محصول الدعوة
والمحصول من مراجعة الاشتراكية العلمية أنها اشتراكية طوبية غير علمية، وأنها أشد إمعانًا في التخريف وبعدًا عن العلم من الطوبيات التي قال «كارل ماركس» إنه جاء باشتراكيته العلمية ليدحضها ويمحوها.
فلا يكفي أن يصف «ماركس» مذهبه بالأوصاف التي تعجبه لتثبت هذه الأوصاف، ولا يكفي أن يملأ مذهبه بالأرقام والإحصاءات لتزول عنه صفة الطوبية وتلصق به صفة العلمية؛ لأن المعول في ذلك كله على الحصول من وعود المذهب وصوره المتخيلة، وليس في الطوبيات جميعًا ما هو أشد إمعانًا في التخريف والوعود الخيالية من هذه الاشتراكية المزركشة بالأرقام والإحصاءات المسماة بالعلمية أو الواقعية أو المادية، وما جرى مجراها من الأسماء.
«فكارل ماركس» يعد المصدقين به مجتمعًا عالميًّا واحدًا من طبقة واحدة لا سيد فيها ولا مسود، ولا حاكم ولا محكوم، يأخذ فيه كل حقه بغير زيادة، ويعطي فيه كل حقوق الآخرين بغير بخس، وينتهي فيه طمع الطامع، وحيلة المحتال، وكسل الكسلان، كما ينتهي فيه حب الرئاسة والاستئثار، ونزاع المتنازعين على مراكز التصريف والتدبير، أو تزول فيه مراكز التصريف والتدبير ويجري التصريف بغير مصرف والتدبير بغير مدبر، فلا يخطر لأحد أنه أحق بهذه المراكز من أخيه، ويعم ذلك أقطار الأرض من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها، فيزرع الزارع بمقدار ما يلزم في الدنيا، وتنتظم المواصلات والمبادلات بينها بغير رقابة ولا إشراف ولا تقدير سابق ولا حاضر من الموكلين بالتقدير، وإذا خطر لإنسان أن يدع مسقط رأسه ليذهب حيث شاء ذهب حيث شاء، وإذا خطر لغيره أنه يستثقل عمله ويستبدل به عملًا آخر تم هذا وذاك على ما يشاء حيث يشاء، وفيما بين ذلك ينقطع للعلم من هو أهل للعلم، وللفن من هو أهل للفن، وللاختراع من يقدر عليه، وللصناعة من يحسنها، رخاء سخاء كما يهب الهواء ويهطل المطر ويتسلسل الماء بلا قناطر ولا سدود ولا هندسة ولا بناء، ثم تطرد الأمور على هذا الحلم البديع إلى مدى يقصر عنه خيال الحالمين؛ لأنه لا يحسب بالعشرات أو المئات، بل يحسب بالملايين من السنين.
مثل هذا التخريف يخجل منه كل حالم في طوباه، ما لم يسبقه بتنبيه القارئين إلى قصة منام أو ما يشبه المنام من أوهام الأحلام.
إلا أنَّ الاشتراكية العلمية تزعم أنها ترفض هذه الطوبيات وتزدريها، ولا تشغل الناس بأحلامها وأمانيها، فماذا وقع في ذهن الداعية إلى هذا المذهب حين تخيل أنه بعيد من الطوبيات، وهو غارق في لجتها لا يملك أن يرفع عينيه من فوقها؟
هنا — كما في كل موضع من مواضع البحث في هذه الخرافة — نفتش عن الظاهرة النفسية فتهدينا إلى السبب القريب، ولا ضرورة بعده لسبب قريب أو بعيد، فما الذي جعل «ماركس» يباعد بين مذهبه وبين الطوبيات ووعود الطوبيين؟ الفظائع التي في الطريق.
إن الفظائع لا تلائم الطوبيات وأحلام الطوبيين، ومن كان يرسل الخيال ليتمنى أحسن الأماني فليست فظائع الفتك وسفك الدماء والوعيد بالخراب والنكال أمنية يتمناها ويرسل الخيال ليسعد بها ويسعد الناس برؤياها.
لا طوبى هنا ولا طوبيون، فماذا إذن غير الطوبى والطوبيين؟
الفظائع التي في الطريق.
ولا شيء في هذه الفظائع يناقض الواقع العلمي أو العلم الواقعي؛ لأن الناس تعودوا من الواقع أن يصدم الأحلام ويوقظ النيام، وتعودوا من العلم أن يهزأ بالخيال ولا يحجم عن تقرير الحال والمآل في أشنع الأحوال، فلا طوبى إذن في الاشتراكية الماركسية، ولا نكوص فيها عن العلم والواقعية، ولا مجافاة بينها وبين الطوبية — في الواقع — إلا هذا الوعيد بالفظائع، وهذا الجو الذي يعيش فيه «ماركس» ولا يستطيع أن يخرج منه بحسه ولا بعقله ولا بخياله ولا بمقاصده وآماله، ولا يستطيع في الوقت نفسه أن يعتذر له بعذر غير «الواقع العلمي» المزعوم، فإنه بالواقع العلمي يستطيع أن يوفق بين الاشتراكية التي يدعو إليها وبين الفظائع التي يرصدها في طريقها، وإنه لأعجز ما يكون عن التوفيق بين الطوبية وهذا المذهب المشئوم، وإن كنا نذهب إلى غايته الموعودة فإذا هي خرافة من خرافات الأحلام يكاد أن يسمع منها غطيط النيام.
علم! إي والله علم!
هكذا قال «كارل ماركس»، وهكذا ينبغي أن يقول وهو يحس الفظائع تملًا فراغ وجدانه وخياله، فلا يستطيع أن يوفق بينها وبين نحلة من نحل الطوبيات، ولا يستطيع أن يرسلها بغير عذر يشفع لها عند المستمعين إليها ولا عذر إليها، إلا أنها «علم واقع» يضطره إلى مواجهة المصير الذي لا مهرب منه.
وماذا يصنع المسكين في العلم والواقع، وفي المصير الذي لا مهرب منه ولا حيلة فيه، ولا قرار دونه ولا فرار؟
•••
إذا استحق أحد سخرية الساخرين لهذا الخلط بين العلم وتلك الخرافة، فلن يكون «كارل ماركس» أحقهم بالسخرية؛ لأنَّ دعوى العلم عنده مهرب يلجأ إليه من سبة الفظائع التي يبشر بها ولا مسوغ لها من الأعذار، إلا أنها ضرورة قاسرة، وليست بأحلام ولا بحديث من أحاديث الأسمار.
إنما السخرية في هذا الخلط حق لهوسة اللغط بالعلم في أواسط القرن التاسع عشر، فإنها هي التي جعلت تلك الخرافة أهلًا للبحث فيها بمقاييس العلم وموازينه، وهي قبل أن تقاس وقبل أن توزن واضحة النسب بينها وبين الخرافة، منقطعة النسب بينها وبين العلم والمنطق، وبين الوزن والقياس.
ما الذي يوضع موضع النقد العلمي في هذه الخرافة؟ إنها تلفيقة من تلفيقات الفلسفة استعارها «ماركس» لنواميس المادة والمال، كان هيجل يقول — على ما هو معلوم — إنَّ الفكرة تعمل ضدين، ثم يجتمع الضدان في تركيب واحد يخرج منه ضده دواليك إلى الموعد الذي تبطل فيه الأضداد وتنطوي في الفكرة المطلقة أو الفكر المطلق لأول مرَّة منذ أزل الآزال إلى الأبد الموعود.
وجاء «ماركس» فقال: إنَّ هذه التلفيقة غلط في عالم الفكر يصبح صوابًا لا صواب غيره إذا طبقناه على مسائل المادة والاقتصاد، ثم أرسل النواميس الكونية تعمل على هذا النهج، فلم تعمل شيئًا على وفاقه إذا نظرنا إلى تركيب عناصر المادة نفسها قبل كل تركيب، فإن عناصر المادة التي نيفت على المائة في العصر الحاضر لم تتسلسل واحدًا بعد الآخر على النهج المزعوم، بل ظهرت — أو ظهر أكثرها — أفقيًّا إذا صح هذا التعبير، ولم يتغير عنصر منها وفاقًا للضدية المزعومة منذ تم تركيبه مع غيره في طبقةٍ واحدة من طبقات الوجود، ونعني بالطبقة الواحدة أن تركيب العنصر منها لا يتوقف على التسلسل في الترتيب، بل توجد ألوف العوامل الطبيعية التي لا تستلزم خروج الضد من الضد في خط واحد، ينتظر الأخير منه الأول أو ينتظر الأول منه الأخير.
بيد أننا نتمشى مع هذه النواميس الكونية كما يزعمونها، فنرى أنها تتوقف عن العمل عند نشوء المجتمع البشري، وتسلم هذا المجتمع للخلاف على الأجور ينوب عنها في خلق الأضداد التي تريدها الفلسفة المادية، ثم يئول الأمر إلى ثلاثين أو أربعين سنة في الربع الغربي من القارة الأوربية فينجلي لنا ختام هذه النواميس على النحو القاطع المانع الذي لا يسمح بمنفذ شعرة للمراجعة أو الانتظار، فنحكم على الماضي حكمًا لا مرد له ونحكم على المستقبل حكمًا لا مخرج منه، ونعرف سر الكون كله من تلك السنين الثلاثين أو الأربعين التي قامت فيها الصناعة الكبرى، وختمت فيها قصة الخلاف على الأجور.
هذه «الجزيرة» التي استقلت بها قصة الأجور عن النواميس الكونية تعود فتستقل مرَّة أخرى عن قصة الأجور يوم تنشأ فيها الطبقة الواحدة الموعودة، فلا عمل فيها للنواميس الكونية الأبدية ولا لقصة الأجور، ولا أثر فيها لتلك العوامل الأبدية التي ظلت تعمل من مبدأ الكون وتظل تعمل إلى نهاية الكون في كل شيء إلا في مجتمع الإنسان. هراء وأقل من هراء.
هراء لا يعطي من الثقة ما يكفي للجزم بهدم كوخ في قريةٍ نائية، ولكنه يكفي عند الماديين العلميين لهدم كل ما يخالفه من الماضي، وكل ما يخالفه من المستقبل، وتعطيل كل إصلاح يجيء من غير طريقه في أنحاء العالم المعمور، ولو اقتضى ذلك إهدار جيل أو جيلين من تواريخ الأمم في تلك الأنحاء، وإنه ليقتضي على التحقيق إهدار جيل أو جيلين أو أجيال كثيرة إذا أدخلنا في حسابنا تباعد الأطراف وتباعد البنيات وطوارئ الزمن التي تأتي في خلال هذا الصراع بين الساعين إلى الإصلاح والساعين إلى تعطيل كل إصلاح في انتظار المجتمع الموعود: المجتمع الذي يستقل عن نواميس الكون وعن نواميس الأجور.
أما أن هذه ثقة علمية تملي هذه النبوءات على الماضي والمستقبل إلى ما وراء المجهول، فذاك أبعد خاطر يخطر على بال العارف بحدود العلم وحدود هذه المسألة التي تتخطى حدود التفكير، وأما أنها ظاهرة من ظواهر الأمراض النفسية فهو التفسير — العلمي — الوحيد لتلك الدعوة، ولا نقول التفسير القريب، لأنَّ الهجوم على تلك الشرور الباغية بمثل ذلك السند الواهن لن يصدر إلا عن مرض نفسي في طبيعة الأجرام.
وقد مضى القول عن عوارض الظاهرة المرضية التي كانت تحيك بنفس إمام الاشتراكية — العلمية — «كارل ماركس»، ومرض الفكرة كاف في الرجوع به إلى مفكرٍ واحد، ولا سيما المفكر الذي أنشأها وبث من حياته في أجزائها، ولكننا واجدون أمثال هذه العوارض في كل إمام من أئمتها وكل داعية من مروجيها، ولا نريد أن نختار منهم جزافًا ولا نستطيع أن نحصيهم جميعًا؛ لأن إحصاءهم الذي يحيط بهم قد يستغرق المطولات، فلنتحدث عن زعيمين من أكبر المنشئين للمذهب الشيوعي مع «كارل ماركس» وعن زعيمين آخرين من أكبر المنفذين له بعد قيام الدولة الشيوعية، والزعيمان المنشئان هما «إنجلز» و«باكونين» والزعيمان المنفذان هما «لينين» و«ستالين»، وسنرى بعد إجمال عوارضهم النفسية أننا أمام شرذمة من الأشرار والمخنثين والممسوخين تجردوا للغاية التي لا يتجرد أمثالهم إلا لأمثالها، ولن تكون بالبداهة غاية خير وصلاح.
•••
«إنجلز» كان مخلوقًا مؤنث المزاج، يكتب إلى أخته وهو في الثالثة عشرة فيروي لها أخبار الكتاكيت التي يربيها وألوانها وشياتها، والكتكوت الأسود الذي يأكل من يده أكلًا لَمًّا كل ما يضعه فيها من طعام. وكان من طبيعته أن يقع تحت تأثير كل شخصية يعاشرها فترة من الوقت، ولو كانت شخصية فتاة يعولها، فكانت «ماري بيرنز» فتاته الأيرلندية هي التي قادته إلى وكر الثوار الأيرلنديين، ولم يكن مذهبه أن تستقل الشعوب الصغيرة؛ لأنه كان ينصح الشعوب الأوربية الشرقية بالاندماج في الأقوام الكبرى التي تحدق بها، وإنما قادته الفتاة الأيرلندية إلى حيث شاءت لأنه سهل القياد. وقد نلمح في ثورته الوحيدة على «كارل ماركس» حين قصر هذا في تعزيته عن فتاته أنه أحس من صاحبه سخرية بهذه الرجولة المدعاة، التي تمثل لنفسها دور العاشق المفجوع في العشيقة، فكان جمود «ماركس» مثيرًا له بما ينطوي عليه من هذه السخرية. إذ كان ذلك الجمود أمرًا يعرفه ولا يصدمه في هذا الحادث للمرة الأولى.
ولقد آل هذا التراث الملوث إلى زعيمين منفذين، هما بالإجماع أكبر من تولى تنفيذ الشيوعية بعد قيام دولتها في بلاد القياصرة، وهما «لينين» و«ستالين» وكلاهما ناقص التكوين من مولده، وكلاهما منعوت بألسنة ذوية وأعرف الناس به أو بلسانه وما يتكشف من خلائقه في عرض كلامه، وكل هذه النعوت خليقة أن تسلكهم فيما شاءوا من زمرة إنسانية إلا زمرة الصادقين في حب الخير والصلاح.
«لينين» تأخر في المشي حتى ولدت أخته التي هي أصغر منه فتدرب على المشي معها، وعللت أخته الكبرى — أنا — في مذكراتها عنه هذا التأخير بكبر دماغه، وكبر — كما قالت أخته هذه — وليس له صديق حميم بين لِداته وإن كان منهم من يحبه، وجاء في مذكرات «كيرنسكي» عنه وهو مولود في بلده — أنه كان مطبوعًا على القسوة منذ صباه، وكان يتلذذ بإطلاق بندقيته على القطط وكسر أجنحة الغربان، وهذه كلمة خصم قد يتهم في شهادته لو لم تؤيدها كلمة «أوجين شيركوف» من لِداته في المدرسة بقازان: «إنه كان دائمًا مخضب اليد، وبالأمس قتل ببندقيته قطة صغيرة» — وتزيد أخته — أنا — في مذكراتها على ما تقدم من وصف أخيها أنه كان لا يحضر معه إلى البيت أحدًا من زملائه في المدرسة، وكان يجتنب زملاءه في خارجها، أو يقضي أوقاته في عزلة عن الصحاب. ولما انتظم في جماعات الثوار كان من الفريق الذي يستبيح الفتك والإرهاب، وكتب في سنة ١٩٠١م: «إننا لم نمنع الفتك والإرهاب قط من جهة المبدأ، وإنهما قد يكونان من ضروريات الكفاح التي لا غنى عنها.»
ولا يخفى أنَّ التراجم التي كتبت عن «لينين»، وعرضت لسيرته من مولده إلى نهاية حياته سيل لم ينقطع منذ اشتهار اسمه بعد الثورة الروسية، تحرينا منها ما كتبه أقرباؤه وأبناء بلده؛ لأنهم أولى بمعرفته وأبعد من مطعن التحامل عليه، وراجعنا — مع هذا — غير تلك التراجم، فلم نجد فيها ما يخالف الصورة التي صورها له أقرب الناس إليه وأرغبهم في الثناء عليه، صورة مخلوق ناقص التكوين ناقص العاطفة، بينه وبين أبناء نوعه جفوة إن لم تكن قطيعة، تغري بالعداء ولا تغري بالولاء.
وفي رأينا أنَّ كلمةً منه هنا — وكلمة هناك — أحجى من كل ما قيل عنه أن تبرزه في صورة العاطفة الناقصة، وما تنم عليه من التكوين الناقص، وهو القائل فيما نقلناه عنه من غير هذا الفصل أنَّ سياسته مع الخصم أن يمحوه من على ظهر الأرض، وَيُعَفِّيَ على أثره، وهو القائل في حديث عابر رواه عنه: «جوركي» الكاتب الروسي المشهور: إنه يخشى مَغَبَّة التلطف مع الناس، ولم يقل ذلك في كلام عن العداوة السياسية أو المذهبية، بل قاله وهو يستمع إلى الموسيقى التي كان يحبها كما يحبها جمهرة الروسيين.
إن هذا الجهل بضمائر الناس — مع ذلك الحذر — معناه نقص العاطفة من طرفها الآخر — أو معناه انحصار العاطفة انحصارًا لا مجاوبة فيه بينه وبين أبناء حواء على العداء ولا على الولاء.
•••
وقد أصيب «لينين» بالعجز التام عن الحركة في أواخر أيامه، قيل: من أثر رصاصة لم تقتله، وقيل من أثر النقص الذي كمن في تكوينه، وظهر مبكرًا في عجزه عن المشي قبل الرابعة، وتتواتر الشائعات بين المطلعين على أخباره ومنهم «تروتسكي» — أنه مات مسمومًا، ولم يمت مباشرة بفعل الفالج الذي كان يعاوده في السنة الأخيرة كلما خفت وطأته عليه، وأنَّ «ستالين» عجل بسمه خشية على مركزه في الحزب بعد وصية «لينين» التي نصح فيها لأعضاء اللجنة العليا فيه بالتخلص من «ستالين»، وإسناد «السكرتارية» إلى غيره.
•••
وإذا انتهينا إلى البحث في طبيعة «ستالين»، فنحن أمام «شخصية مفسرة» تتقارب فيها الشقة بين أقوال الشيوعيين وأعداء الشيوعية، وتتكرر من أعمالها دلائل الإجرام التي لا حاجة بها إلى أقوال الأنصار والخصوم.
وقال عنه «لينين» في رسالته إلى لجنة الحزب العليا: إنَّه فظ خبيث دساس لا تؤمن عاقبة كيده على الحزب والمذهب، وكان أعضاء هذه اللجنة عند الظن بأمثالهم في أمر هذه الوصية، فإنهم لم يستمعوا فيها لصوت الوفاء الواجب لزعيمٍ على فراش الموت، ولم يستمعوا فيها لداعي الأمانة والغيرة على المذهب ومصيره، واستمعوا لصوتٍ واحد هو صوت الرهبة والرغبة بين يدي الرجل الذي قبض على أزِمَّة الدولة بكلتا يديه، واستطاع بعد قليل أن يطرد من البلاد الروسية زعيمًا في طبقة الزعيم المتوفى، وهو «تروتسكي» الذي لقي مصرعه بعد نفيه على أيدي أُجَراء «ستالين».
وشهادة «لينين» على صاحبه أخف محملًا على سمعته من شهادة الزعماء، الذين خلفوا «ستالين» وشاركوه في الحكم مدة لا يقل أقصرها عن خمس سنوات، وقد يبلغ أطولها الثلاثين: فقد عرف العالم منهم بعد موت «ستالين» بثلاث سنوات أنه «كذاب سفاح يهدر الأرواح بالمئات ويسخر مناصب الدولة الكبرى لخدمة شهواته وإشباع شذوذه الجنسي الذي اتسم بجنون القسوة أو السادية.» وأجمعوا كلهم على أنهم كانوا يذهبون إليه ولا يكادون يصدقون بالنجاة وهم خارجون من عنده، وأنهم كانوا يعلمون جزاءهم لديه إذا خامره الشك فيهم أو الخوف منهم، فقد سامهم أن ينتزعوا من الأبرياء اعترافهم المغصوب بجرائم الخيانة والمؤامرة على الشعب والدولة، وأن يكرهوا أقاربهم على رفع العرائض المعجلة يلتمسون فيها الإسراع بإنقاذ البشرية من الأبرياء المحكوم عليهم، والمبادرة بإخماد أنفاسهم التي يتلوث بها هواء الوطن المقدس، ومن هؤلاء الأقارب أمهات وآباء وبنون وبنات.
والثابت بغير حاجة إلى الإثبات من أقوال الأقطاب الشيوعيين أن زعماء الحزب الذين قتلهم «ستالين» في محاكماته لا يقلون عن ثلاثة أضعاف الزعماء الذين قتلهم جميع القياصرة، وأن ضحايا عهده بلغوا الملايين من القتلى والسجناء والمنفيين والمفقودين.
ونقص التكوين في «ستالين» حقيقة لا حاجة بها إلى الإثبات من الأصحاب أو الخصوم، فإنه لم يقبل في الجندية لذواء ذراعه اليسرى والتحام أصابع قدمه واختلاج في نظره، وإجرامه المطبوع، كذلك من الحقائق التي لا حاجة بها إلى الإثبات من قادح أو مادح؛ لأنه ثبت من دوائر الحزب كما ثبت في دوائر الحكومة، إذ بلغ من استخفافه بالأرواح أنه ألقى على مركبة البريد تلك القذيفة الجهنمية التي اشتهرت فيما بعد «بقذيفة تفليس»، ولم يحفل بأرواح الأبرياء الذين كانوا في مركبة البريد طمعًا في المال المحمول عليها لصرف «مرتبات» الموظفين، ولما شاع خبر هذه القذيفة نكب الحزب في سمعته بين سواد الشعب وخيف عليه الانحلال، فتقرر فصل «ستالين» من الحزب سترًا للمظاهر وحماية للإرهابيين من مطاردة الأهلين الذين كانوا يعطفون عليهم قبل تلك الجريمة النكراء.
•••
وأما الطامة الكبرى بين وصمات هذه الشخصية التي لا تفرغ وصماتها، فقد كانت مجهولة قبل انفجار السخط عليه من أتباعه وحلفائه، فلم يكن أحد من غير القلائل المعدودين يعلم أن «ستالين» كان جاسوسًا قيصريًّا إلى ما قبل سقوط القيصرية بقليل، وأن الذين عرفوا ذلك السر الموهوب قد هلكوا جميعًا في المحاكمات الملفقة حين علم بإطلاعهم عليه، ولم يفلت منهم غير فئة بقيد الحياة تعد على أصابع اليد الواحدة.
كانت أضابير الجاسوسية القيصرية تملأ المخازن والأقبية في دواوين متفرقة يتبع بعضها وزارة الخارجية، وبعضها إدارة الشحنة السياسية، وبعضها إدارة الشحنة العامة، وكل منها مقسم على حسب المتهمين المراقبين في الداخل والخارج، وعلى حسب الأماكن التي يقيمون فيها والطوائف التي ينتسبون إليها.
ووقعت هذه الأضابير في مبدأ قيام الدولة الشيوعية في يد «ستالين» أمين سر الحزب، فوكل بها أقرب الناس إليه وأخزاهم عورات في نظره، وكان هذا غاية ما يتمناه البريء الشريف والمتهم المريب من رجال الثورة بعد زوال القيصرية، فلم يكن في مقدور أحدهم أن يتخذ لنفسه حيطة أكبر من هذه الحيطة، إذ كانت إبادة هذه الأضابير وراء الطاقة في سلطان واحد منهم لكثرة الأضابير وتعدد مواضعها واستحالة الاعتماد على فرد أو أفراد معدودين في إتمام هذه المهمة، فضلًا عن الشبهة القوية التي تتجه إلى صاحب الأمر المهيمن عليها، وقد يكون بقايا الأضابير مفيدًا لصاحب الأمر هذا في تهديد خصومه وإكراههم على طاعته واستطلاع الأسرار التي تستغل في حينها برقابة أعوانه ومأمن من رقابة خصومه.
جاء دور المحاكمات أو التطهيرات، فأمر «ستالين» صنيعته «بريا» أن يستخرج من الأضابير وثائق تدين الزعماء الشيوعيين المقدمين إلى المحاكمة، فعهد بمهمة التنقيب في ملفاتهم وملفات أصحابهم إلى ثلاثة أو أربعة من مرءوسيه، وكان المطلوب أن يعثروا على أوراق تدين الزعماء المغضوب عليهم، فإن لم يعثروا على الأوراق المطلوبة فعليهم أن يستخرجوا أوراقًا تدين أناسًا غيرهم من الأحياء، وعلى هذه الأوراق يستند رجال «بريا» في تهديد أصحابها وإرغامهم على أداء الشهادة التي تدين الزعماء المغضوب عليهم.
وفي إحدى هذه التنقيبات، لمح الموظف المطلوب — وهو من الشيوعيين المخلصين — صورًا لستالين ورسائل مكتوبة بخطه الذي يعرفه حق المعرفة، فلما لبث أن تصفحها وعرف مضامينها حتى ارتاع وخشي على نفسه مغبة الرجوع بهذه الأوراق إلى رئيس «بريا»؛ لأنه أيقن أنه هالك لساعته إذا عرف رئيسه أنه مطلع على سر كهذا السر الرهيب، ولم يجد أحدًا يطمئن إلى شرفه ونزاهته غير رئيسه السابق في الجندية المارشال «توخاشفسكي» الذي ذهب — فيما بعد — ضحية لهذا السر القاتل، وذهبت معه فئة من خاصة زملائه اطلعوا على الأوراق؛ لإقناعهم بتدبير الانقلاب العسكري الذي يقضي على سيطرة الطاغية، فتسرب منهم سر المؤامرة ولم يتمهل الطاغية في النكال بهم إلا ريثما يهتدي إلى موضع الأوراق، ولم يهتد إليه قبل وفاته فيما يقال.
•••
ولقد أوردنا هذا الخبر عن خدمة «ستالين» للجاسوسية القيصرية؛ لأنه بعض المعلومات المجهولة التي أضيفت إلى تاريخه، وجرت في مجرى المعلوم المتفق عليه من حوادث ذلك التاريخ. ونحن — في الحق — لا ندري ماذا يزيدنا هذا الخبر من العلم بخلائقه التي يقل الخلاف عليها بين أنصار الشيوعية وأعدائها، فإن خلائق الإجرام والغدر والخبث وتسخير المذهب في خدمة الشهوات والأهواء كلها من الوقائع المتواترة التي قلما تحتاج إلى أقوال يتقارب فيها الأصحاب والخصوم.
وإن يكن ثمة من شيءٍ يوضحه هذا الخبر عن خدمته للجاسوسية القيصرية لم يكن واضحًا من قبل هذا الوضوح، فهو سر «المهارب» الكثيرة التي نسبت إلى فرط الدهاء وبراعة الحيلة، فقد كان من الألغاز المبهمة التي فسروها بدهائه وحيلته أنه كان لا يعتقل مرَّة إلا تمكن من الهرب، ثم تمكن من الوصول إلى مؤتمرات الحزب التي تعقد في العواصم الأوروبية، ولم يكن من الاحتمالات المظنونة يومئذ أن حضوره تلك المؤتمرات وظيفة يؤديها للجاسوسية القيصرية، فلا ألغاز إذن في تلك «المهارب» المثالية؛ لأنَّ سرها الخفي لم يكن من عمله بل من عمل معتقليه.
وبعد فإن هذا الاستطراد إلى الإلمام بطبائع الزعماء الشيوعيين، إنما دعانا إليه أنهم جميعًا ممن يفسرون لنا دعوتهم، بما ركب فيهم من الشر والعوج وسوء الطوية، وليس هؤلاء الزعماء الخمسة ممن يختارون جزافًا لإبراز هذه الظواهر المرضية فيهم وفي دعوتهم، فإنهم زعماء المذهب المفروضون على كل باحث يذكر المؤمنين من زعمائه المؤسسين. ولو أضفنا إليهم مائة سيرة من سير النابهين في المذهب لما غيروا شيئًا من هذه الظواهر المرضية بين أناسٍ مطبوعين على الشر، وأناس مشوهين ممسوخين يحز في نفوسهم ما يعتلج بها من النقص وفقد الرجولة.
ومن الواجب على الباحث العصري أن يلتفت إلى خطر هذه الإِحْنَة التي تَبَيَّن من تحقيق النفاسيين، أنها أفشى مما كان مقدورًا لها وأَوْبَلُ خطرًا على المجتمع من سيئاتها الفردية، فإن استقامة الغاية أبعد شيء عن مخلوق لا هو بالرجل ولا هو بالمرأة، ولا يجهل أنه محتقر في مقاييس المجتمع، فلا يزال في باطنه مشغولًا بتحقير كل قسطاس قويم مولعًا بالكيد والمماحكة على دأب الممسوخين المحرومين من ثقة الرجولة وثقة الأنوثة على السواء، ولعل الشرير المطبوع على الشر أو التواء الفهم من أصحاب هذه الإِحْنَة التي تلتوي بالضمائر والعقول، فلا يفهم من تخفى عليه طواياها فيم هذا الالتواء، ولا حاجة بها إلى الفهم في الواقع، إلا أنها لا بد أن تكون هكذا نقيضًا لاستواء الضمائر والعقول.
والشر الذي يغلق كل باب من أبواب الإصلاح غير بابه إلى النقمة والنكال، قد يكون حلًّا مرضيًا للمشكلات المرضية في طبائع هؤلاء الممسوخين ولكنه لن يكون حلًّا علميًّا لمشكلات العصر كائنًا ما كان مبلغ العرفان الذي يستند إليه.
فلا تفسير لدعوة الشر المطبق إلا سخيمة الشر المطبق في نفوس الداعين إليه، ولا جديد في أمر هؤلاء الداعين في القرن العشرين، إنهم بلية هذا العالم في كل زمن، وإنهم الخلفاء المسبوقون بالأسلاف في كل وطن، ومنهم أسلاف في عصر كل دعوة إلى الإصلاح، ومنهم أسلاف في عصر الدعوة المحمدية يدل عليهم ما جاء في القرآن الكريم: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ.
فهذا الشر المطبق هو الشر المانع للخير، الشر الذي يصدر عن طبيعة تنطلق مع الأذى وتحس بالخير كأنه حجاب يخنقها أو سور يصدها فلا تطيقه حاضرًا ولا تطيقه أملًا يسعى إليه من يرجوه.
وتلك كانت شنشنة الدعاة الذين قرروا أسبابهم الواهية، وقرروا أن يربطوا بها الماضي والمستقبل ولا يدعوا منها سببًا واحدًا يرتبط بغير ما ربطوه، وقرروا مع هذا وذاك أنها كافية للهدم والنكال، كافية لتحريم كل سعي إلى التقدم والأمان، كأنه تجديف أو تعديل في محكم التنزيل.
•••
وإذا كانت الظواهر المرضية هي التفسير الحاضر القريب لبواعث الدعوة من نفوس واضعي المذهب ومنفذيه، فهي — فيما عدا المتعجلين من العابثين والمخدوعين — أقرب تفسير للإقبال على الدعوة بين الطغام الذين لا يفقهون من مجادلاتها ومباهلاتها إلا أنها تخف بهم إلى الشر فيخفون إليه بما طبعوا عليه من النقمة والحقد وكراهة الخير لكل محسود ينفسون عليه حظه من دنياه، وتأتي إليهم الشيوعية — وهم متحفزون قبلها للشر محجمون عنه إحجام الخوف والشك — فتغريهم به وتجمله في أعينهم وتسميه باسم التقدم والإصلاح، ولا تكلفهم جهدًا من الأخلاق ولا جهدًا من التفكير بل تعفيهم من كل جهد كانوا يستثقلونه في ظل العرف المأثور وترسلهم مع الغريزة الوحشية خفافًا إلى الأذى غير محجمين عنه ولا مترددين بين مسالكه، ولا مرتابين فيما يستحقونه عند أمثالهم من الحمد والتشجيع على هذا الصنيع.
وفيما عدا المتعجلين من العابثين والمخدوعين لا تعني الشيوعية عند المقبلين عليها إلا أنها الجريمة الممنوعة تسربلت بالزينة والجمال في زي التقدم والإصلاح، وقد كانت الجريمة محرمة عليهم وهي موسومة بشناعتها وخستها وهم لا يمسكون أنفسهم عنها ولا يقدرون على مقاومتها، فإذا لاحت لهم مزوقة محبوبة مشكورة، فأحرى بهم أن يفتتنوا بها ولا يكون قصارى الأمر معها أنهم يتهيبونها ويعالجون الابتعاد عنها فيستطيعون أو لا يستطيعون.
والمتعجلون الذين يُستثنون من هؤلاء الأشرار المطبوعين فريقان: فريق العابثين أصحاب الدعاوى الباطلة على المجتمع، ويكثر عديدهم بين أشباه المتعلمين، وفريق المخدوعين الذين يصيخون لوعود البر والعطف، ويكثر عديدهم بين المحرومين الذين يطلبون الإنصاف بحق، ولكنهم يصدقون كل وعد مكذوب يستغلهم به المحتالون الدجالون، أو يستغلون به لهفتهم على الإنصاف وطيب العيش باسم الشيوعية أو باسم ما شاء المحتال الدجال من فخاخ المكر والضلال.
يكثر عديد العابثين بين أشباه المتعلمين؛ لأنهم لا يفهمون من التعلم إلا أنه حجة الدعوى على المجتمع المسكين، يجيبها لهم طوعًا أو يكون أهلًا للشكوى والاتهام وأهلًا للتحلل من قيوده والتمرد عليه، شكواهم على قدر دعواهم، ودعواهم على قدر غرورهم بما يسمونه العلم، وهم براء منه؛ لأنهم يجهلون أبسط حقائق الحياة. وأبسط حقائق الحياة أن يعمل العامل فيتعثر في طريقه مرَّة، ويستوي على نهجه مرَّة أخرى، ويظفر مع الزمن بحقه المقدور على حسب اجتهاده وكفايته، ولا يوجد في الدنيا — وهيهات أن يوجد فيها — مجتمع يقف على باب المدرسة ليلقي على إجازة التعليم نظرة عاجلة، ويلقي بين يدي صاحبها آكام الثروة ودسوت المناصب وشارات المجد والفخار ينتقي منها ما يهواه، ويرفض منها ما ليس على هواه.
ولقد سمعنا من هؤلاء من يقول: إنني أحمل الإجازة المدرسية التي يحملها رئيس الوزراء، فلماذا أَتسكَّع أنا على أبواب الدواوين، ويتمتع هو بأكبر المناصب وأفخر الألقاب؟
وما رأينا أحدًا من هؤلاء يسأل نفسه: أين هو المجتمع الذي يحاسبه بهذا الحساب، ويعترف له بالحقوق في الحياة العامة أو الحياة الخاصة على هذا الأساس.
إنهم لا يسألون أنفسهم هذا السؤال؛ لأنَّ العبث بالمذاهب أيسر لهم من السؤال والجواب، ومن احتمال الحقائق على الخطأ أو على الصواب.
وأوضح عذرًا من هؤلاء العابثين أولئك المحرومون الذين يصغون لكل «وصفة» اجتماعية إصغاء المريض الحائر لكل من يخلط له الدواء ولو عالج الداء بالداء؛ لأنَّ الشعوذة — كيفما كانت — أمل أحب إليه من الصبر على البلاء، وأدنى إلى مستطاعه من التمييز بين دواء ودواء.
هؤلاء يقبلون على الشيوعيين، كما يقبلون على غير الشيوعيين، وينخدعون كلما انفتح أمامهم باب الخديعة فلا يتعظون بالحوادث، ولا يقدرون على المراجعة بين ماضٍ وحاضر ولا على المقابلة بين خادعٍ وخادع، ولعلهم لا يحبون تلك المراجعة ولا يستريحون إليها؛ لأنها عناء يشغلهم عن التعلل بالرجاء.
وقد استجابت جماعات من هؤلاء المحرومين لألوان من الدعوات في قارة واحدة هي قارة أمريكا الجنوبية، استجابوا في تلك القارة لمن ينادي بالشيوعية، ولمن يحرم الشيوعية ويعاقب عليها، ولم يمض غير قليل حتى تجلى لهم عيانًا أن داعية الشيوعية يعيش في قصوره عيشة القياصرة، وأن داعية الدين يكفر به ويتبرأ منه ويفسق في مخادعه فسوق الشياطين، وفتحت أبواب هذا الداعية لِعُبَّاده بالأمس، فخرجوا يقولون: «ما كان أغفلنا من حمقى.»
لماذا؟ إنهم لم يجدوا هنالك ترفًا يشتهيه العاقل أو يحمده الذوق السليم، بل وجدوا الترف الذي يختلط فيه جنون الشهوة الجامحة وبطر الذوق الممسوخ، ومن أفانينه عدة تليفونية مصنوعة من الذهب مرصعة بالجوهر، يدور منها في مكان الجرس بلبل يغرد تغريدة الدعاء كلما طلب الرقم للحديث.
في شئون الإصلاح والتعمير والإنشاء هؤلاء هم المتعجلون المخدوعون.
وأولئك هم المتعجلون العابثون
وربما استمع كلاهما لدعوة الشيوعيين وهم على فطرةٍ قويمة سليمة، لولا داء الضرورة وداء الغرور، وليس كذلك من عداهم من الملبين لتلك الدعوة والمستجيبين لغوايتها، فمن عدا المتعجلين المخدوعين والعابثين هم في الغالب شيوعيون مولودون، موجودون في الدنيا ولو لم يوجد فيها «كارل ماركس» وأعوانه من الزعماء المؤسسين والمنفذين، وشأن الأتباع كشأن الزعماء في الولع بالشر أينما ثقفوه والمبادرة إليه كلما استطاعوه، لا ترى فيهم إلا مضطغنًا ينتظر أن يضطغن عليه، أو ممسوخًا يستمرئ القسوة والعداوة ولا يستمرئ الرحمة والمودة، أو مشتملًا على خزي دفين يتحدى به العالم تبجحًا ومروقًا من الحياء، ولن يشقى زعماؤه المتصدون لإقناعهم بشقاء العنت في الإقناع كما يشقى زعماء الدعوات التي تجشم الناس جهدًا في الأخلاق أو جهدًا في التفكير، وإنما العناء مع هؤلاء أن تثنيهم عن غزيرة تعبت في رياضتها ألوف السنين ولم تثنهم عنها، وأن تبعدهم عن النكسة إلى ضراوة الهمجية، وقد وجدوا من يتغنى بها ويقول لهم إنها هي التقدم والوثوب إلى الأمام!
•••
ومحصول الدعوة ومن يدعو إليها ومن يلبيها، أنها داء يُعالج معالجة الأدواء ويُحمى منه الأصحاء، وقلما يقع فيه الصحيح إلا وهو شبيه بمرضاه في عرض من الأعراض يحجب الإرادة في نفوس لا تستعصي إرادتها على الحجاب، ويضلل الفكرة في عقول لا تمتنع على التضليل، وبين هؤلاء الأصحاب الشبيهين بالمرضى جماعة المخدوعين وجماعة العابثين.
ومما يحزن العاطفين على ضحايا الخداع أنهم معذورون يشفع لهم عذر اللهفة والحرمان ولا ترحمهم الحوادث لأنهم معذورون، فما كان السقام ليرحم مريضًا يؤثر الشعوذة على الطلب ويعرض عن الطبيب الأمين ليهرع باختياره إلى تجرع السموم من يد المحتال الأثيم.
ومما يحزن العاطفين على ضحايا العبث والغرور، أنهم يهزلون بالشكوى فلا تمهلهم الشكوى الهازلة أن تعلمهم الحد في شكواهم، وأن تبتليهم بالآزفة القاصفة ولا ترثي لبلواهم، فلا يلقون لديها إلا الجد الصارم ولا تلقى لديهم إلا ندامة الهازل المغرور!
ولقد خرجنا من محصول المذهب بغنيمة الصحة منه إذا عرفنا دخيلته وأيقنا — بعد ما ابتلى من مرضاه وأشباه مرضاه — وأنه ليس بالفكرة التي ينفذها البرهان، ولا بالمطلب الذي يرضيه الإنجاز، ولكنه مرض لا نسلم منه إلا أن نتتبع مواطن جراثيمه، وأن نتتبع مع هذا أسباب سريانه وانتقال عدواه، وهان بعد ذلك كل خطر يغشيه من وحي العلم أو التفكير.