوق وإلى المصنع وإلى معارك الحياة العامة لحقيق بمثل هذه المحاربة، ومفروض علينا أن نجعل القضاء عليه أملًا ننشده ولا نجعله إنكارًا لحقوق المرأة وانتقاصًا من كرامتها، وهكذا تستوي مصالح المجتمع على جادتها أو تنقلب على من ينسخونها — ويمسخونها — كما تنقلب قوانين الفطرة على كل خارج عليها.
وبعد أربعين سنة من اللغط «بالرجعية» في الإسلام والتقدم في المذهب المادي القائم على العلم ورعاية القوانين الطبيعية في زعم أصحابه، يحق للناقد المسلم أن يبتسم، وهو يرى في كل يوم ضربة من ضربات الفطرة ترتد بالسخرية على من يخرجون عليها، ونقرأ في خطب الفلاسفة الماديين كلامًا عن الأسرة — الملعونة في عرف الماديين — يقيم عليها دعائم المجتمع الصناعي الذي ينبغي أن يعصف بالأسرة عصفًا إذا صح ما قدره له «كارل ماركس» وأتباعه، ويقول لنا الفيلسوف «خارشيف» من خطاب للشبان الشيوعيين أذيع في الثلاثين من شهر يناير سنة ١٩٥٦: «إن الأسرة السوفيتية الناشئة تخلق من أجل العمل المشترك على مصلحة الوطن، كي تزوده بأبناء وبنات مجتهدين مخلصين، وإن سعادة الأسرة لن تنفصل عن سعادة المجتمع الاشتراكي وجهوده.»
إننا لا نستطيع أن نتجاهل الحقيقة الواقعة التي تلاحظ في هيئات كثيرة من هيئات الحزب الشيوعي، وهي الحذر من ترشيح النساء للمراكز الرئيسية. فإن عدد النساء قليل جدًا بين أصحاب المراكز الموجهة في الأعمال السوفيتية، ولا سيما مراكز السكرتارية في اللجان ومراكز الرئاسة في اللجان التنفيذية والمشروعات الصناعية والحقول المشتركة وحقول الدولة.
ولم يلاحظ هذا الحذر في مجتمع يدين بالرجعية الإسلامية، وتعينه حدث في مجتمع مضى عليه أربعون سنة يغتصب التسوية اغتصابًا بين الرجل والمرأة وينشأ أبناء الأربعين وبنات الأربعين فيه وما سمعوا قط شيئًا غير «أوامر» المساواة بين الجنسين في المدرسة والمصنع والطريق والبيت، وما اجترأ قط على التشكيك في هذه المساواة بين أبنائه وبناته أحد يريد أن يأمن على حياته من تهمة النكسة والخيانة واستعادة الآداب الغابرة التي قام عليها الاستغلال في بلاد رأس المال.
•••
وستمضي أربعون سنة أخرى بعد هذه السنين الأربعين التي مضت على وضع الشريعة الماركسية في موضع التنفيذ، وسيبتعد العالم مسافة أخرى من أحكام هذه الشريعة كلما خرجت من دور النبوءات والنظريات ودخلت في دور الوقائع والمحسوسات، وسيكون ابتعاد العالم عنها في المستقبل أعجل وأسرع من ابتعاده عنها فيما مضى؛ لأنَّ حماسة الإيمان بها كانت تصمد للحوادث حينما يطيل أجلها على غير طائل، ولن يقوى هذا الإيمان المتهافت بعد اليوم على صدمات الحوادث في الداخل والخارج إلا من قبيل تغطية الهارب لمهربه إن بقيت به حاجة إلى التغطية، بعد انكشاف الأمر وشيوع التفاهم على بطلان المذهب بين دعاته وأدعيائه.
وسيرثى غدًا لمن يبقى بعد هذا الزمن متعلقًا بحباله الرثَّة محتجًا به على نظام من النظم الدينية أو الوضعية، فما من نظام سيكون غدًا أبعد من النظام الماركسي عن حقائق الأمور، وسيبقى من الإسلام على التخصيص ما كان باقيًا قبل ظهور المادية التاريخية وبعد احتجابها، فيزول المذهب الذي قالوا: إنه مذهب العصر والعلم والتقدم إلى المستقبل بغير نهاية، ويبقى المذهب الذي قالوا إنه قد لحق بأمس الدابر فليس له من الغد نصيب. ويتمارى غدًا من يتمارى في شأن الأسرة والمرأة بعد الشوط الطويل الذي يعبره العالم اليوم مترددًا مختلفًا على نظام الأسرة وحقوق المرأة أو حقوق الجنسين، ولكنه لا يتمارى في جناية المذهب المادي على الأسرة وجنايته من ثم على المجتمع في حاضره ومصيره، ولن يتمارى في حقيقة النظام الذي ينقذ المرأة من براثن الاستغلال والابتذال، فلن يكون خلاصها من الاستغلال على يد النظام الذي يرسلها إلى الأسواق والمصانع ومعارك السياسة والكفاح، ولن تخلص من الاستغلال إلا إذا ملكت بيتها أُمًّا وربة أسرة وسيدة للعالم الصغير الذي ينشأ منه الغد ويسكن إليه الحاضر من وعثاء الكفاح في الأسواق والمصانع ومعارك السياسة.
والشيوعي الذي يرثى له غدًا حين يحتج ببقايا مذهبه على النظام الإسلامي في شأن المرأة، سيرثى له من اليوم حين يحتج ببقايا مذهبه على النظام الإسلامي في شئون المعاملات، فكل منتقد لهذا النظام يستطيع أن يقول شيئًا إلا جماعة الشيوعيين أصحاب الآراء المعروفة في رءوس الأموال واستغلالها في أيدي المرابين والمتجرين بالنقود، فإن الذين يزعمون أنَّ الإسلام لا يصلح للمعاملات العصرية قد جمعوا أسبابهم كلها في مسألة المصارف والقروض، أو فيما سموه مسألة الربا على غير فهم لأحكام الإسلام فيه.
وهؤلاء لهم كلام يقولونه في هذا الصدد، إذ لا كلام فيه لأحد من الشيوعيين، لأنَّ هؤلاء الشيوعيين قد تطول ألسنتهم في كل مجال ولا تستطيع أن تطول في هذا المجال، مع فلسفتهم المعلومة عن رءوس الأموال وعن الاستغلال وبيع النقد كما تباع السلع لفائدة أصحاب «الأعمال» وعلى حساب طوائف العمال!
فماذا يقول الشيوعي إذا أراد أن ينقد الإسلام في تحريمه الربا والاتجار بأعيان النقود؟ إنه يسكت السكوت الذي يستحق الرثاء، فإنه ليقف هنا موقف العاجز عن تحريك لسانه بالثناء، وهو لا يريد الثناء، أو بالمذمة والتجريح ولا وجه عنده لمذمة أو تجريح.
لقد حرم الإسلام الاتجار بأعيان النقود، كما حرم أكل الربا أضعافًا مضاعفة، وما من شريعة عصرية تبيح اليوم ما حرمه الإسلام على المرابين، وهي آمنة على سلامة المجتمع من الخراب أو من الفتنة والاضطراب، فأما المعاملات التي لا ضرر فيها على أحد ولا اتجار بالنقد في غير عمل، فليس للإسلام فيها حكم غير حكم القانون الصالح أينما كان، وأنى يكون.
•••
ومسألة الحدود الجنائية أدق المسائل بعد مسألة الرق ومسألة المرأة ومسألة المعاملات، ودقتها أنها مسألة فقهية للفقهاء وولاة الأمور، وليس قصارى الأمر فيها أنها مسألة من مسائل الشعائر والمعتقدات.
وهذه المسألة الفقهية الدقيقة تتشعب فيها شروح الفقهاء من حيث تعدد الحدود والجنايات، وتتعدد الشروط والأركان، وتتعدد الأدلة والشبهات، فيقع فيها اللبس الكثير، كما يقع في عموم المسائل الفقهية، ويخطئ المسلم الجاهل دقائق الرأي فيها، كما يخطئها الجاهل بالإسلام من الأجانب عنه أحسن النية أو أساء.
والإفاضة في البحوث الفقهية ليست من أغراض هذا الكتاب، وقد نستوفي أغراضه إذا نبهنا إلى منافذ الخطأ في فهم النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام، وفهم نظام العقوبات على التخصيص، وهذا ما ننبه إليه بالإيجاز في الأسطر التالية.
إننا نسمع على الدوام أنَّ عقوبات الشريعة الإسلامية ينبغي أن تطابق أحوال القرن العشرين، ونقول: نعم، ولا نحسب أنَّ أحدًا يقول غير ذلك، ولكن الألزم من ذلك أن تكون مطابقة للبيئة التي تنزلت فيها وللزمن الذي تنزلت فيه.
وقد تنزلت الشريعة الإسلامية في الجزيرة العربية على عهد الجاهلية، يوم كانت شريعتها الغالبة بين جميع القبائل شريعة الغارات التي تستباح فيها دماء المغلوب وأمواله ونساؤه، وكل مملوك له في حوزة الفرد أو حوزة القبيلة، وكان أهل الكتاب يدينون بشريعة موسى التي لم يبطلها السيد المسيح، ولها حدود مفصلة في التوراة وقصاص تؤخذ فيه العين بالعين والسن بالسن، كما ذكرها القرآن الكريم.
فإذا جاء الإسلام بعقوبات لا تصلح لعصر الدعوة لم يعط التشريع حقه في ذلك العصر ولا في العصور التالية، ولكنه يعطي التشريع حقوقه جميعًا إذا صلح لزمانه، ولم ينقطع صلاحه لما بعده، ولم يمتنع فيه باب الاجتهاد عند اختلاف الأحوال، فيشتمل جزاؤه على جنايات الحدود والقصاص، وعلى الجنايات التي تستحدثها أحوال المجتمعات، ويأخذها الشارع بما يلائمها من موجبات الجزاء.
- أولًا: أنَّ الحدود مقيدة بشروط وأركان، لا بد من توافرها جميعًا بالبينة القاطعة، وإلا سقط الحد، أو انتقل إلى عقوبات التعزيز، إذا كان ثبوته لم يبلغ من اليقين مبلغ الثبوت الواجب لإقامة الحدود.
- ثانيًا: أنَّ القصاص مشروط فيه العمد وإرادة الأذى بعينه، فإن لم يثبت العمد فالجزاء الدية أو التعزير، وقد يجتمعان، أو يكتفى بالدية دون التعزير أو بالتعزير دون الدية.
ولنذكر أنَّ جرائم التعزير تشمل جميع الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن أو بالغرامة أو بالعقوبات البدنية.
ولنذكر في جميع هذه الأحوال أنَّ الشريعة الإسلامية توجب درء الحدود بالشبهات، فإذا قامت الشبهة للشك في ركن من أركان الجناية أو ركن من أركان الشهادة، فلا يقام الحد، وينظر ولي الأمر في التأديب بعقوبة من عقوبات التعزير.
•••
ولنضرب المثل بأكبر جنايات الحدود وأشيعها في الجاهلية العربية وجاهليات الأمم في عنفوانها، وهي جناية قطع الطريق والعَيْث في الأرض بالفساد، ففي هذه الجناية يقول القرآن الكريم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
فهذه جناية لها عقوبات متعددة على حسب الأضرار والجرائم، ومنها القتل والصلب وقطع الأطراف والنفي، وهو بمعنى النبذ من الجماعة إما بالسجن أو بالإقصاء، ويلزم العقاب من لزمته أحكام الدين، فإذا كانت جنايته قد انتهت بالعقوبة قبل أن يلزمه قضاء الإسلام، فهذا هو الباب الذي فتحه الإسلام لابتداء عهد وانتهاء عهد غبر بأوزاره وعاداته، وانطوى حساب الجناية والعقاب فيه بانتهائه.
وأشد هذه العقوبات لم يكن شديدًا في عرف أمة من الأمم، عوقب فيها من يقطعون الطريق، ويعيثون في الأرض بالفساد، مع حضور الخطر وكثرة مغرياته وقلة الزواجر الاجتماعية التي تحمي المجتمع من أضراره وجرائره، وقد كانت عقوبات القتل والتمثيل قائمة في جميع الأمم مع قيام الجريمة وقيام أسباب الحذر منها، وظلت كذلك إلى القرن السابع عشر في البلاد الأوروبية التي استقر فيها الأمن بعد الفزع، وانتظمت فيها حراسة الطريق بعد الفوضى التي طغت عليها من جراء فوضى الجوار بين الحكومات.
وتلحق بجناية قطع الطريق جناية السرقة التي لا غصب فيها، ويكون السارق عاقلًا مكلفًا، وأن يكون المال المسروق محرزًا مملوكًا لمن يحرزه بغير شبهة، بالغًا نصاب السرقة كما اتفق عليه الفقهاء، وكل جريمة من قبيل السرقة لم تثبت فيها الأركان المشروطة، فلا يؤخذ فيها الجاني بحد السرقة، ويؤخذ فيها بعقوبات التعزير، وعند الضرورة القاهرة التي يقدرها الإمام يجوز العفو كما عفا عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عن الغلامين السارقين في عام المجاعة.
ولا بد أن يمتد نظر الباحث على مدى مئات السنين قبل أن يسأل عن صلاح الشريعة لعصرٍ من العصور، ولا محل لسؤاله إذا أراد أن يحصر هذه الشريعة في زمنٍ واحد وبيئةٍ واحدة، ولكنه يحسن السؤال إذا عرض أمامه أحوالًا للأمم فيها القديم والحديث، وفيها الهمجي والمتحضر، وفيها المسالم المأمون والشرير المحذور، ثم سأل: هل في الشريعة قصور عن حالة من الحالات التي تعرض لتلك الأمم في جميع أطوارها؟ وهل هناك عقوبة نصت عليها الشريعة لم تكن صالحة في حالة من تلك الحالات؟
فكذا توزن الشرائع التي تحيط بالمجتمعات في مئات السنين ومئات البيئات، وبغير هذا الوزن تكثر منافذ الخطأ أو يبطل السؤال فلا محل للسؤال.
•••
وننظر إلى المجتمع الإنساني الذي يقيمه الإسلام بعد هذه النظرات المجملة إلى مسألة الرق ومسألة المرأة ومسألة المعاملات ومسائل العقوبات، فنحن إذن خلقاء أن نرى فارقًا بين المجتمعين — مجتمع الإسلام ومجتمع الشيوعية — لا تستوي فيه وجوه القياس؛ لأنه فارق بين وهم مفروض على التخمين، وبين حقيقة واقعة من حقائق الماضي والحاضر وحقائق المستقبل، كما يراها من يشهده رأي العين.
فالمجتمع الشيوعي فرض خيالي قوامه دعوى المدعين أنه سيأتي — إن أتى — سويًّا بغير طبقات، وأنَّ الشرور الاجتماعية وشرور الطبائع كافة ستفارقه أبد الآبدين إذا فارقه شيء واحد، وهو رأس المال.
هذه هي الخرافة التي يسمونها بالمجتمع الشيوعي الذي سيحق غدًا متى حقت الدعوى، أو حق الفرض والتخمين.
أما المجتمع الإسلامي فهو هذا المجتمع الإنساني المتجدد الذي يحق على سنة التقدم بما يحققه من مبادئ الإسلام، وهي مبادئ لا تنتشر وتنطوي في مدى أيام ومدى أعوام.
يقوم المجتمع الإنساني على المساواة بين الناس بغير تفرقة بين الأنساب والألوان والأجناس، ولا تمنعه المساواة أن يعطي المزايا النافعة حقها من الإنصاف لمصلحة المنتفعين بتلك المزايا في جميع الطبقات، ولا تفاضل في الحقوق بالمال أو بالوراثة، فإنما يكون التفاضل بينهم بالعلم والعمل: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً.
وإذا وجدت درجات الثروة ينبغي أن لا تكون حكرًا تستأثر به طبقة واحدة، ولا أن تكون «دولة بين الأغنياء، ولا بد في كل ثروة من حق معلوم للسائل والمحروم».
والإسلام لا يحل مشكلة الفقر بالصدقات المفروضة على الأغنياء لمعونة المحرومين والمعوزين، ولكنه جعل هذه الصدقات منذ ألف وأربعمائة سنة لمن جعلتها لهم دول العصر الحديث من العجزة والمرضى والشيوخ والمنقطعين، وحل مشكلة الفقر «أولًا» بخلع القداسة التي كانت تجلله في كثيرٍ من الأديان، ثم حلها بإيجاب العمل على القادرين، وإيجاب تدبيره على الإمام المسئول لكل قادرٍ عليه.
•••
والمجتمع الإسلامي لا يهدم شيئًا من كيان الاجتماع الذي استفاده بنو الإنسان من أطوار حياتهم الاجتماعية في الحقب الطوال؛ لأن المفهوم من سير الهداية الإلهية كما يسردها القرآن الكريم أن حياة النوع الإنساني تاريخ متصل يتمم بعضه بعضًا، وتنتهي إلى التعارف بين الشعوب والقبائل في أخوة عامة، لا فضل فيها لقومٍ على غيرهم إلا بالعمل الصالح، ولهذا يحرص الإسلام على كيان الاجتماع في الشخصية الفردية وفي الأسرة وفي الإيمان بوحدة النوع، ولا يهدم بنية من هذه البنى الحية التي «تحققت» لتعيش بين القوى العاملة في المجتمع لا لتنهدم وتندثر في حقبةٍ بعد حقبة، كأنها من الشرور التي تولد على الرغم منا، وتعود كلما استأصلناها كرة بعد كرة، ولا ندري من أين تعود!
وقد جاء في القرآن الكريم في وصف أهل النار أنهم كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ.
ففي هذا الوصف «للعالم الملعون» بيان للفارق في تقدير الإسلام بين المجتمع المثالي في الشر والفساد والمجتمع المثالي في الخير والصلاح، ويصدق الوصف المثالي لعالم الشر والفساد على التاريخ الإنساني كما توهمه الشيوعيون، كلما تعاقبت أطوار التاريخ لعن الأواخر منها أوائلها، وجاء الخلف الأخير ليصب النقمة والعذاب عليهم أجمعين.
ذلك في الحق تاريخ جحيم، أو تاريخ عالم ملعون، لا خير في أوائله ولا أواخره، وشره ثابت فيما كان، وخيره لا يكون إلا في أحاجي الأوهام والظنون، بعد هدم ما كان جميعًا أملًا فيما سوف يكون.
كيان الاجتماع في الإسلام لا يتهدم، بل يزداد قوة على قوة، ويدعمه الإسلام ليؤسس به بنيانًا مرصوصًا يشد بعضه بعضًا، ويتعاون على البر والتقوى، ولا يتعاون على الإثم والعدوان.
فالشخصية الإنسانية فيه حقيقة حية، والأسرة الاجتماعية فيه حقيقة حية، والنوع الإنساني الذي تنتمي شعوبه وقبائله إلى أسرة كبيرة يجمعها التعارف والتعاون هو كذلك حقيقة حية.
لا شيء ينهدم جزافًا أو لانتظار مجتمع من الخلق لا رابطة بينهم إلا أنهم كانوا مأجورين يسامون بخس الأجور.
هذا المجتمع الذي ينهدم من أجله كل كيان قائم لم يكن قط إلا وهمًا من أوهام الخيال، أو حلمًا من أحلام كابوس الشر والفساد، أما الشخصية الإنسانية وروابط الأسرة ووحدة النوع الإنساني فهي أمامنا بنية حية أو بنية تحيا، ولا يجوز أن تنهدم لوهمٍ من الأوهام.
كل منها «كيان» حق صنعته العناية الإلهية، ورصدت له رسالته وآتته قدرته عليها، ولم يخرج من بوتقة الخلق «غلطًا» ليعاد تركيبه بعد تصحيح حسبة الأجور ورءوس الأموال.
وما من حجةٍ غير حجة الشيوعية ينهدم بها كيان الشخصية الإنسانية، وينهدم بها كيان الأسرة، وينهدم بها كيان النوع الإنساني؛ ليئول ميراثه إلى طائفة مزعومة ما وجدت بعدها، وما من دليلٍ قط على أنها وشيكة الوجود.
ما أهزل الحجة وما أكرم البناء الذي يراد له الهدم والفناء.
إنَّ الشخصية الإنسانية — شخصية الفرد المسئول — لا ذنب لها إلا أنها لا تستطيع كل ما تريد، وأن ما يريده الأفراد يتم في المجتمع على نحوٍ غير الذي أرادوه، ولو ثبت هذا الذنب لما أوجب مقت الحرية الفردية، ولا أوجب بطلان العمل الذي تعمله، فربما كانت منأواة المجتمع للفرد هي الشر الذي نزيله أو نتمنى له الزوال، وكما يقال: إنَّ عمل الفرد موقوف على التجاوب بينه وبين المجتمع، يقال كذلك: إنَّ عمل المجتمع موقوف على التجاوب بينه وبين الأفراد، فلا وجه لهدم «الشخصية الفردية» حتى لو صح أنها لا تفعل كل شيء.
والأسرة تنهدم لأنها أذنبت بتعليم الناس شريعة الميراث، وما تعلمت الأسرة الميراث إلا من طبيعة التكوين التي تجعل الولد وريثًا لأبويه في خلقه وخلقه. ولا يستطيع المجتمع أن يجرده من هذا الميراث، أو ينجيه منه إن طلب النجاة، وما كان ميراث المالكين شيئًا في جانب الميراث الذي تلقاه ورثة الصناعات أبناء بعد آباء بعد أجداد، وما كان في بني الإنسان من خير إذا لم يبق منهم إلا من يعمل لساعته، ولا يفكر في غده ولا فيما يكون بعد حياته، وهذه خليقة تعلمها الناس من الأسرة ومن الميراث، وتعلموا خيرًا يذهب بذهابه ميراث هذا المخلوق المسمى بالإنسان حيث كان.
وأما النوع الإنساني فينهدم؛ لأنه لم يوجد قط في عرف الشيوعيين، بل كان الموجود في كل حقبة طائفة من السماسرة، وطائفة من الأُجَراء، وطائفة من أصحاب المال، ودنيا واسعة لك أن تسميها سوقًا أو مصرفًا أو مصيدة من مصائد الحيلة والخديعة، وليس لك أبدًا أن تسمي هذه الدنيا في طور من أطوارها أو في جميع أطوارها عالمًا يسكنه بنو الإنسان!
كلما دخلت أمة لعنت أختها.
هذا هو الجحيم الشيطاني الذي زيفه الأبالسة، ولم يفرزه أحد قبل مقدم إخوانهم وأندادهم في الحيلة والخديعة دعاة الشيوعيين!
وهذا بحق هو العالم المثالي للشر والفساد.
وفي مثل هذا العالم قد يسهل العبث بكل كيان اجتماعي بناه التاريخ، ولا يزال يبنيه ويوطد بناءه على اتصالٍ بين ماضيه وتاليه، قد يسهل العبث بهذه الأبنية الاجتماعية في دور التحريض والتخريب، ولكنها قوى اجتماعية لا يتأتى الاستغناء عنها في دور التأسيس والتنظيم، ولا بد أن تحيق غوائل الحرمان منها بالمجتمع في جملته وبكل فرد من أفراده على حدة، وقد حاقت بالمجتمع الشيوعي عواقب الحرمان من هذه القوى الحية! قوة الكرامة الإنسانية في «شخصية» الفرد، وقوة العاطفة المتأصلة في كيان الأسرة، وقوة الإيمان بوجود بني الإنسان التي تعلو على منافع الطوائف والأفراد، فأحس المجتمع الشيوعي عواقب هدمها في اليقين الخواء والعواطف النخرة، والحماسة المكذوبة من صنع الكلام في مصانع الأوهام، فثاب أعداء الوطن والدين يتمسحون بالوطن والدين، وقالوا في رثائهم للحرية الشخصية بعد موت «ستالين»: إنَّ اختناق الضمائر والعقول في عهده إنما كان شهوة من شهوات استبداده، خرج بها على مبادئ الدعوة المقدسة، وخالف بها أناجيل «ماركس» و«لينين»، وقالوا عن الأسرة: إنها قوام المجتمع كله أو قوام الوطن كما يسمونه الآن، وقالوا عن وحيهم المعصوم — بعبارةٍ وجيزة — أسوأ ما كان في عرفهم كفرًا بواحًا منذ عام أو عامين.
ونحن لا نعلم أنَّ «ستالين» كان في استبداده مخالفًا لمبدأ من مبادئ أستاذيه «ماركس» و«لينين»، والمهم هنا هو مبادئ «لينين» بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأن «ماركس» لم يحضر عملًا من أعمال التنفيذ والتنظيم في الدولة الشيوعية، ومبادئ «لينين» التي أعلنها في هذه الفترة صريحة في جواز الحكم المطلق وموافقته للمبادئ الشيوعية، فإنه يقول في الجزء الثلاثين من مجموعة أعماله الروسية: «إن اشتراكية السوفيت الديمقراطية لا تناقض بحالٍ من الأحوال قيام الدكتاتورية والإدارة بيد فردٍ واحد، إذ يتم في هذه الحالة تنفيذ إرادة الطبقة على يد حاكم بأمره يعمل على تعجيلها، وقد يكون ألزم لتحقيقها.»
فليس في استبداد «ستالين» خروج على مبادئ المذهب، كما شرعها مؤسس المذهب في دور التنفيذ، فإذا كان في الأمر من جديد، فالجديد فيه أنه هزيمة جديدة للمذهب في حربه للحرية الشخصية تتلو هزائمه الأولى في حربه للأسرة وللحرية الشخصية أو للحقوق الشخصية المهضومة — قبل موت ستالين بسنوات — فجاء المذهب الذي جعل الملكية الخاصة ينبوعًا لجميع الشرور يوحي بها، ويبيحها في المزارع المشتركة، وجعل من حقوق الفلاح في تلك المزارع أن يحتجز قطعة من الأرض لسكنه وتربية دواجنه يملكها في حياته، ويورثها بعده لخلفائه في المزرعة المشتركة، ولا يسمى ذلك عندهم بالملك الخاص؛ لأنهم يسمونه بالسكن المقيم.
ومما ألممنا به في هذه الأسطر عن القوى الاجتماعية التي تهدمها الشيوعية ويبنيها الإسلام نعلم أنَّ النظامين متقابلان لا يتلاقيان، وأنهما متضادان مذهبًا وخلقًا ومجتمعًا، ولا ينحصر التضاد بينهما في العقائد والمعقولات.
فالشخصية الإسلامية التي تهدمها الشيوعية ويوطدها الإسلام وينوط بها أوامره ونواهيه، ويعرفها مستقلة لا واسطة فيها بين الخلق والخالق من سلطةٍ دينية أو حكومية، ولا حجاب فيها بين الأرض والسماء.
«كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.»
وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.
والأسرة التي تهدمها الشيوعية يجعلها الإسلام سكنًا للزوجين وموئلًا للبر والرحمة بين الآباء والأبناء.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.
والبنون من زينة الحياة الدنيا ومن نعم الله التي يحصيها على عباده.
ولقد يكون للآباء في الأمم المقاتلة، وفي غيرها هوى في ذرية البنين يغتبطون بهم، ويزهدون في الذرية من البنات، فالقرآن الكريم يؤنبهم على ذلك، ويلهمهم شعورًا غير هذا الشعور في محبة الذرية من بنين أو بنات: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
أما الشعور الإنساني الذي لا يحجبه شعور الطبقة ولا شعور العصبة، فهو الشعور بالأسرة الواحدة تجمع الشعوب والقبائل من أب واحد وأمٍّ واحدة، وهو شعور الإخاء بين جميع المؤمنين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ، وذلك هو المثل الأعلى لنعيم الأبرار.
•••
والقوى التي تنعقد فيها المقارنة بين النظامين الاجتماعيين هي أشياء موجودة محسوسة الأثر، يحاربها الشيوعيون؛ لأنهم يجدونها ويحسون أثرها، ثم هم يجدون منها سدودًا تصدهم، وتعوق مبادئهم أن تنتشر بين الشعوب الإسلامية، ولا تصدهم بسدودٍ من التعصب الديني وحسب كما تصورهم العقائد الدينية الأخرى، بل تلقاهم بالمبادئ التي تغنيهم عن مبادئ الشيوعية وبالنظام الذي يغنيهم عن نظامها، ويحز في نفوسهم أنهم يحاربونها بمبادئ، يرجعون بين آونة وأخرى عن مبدأ منها، ويبتعدون عنه ليقتربوا من النظام الذي شنوا الغارة عليه، وأرادوا أن يزعزعوه فما عتموا أن أيدوه وأكدوه.
وإنهم لفي عداء عنيف للإسلام من أجل هذا لا من أجل أنه دين ينسبونه إلى عمل الإنسان، ولا ينسبونه إلى الوحي الإلهي كما ينسبه المسلمون، ولو كانت قوى الإسلام الاجتماعية تطاوعهم وتجاريهم على سياستهم وعلى مطامعهم لما حاربوه ولا ضارهم أن يؤمن المسلمون بأنه من وحي الله لا من عمل الإنسان.
فليست المشكلة بين النظامين مشكلة البحث «الأكاديمي» في مصدر الإسلام، إذ يكون مصدر الإسلام ما يكون، فهم محاربوه ما دام سدًّا في وجوههم لا ينفذون من ورائه إلى السيادة على بلاد المسلمين.
ولغة الأشياء الموجودة هي اللغة التي يفهمها الشيوعيون ويجب أن يفهمها بين ظهرانينا نحن المسلمين تلك الشرذمة المتحذلقة التي تقيس الدين بجميع المقاييس إلا مقياسه الصحيح الذي يصلح لتقديره.
فمن عجز العقل أن يحسب أنه يفرغ من قضية الدين الكبرى كما يفرغ من شهادة شاهد في قضية على حسب الواقع والرواية، أو يفرغ من قضية الدين الكبرى كما يفرغ من حسبة رياضية بميدان الجمع والطرح ومعادلة الأرقام، فإنما يوضع حساب الدين في موضعه حين يوضع معه حساب المتدينين به في جميع أوطانهم وأزمانهم وجميع أحوالهم ومحاولاتهم، والمتدينون به ملايين من الخلق يقيمون في أرجاء واسعة من الأرض ويخلف اللاحقون منهم سابقين على دين أو على غير دين، ومنهم العارف والجاهل، والحكيم والأحمق، والطيب والخبيث، والقوي والضعيف، والمسئول عن قوم والمسئول عن نفسه لا يضطلع بتبعة غير تبعاتها، وهم يعيشون مع دينهم منفردين ومجتمعين في أعماق أعمق من أعين الرقباء وسلطان ذوي السلطان، ويرتفعون معه إلى شأو لا يضيئه العلم إذا أحاطت به الظلمات.
وإذا نظرنا إلى الدين نظرتنا إلى دواء يعالج به داء المجتمع، فمن الخطأ أن نحسبه قارورة دواء تشرب ثم تلقى بعد فراغها، فإنما هو «نظام صحة» دائم يؤتي فوائده على مدى أعمار المتدينين، وأعمار المتدينين ألوف السنين.
ولكل قائل كلمته في مدى الزمان الذي يتطلبه الدين لإصلاح شئون الأمم إلا … إلا الشيوعيين.
نعم إلا الشيوعيين؛ فلا كلمة لهم في العمر الطبيعي المقدور للدين؛ لأنهم يفسحون لمذهبهم العمر من القرن العشرين إلى ما شاءوا من القرون السبعين والثمانين والتسعين، ولا سند لهم من إلهٍ أو نبي أو رسول، إلا أن يكون «كارل ماركس» أو «لينين» أو «ستالين».