البحث عن «جاك» السفاح!
وقف «أحمد» و«إلهام» يُلقيان نظرة وداع أخيرة على ميناء «الدار البيضاء» أو «كازابلانكا»، ذلك الاسم الذي أطلقه البرتغاليون على المدينة عندما أقاموها في القرن السادس عشر على أطلال مدينة «أنغا» … وعندما ذهب البرتغاليون جاء الفرنسيون ليحتلوها … إلى أن حصلت البلاد على استقلالها، وظلَّت الدار البيضاء محتفظةً باسمها القديم الساحر الذي كان علامةً مميزة لها.
تأمَّل «أحمد» الميناء … ورءوس المباني القديمة البعيدة ذات الواجهات البيضاء.
والشمس قد أوشكت على الغروب خلف سطح المحيط … والتفت إلى «إلهام» وقال لها: فلنهبط إلى قُمرتنا.
واتجه الاثنان هابطَين لأسفل، وكانت هناك قُمرتان محجوزتان باسمَيهما تجاوران بعضهما، فوضع «أحمد» و«إلهام» حاجياتهما بداخل حجرتَيهما، وقالت «إلهام» ﻟ «أحمد»: كان من الواجب أن نحضر بعض الأسلحة معنا تحسُّبًا لأية ظروف.
ابتسم «أحمد» قائلًا: لا أظن أن أي خطيبَين سيحملان القنابل والمسدسات بدلًا من الورود ودعوات العشاء.
تورَّد وجه «إلهام» مرةً أخرى وقالت: ولكننا لا نعرف ما هو الخطر الذي سنواجهه فوق هذه الباخرة.
أحمد: لا أظن أن «جاك» السفاح سيخاطر بحمل أية أسلحة معه خلال رحلته؛ فالمفروض أنه مسافر عادي ليست له أية علاقة بأعمال القتل والإرهاب، ولديه أوراق سليمة تقول ذلك … فما الداعي لأن يحمل أسلحةً أو قنابل معه؟
إلهام: ولكنه رجل خطير جدًّا … وحتى إذا لم يحمل معه أية أسلحة، فإنه يظل خطرًا إلى النهاية.
أحمد: هذا صحيح … وعلينا أن نواجه خطورته بوسائلنا الخاصة … إننا أيضًا خطرون … ولكن على المجرمين.
وأخرج قائمةً كبيرة من جيبه وضعها أمامه قائلًا: هذه قائمة بأسماء ركاب الباخرة، وهم حوالي مائتَي راكب، وبهم بعض المشاهير والمعروفين، وعلى رأسهم المليونير الإسباني «سانشوكار أميلا»، وأيضًا الممثل الأمريكي المعروف «فورد هاجمان»، والذي كان يقوم بتصوير آخر أفلامه في المغرب.
وبابتسامة واسعة أضاف: يقولون إنه شديد الجاذبية؛ ولهذا فإن كثيرًا من الحسناوات يَكُن بصحبته دائمًا.
وأمسكت «إلهام» بالقائمة وهي تقول: إنني أرى أسماءً أخرى؛ مثل الكولونيل «البرتوسيزار»، القائد السابق للقوات الأمريكية في فيتنام … وكذلك «جون ساكس»، المطرب الإنجليزي المعروف.
أحمد: يبدو أن هذه الرحلة حافلة بالمشاهير.
إلهام: من المؤكد أن أشهرهم هو «جاك» السفاح، وإن كان من المؤسف أن أحدًا لم يُعلن عن ذلك … وإلا لهرب الركاب بأنفسهم من هذه الباخرة قبل إقلاعها، كما يهرب الناس من الوباء.
وصمتت لحظةً مفكرة، ثم تساءلت: تُرى لو كنت أنت «جاك» السفاح … فما هي الملامح التي كنت تختارها لنفسك إذا أردت أن تُخفي حقيقتك بقية حياتك؟
فكَّر «أحمد» لحظة، ثم قال: لا أظن أنني كنت سأحاول أن أُغيِّر طبيعتي كرجل … فمن المستحيل أن يقضي رجل مثل «جاك» السفاح حياته بوجه امرأة مثلًا … وبذلك فمن المؤكد أنه لا يزال يحتفظ بملامحه كرجل.
إلهام: إن هذا فرض صحيح تمامًا.
أحمد: أيضًا من المؤكد أن «جاك» سيحاول أن يختار ملامح أبعد ما تكون عن حقيقته؛ فإن الصور التي زوَّدنا بها رقم «صفر» ﻟ «جاك» السفاح، وهي آخر صور التُقطت له عندما سُجِن في إنجلترا قبل هربه، هذه الصور تُظهره خشنًا، حادَّ الطباع، له ندبة عميقة في جبهته. وأعتقد أن أفضل تنكُّر وملامح جديدة سيفكِّر فيها «جاك» هي أن تكون له ملامح رقيقة؛ حتى يكون بعيد الشبه تمامًا عن «جاك» السفاح.
إلهام: أو ربما يكون قد بدَّل ملامحه بملامح رجل عجوز … فهذا أفضل نوع من أنواع التخفِّي …
أحمد: إلا إذا أراد «جاك» أن يخدعنا جميعًا.
تساءلت «إلهام» في دهشة: كيف ذلك؟!
أحمد: بأن يحتفظ «جاك» بالخشونة البادية على وجهه، فيكتفي مثلًا بتغيير حجم أنفه، أو اتساع فمه، أو مجرَّد إخفاء الندبة التي فوق جبهته، أو لون عينَيه الداكنتَين، وربما فكَّر في من يبحثون عنه بأنهم سيظنون أنه قد تحوَّل إلى وجه رقيق جميل، ومن ثم احتفظ بكثير من خشونته حتى يكون بعيدًا عن الشُّبهة.
قالت «إلهام» في قلق: إن هذا يجعل دائرة الاشتباه تشمل كل الرجال فوق الباخرة فوق سن الأربعين.
أحمد: هذا صحيح … وإن كان هذا لا يدعو لليأس … فحتى لو استطاع «جاك» أن يغيِّر من ملامحه، فمن المؤكد أنه لن يستطيع تغيير طباعه وعاداته … فرجل قضى سنوات طويلةً في السجن، ثم في حياة الجريمة، وبعدها في الأدغال والإرهاب؛ مثل هذا الرجل ستفضحه تصرفاته مهما حاول أن يُخفيها … وبذلك ستكون مهمتنا هي مراقبة تصرفات الركاب؛ حتى نكتشف مَن منهم سيقوم بمحاولة إخفاء حقيقته بتصرفات تكشف عكس شخصيته التي يظهر بها.
إلهام: علينا إذن أن نختلط بأكبر قَدر من الركاب، وأن نعقد صداقةً معهم؛ فهذا يتيح لنا فرصةً أوسع لمراقبة أكبر عدد منهم.
نظر «أحمد» إلى ساعته وقال: عندك حق … والآن فلنذهب إلى صالة الطعام فقد حان وقت العشاء.
إلهام: لقد بدأتُ أشعر بالجوع بالفعل … هيا بنا.
واتجهت إلى باب القُمرة عندما أوقفها «أحمد» قائلًا: انتظري يا «إلهام»؛ فقد نسيت شيئًا هامًّا.
توقَّفت «إلهام» في تساؤل … وأخرج «أحمد» من جيبه عُلبة قطيفة صغيرة ثم فتحها، فظهرت بداخلها دبلتان ذهبيتان … مدَّ إحداهما إلى «إلهام» في رِقَّة قائلًا: هل هناك خطيبان … بدون دبل خطوبة؟
وكان العشاء شاعريًّا … فقد كانت قاعة الطعام الواسعة مُضاءةً بالشموع الكبيرة التي احتلَّت مكان المشاعل التقليدية … وقد وُضِع فوق كل مائدة شمعدانًا صغيرًا ألقى بظل لهبه على الجالسين فوق كل مائدة.
وكانت هناك باقة ورد صغيرة فوق كل مائدة … وقد راح العاملون في المكان يذهبون ويجيئون حاملين أطباق الطعام في نشاط … وقد تصاعدت موسيقى راقصة حالمة من أحد الأركان لتُضفي طابعًا هادئًا ساحرًا على المكان.
همس «أحمد» ﻟ «إلهام»: لو كنت أعرف أن هذه الباخرة تقدِّم مثل هذا العشاء الساحر بتلك الطريقة لدعوتك لتناول الطعام فيها منذ وقت طويل.
قالت «إلهام» باسمة: ولكننا لم نأتِ من أجل العشاء فقط … إن هناك ما هو أخطر، وعلينا الانتباه.
أحمد: إن هذا لا يمنعني من تقديم هذه الوردة إليك.
والتقط وردةً حمراء ناضرة من باقة الورود أمامه، وقدَّمها إلى «إلهام» وهو يقول لها: إنها تعبِّر عن مشاعري.
ارتبكت «إلهام» وهي تقول: «أحمد» … لا تنسَ أننا في مهمة عمل.
أحمد: ولا تنسَي أنت أيضًا أننا مخطوبان … وهذا جزء من مهمة عملنا.
تناولت «إلهام» الوردة الحمراء بعينَين متألقتَين … وكان عبيرها فوَّاحًا … وتلفَّتت حولها … كان الجالسون إلى العشاء قد راحوا يلتهمون طعامهم في سرور وهم يضحكون ويُثرثرون … ولمحت «إلهام» الكولونيل الأمريكي، وكان ضخمًا، له شارب كبير ووجه أحمر … وكان يأكل بشهية ويقهقه، ويتبادل الحديث مع العاملين في المكان بمرح ظاهر … وإلى يساره جلس المليونير الإسباني وهو يأكل طعامه وحيدًا … وينظر في ساعته بقلق بين الحين والحين الآخر … ثم انفجر غاضبًا في العامل المكلَّف بخدمته بسبب تأخُّره في إحضار نوع خاص من الطعام كان قد طلبه منذ لحظات …
ترامقت عيون «إلهام» و«أحمد» في صمت … ونهض المليونير الإسباني غاضبًا، وهو يكيل السباب للعامل المسكين، ثم غادر المكان.
قالت «إلهام» بعينَين ضيقتَين: من العجيب أن هذا الرجل كان يبدو في منتهى الرقة وهو يصعد الباخرة … فقد أفسح لي الطريق، بل وعاونني في حمل حقائبي.
نهضت وهي تقول: من الأفضل مراقبة هذا الرجل.
قاطعها «أحمد»: إن الوقت لا يزال مُتسِعًا أمامنا … فلا تدعينا نخسر مثل هذا العشاء الرائع.
عاودت «إلهام» جلوسها في صمت … وراحت تُكمل عشاءها وهي تفكِّر … كان للمليونير الإسباني ملامح رقيقة … لعلها أفضل الملامح التي تُخفي وراءها «جاك» لو أنه أراد التخفِّي … ولكنه أيضًا كان شخصيةً معروفة، ومن الصعب أن يحل «جاك» محل رجل شهير كهذا دون أن يفتضح أمره.
تذكَّرت «إلهام» شيئًا؛ فقد قال رقم «صفر» إن «جاك» يحمل جواز سفر أمريكي … وليس إسبانيًّا. وهنا تلاقت عينا «إلهام» ﺑ «أحمد»، وعرفت لماذا طلب منها أن تستكمل عشاءها، ولا تسعى وراء المليونير الإسباني.
التفتت «إلهام» إلى اليمين فشاهدت المطرب الإنجليزي الشهير «جون ساكس» جالسًا مع خطيبته الحسناء وهما يتهامسان في رقَّة وعذوبة … فراحت «إلهام» تنظر إليهما في فضول، فنظر إليها المطرب الإنجليزي بنظرة طويلة مندهشة، فأدارت «إلهام» وجهها وهي تشعر بالخجل …
وفي نفس اللحظة كان الممثل الأمريكي «فورد هاجمان» يدخل إلى صالة الطعام متأبطًا ذراع فتاة حسناء رائعة الجمال … وعلى الفور تعلَّقت أبصار الجالسين بالمُمثِّل الوسيم وصديقته، وراح «فورد» يوزِّع ابتساماته على الجالسين وهو يمر أمام موائدهم … وما كاد يجلس إلى مائدته مع صديقته حتى اندفع نحوه بعض الجالسين، وأغلبهن من الفتيات والحسناوات وهن يطلبن توقيعه فوق أوتوجرافاتهن.
ونهض المطرب الإنجليزي نحو المُمثل الأمريكي … فتعانقا وانضمَّا إلى مائدة واحدة، وكان واضحًا أنهما يعرفان بعضهما، وعلى صداقة وطيدة.
تنهَّدت «إلهام» وهي تقول: يبدو أن مهمتنا لن تكون سهلة.
ونظرت نحو الجالسين للعشاء وقالت: لن يكون سهلًا علينا اكتشاف شخصية ذلك المجرم وسط عشرات من المُشتبه فيهم. إننا سنكون كمن يبحث عن إبرة في كوم قش.
وأطرقت برأسها في صمت وضِيق … فلم تلحظ العينَين القريبتَين منها، واللتَين لمعتا ببريق حادٍّ مليء بالقسوة والعنف وسفك الدماء … بالرغم من مظهر صاحبهما البريء …