حقوق الفرد
إذا كان غرض البحث في حقوق الفرد وحقوق الجماعة أن نوازن بينهما، ونقدم بعضها على بعض، فليس عند «المادية التاريخية» أدب خاص تضيفه إلى التراث العريق من آداب الأمم في تقدير الفرد عامة، ولا في تقدير الفرد الممتاز أو الفرد العظيم.
فمن قديم الزمن، فرغ الناس من هذه الموازنة واتفقوا على أن حقوق الجماعة أولى بالتقديم من حقوق الأفراد، وأن حق الفرد إذا وقف في طريق الجماعة وجبت التضحية به لخدمة الجماعة وتغليب مصالحها العامة على كل مصلحة فردية.
في هذه المسألة لا يوجد قولان.
وإذا رجعنا إلى آداب الجماعات الأولى لنعرف موضع المغالاة فيها، فمما لا نزاع فيه أنَّ المغالاة في حقوق الجماعة أعم وأقوى من المغالاة في حقوق الفرد على حدةٍ أو حقوق الأفراد متفرقين، وما كان فرد من الأفراد ليعظم في قومه ما لم يكن له فضل في الذود عنهم، ومعونة عائلهم، وإطعام جائعهم، وإيواء شريدهم، ولا خلاف بين رأيين في أنَّ الموئل الأخير لحق الفرد هو مصلحة الجماعة بحذافيرها، فلا حق للفرد العظيم في التعظيم إلا أن تكون مصلحة الجماعة ملحوظة في إكبار العظمة والاعتراف بأفضال ذويها.
وعندنا في اللغة العربية ذخيرة من الشعر الجاهلي يخرج منها القارئ بفكرة واحدة، وهي أنه «لا خير فيمن لا خير للناس فيه.»
وما كان أدب العشيرة العربية إلا مثالًا للعشائر الأولى على وفاق في المغزى والنتيجة مهما تتبدل أساليب التعبير.
ولما ترقى البحث في هذه الشئون إلى مذاهب الفلسفة، كان محور الفلسفة عند «أرسطو» أن الحكومة المثلى هي الحكومة لمصلحة الرعية، وأن الحكومة السيئة هي الحكومة لمصلحة الرعاة.
وقد يتعدد القول في الاختيار والاضطرار، ولا تأتي الفلسفة المادية التاريخية — مع ذلك — بشيءٍ يضاف إلى التراث العريق في تقدير الفرد بالنسبة للجماعة، فقد يقال مثلًا: إنَّ الفرد مضطر إلى خدمة الجماعة، بحكم تكوينه، ولا ينفي ذلك حقه في الكرامة؛ لأنه أفضل من الفرد المضطر إلى العدوان على الجماعة بحكم تكوينه، ولا يكون رد الفعل من قبل الجماعة طبيعيًّا معقولًا، إذا تساوى في معاملة الفردين: معاملة الفرد المضطر بحكم تكوينه إلى خدمتها، ومعاملة الفرد المضطر بحكم تكوينه إلى العدوان عليها.
كذلك لا تأتي المادية التاريخية بأدب جديد في معاملة الفرد إذا قالت: إنه يفلح في سعيه كلما وافقته ظروف الجماعة، وإنه لا يخلق الظروف التي تساعده وتنشأ في الأمة قبل مولده، إذ لا شك أنَّ الفرد الذي يريد عمل الخير وينتظر موافقة الظروف لإنجازه، أكرم وأنفع لقومه من الفرد الذي يريد عمل الشر ولا يستطيعه إلا إذا وافقته الظروف.
وليكن تعبير المعبر في هذه الحقيقة، بما شاء من ألوان الأساليب، فإن تقدير الأفراد لا يتساوى إذا كان منهم من هو مضطر إلى العظمة وكان منهم من هو مضطر إلى الخسة، ولا يغض من قدر العظيم أنَّ الأمة قادرة على إخراج مثله، فإن مثله سيأتي أيضًا عظيمًا أفضل في صفاته وكفاياته من الحقير.
وإذا قال القائل: إنَّ قدحًا آخر من الماء سيرويني إن لم أجد هذا القدح الذي أمامي، فهو لا يبطل نفع الماء بهذا المقال، ولا يزال الماء ماء ضروريًّا للري وحفظ الحياة في الحالتين.
كان «هيجل» مثاليًّا يقول بالفكرة ولا يقول بالمادة، وكان يرى نابليون الأول على حصانه في معركة «جينا» فيقول: إنَّه رأى روح الكون يمتطي ذلك الحصان، ثم يعود فيقول: لو أنه لم يكن نابليون لكان تدبير الروح الأعظم كفيلًا بوضع شخص آخر في مكانه على صهوة جواده يسمى بما شاءت المقادير من الأسماء.
ثم جاء الماديون التاريخيون، فاقتبسوا قواعد المذهب المادي من إمام الفلسفة الفكرية، وكرروا هذه العبارة بنصها في أمر نابليون وغير نابليون.
إنَّ الإنسان قد يدين بكل حرفٍ من حروف المادية التاريخية ولا يوجب عليه العقل أن ينظر إلى الفرد عامة، أو إلى الفرد العظيم، نظرة غير النظرة الإنسانية المأثورة من أقدم العصور، فمن أين جاءت تلك الرغبة الملحة عند الماديين في تحقير العظمة الإنسانية، والحرص في كل مناسبة على بخس حقها، واللجاجة في تفضيل الكثرة على المزية كلما تكلموا عن حادث من حوادث التاريخ، جاء من خسة النفس أو من الظاهرة النفسية، ولم يجئ من فكرة سليمة يستلزمها الإيمان بكل حرف من حروف المادية التاريخية؟
لتكن الجماعة أولى بالرعاية من الفرد الصغير أو الكبير.
نعم، هو كذلك، وقد كان كذلك، وكانت الجماعة على هذا تفهم أنه عظيم ولا تفهم أنه صغير.
ولتكن العظمة ضرورة من ضروريات التفاعل الاجتماعي لا فضل فيها لصاحبها.
نعم، هي كذلك، وقد كانت كذلك، ولم يقل أحد أننا نتربص بها لنهينها ونغض من قدرها، ونصيح في وجهها لسببٍ ولغير سبب قائلين مكررين: إنَّ غيرك قد كان وشيكًا أن يحل في محلك ويفعل ما فعلت أو ما ستفعلينه.
وليكن الفضل الأكبر لموافقة الظروف الاجتماعية، ولا فضل لأحدٍ لم توافقه هذه الظروف، لكنه فضل لازم، ووجد لأنه لازم، واستحق التقدير اللازم لأنه لازم، ولا يقال عنه: إنه فضول، وإنه ادعاء غير مقبول.
فإلى مصدر آخر غير البحث العلمي والآراء الفكرية نرجع بالنظر لتفسير النقمة على حق الفرد العظيم أو غير العظيم، أو لتفسير النقمة على كل فرد له لون، وله شِيَة، وله علامة مميزة، بين القطيع السائم الذي لا لون له ولا شِيَة ولا علامة!
نرجع إلى طبيعة الدناءة التي تنبع منها الشيوعية، وتتجه إليها في نفوس المستجيبين لها، وكلما اختبرنا هذا المذهب، واختبرنا ضمائر أصحابه تكشف لنا مصدر الشيوعية في جوانب شعورها وجوانب تفكيرها، فمن الخطأ أن نتوهم أنها نقمة على امتياز الثروة المغتصبة كالنقمة التي يشترك فيها جميع الناس، في جميع العصور، ولكنها في أعمق مصادرها نقمة على كل امتياز، وحسد لكل ممتاز، ولو كان امتيازه لنفع بني قومه أو نفع بني الإنسان.
•••
ومن الوقائع المشهودة أنَّ تاريخ الشيوعية نفسها يبرز لنا عمل الفرد في توجيه الجماعات وتحويلها عن وجهتها، فليس إعلان الدعوة الشيوعية في روسيا حتمًا من قضاء التاريخ، لو لم يكن «لينين» على رأس الفئة التي تسلمت زمان الثورة الروسية بعد سقوط آل رومانوف.
فلم تكن روسيا ممهدة للدعوة الشيوعية دون غيرها تمهيدًا لا منصرف عنه إلى سواه، ولكنها سارت في طريق الشيوعية؛ لأن الفئة التي قادتها يومئذ هي التي سيرتها إليها، وقد تولى النازيون أمر الثورة في ألمانيا، وتولى الكماليون أمر الثورة في تركيا، وتولى «سن يات سن» أمر الثورة في الصين، وقامت في العالم ثورات متفرقات بقيادة هيئات من هذا القبيل، فاختلف الاتجاه باختلاف القيادة، ولم يكن بين الأمم التي انقادت لها من جامعة بينها غير السخط وحب التغيير، ولو أنَّ فيالق «لينين» لم تتسلم زمام الأمر في روسيا، لما كان حتمًا لزامًا أن تسير البلاد على الخطة التي سارت عليها تطبيقًا لمذهب «كارل ماركس» أو خروجًا عليه.
وما هو الحتم التاريخي الذي كان يستلزم قيام الدعوة الشيوعية في روسيا بعد الحرب العالمية الأولى؟ بل ما هو الحتم التاريخي الذي كان يستلزم إيمان «لينين» بمذهب المادية التاريخية؟ إنَّ «لينين» لم يحلم قط بأن تقوم الثورة في حياته، وكان يقول: إنها لو قامت في مدى مائة سنة لَحقَّ للثائرين أن يغتبطوا بهذا التوفيق، ولعله كان واحدًا من أولئك الثوار الروس الذين قالوا للزعيم الصيني «سن يات سن» — كما قلنا في كتابنا عنه — إنهم لا يتوقعون الثورة وهم بقيد الحياة!
وخصلة أخرى من خصال الشيوعية ينبغي أن نلتفت إليها، كلما تكلم القوم عن الحتم التاريخي، وحاولوا أن يسحبوه إلى الحاضر أو إلى المستقبل.
فالحتم التاريخي لا يظهر من حودث الماضي وأحكامه المتسلسلة من أدواره المتعاقبة، ولكنه يظهر كلما قامت في طريق الغرض عقبة تمنع نفاذه أو تعوقه إلى حين.
وإنكار الحقوق الفردية على هذا القياس لم يكن حتمًا لزامًا في سوابق التاريخ، وإنما أصبح حتمًا تاريخيًّا يوم وقفت الملكية الفردية، والمنافسة الفردية، والكفايات الفردية، عقبة أو عقبات في طريق النفاذ، إنَّ الحرية الديمقراطية لا تنكر منع الجور والشطط وتحريم المنافسة التي تضر بسلامة الأفراد، والحرية الديمقراطية، لا تنكر أن تتدخل الدولة في شئون الملكية الفردية إذا وجب ذلك لمكافحة وباء، أو تخفيف غلاء، أو دفع غارة من الأعداء.
والحرية الديمقراطية لم تنقض قواعدها حين أصدرت القوانين التي تحرم زيادة ساعات العمل على عشر في النهار. ولكن صدور هذه القوانين لتنفيذها على الأنوال في البيوت، قد كان من المستحيل في ظل الديمقراطية أو ظل الشيوعية أو ظل الاستبداد، إذ من اليسير أن تراقب المصنع الذي يعمل فيه ألف عامل؛ لتمنع زيادة العمل على عشر ساعات، وليس من اليسير أن تراقب ألف عامل متفرقين في البيوت؛ لتفرض على كل منهم أن يعمل في اليوم عشر ساعات ولا يزيد.
وكثيرًا ما تسمع من أعداء الحرية الديمقراطية من يسألك: أكان من نعم التنافس الحر أن يساق الأطفال دون العاشرة إلى العمل الشاق بالليل والنهار؟! يسألون هذا السؤال وينسون أنَّ التنافس هنا تنافس العمال فيما بينهم، وتنافس المصانع فيما بينها على السواء، ويسألونه وينسون أنَّ الحرية الديمقراطية بطبيعتها لا تنكر تحريم الإرهاق والشطط بالتشريع الصارم كلما دعت الحاجة، ولكن لا الحرية الديمقراطية، ولا الشيوعية، ولا الاستبداد المطلق، ولا حكومة من الحكومات، تستطيع أن تنفذ قانونًا غير قابل للتنفيذ. وليس تقديس التنافس الضار هو الذي حال دون إصدار القوانين التي تحرم زيادة العمل على الطاقة، ولكن هذه القوانين لم تصدر قبل عهد المصانع الحافلة بالعمال؛ لأن تنفيذها على البيوت، وعلى الآلات اليدوية المتفرقة شيء غير ممكن في الواقع أيًّا كان السلطان المشرف على الصناعات.
فالحرية الديمقراطية لم تكن تمنع الإصلاح بتحريم الشطط في التنافس الذي يريد المتنافسون أنفسهم أن يحرموه، إلا أنَّ هذا الإصلاح لا يوافق غرض الماديين التاريخيين، وليس على منهجهم أن تبقى الملكية الخاصة مشروعة في القوانين. ولهذا يظهر الحتم التاريخي فجأة لإنكار الحقوق الفردية والحرية الفردية والكفايات الفردية، ولا موجب لظهوره من سياق التاريخ، وإنما الموجب الوحيد لظهوره أنه الوسيلة إلى تحقيق الغرض المنشود.
•••
هذا الحتم التاريخي المنجم على حسب الغرض، هو مصدر الآراء التي رتبت للفرد مكانته في مذهب الماديين التاريخيين، وفرضت له نصيبه من الحرية ومن الفضل في خدمة المجتمع، أو تنفيذ برامج الإصلاح، وهو نصيب تضاءل مع الزمن في أقوال فلاسفة المذهب قبل أن يتضاءل في أعمال التطبيق؛ لأن ما قالوه في عهد «كارل ماركس» عن حرية الفرد لم يزل يتضاءل ويتضاءل، حتى أصبحت الحرية الفردية على ألسنتهم وصمة تعاب، وتدعو إلى الاتهام بإنكار حق الجماعة في أن تصنع بالفرد ما تشاء.
والمشهور عن «كارل ماركس» أنه ثائر جامح يصدم العالم الواقع بما يزعجه ولا يبالي مغبة هذا الإزعاج، إلا أنه إذا امتحن بحيلته في إزجاء القول عن مكانة الفرد، كان وصف الماكر الحذور أليق به من وصف الثائر الجموح، فلم يكتب في مؤلفاته كلمة واحدة تشير من بعيد إلى الخطر على الحرية الفردية من مذهبه في الاجتماع، وما كان في وسعه أن ينبس بكلمة في هذا المعنى، ثم يطمع في مستمع واحد يصغي إليه بين صيحات الحرية التي ملأت أجواء القرن التاسع عشر، وكانت تذهب بالناس إلى الأنفة من طاعة القانون وطاعة الحكومة على وضعٍ من الأوضاع، فراجت بينهم دعوة الفوضوية والنقابية، وراجت بينهم دعوة الشيوعية نفسها؛ لأنها وعدت الأمم أن تنتهي بها إلى عصر تذبل فيه الحكومات حتى تزول، ومن لم يذهب إلى هذا المدى في الأنفة من الطاعة، فلا مطمع في إصغائه إلى مذهب يحدثه عن الاستبداد، ويجعل حرية الفرد نافلة من النوافل، أو مظهرًا كاذبًا يخفي وراءه قسوة الضرورة التي لا تحفل بالحريات ولا بالأفراد.
وقد خُتِمَت رسالة المادية الماركسية في القرن التاسع عشر، وهي لا تجرؤ على المساس بالحرية الفردية، ولا تمس مطالب الفرد إلا حيث تستطع أن تمشي في جوار فكرة من أفكار العصر المقبولة، أو مبدأ من مبادئه المحبوبة.
فالحملة على احتكار الثورة لم تكن غريبة على الأسماع، حيث تنهال الحملات كل يوم على احتكار السلطة واحتكار السيادة بأنواعها وألوانها.
والرجوع بكل شيء إلى حقوق الأمة في المسائل الاقتصادية لم يكن غريبًا على الأسماع، حيث ترجع الحقوق السياسية جميعًا إلى الأمة، ويتسع نطاق النيابة عن الأمة في شتى طبقاتها.
والحتمية التاريخية لم تكن غريبة عن الأحاديث الشائعة حول نواميس الكون وقوانين الطبيعة، أو إجراء كل شيء في العالم على سنة عامة لا تسمح بالشذوذ في عظيمٍ أو دقيق من أحوال الحركة والسكون بين السماوات والأرضين.
والتشهير بالمال والتهافت عليه لم يصدم أحدًا في الجيل الذي جاء بعد ثلاثة أجيال أو أربعة، تسمع عن أصحاب الأموال كل مذمة ومنقصة، وتتلقى من منابر الوعظ أو منابر الفلاسفة المبشرين بالطوبيات سوء النذير من جراء الجشع والتكالب على الحطام. وقد كانت الطوبيات تتبع بعضها بعضًا في إنجلترا وإيطاليا وألمانيا منذ عهد «توماس مور» الإنجليزي إلى عهد «جوهان فالنتين» الألماني إلى عهد «شامبنلا» الإيطالي، إلى غيرهم من أصحاب البشائر الاجتماعية المجمعين على تدنيس الطمع، وتبشير المحرومين بالراحة والرزق الخفيض، وقد بدأ عصر الطوبيات في القرن السادس عشر، واستمر بعده إلى القرن العشرين، واقترن به عند نهاية القرن الثامن عشر عصر البرامج الاجتماعية، التي كان من روادها السابقين «بابوف» الفرنسي و«روبرت أوين» الإنجليزي، ورواد علم الاقتصاد وعلم الاجتماع بين أمم الحضارة الأوربية، وليس فيهم من كان يذكر الطمع في الأموال بغير المذمة والتشهير.
هذه النواحي من الفردية المعيبة هي النواحي التي اختارتها المادية التاريخية للتسلل من خلالها إلى عقول أبناء القرن التاسع عشر، ولا نقول للهجمة عليها، فما كان بمذهب المادية التاريخية من حاجة إلى الهجمة على قواعد الاحتكار، ولا إلى الهجمة في مجال البحث عن نواميس الكون وقوانين الطبيعة، إذ كان «العقل العصري» يثور قبلها على السلطة المحتكرة، والقوة المحتكرة، والثروة المحتكرة، والمزايا المحتكرة جميعًا؛ لأنها في جملتها عدوان على حرية الأفراد، ولا نبتعد بالكلمات عن معانيها إذا قلنا: إن البحث عن النواميس الكونية كان في لبابه ثورة على رجال «الكهنوت»، الذين احتكروا العلم بأسرار الكون، فجاء «العقل المصري» منكرًا لهذا الاحتكار مذيعًا لأسرار الكون على السواء بين جميع القادرين على استطلاع تلك الأسرار.
ولقد كانت فلسفة الماديين — على هذا — تسللًا إلى العقول في موضوع الحقوق الفردية، ولم تكن هجومًا يصدم تلك العقول، إلا أنها تسترت بكراهة الاحتكار لتقول بكراهة الامتياز كيفما كان، وجعلت الفرد كبيرًا أو صغيرًا لغوًا أو كاللغو في حركة التاريخ، وليس لفكرة من أفكارها الفلسفية معنى مفهوم إن لم يكن معناها إلغاء الفرد بالقول الصريح.
فلا معنى للنص على أن «الفرد» لا يصنع شيئًا إلا بموافقة الظروف.
إن هذا تحصيل حاصل يصدق على الفرد وعلى الجماعة، وعلى كل قوة إنسانية أو حيوانية أو مادية تؤدي عملًا في هذا العالم، ولا يمكن أن تؤديه إذا عارضتها قوة أكبر منها.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال: إنَّ مشيئة الأفراد تتفاعل ويأتي فيها في النهاية شيء غير الذي أراده كل فرد منهم على حدة، فإن المواد الكيمية تتفاعل مثل هذا التفاعل، ولا نقول من أجل ذلك: إنَّ الحديد كالقصدير، أو إنَّ الذهب كالنحاس، أو إنَّ الكبريت كالملح، أو إنَّ العناصر ليست عناصر مؤثرة مختلفة التأثير من أجل ذلك التفاعل المفروض.
كل ذلك تحصيل حاصل لا موجب للعناء في شرحه، لو كان الفرض منه أنَّ عمل الفرد محاط بالعوامل التي تساعده تارةً وتقاومه تارةً أخرى، وإنما الموجب له أمر واحد وهو ذلك الولع بالتسفيل والتخسيس والتلصص على كل تَعِلَّةٍ خفية لتصغير كل عظيم، واستمراء الحقد والحسد في طوية كل مهين لئيم.
ومن التسلل إلى العقول أن ينادي زعماء المادية بحقوق الفرد السياسية في المنشورات العامة، ثم يحتفظوا بين سطور المباحث الفلسفية بتفسير تلك الحرية على النحو الذي أرادوه، ولعل حصة «إنجلز» في هذا الباب كانت أكبر من حصة «كارل ماركس» حينما تصدى للبحث عن فلسفة الحرية، فإن «إنجلز» هو الذي أسهب في تفسير معنى الحرية، حين تصدى للرد على «دوهرنج» فقال: إنها هي معرفة الضرورة، وإن الإنسان يعتقد أنه كان حرًّا في اختيار أمر من الأمور؛ لأنه يجهل العوامل التي تكونت منها حرية الاختيار، ولم يشأ «إنجلز» — أو لم يستطع — أن يبين لنا ما الفرق بين العوامل التي «تضطر» الإنسان إلى الحرية، والعوامل التي تضطره إلى العمل الآلي المكره المجرد من الاختيار أو من الشعور بالاختيار، فلن تكون النتيجة أنَّ الحالتين سواء، وأن الشعور بالاختيار كالشعور بالاضطرار، وأننا نختار بينهما فلا نملك أن نختار.
ولم يجهر الدعاة الشيوعيون باحتقارهم للحرية الإنسانية، إلا بعد أن قامت لهم دولة تملك سلب الحرية، فسلبوها واعتبروها ترفًا لا يساوي ضرورات المعيشة، ولعبوا بالألفاظ في هذه المقارنات الجوفاء بين الكماليات والضروريات لعبًا مبتذلًا يشف عن سوء فهم أو سوء نية. فإن كبح الاستبداد ضرورة الضرورات في مجتمعات الآدميين، ولا يكبح الاستبداد بحشو البطون، بل بالحرية في الضمائر والأفكار.
وقد كان الشيوعيون يشهرون الخبز في وجه أنصار الحرية، وينسون أنَّ الفاشيين والنازيين يساوونهم في هذا «البرهان» الحيواني إن لم يرجحوا عليهم، لأنهم جميعًا يؤيدون مذاهبهم وتطبيقاتهم بإطعام الجياع، وتدبير العمل للعاطلين، ولكنهم لا يسألون كما يسأل الشيوعيون: ما جدوى الحرية للبطون الجياع؟
ولو قد ثبت أنَّ الحرية ترف رخيص، وأنها ليست من ضرورات الحياة الاجتماعية لدفع أخطار الاستبداد لما كان في ذلك السؤال حجة على شيء، إذ كان الطعام ألزم للكائن الحي من أمور كثيرة لم يتركها الآدميون لهذا السبب، ولكنهم بها كانوا آدميين، ولم يكونوا آدميين بما يأكلون ويشربون.
ولقد يحق ذلك السؤال لكثيرٍ من السائلين غير أصحاب المذاهب، الذين قضوا على الملايين وعذبوا وشردوا أضعافهم من طبقة المحرومين وغير المحرومين، فإن الذين ماتوا جوعًا وقحطًا في تاريخ الروس منذ القدم لا يساوون شطرًا من هؤلاء القتلى والمعذبين.
وبعد عشر سنوات على هذه الأنشودة — البريئة — يموت «ستالين»، فيتنفسون في بلاده الصعداء، ونسمع من أعظم الشخصيات حوله أنهم عاشوا بين يديه في سجن من الكبت والرهبة، لم يصدقوا أنهم نجوا منه بعد موته واستوائهم على عرشه زهاء ثلاث سنوات.
•••
قيل: إنَّ الحرية يخدمها ما يعمل لها ويعمل لمحاربتها على السواء، وهي كلمة تصدق أبلغ من هذا الصدق إذا قيلت عن الحرية الفردية أو عن الشخصية الإنسانية، فإن الشيوعية تستهين بها في تفسير أطوار التاريخ، وتتجاهلها في دراسة الحركات الاجتماعية، ولكن لو زالت تواريخ الحركات الاجتماعية وبقيت لنا منها حركة الشيوعية؛ لكان فيها الكفاية «لفرز» مجهود الفرد في الأعمال العامة، وإبراز ما ينسب إليه في أطوار التاريخ مقدمًا على نسبته إلى الأمة أو البيئة أو الطبقة.
إن «ماركس» و«إنجلز» زعيمي المذهب الشيوعي وُلِدَا في ألمانيا، وتمرسا بالحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا، وكونا مذهبهما في إنجلترا، ووضعت هذه المبادئ بعد موتهما موضع التنفيذ في روسيا. وليست أمامنا صفقة واحدة محققة بين هذه الأمكنة المختلفة غير صفة «ماركس الفرد» و«إنجلز الفرد» متحيزة في هذه الأشتات من الأحوال الألمانية والفرنسية والإنجليزية والروسية.
وأبرز من ذلك للصفة الفردية أنَّ «ماركس» و«إنجلز» — كليهما — من الطبقة البرجوازية، وليس في وسعهما أن يزعما أنهما كانا يمثلان أخلاق الطبقة البرجوازية، حين تصديا لإنصاف الطبقة الأجيرة، وإلا لكان في هذا الزعم قضاء على مبادئ المذهب وقضاياه في الأخلاق والاجتماع والفلسفة والاقتصاد، فلا بد من صفة خاصة «للفرد ماركس» و«الفرد إنجلز» مستقلة عن صفات سائر الأفراد في طبقة الماليين أو طبقة الأُجَراء.
ولقد كان دور التنفيذ أبرز لهذه الحقيقة من دور الدعوة، فإن البارز أمامنا في تنفيذ الفلسفة الماركسية بعد الحرب العالمية الأولى هو شرذمة من الأفراد، سلطت إرادتها على بلاد لم تتهيأ للماركسية بأطوار الصناعة ولا بأطوار الاجتماع، وقد ادعى هؤلاء الأفراد لأنفسهم من الحقوق والسلطات ما لم يجرؤ على ادعائه أشد الناس غلوًّا في الإيمان «بالفردية» المطلقة، ثم تركزت هذه «الفرديات» في «فردية» واحدة، يستلط بها زعيم واحد بوسائله «الفردية»، التي مكنته من تسخير أعوانه وأتباعه مدى حياته، وهذا هو الواقع المجسم أمام الأعين والعقول.
أما تلك التخريجات الملتبسة التي تغوص بنا في سراديب الإرادة الخفية والإرادة العلنية، فهي أشبه بألغاز ما وراء «الطبيعة» التي يهيم فيها أصحاب المذاهب الجبرية والقدرية، حين يخوضون بغير علم في إقامة الفواصل بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق، أو فيما سبق به القدر ولحق به القضاء.
وحسب الباحث دراسة الشيوعية بين جميع الحركات التاريخية، ليقول باللغة التي يستطيعها الإنسان: إنَّ «الفرد» شيء من الأشياء التي لا تهمل في تطوير التاريخ، وإنَّ إرادته وإرادة الجماعة من مصدرٍ واحد في تكوين العوامل التي توضع في ميزان الحوادث والأقدار.
وإذا تصدى أحد لمناقشة هذا الرأي فإنه لا يقول لنا: إنَّ الجماعات التي لا رأي لها فسرت التاريخ بما يبطل هذا الرأي أو يشككنا فيه، ولكنه يقول لنا: إنَّ رأي ماركس عن أعمال تلك الجماعات يصورها لنا على غير هذه الصورة، ويستدل لها بغير هذا الدليل.
•••
ويكاد المتكلم أو الكاتب يتعثر بالمفارقات اللفظية، التي لا تستقيم في التعبير إذا تكلم عن تطور الفرد أو تطور الجماعة في التاريخ على وجهٍ غير هذا الوجه، مع إيمانه بالتطور فيما مضى، وبالتطور في المستقبل قياسًا عليه، سواء فهم من التطور أنه نمو وتقدم أو فهم من أنه تغير توفيق بين الكائن الحي وأحواله كلما تغيرت هذه الأحوال، فإذا حدث التطور على أية صورة من الصور، فلا بد أن يتناول الكائن الفرد المسمى بالإنسان، وأن يتناول النوع الإنساني في مجموعه.
ولا توجد غير صفة واحدة تحيط بكفايات التطور أو التقدم عند النظر إلى الفرد أو الكائن الحي المسمى بالإنسان، وتلك هي زيادة التبعة وزيادة القدرة على النهوض بها.
وفي وسعنا أن نلخص هذه العبارة في كلمةٍ واحدة وهي «استقلال» الشخصية.
فما الفرق بين القادر والعاجز؟ وما الفرق بين العالم والجاهل؟ وما الفرق بين الرئيس والمرءوس؟ وما الفرق بين الرجل والطفل؟ وما الفرق بين الرشيد والقاصر؟ وما الفرق بين صاحب الثروة والفقير، أو بين صاحب العائلة ومن يعول؟
يقول من شاء ما شاء في شرح هذه الفروق بمختلف المقاييس، فلا بد أن يئول بها إلى مقياس واحد، وهو أن الراجح أوفر نصيبًا من التبعة والقدرة عليها، أو أنه بعبارةٍ أخرى أوفر نصيبًا من استقلال الشخصية.
فلا تقدم ولا تطور إذا فقد الإنسان هذه القدرة أو تعرض فيها للنقص والضمور.
ولكنهم يحرصون على تغليب فكرة الإنتاج وقيام المجتمع بغير طبقات، فلا ينتهون بهذه الخصائص الفردية إلى النتيجة التي تقتضيها، وهي تقتضي أن يكون الأفراد هم المؤثرين في مجرى التاريخ العام مهما يكن معنى التفاعل بين المشارب والإرادات، فإن الهيدروجين يظل فعالًا في تكوين الماء، ولو أطلقنا على السائل اسمًا آخر لا نذكر فيه الهيدروجين، ونظل نعتمد على الهيدروجين، ولا نعتمد على عنصر غيره كلما أردنا تكوين الماء أو تحليله بعد تكوينه. ومهما يكن من تغير المظهر الخارجي بعد الامتزاج والتفاعل، فنحن لا نلغي عنصرًا واحدًا من عناصر المزيج، ولا نمنع خاصة واحدة من خواصه حيثما أردنا ذلك التفاعل وحرصنا على كيانه الصحيح.
إنَّ المزيج الكيمي المتفاعل يتطلب منا أن نحافظ على الصفة المستقلة لكل جزء من أجزاء ذلك المزيج، ولا يتطلب منا أن نجور على ذرة من ذراته؛ لأن المزيج هو الغرض المقصود في النهاية، بل يوجب علينا حرصًا على ذلك الغرض الأخير أن نبدأ بالحرص على الأجزاء، ونعرف أنها تعمل عملها؛ لأنها أجزاء يحافظ كل منها على خصائصه وفواعله بغير انتقاض ولا تشويه.
فلا تطور بالنسبة للكائن الحي المسمى بالإنسان إلا أن يستوفي كيانه الفردي، وأن تتم له الشخصية الإنسانية بتبعاتها وحرياتها، وأن نعتبره قوة عاملة في بيئته بغير لف من هنا أو دوران من هناك لنمسح باليسار ما نقرره باليمين.
إن الجزء شيء حقيقي وبغيره لا يوجد المزيج الكيمي كيفما اختلف به التفاعل والتشكيل، وإن الفرد شيء حقيقي وبغيره لا يوجد الأثر الاجتماعي كيفما كان المجتمع على التعميم، أما نوع الإنسان فلا يكون له تطور إلا أن يكون تطورًا محيطًا بالنوع غير محدود باللون أو بالسلالة أو بالطبقة أو بالجماعة، ولا يكون تطورًا إنسانيًّا وهو خاص بطبقةٍ أو بقومٍ أو بسلالةٍ أو بإقليم.
ونكاد ندخل في المفارقات اللفظية إذا تكلمنا عن ارتقاء نوع الإنسان، ولم نقصد بذلك شمول الارتقاء لكل ما تمخضت عنه جهود النوع من المزايا والملكات والقابليات والأطوار.
•••
إن الكلمة نفسها تكاد توحي لنا بمعناها الذي لا تقبل معنى سواه، فكل تطور إنساني هو تطور للفرد في طريق الكيان التام والشخصية المستقلة، وكل تطور للنوع فهو إحاطة بالفضائل النوعية في أوسع نطاق يحتويها: نطاق النوع الذي لا تخفيه حواجز الألوان والسلالات والطبقات.
وإذا كان هذا هو حكم العقل وحكم الواقع بين أيدينا، فهو كذلك حكم التاريخ حيثما وضح له معنى مطرد في شعابه المتفرقة وسياقه المتلاحق دورًا بعد دور ومجالًا بعد مجال.
سألنا في كتابنا عن «غاندي» في فصل عن «العناية الإلهية وتاريخ الإنسان»: هل للتاريخ الإنساني وجهة معينة نستطيع أن نتبينها من جملة الحوادث الماضية؟
ثم قلنا: إنه سؤال يتوقف جوابه على سؤال آخر وهو: ماذا عسى أن تكون وجهة التاريخ المعقولة إذا تخيلنا له اتجاهًا يتوخاه على نهجٍ مرسوم؟
ثم أجملنا الجواب بما يصح أن يكون تتمة لهذا الفصل يغنينا عن جواب جديد.
قلنا في ذلك الجواب: إنه شيء يتعلق بالإنسان الفرد، وشيء يتعلق بالناس كافة أو بالإنسانية جمعاء.
فالشيء الذي يتعلق بالإنسان الفرد هو ازدياد نصيبه من الحرية والتبعة.
والشيء الذي يتعلق بالإنسانية جمعاء هو ازدياد نصيبها من التعاون والاتصال.
وزيادة نصيب الفرد من الحرية والتبعة هو المطلب الشامل الذي تنطوي فيه جميع المطالب، فهو أشمل من القول بازدياد العلم أو ازدياد القوة أو ازدياد الفضائل والملكات؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في زيادة استعداده لحق الحرية وزيادة قدرته على احتمال التبعة.
وكذلك يقال عن التعاون بين عناصر الإنسانية برمتها، فهو أشمل من القول بارتقاء النظم السياسية وارتقاء المعاملات التجارية وارتقاء الأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذه الخصال كلها تتمثل في التقارب بين الأمم والتعاون بينها على وسائل الوحدة والاتصال.
«هذا وذاك هما الوجهة التي نتخيلها للفرد وحده، وللناس كافة إذا كان للتاريخ وجهة معقولة تدل عليها الحوادث الماضية.
فكان الإنسان الفرد قبل نشأة القبيلة هملًا مستباحًا، لا يحفظ له حق ولا يفرض عليه واجب، ولا ينال من الحرية إلا ما يغفل عنه المعتدون عليه.
ثم نشأت القبيلة فنشأ معها للفرد نوع من الضمان، ولكنه ضمان شائع لا يستقل فيه بحرية ولا تبعة، فيؤخذ بذنب غيره في الثأر والمغرم، ويقاسمه غيره فيما يغنمه ويستولي عليه، فهو رقم متكرر وليس بكم مستقل في الحساب.
ثم نشأت الأمم، فازداد نصيبه من الحرية كلما ازداد نصيبه من التبعة، وأصبح المقياس الوحيد لارتقاء الأمة هو مقدار حظ الفرد فيها من الحريات والتبعات.
فليس لارتقاء الأمة علامة أصدق من هذه العلامة، وهي حريات الفرد وتبعاته، بل ليس للارتقاء علامة غيرها يطرد بها القياس في جميع الأمور.»
«تلك هي وجهة التاريخ المطردة في حالة الإنسان الفرد حيث كان.
أما وجهته في حالته الإنسانية كلها فالاتجاه إلى التقارب بينها مطرد يتعاقب في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
ونحن الآن في عصر يلمسنا هذا التقارب في كل علاقة من علاقات العالم المعمور: في المواصلات، والمعاملات، وفي الروابط السياسية، وفي نقل المعلومات وإذاعة الأخبار، وفي هذا التضامن التام الذي يجعل الأزمة في ناحية من الأرض أزمة قريبة يحس بها أبعد الأمم من تلك الناحية، أو يجعل القوي مهتمًا بموقف الضعيف منه، مهما يكن من اعتزازه بالسطوة والثراء.
ولم تكن الحروب والمطامح حائلًا دون هذا الاتجاه، بل لعلها كانت من دوافعه ودواعيه، فأسفرت كل حرب من حروب الرومان والفرس والعرب والصليبيين والعثمانيين عن تشابك بين ناحيةٍ وناحية في الكرة الأرضية، ومن جراء هذه الحروب تشابكت آسيا وأوربة وأفريقية، وانفتح الطريق إلى القارات المجهولة.
وإذا نظرنا إلى أثر الحروب في المخترعات وتسخير قوى الطبيعة جاز لنا أن نقول: إنَّ وسائل المواصلات قبل غيرها مدينة للحروب بالشيء الكثير، فماذا يكون الطيران والرادار ومحركات القوى جميعًا لولا ضرورات الحروب، واشتراك غريزة الدفاع عن النفس في سباق هذا المضمار؟
بل نحن نتعلم من التاريخ أنَّ الدولة الحاكمة لا تدوم إلا بمقدار ما يكون لدوامها من رسالة عالمية.
فدولة الرومان دامت حين كانت لازمة للعالم، وأخذت في الانحلال حين بطلت رسالتها العالمية، واستلزم التحول في أطوار الأمم واتساع مجالها رسالة عالمية أخرى على غير ذلك النظام.
ولنبحث عن دلالة ذلك الاتجاه في تاريخ الإقليم الذي نتكلم في هذا الكتاب عن بطل من أبطاله، وهو الإقليم الهندي أو الأقاليم الهندية على التعبير الصحيح.
فقد كانت حروب الاستعمار الأوروبي محنة طامة على الشرق بأسره، نقم منها الشرق لما أصابه من بلواها، ورغب فيها الغرب لأمر أراده وأرادت الحوادث غيره، ولم يخطر للشرق ولا للغرب على بالٍ.
لم تكن الهند قط وطنًا واحدًا في عصر من العصور؛ لأنها كانت تتألف من شتى العناصر وشتى المصالح وشتى المواقع الجغرافية.
فلم تدافع قط دفاعًا واحدًا، ولم تشترك قط في هجوم واحد، ولم تجتمع قط على مطلب واحد بينها وبين أبنائها، ولا بينها وبين الغرباء عنها والمغيرين عليها.
فلما ابتليت باستعمار واحد — طغى عليها من أقصاها إلى أقصاها — وجد فيها وطن واحد يواجه ذلك الاستعمار بمطلبٍ واحد، وهو مطلب الخلاص منه، كيفما تعددت وسائله بين طلابه.
وولدت الهند مولدًا جديدًا في التاريخ.
وزال الاستعمار أو كاد، وبقيت الهند الجديدة، وبقيت معها علاقات يشتبك فيها الشرق والغرب، وتنتظم في الوحدة الإنسانية على نحوٍ لم تعهده ولم تحلم به قبل محنة الاستعمار.
فإذا كان اتجاه العالم المعقول هو الاتجاه الذي تنتهي إليه الحوادث في حياة الفرد وحياة الإنسانية عامة، وكان هذا الاتجاه مما تلتقي عليه عوامل الوفاق وعوامل الشقاق، ويتوافى عنده ما يراد وما لا يراد — فمن عمل المؤرخ الباحث، لا من عمل المتدين المؤمن فحسب — أن يفهم للتاريخ معنى غير معنى المصادفة العمياء، وأن يرى للعالم مصيرًا مقدورًا يمضي إلى غاية هذا الاتجاه، حيث تهديه عناية الله.»
هذه النظرة إلى تطور النوع سهلة جلية لا تنأى بنا عن الواقع، ولا عن المعقول، ولكنها تضعنا أمام الواقع والمعقول وجهًا لوجه، ولا تجشمنا أن ندور بها حول الأحاجي والمعميات.
يتطور النوع فينتفع بمحصول النوع كله، ويزيل ما بين أجزائه من الحواجز والمسافات.
يبدأ الناس تاريخهم منعزلين متباعدين، فإذا أخذ التاريخ في التطور فهنالك تشتبك العلاقات بينهم مرحلة بعد مرحلة، فتتقارب المسافات، وتتقارب المواصلات، وتتقارب الحضارات، وتتقارب المصالح على علمٍ أو على غير علم، فتصبح حياة النوع الواحد في العالم الواحد حقيقة يترجم عنها اضطراب سائر الأجزاء لاضطراب جزء منها في أقصى موقع من مواقع الدنيا الإنسانية، بما اشتملت عليه من الأصدقاء أو الأعداء.
وقد نرى هذا التقارب بين الطبقات على ما تقدم في الكلام عن الطبقة كما نراه في التقارب بين الأقوام وبين الحضارات.
وتؤثر هذه العلاقات الواسعة في حياة كل فرد من أفراد النوع بداهة ليصبح فردًا من نوع بعد أن كان فردًا من عشيرة، أو فردًا من شعب، أو فردًا من سلالة، أو فردًا من دولة جامعة بين الشعوب والسلالات.
ولا شك أن هذا التأثير في حياة الفرد — بعد تقارب العلاقات العالمية — هو الذي يتمثل لنا كأنه تقييد لحريته أو إفناء لاستقلاله، تنفيذًا للبرامج العالمية، وتحقيقًا للتعاون بين الأمم ورسم الخطط التي يجري تطبيقها في كل أمة للتوفيق بين الجهود والتقابل بين المطالب والموارد في أممٍ كثيرة، لم تكن بينها مشاركة في المعاملات قبل ارتباط العلاقات العالمية أو العلاقات الإنسانية.
فقيام العلاقة بين الأمم الكثيرة هو الذي يوجب على هذه الأمة أن تشتغل بهذه الصناعة، ويوجب على غيرها أن تشتغل بهذه الزراعة، ويوجب على أخرى أن تجعل برنامجها موافقًا لزراعة هذه وصناعة تلك في الوقت المطلوب.
هذه البرامج لا موجب لها في عصر خلا من المعاملات العالمية.
وهذه البرامج لا مفر منها مع اشتباك هذه المعاملات وتكافل الأمم طوعًا أو قسرًا في المنافع والأضرار.
وهذه البرامج هي التي تبدو لنا كأنها نكسة في الحرية الفردية، وهي في صميمها تهيئة للإنسان الفرد لكي يأخذ مكانه الجديد في العالم الواحد، ويتلقى بالنوع في تطوره الدائم معفى من الجهد المبدد والفوضى التي لا تكافؤ فيها بين الأعمال والحاجات.
وليس أخطر على حرية الفرد من هذه الفوضى في الحياة العالمية؛ لأنها تسومه عمل الألوف من المطالب حيث لا حاجة به إلى غير مطلبٍ واحد، أو تسومه إهمال الألوف من المطالب، حيث يحتاج إليها في أوقاتها ولا يجدها في تلك الأوقات.
فإذا انتظمت البرامج والخطط على مقدار المطالب والموارد، فهذا هو سبيل المعيشة الحرة في العالم الكبير، الذي يتعاون كل جزء منه لإعطاء ما عنده والاستفادة مما عند الآخرين.
ولسنا هنا نفرض فروضًا، أو نقتسر النظريات على موافقة الوقائع والأعمال.
فالتقارب في المسافات والمصالح مسألة من مسائل الحس والمشاهدة، والحاجة إلى اتفاق البرامج والخطط مسألة مثلها، نعمل فيها مختارين إن شئنا أو نعمل فيها مضطرين حيث لا نشاء.
إن الماديين في العصر الحاضر أدنى إلى لمس هذه الأطوار التاريخية، أو هذه المشاهدات الواقعية، من دعاة مذهبهم الأولين قبل مائة سنة، بيد أنهم لا يرونها ولا يريدون أن يروها، وليس إعراضهم عنها لأنها بعيدة من العقول فإنها أقرب إلى العقل مما يقدرونه، ويدبون وراءه في الجحور ليستخرجوه إلى النور، ولكنهم يعرضون عنها لأنها بعيدة عن طباع الشر والنقمة والشغف بالتخريب وإهدار الدماء!
أقرب إليهم من ذاك أن يتصوروا التاريخ كمينًا متربصًا بكمين، ولاحقين يهدمون ما بناه السابقون، وطبقة واحدة تستأصل جميع الطبقات، ولا تمهلها إلا ريثما تمكنها الفرصة منها، ونوعًا إنسانيًّا كأنه «بنيلوب» زوج «عولس»، أو كأنه الخرقاء التي تنكث غزلها بيدها كلما أبرمته، ولماذا يستقربون هذا التصور البعيد؟ لأنهم خرجوا يبحثون عن غرضٍ بعينه، ولم يخرجوا للبحث عن أقرب الحلول إلى المحسوس والمعقول.
•••
ولا نحب أن ننسى في ختام هذا الفصل أن طائفة من المفكرين من غير الشيوعيين يعتقدون اليوم أن العصر الحاضر يعدل عن مبادئ الحرية الفردية، وينظرون إلى خطط التنظيم الاقتصادي وبرامج السنوات الخمس، أو العشر في الأمم أو الجامعات «الأممية»، أو ينظرون على الجملة إلى مشروعات التأميم والتعميم، فيحسبونها دليلًا على التحول من الإيمان باستقلال الفرد إلى الإيمان بوجوب الحد من ذلك الاستقلال في شئون الاجتماع والاقتصاد، وإلى الإيمان من ثم بوجوب الحد من استقلاله في الحقوق السياسية.
ولم نطلع على بحث من بحوث «إعادة النظر» في هذا الموضوع إلا أحسسنا منه أنه يقوم على أساس أخلاقي، أو شعور يمزج بين الفردية والأنانية أو بين الفردية والصراع على تنازع البقاء.
وكلا المذهبين لا يسلم من الخطأ الكثير، إلا أنَّ الاستناد إليهما في مناقشة الحرية الفردية يوقع أصحابه في أخطاء أكبر من أخطاء المذهبين.
فما خطر ﻟ «آدم سميث» قط أنَّ حرية التنافس تمنع الأمم أن تلجأ إلى تنظيم المعاملات في أحوال كأحوال الحروب أو ما يشابه الحروب، وأولى من أحوال الحروب بالتنظيم هذه الحالة العالمية التي تتوقف فيها معاملات الأمم بعضها على بعض، وتذهب فيها جهود الأفراد عبثًا إن لم تدبرها الأمة كلها تدبيرًا يوافق المطلوب من الأمم الأخرى.
على أنَّه لا مذهب «آدم سميث» ولا مذهب «داروين» كان أساسًا للإيمان باستقلال الشخصية الإنسانية، فيجوز — من ثم — أن يقوم استقلال الشخصية عليهما، أو يزول بزوالهما، أو يعرض له الشك حين يعرض لهما.
إن استقلال الشخصية الإنسانية كان ثمرة النجاح لكل ثورة سياسية أو دينية قام بها الناس منذ عرفوا الثورة على الظلم، أو عرفوا الثورة لتحطيم قيد من القيود. وقد اشتركت الطبقات العليا والطبقات الدنيا في هذه الثورات، ولم تكن مقصورة على نظامٍ واحد من نظم الإنتاج أو الثروة الاقتصادية، وكان نصيب الفرد من أبناء الطبقات المحرومة في تلك الثورات أعظم من نصيب الفرد من أبناء الطبقات العليا، لأن هذه الطبقات العليا في غنى عن الثورة لتحقيق الحرية الشخصية.
وإذا كان محصل تاريخ النوع الإنساني يتلخص في اتساع العلاقات العالمية، فمحصل تاريخ الفرد أن يزداد استقلاله أو تزداد الدعوة إليه على الأقل، فلا يجسر أحد على إنكاره في صورة من الصور إلا ليعود إلى تقريره في صورةٍ أخرى. وقد أصبح استقلال الفرد في زماننا حجة لكل نظام من نظم الحكم في مقام المفاضلة والتسابق إلى الإصلاح، بل أصبح مقياسًا حقيقيًّا لكفاية المجتمع كله في الصراع بين المجتمعات، فانقسم العالم في الحربين العالميتين إلى معسكرين: أحدهما يضيق فيه نصيب الفرد من الحرية والآخر يتسع فيه هذا النصيب، وكان المعسكر الأول أقدم استعدادًا للحرب، وأوفر عدة لها عند ابتداء القتال، ولكنه انهزم ولم يصمد للفريق الآخر الذي بدأ استعداده خلال أيام القتال.
ومن علامات الزمن أن الفرد يثبت وجوده أمام طغيان الجماعات كما يثبته أمام طغيان الآحاد.
فالوجودية على تعدد مناهجها دعوة ذات دلالة، ولا دلالة لها إلا أن الفرد يثور على طغيان العدد، ولا يرضيه أن يغرق سماته بين طوفان من العدد المتكرر ليس له سمات.
وليقل من شاء ما شاء عن دور الفرد العظيم في قيادة الحركات الاجتماعية.
ليقل: إنه يخلق حين تخلقه الجماعة لقيادة حركة من حركاتها العامة، فإن الثابت أمامنا أنَّ الحركة الاجتماعية تحتاج إلى قيادة فرد عظيم، وأما ما عدا ذلك من الألغاز والتخمينات، فهو معلق «بلو كان ولو لم يكن» مما يجوز فيه قولان، أو تجوز فيه عدة أقوال.
وليس من فرق بين ظهور الفرد العظيم بالاسم الذي ظهر به، وبين ظهوره باسمٍ آخر مختلف الهجاء، إلا أن يكون غرض التاريخ أن نروغ من الوفاء له بحقه، وأن نتمثل الذرائع للمغالطة في حسابه، وهو غرض معقول ممن يبنون التاريخ كله على حساب الأجور وحساب الأثمان وفواضل الأثمان. ولكنه غير معقول من بني الإنسان.