الطبقات والإنتاج
تاريخ الإنسانية في رأي الماديين المفسرين للتاريخ هو تاريخ الطبقات المتوالية.
والعامل الحاسم في تكوين الطبقة هو وسائل الإنتاج، فمن يملك وسائل الإنتاج الضرورية في المجتمع، فهو سيد المجتمع، وكل ما في المجتمع من شرائع وعقائد وآداب وعادات، فهو مسخر في خدمة مصالحه وأغراضه بقصدٍ أو على غير قصد من الطبقة الحاكمة أو الطبقات المحكومة.
ولا داعية إلى استمداد قول من غير أقوال الماديين التاريخيين لإسقاط هذه القاعدة الكبرى على أساسها؛ لأن الأقوال المسلمة عندهم تكفي لإسقاطها وتشككهم على الأقل فيها، وتوجب عليهم أن يبحثوا عن سبب غير هذا السبب — أو مع هذا السبب — لتفسير الأطوار التاريخية، لولا أنهم يريدون هذا السبب ولا يريدون غيره، ويتعمدون أن يصلوا إلى نتائجه المقدرة عندهم من طريقها أو من غير طريق.
فمن المسلمات عندهم أنَّ الإنسان قد وصل إلى تدجين النبات وتدجين الحيوان قبل أن تظهر فيه طبقة تستغل الطبقات الأخرى، وأن هذا التدجين قد تم على خطواتٍ متعاقبة، أُولاها: صيد الحيوان للانتفاع بلحومه وجلوده في الطعام والكساء، وثانيتها: صيد الحيوان والاحتفاظ به للانتفاع بألبانه وأصوافه، وثالثتها: صيد الحيوان للانتفاع به في الزرع والحرث والانتقال وحمل الأثقال.
يقول «إنجلز» ما ترجمته بحرفه: «إنه بينما كان تحقيق هذه القوى الدافعة للتاريخ في حكم المستحيل نظرًا لاشتباكها واختفاء العلاقات المتداخلة بينها وبين آثارها، نرى أن عصرنا الحاضر قد بسط إلى الآن هذه العلاقات المتشابكة تبسيطًا يمكننا من حل ألغازها، وأنه بعد قيام الصناعات الواسعة — أو بعد الصلح الأوربي سنة ١٨١٥، على الأقل — لم يبق سرًّا مجهولًا عند أحد في بريطانيا أنَّ الصراع السياسي كله إنما يدور على تنازع السيادة بين طبقتين: طبقة الملاك النبلاء، والطبقة الوسطى.»
وما معنى هذا على أي وجهٍ من الوجوه أردنا أن نعرف معناه؟
إن معناه البين أنَّ أطوار التاريخ قبل القرن التاسع عشر لم تكن قاطعة في الدلالة على سبب وحيد، لا يسمح بافتراض سببٍ آخر؛ لاستحالة الفصل بين المقدمات والآثار.
ومعناه أنَّ النظرية التي يريدون من أجلها أن يقلبوا الكون على من فيه قائمة على ملاحظات محصورة في نحو ثلاثين سنة من تاريخ الإنسانية، يجوز جدًّا أن تختلف بين تلك الفترة التي كانت بداءة انتقال، لم تظهر عواقبها التي لا يطيق الماديون انتظارها؛ لأنهم في عجلة لا تحتمل هذا الانتظار.
وليت الملاحظات — ملاحظات ثلاثين سنة — في تاريخ الإنسانية قد كشفت عن شيء يؤيد مذهبهم بين الطبقات؛ لأن الصراع بين الملاك النبلاء والطبقة الوسطى لم يكن صراعًا على استغلال إحداهما للأخرى، بل كان صراعًا على دعوى السيادة، كما قال «إنجلز» وغايته في رأيه هي استغلال طبقة ثالثة من العمال.
إن تدجين النبات والحيوان قبل نشوء الطبقة كافٍ لتقدير أسباب للأطوار الاقتصادية والاجتماعية غير تنازع الطبقات، فإن لم يكن كافيًا، فحسب الباحث الأمين أن يعلم أن الملاحظات المستمدة من التاريخ مشكوك فيها قبل سنة ١٨١٥، وأن الملاحظات المستمدة بعدها مأخوذة من تاريخ ثلاثين سنة؛ ليقف موقف المتهيب قبل الهجوم على الهدم وتحريم النظر في كل حيلة للإصلاح تنقذ الأمم من هذه العاقبة.
إلا أننا لا نريد أن نكتفي بهذا العرض لرأي القوم تفنيدًا لدعواهم في هذا الأمر الجلل، ونريد أن نسترسل في تفصيلاتهم؛ لأن التفصيلات أدل على سخف هذه النظرية من ذلك العرض الوجيز.
فلنعلم إذن أنَّ امتلاك وسائل الإنتاج هو أصل الطبقات المستغلة، ولكن يجب أن نعلم مع ذلك أنَّ الملكية لذاتها ليست عاملًا حاسمًا في تكوين الطبقة؛ لأن الأجير الفقير قد يقيم في كوخ يملكه، وصاحب المصنع الغني قد يقيم في قصر يستأجره، وما الملكية الحاسمة إلا ملكية الوسائل التي تنتج ضرورات المعيشة.
كذلك لا يتوقف الأمر على وحدة المصادر التي تأتي منها الثروة، فإن الطبيب والمحامي يعيشان من مصادر مختلفة وهما من طبقة واحدة. ولكن العلاقات الاقتصادية في تكوين الطبقات أهم من مصادر الكسب والمورد. وكل طبقة تتعلق مصالحها بالطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج فهي لاحقة بها منتمية إليها، وشعورها نحوها على وفق شعورها بالاعتماد على بقائها والدفاع عن مصالحها.
وعلى هذا التقدير يرى الماديون المفسرون للتاريخ أنَّ الإنسانية مرت بسبعة أدوار منذ قيام الجماعات أو المجتمعات الاقتصادية فيها، الدور الأول هو دور «الشيوعية البدائية»، وهو دور كانت الملكية الخاصة فيه مجهولة، وكانت مرافق المجتمع مشاعة بين جميع أفراده، ولم تكن فيه بضائع للبيع والتبادل، وإنما كانت فيه حاجات للمعيشة في متناول من يريدها.
والدور الثاني هو دور «البربرية السفلى» وفيه ظهر الحديد وأصبحت له قيمة تجارية أو استغلالية، وهنا ظهرت وسائل الإنتاج ولم يظهر العمل المأجور بعد، إذ كانت وسائل الإنتاج في أيدي الأسرة تتقسم بينها العمل والجزاء.
والدور الثالث هو دور «البربرية العليا» وفيه ظهر الزيت والخمر مع الحديد والمعادن المصنوعة، وانقسم فيه المجتمع إلى أغنياء وفقراء يحتاجون إلى ما في أيدي الأغنياء، فيعملون في خدمتهم ويعيشون من عطائهم.
والدور الرابع هو دور «السادة والأَرِقَّاء» وفيه ظهر العبد المسترق إلى جانب الفقير المدقع، وكانت مجتمعات المدن اليونانية تجمع هذه الطبقات بتغليب عمل الرقيق تارةً، وتغليب العمل المأجور تارةً أخرى.
ثم كان الدور الخامس متمثلًا على أتمه في نظام الدولة الرومانية، فقام العمل كله — أو أكثره — على كواهل الأَرِقَّاء، وأصبح العمل عيبًا يترفع عنه الرجل الشريف صاحب الرئاسة والمكانة في المجتمع وفي الدولة.
ثم كان دور الإقطاع وساعد على قيام سيادة البرابرة على الدولة الرومانية، فإن السادة بين البرابرة لم يكن يعيبهم أن يعملوا أو يشتركوا في العمل، فأصبح رب الإقطاع سيد المجتمع الجديد خليطًا من المنتج والمستغل لإنتاج الآخرين.
وجاء الدور السادس وهو دور «رأس المال الأول» وكانت التجارة فيه غالبة على الصناعة والزراعة، واتسعت أسواق التجارة في أثناء هذا الدور بعد كشف أمريكا وطرق الملاحة إلى الشرق الأقصى، فكانت طبقة تجار المدن — البرجوازية — صاحبة السيادة في هذا الدور.
وتلاه دور رأس المال في عهد الصناعة الكبرى، وهو الدور الذي يبلغ فيه الاستغلال أتمه ويبلغ فيه نهايته المحتومة في وقت واحد، وتقوم بعده طبقة واحدة لا تستغل غيرها، فلا تقوم إلى جانبها طبقة أخرى.
ويسقط دور رأس المال هذا حين تجتمع الثروة كلها في قبضة آحاد معدودين، وتبقى الكثرة الساحقة من المجتمع محرومة لا مصلحة لها في الصناعة الكبرى، فتثور على أصحاب الأموال، وتهدم أركان المجتمع القائم، وتنشئ لها مجتمعًا يلائمها بعلاقاته وعاداته وآدابه. وتقضي على أصول الأديان والعقائد الأولى؛ لأنها وُجِدَت جميعًا للدفاع عن أصحاب وسائل الإنتاج، وتمكين كل طبقة مستغلة في دورها من تسخير العاملين على اختلاف الأعمال والصناعات.
ويعجل سقوط نظام رأس المال كلما اشتد التنافس بين أصحاب الأموال أو أصحاب المصانع، فتطغى الثروات الكبيرة على الثروات الصغيرة، وتتقلص الأوساط بين أصحاب رءوس الأموال والأُجَراء، ويتحكم أصحاب رءوس الأموال عند زوال المنافسة، فلا يسمحون للأُجَراء بأكثر من الرزق الضروري لإقامة أود الحياة.
ومما يعجل بسقوط هذا النظام أنَّ صاحب المال يحتاج إلى مضاعفة الربح بزيادة المنتجات، فتزيد هذه المنتجات عن الحاجة ولا تجد من يشتريها في أوطانها، وتدعو الضرورة إلى استعمار البلاد المتأخرة واستغلال خاماتها وأيديها العاملة، ولكنه علاج مسكن يؤجل القضاء المحتوم ولا يدفعه، ثم يأتي هذا القضاء حين تصبح طبقة أصحاب الأموال منعزلة وحدها أمام الجموع المسخرة في داخل البلاد وخارجها.
ومتى انفردت الطبقة الحاكمة في هذا النظام أمام الجموع الزاخرة التي تئن تحت وطأتها فتلك هي الخاتمة التي لا فكاك منها، وتلك هي نهاية الطبقات وبداية العهد الأبدي الذي لا طبقات فيه.
•••
وقبل البحث في صواب هذه الآراء أو خطئها، نبدأ بالإشارة إلى علاقتها بالظواهر النفسية؛ لأن هذه العلاقة واضحة هنا، كما تتضح في كل مبدأ وكل رأي وكل تأويل من أصول المذهب أو فروعه.
ما هي الطبقة؟
الطبقة في تعريف «كارل ماركس» هي الطائفة التي تكون لها مصالح معارضة لمصالح طبقة أخرى، وعلى هذا يكون التعريف هو البرهان!
لا بد من فرض العداوة بين الطبقات حتى يقال إنها طبقات، وإلا فهي معدومة أو ناقصة في دور التكوين.
فلا يمكنك أن تتكلم عن طبقة إلا إذا افترضت العداوة لازمة لوجودها، وهكذا يدور بك التعريف والبرهان معًا في حلقتهما المفرغة التي لا يدرى أين طرفاها، فهي طبقة؛ لأنها تعادي غيرها؛ وهي تعادي غيرها لأنها طبقة، ولا بد من عنصر العداء في جميع الأحوال.
ونعود إلى سؤال «كارل ماركس» لنعيده بحق فنسأل: هل يحتاج الإنسان إلى بديهة عميقة؛ ليعلم أنَّ الناس يختلفون ولو لم تكن هناك طبقات؟
أليست هناك أعمال متفاوتة في الكفاية والأهمية؟ أليست هناك رغبات تتنازع بين الناس لتقدير كفاياتهم واختصاص كل منهم بأحب الأعمال إليه؟ وأين هو مقياس الشعرة الذي يجعل كل إنسان يعرف قدره ولا يزيد عليه، ويعرف حاجته ولا يزيد عليها، ويعرف عمله الواجب ولا ينقص منه؟ وأين هو ميزان الشعرة الذي يحكم بين أصحاب الحظوظ المختلفة من القوة والصحة والذرية والذكاء والهمة والجمال وسائر المزايا، التي يتفاوت بها الناس ولا تضبط الفوارق بينها في ميزان؟
لا بد أن تنفى هذه الفوارق كافة من كل حسبان وكل مظنة وكل احتمال، لأنك إذا أعرتها حقها من الأثر الفعال أفلتت الفرصة وانفتح الباب — أو الأبواب الكثيرة — لاختلاف الأقدار واختلاف الناس في الكسب والمعيشة واختلاف الطبقات.
فلا بد إذن أن تنفى هذه الفوارق كما تسقط الفوارق من قبيلها في قصص العجائز وأحلام الحالمين في أسطورة «أورفيوس» وما إليها من الأساطير، التي أبطلت النزاع قديمًا بين الذئاب والنعاج وبين الكواسر والبغاث.
هكذا والسلام.
وإلا فكيف تسنح الفرصة التي لا فرصة غيرها للهدم والجزم وإغلاق الطرق كافة أمام بني الإنسان غير الطريق اللازم ﻟ «كارل ماركس»، ولا منعرج عنه إلى سواه؟
إننا سنرى أنَّ «كارل ماركس» لم يصنع شيئًا ينفي هذه الفوارق؛ لأن وسائل الإنتاج لن تئول إلى أيدي طبقة واحدة ولو زالت جميع الطبقات التي عرفت في تاريخ الإنسانية إلى الآن، ولن يأتي الزمن الذي تصبح فيه السيطرة على وسائل الإنتاج سهلة مبذولة لكل من يريد، ومتى افترقت الكفايات والأقدار والأعمال، فليس تعريف القوم للطبقة إلا كلمات مرصوصة من لغو المقال.
•••
وبعد ملاحظة هذه الظاهرة التي لا مرجح غيرها لوضع الطبقة في موضعها من مذهب «كارل ماركس»، نعود إلى الدعوى العلمية التي يدعونها لأصول المذهب وفروعه، فنقول: إن الثقات من خبراء علم الإنسان «أنثروبولوجي» لم يثبتوا فرضًا من تلك الفروض، ولم يذكروا لنا مجتمعًا من المجتمعات البدائية خلا من الملكية الخاصة لوسيلة من وسائل الإنتاج، ونحن في عصرنا هذا ننظر إلى المجتمعات المترقية في الحضارة، فلا نرى مجتمعًا منها خلا من المشاعية التي كانت في العصور الأولى مما يعيه التاريخ ويدل على ما كان قبل التاريخ.
فالأنهار وكنوز الثروة الأرضية في حيازة المجتمع كله، يمنح الرخصة في استغلالها بإذن منه متفق عليه في الشريعة العامة، والسلاح الموقوف على الدفاع العام لا يملكه فرد ولا جماعة بغير إذن المجتمع أو إذن الدولة، ومثل الأنهار والمناجم وأسلحة الجيوش كمثل الآبار والمراعي وأسلحة الصيد العامة أو أسلحة القتال في المجتمعات البدائية، لم يتغير فيها شيء من جهة المبدأ أو جهة التحليل والتحريم بحكم العرف والشريعة.
ويقول الرحالون الذين عاشوا بين قبائل الكاي في غانة الجديدة: إنَّ الأرض بينها مشاعة على العموم، ولكن اللص الذي يضبط في أرض يقوم على زرعها أحد غيره يجوز قتله ولا يحق لأهله أن يثأروا له أو يطلبوا الدية من قاتله، وإنهم ربما سمحوا بغرس شجرة مثمرة في أرض الغريب ولكنهم لا يسمحون ببناء كوخ أو خص عليها، وإن الرجل منهم يملك أسنان الخنزير البري أو أسنان الكلب؛ لأنها ذات قيمة سحرية أو فنية ويحق له أن يقتل من يسرقها أو يحاول اغتصابها، وإن ثمرات الأشجار عندهم حق لغارس الشجرة في حقل يزرعه غيره، وإن الصائد الذي لمح الصيد لأول مرَّة صاحب حق فيه لا نزاع عليه.
ويروي خبراء علم الإنسان عن قبائل «كاريرا» الأسترالية أنَّ الأرض عندهم قد تملكها شعبة من القبيلة، وقد ينشب القتال بين مالكيها وأعدائهم ثم لا يخطر على بال الغالب أن يستولي على الأرض ويطرد منها من كانوا يحتلونها من العشائر المهزومة.
وتروى حالات شبيهة بهذه الحالات عن العشائر البدائية في الهند وسيلان والأقاليم الأفريقية، يرجع إليها في مصادر كثيرة نذكر منها كتاب «رحلات في أفريقيا الغربية» «لكنجلي»، وكتاب «العشائر والبطون في كليفورنيا الجنوبية» ﻟ «جيفورد»، وكتاب «السكان الأصلاء في ويلز الجديدة الجنوبية» ﻟ «فريزر»، وكتاب «توزيع الأرض وتقاليد الميراث بين المكسيكيين الأقدمين» ﻟ «بالدلير» وأشابه هذه الكتب والتقارير التي أجمعت على اختلاط أحوال المشاعية والملكية الخاصة في الجماعات الأولى، ولم ينفرد منها مرجع بحصر جماعة قط في نظام واحد خلا من أثر الملكية الخاصة أو أثر الملكية المشاعة.
وأيًّا كان المرجع في هذه النظم، فلا الخير ولا العقل يسيغان أن نتصور أن الاستغلال وجد لأن أناسًا أرادوه وقالوا لأبناء مجتمعهم: نحن نريد أن نستغلكم، فقال لهم أبناء المجتمع: حبًا وكرامة، ها نحن أولاء بين أيديكم، فاستغلونا كما تشاءون!
فما وجد الاستغلال قط؛ لأنه رغبة مستجابة لا معارضة فيها، وإنما وجد لأنه قدرة يستطيعها أناس ويعجز عنها أناس آخرون، وهذه القدرة إما أن تكون قدرة الشجاعة، أو قدرة الخبرة بفنون القتال، أو قدرة القيادة السلمية، أو قدرة البنية القوية التي تخضع من تغلبهم لمشيئتها وتروضهم على طاعتها.
وقلما تكفي البنية القوية وحدها لتمكين أحد من القيادة الدائمة ما لم تكن مقرونة بمزية عقلية أو خلقية تسندها وتدبر لها وسائل دوامها.
ونحن نقرأ في كلام «ماركس» و«إنجلز» أنَّ المجتمعات البدائية انتقلت من عصر المشاعية إلى عصر الرق بعد أن تعودت الإغارة على جيرانها والتعويل على ثمرات أرضهم وكسب أيديهم، ولكنهما يعبران هذا الدور عبورًا سريعًا، ولا يقولان لنا كيف وجدت الطبقة التي تسترقُّ العبيد من الأسرى الغرباء أو من أبناء القبيلة الضعفاء.
وهنا نرجع إلى الظاهرة النفسية لتفسير هذا السكوت أو هذا العبور السريع، فإن اللعبة كلها لعبة الهدم والنقمة — تبطل لا محالة إذ اعترف «ماركس» وأتباعه بالطبيعة الإنسانية التي تميز أناسًا بالشجاعة، وأناسًا بالدراية في فنون القتال، وأناسًا بالحيلة والذكاء أو «بالشخصية» المطاعة لجملة هذه الصفات مجتمعات، وإذا اعترف «ماركس» بوجود هذه المزايا قبل أن توجدها وسائل الإنتاج لم يستطع أن ينفي كل النفي — على طريقته الجازمة الحاسمة — أن قيام الطبقة الغالبة ممكن بعد انهيار نظام رأس المال، ووصولنا إلى المجتمع الذي لا طبقات فيه، وما دامت الطبيعة الإنسانية قد عملت في إنشاء الطبقة الاجتماعية، فهي عاملة غدًا في إنشائها بعد قيام المجتمع المزعوم الذي لا طبقات فيه، وليس في وسع «كارل ماركس» إذن أن يجزم ويعزم ويدمدم على من يناقضونه، ويحولون بينه وبين أمنيته العزيزة التي يضرب حولها السدود، ويأبى جهده أن يحوم حولها الخيال ولو على أبعد احتمال.
إن الأفكار المتطرفة في اختلاف الأقدار موجودة في جوانبٍ شتى من العالم وقبائل «المايدو» الشماليون يصلحون نموذجًا يُقاس عليه، فهنا رئاسة انتخابية مبنية على الثروة والسخاء، ولكن «الشامان» إذا كان بصفةٍ خاصة رئيسًا للجماعة السرية له قدر يغطي على قدر الرئيس، والواقع أنَّ انتخاب الرئيس إنما يكون بوساطة «الشامان»، الذي ينقل وحي الأرواح باختياره كما ينقل وحيها بإسقاطه.
إن الفوارق السابقة تنشأ من اختلاف الأفراد مستقلة عن فوارق الدرجة والنسب. والأمثلة مع ذلك متعددة لأحوال التفوق الفردي الذي ينقل بالوراثة.
ولعنا — نحن بني الإنسان — خلقاء أن نترك لحكم العلم كل بحث إلا البحث في بواعث النفس الإنسانية وطبائع الأحياء العاقلة، ففي هذه الأمور يحق لنا أن نراقب أنفسنا ونراقب تجاربنا، ونقول كلمتنا إلى جانب كلمات الباحثين بين شعوب الهمجية أو شعوب الحضارة، حين يحكمون على النفوس ولا ينحصر حكمهم في الأخبار والروايات، وهذه الطبيعة الإنسانية فينا ومن حولنا وأمامنا في تواريخ الأمم التي تعددت أجناسها وأقاليمها ووسائل إنتاجها، ولم تحتجب في طورٍ من أطوارها دلائل الطموح والهمة والنزوع إلى التفوق والرئاسة، وليس من العلم أن نمسح هذه التجارب المحسوسة، وهذه الدوافع الكامنة فينا لنصغي إلى قول يقوله «كارل ماركس» عن الطبيعة الإنسانية كأنها طبيعته وحده، وليست طبيعة الناس في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولو كان قولًا يسمع من هنا ويترك من هنا لصح أن يصغي إليه من يريد أن يصغي إلى كل مقول مسموع، ولكنه قول له جرائره، ولا تقل جريرة منها عن تقويض كل ما كان، وتفنيد جميع المأثورات والمسلَّمات.
ولمن يريد به أن يقول: إنكم تحكمون على الطبيعة الإنسانية فيما مضى وما حضر، ولا تستطيعون أن تحكموا عليها في ظروف غير تلك الظروف مما يتمخض عنه المستقبل المجهول!
نقول: نعم، لا نستطيع، ولكننا نقيس المقبل على الحاضر والماضي الذي تشابه أو تقارب في جميع العهود، أما الذي لا يستطاع حقًّا فهو الجزم بالتغيير وترتيب النتائج الحاسمة عليه، فنحن لم نر المستقبل، و«كارل ماركس» لم يره، وعلينا أن ننظر إلى نبوءته بكثيرٍ من الحذر والتريث في أمر ينقض كل ما عرف إلى الآن عن طبيعة الإنسان.
وإذا قدرنا حسن النية، وخطر لنا أن الأمر قد التبس على دعاة المادية في منتصف القرن التاسع عشر، فليس هذا الالتباس بالسائغ بعد التجربة الروسية في القرن العشرين، فإن المجزرة التي حدثت حول تفسير الآراء الماركسية وتطبيقاتها لا تنتهي إلى غير نتيجة من نتيجتين: فإما أنها آراء خلافية لم تبلغ من الثبوت مبلغًا يساوي العواقب التي تترتب عليها، وإما أن هذه المجزرة أثر من آثار الصراع بين العوامل النفسية في طبيعة الإنسان، كائنًا ما كان نظام الإنتاج ووسائل الإنتاج، وكلتا النتيجتين لا تجيز لنا تسليم الملايين من الأرواح البشرية والمأثورات الإنسانية لقولة قالها صاحب نبوءة، أو صاحب علم، أو صاحب دعوى في النبوءات والعلوم.
•••
من الخطوات الأولى تعثَّر معنا المذهب المادي في تفسير التاريخ، فلم يبطل الخلاف على تفسير المشاعية الهمجية ولا على تفسير الرق بعد الانتقال من المشاعية إلى البربرية الأولى، وفي وسع «ماركس» ومن على شاكلته أن يتصوروا قيام السادة والأَرِقَّاء قبل ظهور المزايا البشرية في شجاعة الشجعان ودراية الأذكياء وعلو الهمة ودوافع التفوق والسيادة، وفي وسعهم أن يتخيلوا قطيعًا من الهمل أغار على قطيعٍ آخر، وجاء منهم بالأسرى الأَرِقَّاء فأسلمهم إلى طائفة من السادة يسخرونهم ويحتكرون ثمرات سخرتهم؛ لأنهم يشتهون السيادة ولا يشتهيها معهم أحد سواهم.
في وسع الماركسيين قاطبة أن يتخيلوا هذه الأخيلة؛ لأنهم معذورون مضطرون إلى المقدمات التي تفتح أبواب النقمة والخراب، ولكنه عذر لا يقبله المحايدون في هذه المعركة المثارة على النوع الإنساني، فضلًا عن المتحيزين المتعصبين لهذا النوع، الذين لم يخرجوا من زمرته؛ لأنهم دخلوا في طبقة من الطبقات.
ومما هو حقيق بالانتباه إليه، أن اللبس في نظريات الماديين عن الطبقة، يزداد كلما اقتربنا من العصور التاريخية المدونة، ويطرد في الزيادة كلما اقتربنا من العصر الحاضر الذي نشاهده ونلمس وقائعه ونستقصي حسابه وإحصاءه، ولو كانت هذه النظريات على استقامة لانعكست الآية، وكان اللبس فيما غبر عند فجر التاريخ أشد من اللبس في شئون العصر الحاضر، ولولا علة كامنة في طوية التفكير لكان الاختلاط في شئون الجماعات البدائية أشد من الاختلاط فيما بعدها عصرًا فعصرًا إلى هذا العصر الذي يسمونه بعصر رأس المال والصناعة الكبرى.
إنهم قد اختلط عليهم الرأي في مبادئ الملكية والمشاعية، كما كانت عند فجر التاريخ، وكما هي في الأيام الحاضرة، والرأي المستقيم أنَّ المبادئ متشابهة حيث وجدت الملكية الخاصة، وربما صح أنَّ الملكية العامة في البلاد الروسية — بعد إعلان الشيوعية فيها — مقاربة جدًّا للملكية العامة في البلاد المصرية على عهد الفراعنة الأول، إذ لا فرق بين ملكية الدولة للمرافق في العهدين، وليست الملكية هنا لجميع الأفراد على السواء، ولكنها ملكية للدولة ترخص فيها لكل فرد من الأفراد بمقدار.
ولم تكن ملكية القبيلة مختلفة المبدأ عن ملكية الدولة أو ملكية الفرعون أو ملكية الحزب المنادي بالشيوعية بين الأفراد، كلها تعرف المشاعية في المرافق، ولا تنكر الملكية الخاصة عند لزومها، وكلها تدين بالتأميم مع اختلاف مرافقه وأساليب إدارته، فلا محل للإطناب والتهويل في ترتيب أطوار الملكية المشاعية على مذهب الماديين.
وقد قلنا: إنَّ ازدياد اللبس في نظريات الطبقة حسب نظام الملكية حقيق بالانتباه؛ لأنه يقل في نظريات العهود الغابرة، ويزداد في نظريات العهود التاريخية ويطرد في الزيادة كلما اقتربنا من حياتنا الحاضرة، ولولا علة كامنة في طوية التفكير لانعكست الآية، وجاز بالأمس ما لا يجوز اليوم من الأخطاء والضلالات.
أما هذه العلة الكامنة في طوية التفكير، فهي اقتراب العصر الحديث من نقطة الفصل في نتيجة المذهب بحذافيرها، وكلما اقترب من نقطة الفصل بلغ أشد الحاجة إلى العسف واللي، وشد النظرية من هنا وجذبها من هناك، التدخل في الحور الضيقة التي يعصرونها فيها واحدًا بعد واحد حتى تأذن بالنتيجة المنظورة أو النتيجة المشتهاة.
وعلى هذا كان الخلط في شئون الطبقة البدائية مسألة مبدأ وتفسير، فلما اقتربنا من العهود التاريخية المدونة تعدى الخلط مبادئ الآراء إلى الوقائع العيانية التي لا خفاء بها ولا نكران لها في صفحات التاريخ المعروف.
كلتا الطبقتين كانت تملك الضياع، وتملك التجارة وسفن الملاحة، وتملك العبيد الأَرِقَّاء العاملين في الزراعة والتجارة والصناعة والمناجم المباحة لغير الدولة، وهذه مسألة أصيلة في المذهب المادي وليست بالمسألة العرضية التي تحتمل القولين: إنها مسألة الإنتاج في عهد الرقيق، فإن قامت قام معها المذهب وإن سقطت سقط معها ولم تقم له قائمة، فماذا كان بين الطبقتين من الفوارق في وسائل الإنتاج وفي تسخير الرقيق؟ ولماذا بقي فارق النسب — أو دعوى النسب — إلى نهاية الدولة الرومانية قبيل وقوعها في أيدي البرابرة تمهيدًا لعهد الإقطاع ثم عهود الفرسان؟
ولماذا انتهى عهد السادة، ولم يقم بعده عهد العبيد الأَرِقَّاء تبعًا للأحجية الفلسفية، التي جعلت النقيض مولدًا للنقيض؟
إن نهاية رأس المال بداية عهد الأُجَراء، كما نعلم من جميع المقدمات والنتائج الماركسية، فلماذا لم يستول الرقيق على أزِمَّة الإنتاج بعد زوال عهد السادة من سراة الأشراف والسوقة الرومانيين؟!
وأين هما النقيضان في عهدٍ من العهود؟ لماذا يكون الملك البربري نقيضًا للشعب البربري؟! ولماذا يكون الإقطاع نقيضًا للرق؟ ولماذا تكون الصناعة نقيضًا للإقطاع والرق مجتمعين؟!
هذه نقائض «أحاجي» وتخمينات لا يصدق عليها معنى النقيض في المنطق ولا في العلم ولا في الصفات الاجتماعية، وإنما يجب أن تكون نقائض في عرف الماديين؛ لأنها يجب أن تكون درجات متوالية في السلم الذي ينحدر إلى الهاوية: هاوية الخراب.
•••
كان الخلط في المبادئ والتفسيرات عند الكلام على المجتمعات البدائية، فلما اقتربنا من عصور التواريخ المدونة تكاثر الخلط في الوقائع والنظم المقررة، وجعل يستشري ويمتد من عصر البربرية إلى عصر الرق إلى عصر الفروسية إلى عصر الصناعة الكبرى، وأول دلائل الخلط في عصر الفروسية أو وسائل الإنتاج لم تتغير بين العصرين: عصر الرق وعصر الإقطاع، فآلات النسيج وآلات الري وآلات الصناعة المعدنية ومتاجر الموانئ ومصارف الحواضر، لم يتغير منها شيء بين زمن وزمن إلا كما كانت الآلات والأدوات تتغير بين مكان ومكان، أي أنه كان تغييرًا محليًّا لا يرتبط بالنظم الحكومية.
وثاني دلائل الخلط في هذا العصر — عصر الفروسية — أن فرسان الإقطاع لم يكونوا طبقة متضامنة متكافلة، ولكنهم كانوا آحادًا متنافسين متنافرين، يفترقون أو يتفقون كما كان الملوك والأمراء يفترقون أو يتفقون لأنهم في الواقع كانوا أمراء صغارًا يجرون في التحالف والتخالف على سنة الأمراء الكبار، ويقفون جملة أمام جملة تدخل فيها جميع الطوائف والطبقات.
والعامل المهم في انتشار هؤلاء الفرسان بين الأقاليم أو الإقطاعات أن السلطة المركزية سقطت «أولًا» بعد انقسام الدولة الرومانية إلى شرقية وغربية، ثم سقطت سقوطها الأخير بعد اضمحلال الدولتين، وتفرق الولايات والأقاليم بين الرؤساء البارزين فيها.
ولو أراد «كارل ماركس» لقال: إنَّ الرعايا من الفلاحين والتجار والصناع احتاجوا في هذا العصر إلى الحماية، فنشأ نظام الفرسان موافقًا لهذه الحالة واستقر بعد نشوئه؛ لأنه كان لازمًا لمصالح الطرفين.
ولو أنه قال ذلك لما خرج على تفسيراته المادية، ولكان مقاله أقرب إلى المعقول وأشبه بطبائع الأمور؛ لأن الفرسان عدد قليل لا يزيد على الآحاد في كل إقليم، ورعاياهم أضعاف أضعافهم يعدون أحيانًا بمئات الألوف، ولأن الفلاحين والتجار والصناع في كل إقليم كانوا يخشون أن يُغِير عليهم أبناء الأقاليم الأخرى، ويتسلطوا عليهم في ديارهم ويسوموهم تكاليف السيادتين في وقتٍ واحدٍ، سيادة الفارس الأعلى صاحب الكلمة النافذة في الإقليم، وسيادة الرعايا لأمثالهم في مرافق الزراعة والصناعة والتجارة.
ولكنه لو قال ذلك لفاتته أولًا دعوى الاستغلال، وفاتته بعدها سلسلة الطبقات حلقة بعد حلقة إلى خاتمتها المنظورة، ولو قال ذلك لاعترف بالمزايا الإنسانية قبل وسائل الإنتاج، واعترف بمزايا الشجاعة والدراية العسكرية، والقدرة على الرئاسة وهيبة الحكم سابقة لوسائل الإنتاج، ودون ذلك وينهار المذهب جدارًا تحت جدار.
ثم تأتي دلالة الخلط الثالثة عند الكلام على زوال الإقطاع وزوال عصر الفروسية، فإن الفلسفة المادية تقلب الأوضاع كعادتها فتجعل زوال الإقطاع لاحقًًا لزوال سلطان القلاع والحصون، وإنما تحررت الأفكار والضمائر، ثم زال سلطان القلاع والحصون حين أراد المعترفون به قديمًا أن يزيلوه.
إن البارود لم يسقط القلعة أو الحصن؛ لأن المنجنيق ظل زمنًا أقوى من مدفع البارود، وكان المنجنيق في أيدي حماة القلاع والحصون، ولكن الأفكار والضمائر تحررت فاستخدمت البارود للغلبة على أصحاب السلطان، ولو أنها بقيت كما كانت ولم تتحرر لأصبح البارود نفسه أداة من أدوات الفارس المتحصن في قلعته يقهر بها من يعصيه.
وندع هذا ونرجع إلى الزمن الذي انقضى بين كشف البارود والانتفاع به في الحملات على القلاع والحصون، فقد مضت ثلاثة قرون منذ جاء ذكر البارود في أوراق «روجرز باكون» إلى أن أصبح قوة فعالة في الهجوم على المعاقل المحصنة، وقد مضت هذه القرون في تنقية الأخلاط وضبط المقادير الصالحة لسرعة الانفجار وتركيب هذه الأخلاط تركيبًا موافقًا للأدوات التي أمكن اختراعها يومئذ سواء أكانت مما تحمله اليد أم تجره الخيول.
وكانت مشكلة الوقت الذي ينقضي بين إطلاق القذيفة وتعبئة المدفع أو الرامية عقبة معوقة، ولم تكن من أسباب الإسراع والتغلب، ولا شك أنَّ المنجنيق الذي كان يقذف الحجارة على قرب قد كان أفعل من المدافع الأولى في تهديد الحصون والقلاع، بل استطاع الهوجنوت إلى أوائل القرن الثامن عشر أن يقاوموا المدفع حول الحصون بمتاريس التراب وما إليها، فلم يكن البارود إذن هو القوى الحاسمة في تغلب نظام على نظام، ولم يكن استخدام المدفع الأول أسهل من فنون الفروسية التي احتكرها نبلاء القرون الوسطى، وأصح من هذا أن يقال: إنَّ البارود في أوربا قد أفاد في ميدان الصناعة قبل أن يفيد في ميدان القتال؛ لأن بدعة الأسلحة النارية حولت الأنظار إلى البحث عن الحديد والفحم، فنشطت حركة التعدين، واستفادت منها الصناعات الحديثة مع توالي الطلب على حسب حاجة العصر الحديث.
•••
وننتهي إلى الخلط الأكبر حين ننتهي إلى الحلقة الأخيرة من سلسلة الطبقات، وهي حلقة «رأس المال» أو الصناعة الكبرى.
فهذه الطبقة لا تخالف الطبقة التي تقدمها وكفى، بل تناقضها على حسب الأحجية الفلسفية على وجهٍ لا ندري معنى المناقضة فيه. ولا جدوى من متابعة «كارل ماركس» خلال السراديب والأنفاق التي يتلوى بينها ليصل إلى مبدأ هذه الطبقة، ولا من متابعته في سراديبه وأنفاقه الأخرى التي يعود فيتلوى بينها ليصل إلى فنائها، ثم إلى النعيم الألفي المرتقب في مجتمع أبدي لا طبقات فيه.
حسبنا أن ننظر إلى النتائج المحتومة في تقدير «كارل ماركس»، ثم نعلم أن المذهب قائم على هواء بغير أساس متى علمنا أنها نتائج غير محتومة، وأنها منقوضة فيما شهدناه وعهدناه، ولا يقترب بها المستقبل إلى تقديره خطوة بل يبتعد بها خطوات.
- أولًا: أنَّ الثروة تنحصر في أيدي فئةٍ قليلة من أصحاب رءوس الأموال وأصحاب المصانع الكبرى.
- وثانيًا: أنَّ الطبقة الوسطى تزول رويدًا رويدًا، ثم سريعًا سريعًا، فلا تبقى منها بقية في خاتمة الدور.
- وثالثًا: أنَّ طبقة الأُجَراء تبتئس وتنحدر مع تقدم الصناعة، حتى تبلغ نهاية الانحدار متى بلغت الصناعة الكبرى نهاية الصعود، ويومئذ تثور هذه الطبقة؛ لأنها لا تخسر بالثورة شيئًا غير القيود والأغلال.
- ورابعًا: أنَّ طبقة الأُجَراء تستولي بعد ذلك على الصناعة الكبرى فتديرها لمصلحتها، ولا تستغل بإدارتها طبقة أخرى فيظل المجتمع — أبدًا — بغير طبقات.
•••
هذه النتائج المحتومة لم تتحقق نتيجة واحدة منها، ولم يكن ما تحقق حتى الآن إلا مناقضًا لها هادمًا لدعواها، فرءوس الأموال تتفرق ولا تنحصر، وأسهم الشركات توزع بعشرات الألوف ومئات الألوف، ومصانع الشركات الكبرى أحيانًا يساهم فيها العمال، وتتفرق حصص الربح منها بين الأغنياء والمتوسطين والفقراء، وتتحول المرافق العامة إلى التأميم، كلما كان المشاع أوفق لإدارتها من الملكية الخاصة، وليس هذا بمبدأ جديد في الملكية العامة أو الخاصة، بل هو المبدأ القديم الذي يشيع ملك المرفق ما دام الاستئثار به لمصلحة فرد أو أفراد محدودين غير مستطاع.
ولم تأت هذه المناقضات جميعًا من أناس ينكرون المادية التاريخية، بل جاء معظمها من أناس كانوا يتبعون «كارل ماركس»، ويعملون بآرائه، ثم وضحت لهم منافرتها للواقع واستحالة تطبيقها على علاتها، فعمدوا إلى تصحيحها وتنقيحها، وترقبوا شيوع الثروة من طريق التوزيع الطبيعي والتطور السلمي والتذرع بالوسائل السياسية وبرامج الإصلاح الاجتماعي لإنصاف المظلومين والحد من طغيان الثروة محصورة بين أيدي طبقة واحدة من الطبقات كائنًا ما كان المجتمع الذي تعيش فيه.
•••
ثم يتراكم الخلط كله عند الهدف الأقصى الذي جعله «كارل ماركس» نتيجة النتائج لصراع الطبقات، وتواريخ الجماعات البشرية منذ خطواتها الأولى في الحياة الاجتماعية. ولا شيء أدل على خطأ المقدمات من كذب النتيجة وصلاحها أن تكون نتيجة لمذهب آخر يفند مذهب «كارل ماركس»، ويبطل سوابقه ولواحقه في نفس التاريخ.
فالطبقة العاملة لا تزداد سوءًا على سوء مع تقدم الصناعة واتساعها إلى غاية مداها، ونجاح الشيوعية أقل ما يكون في البلاد التي تقدمت فيها الصناعة ذلك التقدم، وأكثر ما يكون في البلاد التي لم تعرف الصناعة الكبرى، ولم تنشأ فيها طبقة من الصناع تديرها إذا استولت عليها، وتنعكس النسبة تمامًا في هذه النتيجة، حيث وجدت الدعوة الشيوعية، فلا تنجح الدعوة الشيوعية إلا بمقدار التأخر في الصناعة الكبرى لا بمقدار التقدم فيها، ويحدث هذا في الأمة الواحدة كما حدث في الولايات الألمانية الشرقية والغربية، ويحدث في القارة الآسيوية كما يحدث في القارة الأوربية، فلا تروج الدعوة الشيوعية في اليابان كما راجت في الصين، ولا تروج في الصين نفسها بين أبناء الأقاليم الجنوبية الشرقية، كما راجت بين أبناء الأقاليم الغربية والشمالية.
وكلما تقدمت الصناعة تبين أنَّ الأيدي العاملة لا تستطيع أن تديرها وأن تستولي عليها، ونجمت في الأمة طبقة جديدة من الخبراء والمهندسين تأخذ بزمامها وتملك نفوذ رأس المال أو تزيد عليه.
فالصناعة التي كانت في عهد «كارل ماركس» سهلة الإدارة يتولاها من يحرك المكنة اليدوية، قد أصبحت خبرة دقيقة في جملتها وفي كل جزء من أجزائها، وأصبحت هذه الخبرة موزعة على فنون مركبة وآلات متشابكة ومعارف ذهنية وسياسية وكفايات خلقية لا يقل فعلها في الإدارة عن فعل الكفايات الذهنية والسياسية.
وكلما اتسع ميدان الصناعة تضاعفت الحاجة إلى طبقة الخبراء والمهندسين والمديرين وذوي الكفايات على تنوعها، فتدبير الصناعة في الميدان العالمي أصعب جدًّا من تدبيرها في الميدان القومي أو ميدان الأمة الواحدة.
هنا بلاد تكثر فيها الخامات، وهنا بلاد تصلح لإقامة المصانع لهذا الصنف ولا تصلح مصانعها للأصناف الأخرى، وهنا بلاد ميسرة لمراكز المواصلات، وهنا بلاد تقبل على الأكسية ولا تقبل على الأطعمة، وهنا بلاد يكفيها مهندسوها وخبراؤها ومديروها ويزيدون على حاجتها، وهنا بلاد تطلبهم من غيرها أو تستعين بهم حيث كانوا ولا تتمكن من تنشئة فريق منهم بين أبنائها، وهنا مبادلات ومقايضات، وهنا معاملة بالنقد أو بالصفقات التجارية، ويحيط بكل هذه البلدان عالم متغير متنقل على حسب الأطوار البشرية والطبيعية والحوادث التي تخطر على البال أو الحوادث التي لا تقع في الحسبان، فمن تخيل أنَّ هذا العالم في ميادينه الصناعية والاقتصادية يخلو فيه مكان المديرين والساسة وذوي الكفايات الذهنية والخلقية، فإنه لكاسد الذهن حقًّا مطموس الخيال أو مطموس الحس والعيان.
ومن تخيل أنَّ «العملة» بأية صورة من صورها تبطل في هذا العالم، فمن البلاء حقًّا أن يسمع له رأي في مقادير الأمم وأطوار التاريخ، ومن تخيل بعد خروج العملة — إن خرجت — أنَّ هذه العوامل المتشابكة تساس وحدها وتترك الملايين من الخلق يأخذ كل منهم حقه ولا يزيد عليه، ويعرف كل منهم كفايته ولا يدعي ما عداها، وتوزن فيه المطالب اليومية والسنوية بميزان الشعرة — الذي يرضي كل آخذ وكل مانح — فليس في الحالمين ولا في المخرفين من أمعن في التخيل وراء هذا الإمعان، ومن تحدث عن الغيب المجهول بسندٍ أضعف من هذا السند، وتلفيق أوهن من هذا التلفيق.
•••
إن الواقع أمام أعيننا قد عصف بالمذهب المادي في مسألة الطبقات عصفًا يزيل الثقة بنبوءاته عن الحاضر والمستقبل، ولا ضرورة مع هذا لإزالة الثقة واقتلاعها من جذورها؛ لأن الثقة التامة واجبة لكل مذهب يطلب من الناس أن يتابعوه إلى نتائجه الهائلة في تاريخ الإنسانية، فإذا تزعزعت الثقة التامة، فهذا التزعزع كافٍ عند كل ذي ضمير للإحجام الطويل.
شرور أهون من تلك الشرور، وعاقبة أقرب إلى المداركة من تلك العاقبة.
وليست النتيجة المعكوسة في أمر الطبقة العاملة أو الأمم التي تروج فيها الشيوعية هي كل ما يعصف بالمذهب بين يدي هذه العواقب وتلك الشرور، فإن نجاح الدعوة الشيوعية بين الأمم المتأخرة يصيب المذهب في مقاتل شتى ولا يصيبه في مقتلٍ واحد، إنه يصيبه في مقتله، حيث يثبت أنَّ الدعوة السياسية تفعل ما لا تفعله أطوار الاقتصاد في عهد الصناعة الكبرى، ويقلب المذهب القائم على سبق وسائل الإنتاج لكل دعوة سياسية أو فكرية، وأنه يصيبه في مقتله مرَّة أخرى حين يثبت أنه مذهب متأخر لا يساغ في غير الشعوب المتأخرة، وأنه فتنة كسائر الفتن التي أصغى فيها الجهلاء لكل ناعق منذ عرفت هذه الفتن في تاريخ الحضارة أو تاريخ الهمجية.
•••
وقبل ختام هذا الفصل نقول: إننا لم نكتبه في نشأة الطبقة من وجهةٍ عامة؛ لأنه شرح طويل لا ينهض به فصل في كتاب، ولكننا كتبناه عن نشأة الطبقة في مذهب «كارل ماركس»؛ لندل على الخلط في دعامة من أضخم دعامات المذهب يرتفع بارتفاعها ويهبط بهبوطها. ونحن — بعد — لا نخرج عن الموضوع إذا أضفنا إليه إلمامة عاجلة بآراء الباحثين عن نشأة الطبقة من غير القائلين بالفلسفة المادية الاقتصادية؛ لأنها تساعد على المقابلة بين الأقوال المتعارضة في نشأة الطبقات الاجتماعية.
نشطت البحوث الأثنولوجية بعد عصر «كارل ماركس»، وألقيت الأضواء المتلاحقة على مطلع التاريخ وأحوال الجماعات البدائية في الأزمنة الأولى وفي الزمن الحاضر، واشتركت الدراسات النفسية والدراسات الأثنولوجية في هذا الباب، فتجمعت منها خلاصة حسنة في هذه الناحية من البحوث الاجتماعية.
وأقوى الآراء عن نشأة الطبقة وبنائها التقليدي منذ نشأتها الأولى أنها ترجع إلى النسب والسلالة، وأن الغالب على سادة المجتمع أن يكونوا من سلالة طارئة على الوطن الأصيل، ينظرون إلى أبنائه نظرة الغالب إلى المغلوب، ويترفعون عن معاملتهم في الشئون العامة أو الخاصة معاملة الأنداد، ثم تتبدل الطبقة مع الزمن بما يعتري الطبقة الممتازة من النقص والفساد، وما تكسبه الطبقات الأخرى من المزايا والكفايات.
والشواهد على صحة هذا الرأي ملحوظة في تاريخ الأشراف من أبناء رومة القديمة، وتاريخ قبائل الفرنك والغاليين عامة في البلاد الفرنسية، وتاريخ المغول الآسيويين بين من سبقهم إلى أوربة الشرقية من القبائل السلافية، وأبرز ما تكون هذه الشواهد في البلاد الهندية، حيث تتعدد الطبقات، ويستأثر الجنس الآري المغير على البلاد بمزايا الرئاسة الدنيوية والدينية، ويترك الطبقة الثالثة للتجار وأصحاب الأموال، وينعزل تمام الانعزال عن الطبقة الدنيا التي لا تشبهه في السحنة ولا في العادات.
والطبقة الغالبة تستأثر بخيرات البلاد بطبيعة الحال، ولكن الفارق بعيد بين الاستئثار بالمال؛ لأن المستأثر به قوي قادر على التسلط، وبين الاستئثار بالسلطة؛ لأن المستأثر بها يقبض على وسائل الإنتاج وتثمير الأموال، فالسادة الغالبون قد تركوا الأعمال المالية للطبقة الثالثة دون طبقتهم ودون طبقة البراهمة، وفرضوا لأنفسهم من الإتاوات عليهم ما يقدرون على تحصيله بقوة الحكم وقوة السلاح.
ولا نتراجع بعيدًا مع التاريخ أو نذهب بعيدًا إلى الأقطار القصية لنرى مصداق هذا الرأي في أقوال الباحثين والمؤرخين، فإن تاريخ مصر في عصور المماليك والدول السابقة لهم يعطينا من هذه الشواهد ما يكفي لتقرير فعل السلالة في تكوين الطبقة، أو تقرير السبق في هذا الفعل على أثر الأسباب الاقتصادية.
ومن بقايا الطبقة التي ينشئها اختلاف النسب أنَّ أبناء الطبقة الممتازة يأنفون من اختلاط النسب بينهم وبين الطبقات الأخرى، وإن رجحت عليهم في الثروة والاستيلاء على وسائل الإنتاج، ومن قبل منهم مصاهرة تلك الطبقات عِيبَ ذلك عليه واعتده هو من قبيل التضحية التي يساق إليها لضرورة من الضرورات.
•••
والباحثون النفسيون في العصر الأخير يردون جميع الأسباب الاقتصادية إلى البواعث النفسية، فهي الوشيجة الجامعة بين أبناء الحرفة وأبناء الطائفة وأبناء الطبقة، ولا تكفي الصلة الاقتصادية إذا لم تقترن بها الصلة النفسية، وقد تكفي الصلة النفسية للتأليف بين الجماعات على اختلاف الطبقات.
وسبق هذين الباحثين باحث آخر — هو «تريشر» — الذي كان معنيًّا بدراسة أطوار الشبان الذين ينتمون إلى العصابات، فقد ظهر له من دراسة ١٣١٣ حالة أنَّ الشاب الذي ينتظم في العصابة يلجأ إلى ذلك لقلة الألفة بينه وبين الفئات الاجتماعية من رياضية أو ثقافية، فيركن إلى أمثاله من أفراد العصابة؛ لأن المفروض في العصابات الساطية أو الخليعة أنها تستبيح ما لا يستباح، ولا تبالي أن تقدم على المحظورات والمنفرات، كأنها تحيلها إلى مزايا وشروط لا تتوافر في جميع الشبان.
ومحصل البحوث الكثيرة في هذا الاتجاه أنَّ اجتماع أبناء الحرفة إنما يأتي من الألفة النفسية، وأن على الحرفة أن تيسر هذه الألفة لتشابه الأزياء والعادات ومطالب الحياة، فإذا كانت الحرفة لا تتكفل بتيسير هذه الألفة لم يشعر أبناؤها بالتقارب بينهم، وجنح بعضهم إلى بيئةٍ غير بيئتها ولو فارق مورد رزقه وفارق مدينته بمن فيها.
وليس من المشاهدات النادرة بيننا أن نرى أناسًا من أبناء الطبقات العليا يختارون أصدقاءهم من أبناء الطبقات الدنيا؛ لأنهم لا يشبهون أندادهم في الثقافة أو الشواغل النفسية والعقلية، وليس من المشاهدات النادرة أن نرى أبناء الطبقات المحرومة يلقون الترحيب والحفاوة بين أبناء الطبقات الموسرة؛ لأنهم يحسنون من آداب المعاشرة وآداب التفاهم على الجملة ما ليس يحسنه أندادهم في المراتب الاجتماعية.
وإذا كانت العوامل النفسية هي الغالبة، أو هي التي تخلص لنا من الظروف الاقتصادية، فليس إهمالها والتعويل المطبق على ما دونها مما يعين على التقدير الصحيح في أطوار الاجتماع.
•••
والدراسة التي تتخلل جميع الدراسات في زماننا هذا هي دراسة الإحصاءات والمقارنات.
وقد رأينا نموذجًا منها في إحصاءات «برنشتين» و«باولي» عن الطبقة الوسطى، ومجمل ما يؤخذ من سائرها أنها تبطل الحصر المزعوم في تقديرات «كارل ماركس»، وتبتعد بالتاريخ المقبل عن الوجهة التي لا وجهة سواها.
ونظرة نلقيها نحن — أبناء العصر الحاضر — على ما حولنا، تطلعنا على حقيقة الطبقة كما تنبئ عنها تلك الإحصاءات والمقارنات، ونعلم منها أن حاجز الطبقات مرن ينفتح في كل جيل لطائفة من الأمة يدخلون منه أو يخرجون، ويتبدلون من ثم طبقة غير الطبقة وعملًا غير العمل في المجتمع أو البيئة، ولا ينقضي جيلان في مدينةٍ أو قرية إلا شوهد فيهما تداول الغنى بين البيوت والعشائر، فاستغنى قوم من الفقراء وافتقر قوم من الأغنياء، وما لم يكن نظام الطبقة مصحوبًا بنظام وراثي كنظام الوراثة بين النبلاء في البلاد الإنجليزية، فقلما ترى حفيدًا غنيًّا من أجداد أغنياء، ونكاد نقول: إنَّ نظام الوراثة في إنجلترا هو الذي أغلق الباب على من فيه وترك الغنى يتسرب إلى أيدي العاملين في الصناعة والتجارة؛ لأنهم عملوا فيه بغير منافسة من سادة المجتمع الأقدمين.
وإذا أحصينا المنتفعين من الطبقات، لم نجد أنَّ الاستغلال مقصور على ذوي الأموال، بل وجدنا أنَّ كثيرًا من العاملين المجتهدين وصلوا إلى الغنى من عملهم في مزارع الأغنياء وبيوتهم التجارية، ولا يقل عدد هؤلاء الأغنياء عن الربع أو الخمس من جملة الأغنياء في جيلٍ واحد، وقلما عرف هؤلاء أحدًا من أجدادهم على نصيب من اليسار.
هذه المعلومات عن أطوار الطبقات تؤيد الفروض أو ترجحها على احتمالات كثيرة، بل تؤيد جميع الفروض إلا ذلك الفرض المحتوم الذي لا ينفرج في مذهب «كارل ماركس» لقيد أنملة يميل إليه تاريخ الإنسانية إلى غير الخاتمة التي يصير عليها، ويتشبث بها، ولا يطيق أن يتوهم على البعد أو على القرب خاتمة سواها.
ذلك النعيب الجهنمي لا توجبه معلومات الباحثين عن أطوار الطبقات، ولا تتأدى إليه المقدمات التي وصلنا إليها أو نبصر أمامنا أننا واصلون إليها، وإنما المقدمة التي توجبه كامنة هنالك في خبيئة الظواهر النفسية المريضة، مقدمته نفس خبيثة مطبوعة على الشر لا تريده غيره، ولا تطيق النظر إلى شيء يمتزج فيه بأملٍ من آمال الخير أو عاطفة من عواطف البر والأمان.