المذهب
ولُباب مذهب «هيجل» أنَّ الوجود الحق إنما هو وجود الفكرة المطلقة، وأن الفكرة أبدية أزلية قادرة على كل شيء ولكن بالقوة والقابلية، فإذا أردت أن تحقق كل شيء بالفعل فإنما سبيل ذلك أن تحققه في أطوار التاريخ.
والفكرة تعرف كل شيء كذلك بالقوة والقابلية، ولكنها تتطور لتعرف نفسها بالفعل وتصل إلى أرفع أطوارها في وعي الإنسان.
وغايتها القصوى أن تعرف كل شيء، أي أن تعرف نفسها؛ لأنها هي كل شيء، وبهذه المعرفة تتحقق الحرية المطلقة من جميع العوائق، فتصل الفكرة إلى طور من أطوار الحرية، كلما وصلت إلى طور من أطوار المعرفة إلى أن تتم هذه الأطوار بتمام المعرفة وتمام الحرية.
وإذا كانت الفكرة مطلقة أبدية أزلية، فهذه الأطوار محدودة، وكل طور منها ناقص يتممه طور آخر، وهذا الذي يسميه «هيجل» قانون النقائض، أو قانون الثنائية، أو كما سماه بعضهم قانون الحوار من باب المجاز؛ لأن الحوار يقدم رأيين متقابلين، فكل طور من أطوار التاريخ لا يشتمل على كل كامل، بل يشتمل على جزء يقابله جزء آخر، وتكمن فيه جرثومة التناقض؛ لأنه بعض وليس بكل محيط بجميع الخصائص والمزايا والأطوار.
فهناك فعل وهناك ضد لذلك الفعل، ثم يتركبان فيصبحان شيئًا واحدًا، ثم يبدأ التناقض مرَّة أخرى حتى ينتهي إلى تركيب أتم من التركيب الأول، وعلى هذا النمط المتتابع يتطور التاريخ وتتقدم المعرفة والحرية، لأنها معرفة تأتي من وجوهٍ متعددة، وتأتي بعد الخلاص من قيود النقائض التي يحد بعضها بعضًا، فكل نقيضة منها تحد ما يقابلها.
والتناقض — على هذا — هو دافع الحركة ودافع التقدم والحرية، إلى أن يبطل التناقض في الأجزاء باحتوائها جميعًا في الكل لا يوجد شيء خارجه، ولا يوجد من ثم شيء يناقضه، فهو الحرية بغير حدود والمعرفة بغير مجهول.
ومقتضى مذهب «هيجل» أنَّ الحكومة البروسية هي أعلى ما ارتقى إليه الوعي الكوني من أطوار التاريخ، وبقيامها بين المحكومين تتحقق حرية الجميع؛ لأن حرية كل منهم تصطدم بحرية الآخر إذا لم تجتمع هذه النقائض جميعًا في قوام واحد، وهو قوام تلك الحكومة.
ولذلك كان للفيلسوف «هيجل» حظوة كبرى في أعين السادة والأمراء الألمان، وكان هو الفيلسوف الوحيد الذي يحضرون دروسه مع الطلاب، وإن اتفق معه في مواعيد الدرس فلاسفة آخرون.
وعلى حسب مذهب «هيجل» هذا يمكن أن يقال: إنَّ الفوضى الأولى في المجتمعات البدائية تبعتها السلطة المطلقة، ثم اجتمع من الفوضى والسلطة المطلقة نظام الاستبداد المحدود، ثم ظهر نقيض الاستبداد المحدود في نظم الحكومات الديمقراطية والإمبراطورية والمتحدة. كأنها حلقات الماء التي تحيط كل حلقة منها بالحلقات التي تقدمتها، ثم تتسع وتتسع، ولا تزال في كل مرَّة قابلة للإحاطة بما قبلها والامتداد إلى ما بعدها.
وتتعدد مظاهر التاريخ عند «هيجل» فتدل عليها الأفكار والفنون، كما تدل عليها الدول والنظم والقوانين، وتخلق فينا هذه المظاهر بواعث الرجاء ثم تأتي بعدها بواعث اليأس مما كنا نرجوه، فما يقوينا وينهض بعزائمنا اليوم يعود فيملأ نفوسنا باليأس لكي نتخطاه، ونتطلع إلى رجاءٍ أعظم وأبقى، ومن هنا تترقى الأديان والمعتقدات وتترقى المعرفة وشعائر الإيمان، فكل إيمان في حالة من أحوال المعرفة يتبعه إيمان أعظم منه في حالة أعلى وأوسع من تلك الأحوال.
وجاء «كارل ماركس» فأبقى إطار هذا المذهب وأفرغه من محتوياته، ونقله من مذهب فكري إلى مذهب مادي لا يرى في الكون شيئًا غير المادة، وسمى مذهبه بالمادية الثنائية، وسمى قوانينها التي تسيطر على تاريخ الإنسان بالتفسير المادي للتاريخ، فالمادة هي كل شيء، والفكرة مخلوقة من المادة، والوعي الإنساني هو أعلى ما ارتقت إليه المادة من أطوار التاريخ.
وعند «كارل ماركس» أنَّ هذه الأطوار تتناقض، ويحمل كل طور منها جرثومة نقيضه، ويطبقها على المجتمع الإنساني فيقول: إنَّ الضرورات المادية في المجتمع هي التي تحرك أدوار التاريخ، فيأتي كل دور منها بنقيض ما تقدمه، ولا تزال تتعاقب نقيضًا بعد نقيض حتى يأتي الدور الأخير في المجتمع الإنساني، فيخلو من النقائض ويستولي على المجتمع نظام واحد لا أضداد فيه.
ولما كانت الضرورات المادية تحتاج إلى إنتاج — بعد حالة المشاع التي كانت عامة في المجتمعات البدائية، فالمشرفون على وسائل الإنتاج هم الذين يحكمونه ويخلقون له العرف الذي يلائمه والعقائد التي تتمشى مع مصالحهم، والأخلاق التي تكفل البقاء لسيادتهم، ولا تنقضي دولتهم إلا إذا انقضت وسائل الإنتاج وخلفتها وسائل غيرها يملكها أناس آخرون، وهذا ما يسميه حرب الطبقات.
وهذه هي النقائض المادية التي يعول عليها في تفسير التاريخ.
ففي البدء كانت المشاعية التي لا ملكية فيها لأحد، ثم استولى السادة على وسائل الإنتاج باستخدام الأَرِقَّاء والمسخرين الذين هم في حكم العبيد، ثم ذهب هؤلاء السادة وجاء بعدهم الفرسان أرباب الإقطاعات الذين يسخرون الزراع كما كان أسلافهم يسخرون الأَرِقَّاء، ثم جاء بعدهم تجار المدن وأصحاب الأموال البرجوازيون، أو الطور الأول من أطوار رأس المال، ثم جاء الطور الثاني من أطوار رأس المال مع تقدم الصناعة، ونشوء الصناعة الكبرى في عصر البخار والمخترعات الحديثة.
ونقائض التاريخ الإنساني — على هذا — تنتقل من عصر المشاعية البدائية إلى عصر الرق إلى عصر الإقطاع إلى عصر البرجوازية إلى عصر رأس المال الأخير، وهنا تنتهي النقائض لانتهاء عصر الاستغلال.
ففي عصر الرق يستغل السادة عمل العبيد، وفي عهد الإقطاع يستغل الفرسان عمل الفلاحين والصناع، وفي عصر البرجوازية يستغل أرباب الأموال عمل الأُجَراء، وفي عصر الصناعة الكبرى تنحصر الأموال شيئًا فشيئًا بين أيدي القلة الصغيرة من أصحاب المصانع والشركات، حتى يستنزفوا ثروة المجتمع، فلا يبقى فيه غيرهم وغير المسخرين لهم محرومين من كل شيء إلا السلاسل والأغلال.
ويثور هؤلاء على سادتهم يأسًا من كل خير يأتيهم من المجتمع «الرأسمالي» فيزيلونهم ويقبضون بعدهم على أزِمَّة الإنتاج بغير استغلال وبغير تسخير. وهذه هي غاية التاريخ الإنساني التي تبطل فيها النقائض، ولا تبقى فيها غير طبقة واحدة ينتهي بعدها صراع الطبقات، وينتهي عندها كل صراع في الحياة الاجتماعية، إذ كانت وسائل الإنتاج هي مدار الصراع كله في أوائل حركات التاريخ.
في هذا العهد يئول كل شيء إلى كل إنسان، فلا يوجد من يملك أرضًا أو مالًا يستأثر به دون سائر أبناء المجتمع، ويظل شعار المجتمعات الإنسانية أبدًا: «من كل أحد حسب قدرته إلى كل أحد حسب حاجته.» ولا سيطرة ولا دولة، ولا نزاع، ولا حروب.
ولما كانت الحكومات إنما تقوم لحماية المالكين لزمام الإنتاج الاقتصادي، فلا ضرورة للحكومات مع شيوع الثروة وتوزيع الأموال، ولكنها قد تبقى زمنًا محدودًا خلال فترة الانتقال، ثم تتضاءل وتذوي شيئًا فشيئًا حتى تذهب في النهاية غير محسوس بها وبغير جهد من المحكومين.
وعلى حسب المادية الثنائية، يموت كل دور من أدوار التاريخ بجراثيم الفناء التي تتولد في بنيته بطبيعة تكوينه، ولكنه لا يموت حتى يبلغ قصاراه من التمام، فإذا تمت مقوماته جميعًا فآخر عهده بالتمام أول عهده بالزوال.
وقد آلت أدوار الاستغلال إلى دور الاستغلال الأكبر وهو دور الصناعة الكبرى، وهو استغلال يعيش بالقيمة الفائضة، وينمو بالقيمة الفائضة، ثم يموت بالقيمة الفائضة.
وما هي هذه القيمة الفائضة؟
هي في مذهب «كارل ماركس» نظرية العمل والكسب؛ لأنه يقرر أنَّ العمل يعطي كل شيء قيمته، فلا قيمة لشيء من الأشياء بغير العمل الاجتماعي الذي يبذل فيه.
وإذا لم يكن هناك استغلال وجب أن يأخذ العامل ثمرة العمل كله؛ لأنه — بهذا العمل — يعطي الثمرة قيمتها التي لا قيمة لها بغيره.
إلا أن صاحب المال يستغل اضطرار العامل، فلا يعطيه من عمله إلا الكفاية لقوته وما هو في حكم القوت من ضرورات المعيشة، ثم يأخذ الزيادة لنفسه، ويتصرف بها في توسيع ثروته ونفقاته، وهذه الزيادة هي التي يسميها «كارل ماركس» بالقيمة الفاضلة.
ومن لوازم رأس المال في عهد الصناعة الكبرى، أنه يزيد اضطرار العامل إلى قبول الأجر القليل يومًا بعد يوم؛ لأن أدوات الإنتاج — من الآلات الضخمة — تغلو كلما تقدمت الصناعة، فلا يستطيع اقتناءها وإدارتها إلا صاحب المال الكثير، هذا من جهة.
ومن الجهة الأخرى يتنافس أصحاب الأموال بنقص الأثمان فتنقص الأجور، ثم يبلغ هذا النقص حدًا لا يتجاوزه لأنه يمس الضرورات المعيشية التي لا غنى عنها للأجسام الحية، فيلجأ أصحاب الأموال إلى زيادة الربح بزيادة قدرة المكنات على الإنتاج، ولا تزال هذه القدرة تزداد حتى تخرج للأسواق فوق حاجتها وحتى ترتفع أثمان المكنات إلى أعلاها، فيزداد العامل اضطرارًا على اضطرار، كلما كسدت البضائع وارتفعت أثمان المكنات، وتمادى التنافس بين المنتجين إلى نهاية لا مناص عندها من الوقوف والحيرة بين المتناقضات، وهذه هي أزمة الأزمات في نظام رأس المال.
ويحدث في أثناء هذا التنافس أن يعصر أصحاب الأموال بينهم كل مشتغل بالصناعة من المتوسطين أو الفقراء، فيلحق كل فريق منهم بأقرب الطبقتين إليه، فريق يلحق بأصحاب رءوس الأموال، وفريق آخر يلحق بالأُجَراء الذين لا يملكون غير القوت، وهم البرولتارية أي الطبقة التي لا تنتج غير الأطفال، وإلى هذه الطبقة يوجه «كارل ماركس» نداءه الذي يقول فيه: «اتحدوا يا صعاليك العالم، فأمامكم عالم تغتنمونه وليس عندكم من شيء تفقدونه غير القيود والأغلال.»
ويعلم «كارل ماركس» أن العالم الذي يدعو الصعاليك إلى هدمه يقوم على الأوطان والعقائد وآداب السلوك والعرف المتبع بين الأمم، فيقرر أنَّ هذه الأشياء كلها تابعة لنظام رأس المال، ولا بد أن تزول ولا تبقى منها بقية ليزول ذلك النظام، فإنما الأوطان، والعلاقات الاجتماعية، والعقائد، والأخلاق كافة، وليدة النظم السياسية لحماية القائمين على مصادر الثروة، وأي فكرة تنشأ في مجتمع إنساني، فلا محل لها فيه إلا أن تكون عونًا لذوي السلطان على دوام ذلك السلطان.
والنظر في حقيقة هذا المذهب يتطلب النظر في أهم مبادئه التي وردت موجزة فيما تقدم، وهي المادية ووسائل الإنتاج وصراع الطبقات، والقيمة الفاضلة، ونشأة العقائد والآداب.
وسيكون النظر في هذه المبادئ موضوع الفصول التالية، نبدأها ببيان علاقة المبدأ بالظواهر النفسية، ونتبع ذلك بزيادة في الشرح لتمحيص الدعوى العلمية التي يدعيها أصحابه لجميع مبادئه وقضاياه وتفسيراته وعواقبه، التي تستلزمها تلك المبادئ والقضايا والتفسيرات، ولا تقبل عاقبة غيرها في كبيرة ولا صغيرة من حوادث التاريخ.
وأول هذه المبادئ الهامة مبدأ المادية الثنائية؛ لأنه يحيط بها جميعًا ويسميها باسمه بين المذاهب الفكرية والاجتماعية، ويقيمها على أساسه، فلا قوام لها بغير هذا الأساس.