الكولونيل الأمريكي!
لم يغمض ﻟ «أحمد» جفن طوال تلك الليلة، وظلَّ يتقلَّب فوق فراشه مُسهَّدًا … كان يستعرض في ذهنه شريط أحداث الليلة وموائد العشاء، ويسترجع تصرفات كل من كانوا بالمكان.
وكان متأكدًا أن الشخص المطلوب كان قريبًا منه. لم يكن «أحمد» يعرف شخصية «جاك» السفاح الجديدة، ولكنه كان واثقًا أنه أحد الذين شاركوه العشاء.
وكان قد بدأ يشك في شخص معين … كانت مؤهِّلاته وطبيعته تؤهِّله لأن يكون هو الشخص المناسب الذي يتخفَّى وراءه «جاك» السفاح؛ الكولونيل الأمريكي الخشن المظهر والرجل القوي، وهي ملامح قريبة جدًّا من شخصية «جاك» السفاح الحقيقية، وإن كان الكولونيل يتظاهر بالمرح والتبسُّط مع كل من يحادثه أو يقابله؛ ليخفي شيئًا آخر … هذا بالإضافة إلى جنسيته الأمريكية … وتساءل «جاك» في قلق وتوتُّر: هل يمكن أن يكون الكولونيل هو «جاك» السفاح بالفعل؟ … وأنه قد تقمَّص شخصيته ليُبعد الشكوك عنه؟ … فمن الذي سيظن أن ضابطًا أمريكيًّا كبيرًا حارب في فيتنام، هو نفسه «جاك» السفاح بعد أن بدَّل ملامحه؟
وكان على «أحمد» أن يتأكد من شكوكه … فألقى نظرةً إلى ساعة يده المضيئة فوجدها الثانية صباحًا … نهض بهدوء … وارتدى ملابس خفيفة، وحذاءً مطاطيًّا لا صوت له … وتسلَّح بسكين صغيرة أخفاها في حزام صغير حول ساقه، ثم اتجه خارجًا من قُمرته في حذر.
نظر «أحمد» إلى الخارج … وكان ممر القُمرات هادئًا بلا حركة، وقد أضاءته بعض اللمبات الشاحبة الضوء.
وكان «أحمد» يعرف أن قُمرة القبطان تقع إلى يسار الممر؛ فقد زوَّده رقم «صفر» بخريطة لقُمرة كل راكب بالباخرة.
سار «أحمد» في هدوء وحذر إلى نهاية الممر، ثم اتجه يسارًا … وعلى مسافة قريبة كانت تقع قُمرة الكولونيل الأمريكي … اقترب «أحمد» وأخرج أداةً صغيرة من جيبه عالج بها باب القُمرة، فانفتح بعد لحظات. ونظر «أحمد» في حذرٍ بداخل القُمرة المظلمة … ولكن لم يكن بها أحد … وكانت خاليةً من صاحبها … وفي هدوء اتجه «أحمد» داخلها … وراح يفتِّش حاجيات الكولونيل وملابسه بسرعة، وقد راحت أذناه تتنصتان لأية خطوات مقتربة.
ولكن ظلَّ المكان على سكونه … وأنهى «أحمد» تفتيشه بدون أن يعثر على شيء … ومدَّ يده نحو الفراش، فاصطدمت أصابعه بشيء صُلب أسفل الوسادة … والتقط «أحمد» المسدس المخبَّأ أسفل الوسادة … وبنظرة سريعة تعرَّف على طرازه. كان من المسدسات الشهيرة التي استعملتها القوات الأمريكية في فيتنام، وهو طراز كولت ١٩١١، له خزينة بثماني طلقات … وهو من المسدسات التي يُفضِّل رجال العصابات استعمالها بسبب دقة تصويبه.
التمعت عينا «أحمد»، وتأكَّد من أن شكوكه كانت في محلها، وبسرعة أعاد المسدس إلى مكانه، ووقف يُنصت كالفهد عندما سمع صوت الخطوات القادمة، فأسرع بالاختفاء خلف دولاب الحائط وكتم أنفاسه … ولكن الخطوات سارت مبتعدة، فتنفَّس «أحمد» الصُّعَداء، وغادر المكان، وأغلق باب القُمرة واتجه خارجًا … وفكَّر «أحمد» في أنه ما دام الكولونيل خارج قُمرته، فلا بد أنه يُخطِّط لشيء في الخارج، وهذا الشيء لا يمكن أن يكون إلا عملًا إجراميًّا بكل تأكيد.
أسرع «أحمد» يغادر المكان، واتجه صاعدًا إلى سطح الباخرة … ولم يكن هناك أحد بأعلى، وحتى العاملون في الباخرة لم يكن لأحدهم أي أثر. كان الظلام يسود سطح الباخرة ولا يبدِّده غير أضواء النجوم البعيدة الواهنة … ومن الخلف لمع رذاذ الماء والباخرة تشق سطح المحيط في سرعة …
وفجأةً شاهد «أحمد» شبحًا يبرز من خلف جدار الباخرة ويقفز إلى قلبها … وأسرع «أحمد» يختفي في أحد الأركان وهو يرمق الشبح بعينَين كالصقر.
وشاهد «أحمد» الشبح وهو يستعيد حبلًا طويلًا تمكَّن بواسطته من النزول على جدار الباخرة الخارجي ثم الصعود مرةً أخرى، ولم يكن لدى «أحمد» أي شك في أن ذلك الشبح الذي أخفى الضوء ملامحه، هو نفسه الكولونيل الأمريكي المزيَّف … أو «جاك» السفاح، وأنه كان يقوم بعمل ما يجهله «أحمد» …
أخفى الشبح الحبل داخل ملابسه، وتلفَّت حوله في حذرٍ فلم يلمح أحدًا، فسار مقتربًا من مكان «أحمد» … وسقطت بقعة قريبة من الضوء على وجه الشبح وظهرت ملامحه … كان هو الكولونيل الأمريكي …
وفجأةً برز «أحمد» من مكمنه، وفوجئ الكولونيل بظهور «أحمد» في مكانه لحظةً وقد أخذته المفاجأة … وقال «أحمد» ساخرًا: يبدو أن رؤيتك لي لم تكن مفاجأةً سارة.
تجهَّم وجه الكولونيل في حذرٍ وغضب، وهتف بعينَين مليئتَين بالشر: من أنت؟ … وماذا تريد؟
أحمد: ليس هذا هو المهم … ولكن المهم هو أنني عرفت حقيقتك أنت … وها أنا قد جئت لتصفية الحساب … حسابك القديم.
وانطلقت قبضة «أحمد» مثل طلقة الرصاص نحو الكولونيل، ولكن الرجل العجوز تحاشى الضربة بسرعة بالغة، وانطلقت ضربة إلى «أحمد»، وأحسَّ «أحمد» بشيء ثقيل يصدمه مثل طلقة المدفع … وترنَّح «أحمد» إلى الوراء لحظةً وقد أخذته المفاجأة وقوة الضربة، وقبل أن يُتبع الكولونيل المزيَّف ضربته بأخرى، قفز «أحمد» في الهواء، وبكل قوة صوَّب ضربةً هائلة نحو الكولونيل.
وأصاب «أحمد» الرجل إصابةً بالغة، فترنَّح إلى الخلف وسقط فوق الأرض، فلمعت عيناه بوميض غضب هائل … ونهض في بطء وعيناه مصوَّبتان نحو «أحمد» كأنهما جمرتان من النار تلتمعان في الظلام.
وقال «أحمد»: لا أمل لك في النجاة.
قال الكولونيل بصوت كالفحيح: يبدو أنني كنت مخطئًا … وأنك أنت الشخص الذي أبحث عنه … لكي أتخلَّص منه … وأنه ليس الآخر.
وبسرعة البرق أخرج الكولونيل مسدسًا صغيرًا من جيبه، وقفز «أحمد» في الهواء ليتحاشى طلقة الرصاص المكتومة، ولكن الطلقة مسَّت ساقه فجرحته، وتدحرج «أحمد» فوق سطح الباخرة وطلقات الرصاص تتبعه وهو يتحاشاها بحركته السريعة … وتوقَّف الكولونيل عن إطلاق الرصاص عندما نَفِد رصاص مسدسه، وأسرع يختفي كالشبح.
نهض «أحمد» متحاملًا على قدمه المصابة، وشاهد شخصًا يندفع نحوه، فأخرج سكينه واستعدَّ للقتال برغم إصابته … ولكنها كانت «إلهام» … فاندفعت إليه في انزعاج شديد هاتفة: «أحمد»! … ماذا حدث لك؟
أجابها «أحمد»: إنها إصابة بسيطة … لقد عثرت على «جاك» السفاح وتقاتلت معه، ولم أكن أتوقَّع أنه يمتلك مسدسًا آخر؛ ففوجئت بإطلاقه الرصاص علي.
هتفت «إلهام» في دهشة: هذا هو ما خمَّنته أيضًا … إن «جاك» السفاح هو نفسه الكولونيل … ويبدو أننا قد استنتجنا نفس الشيء في وقت واحد … فأنا أيضًا لم يغمض لي جفن، وغادرت قُمرتي لأخبرك بشكوكي في هذا الرجل، ولكني وجدت حجرتك خاليةً فأسرعت إلى هنا … فلنسرع بالقبض على هذا المجرم.
أحمد: لا يا «إلهام» … من الخطأ أن نحاول القبض على هذا السفاح فورًا … فلا بد أنه قد احتاط لنا بعد أن كشفناه، ولعله قد أعد خدعةً جديدة لنا إذا حاولنا القبض عليه …
إلهام: إذن فلنخبر القبطان عن الحقيقة ليساعدنا في القبض على هذا المجرم.
أحمد: ولا هذا أيضًا؛ فسوف ينتشر الخبر ويُصاب رُكاب الباخرة بذعر قاتل، وربما يدفع ذلك «جاك» السفاح إلى مزيد من سفك الدماء، خاصةً وهو مسلح، وهو الشيء الذي لم نتوقعه …
تساءلت «إلهام» في قلق: وما العمل الآن؟
أحمد: علينا أن نعود إلى قُمرتَينا … وأعتقد أن «جاك» السفاح لم يستطع التعرف عليَّ عندما واجهتُه بسبب الظلام؛ وبذلك فهو لا يعرف من الذي يسعى خلفه، وهذا يعطينا فرصة، ويمكننا أن ندبِّر له خدعةً للقبض عليه بدون أن نتسبَّب في سقوط أي ضحايا من ركاب الباخرة.
واتجه الاثنان هابطَين إلى قُمرتَيهما في حذر، ولم يجدوا غير بعض العُمال الذين مرُّوا بهما عن بُعد ولم يلاحظاهما.
وكشف «أحمد» عن ساقه فشاهد جرحًا بسيطًا، فأسرعت «إلهام» بتضميده وهي تقول: حمدًا لله؛ فالإصابة سطحية.
أحمد: اذهبي إلى قُمرتك، وفي الصباح سوف نخطِّط للقبض على هذا المجرم في هدوء.
نظرت «إلهام» إلى «أحمد» في قلق، وسألته: هل أنت واثق أن هذا المجرم لم يتعرَّف عليك، وأنه لن يحاول قتلك أثناء نومك؟
أحمد: فليحاول ذلك فيكون فيه نهايته، وتخليص العالم من شره.
ولمعت عيناه ببريق نضال هائل … واتجهت «إلهام» خارجةً من القُمرة، ووقفت ببابها وهمست قائلةً ﻟ «أحمد»: كن حذرًا.
وغادرت المكان واتَّجهت إلى قُمرتها وأغلقت بابها، ولكن لم تُغمض جفنَيها، وظلَّت ساهرةً وقد انتبهت حواسُّها بشدة تحسُّبًا لأية محاولة قد يقوم بها «جاك» السفاح للاعتداء على «أحمد».
ولكن «أحمد» كان أكثر هدوءًا وثقةً من أن «جاك» لم يتعرَّف عليه، فأغلق باب قُمرته، وسرعان ما غرق في النوم وهو يعرف أن الغد سيكون حافلًا بالنشاط، وأن عليه أن يكون مستعدًّا تمامًا.
واستيقظ «أحمد» على طرقات «إلهام» فوق الباب … ونظر في ساعته فوجدها التاسعة صباحًا، فتمطَّى في فراشه، وطمأن «إلهام» ووعدها أنه سيخرج قبل ربع ساعة، وأخذ حمامًا باردًا، وبدَّل ملابسه، ثم اتجه خارجًا.
وسألته «إلهام» في لهفة: كيف حالك؟
أجابها باسمًا: في خير حال … فقد نمت نومًا عميقًا.
قالت «إلهام»: أما أنا فلم يغمض لي جفن طوال الليل.
نظر إليها «أحمد» في ودٍّ وقال: كنت أعرف أن ملاكي الحارس سيظل مستيقظًا لحراستي؛ ولذلك نمت نومًا عميقًا وأنا في أشد الاطمئنان.
ابتسمت «إلهام» لتعليق «أحمد»، وزال عنها قلقها … واتجه الاثنان إلى قاعة الطعام، وراحا يلتهمان الإفطار في شهية وهما يراقبان مدخل القاعة.
وهمست «إلهام» ﻟ «أحمد»: لم يظهر الكولونيل حتى الآن.
أحمد: لعله لا يزال نائمًا … علينا أن نكون في منتهى الهدوء والحذر؛ فقد خطَّطت خطةً للقبض على هذا المجرم في هدوء بدون أن ندفعه إلى استخدام العنف، ولكننا لن نستطيع القيام بها إلا في المساء، وبعد أن ينام جميع رُكاب الباخرة … ومرَّ النهار هادئًا بدون أن يظهر الكولونيل … وحتى في الغداء والعشاء لم يظهر في قاعة الطعام.
وقالت «إلهام» في قلق ﻟ «أحمد»: لا يمكن أن يبقى هذا السفاح بلا طعام طوال هذه المدة.
أحمد: لقد استفسرت من العاملين في المطعم، فعرفت أن أحدًا منهم لم يذهب بطعام إليه في قُمرته، وأنه لم يغادر القُمرة منذ الصباح.
تضاعف قلق «إلهام» وهي تقول: «أحمد» … هل يمكن أن يكون هذا المجرم قد هرب؟
أحمد: هرب! … كيف؟
إلهام: لا أدري؛ فربما بعد أن هاجمتَه مساء الأمس شعر أن هناك من يطارده على الباخرة فقرَّر الهرب.
أحمد: ولكن كيف سيهرب من الباخرة ونحن في قلب المحيط؟
قالت «إلهام» في حيرة: لا أدري … ولكنه قد فعلها من قبلُ عندما هاجمه رجال الشرطة الإنجليز عندما كان يعبر بحر المانش، فاستطاع الهرب منهم بطريقة لم يكتشفها أحد حتى الآن … ولعله فعل نفس الشيء هذه المرة أيضًا.
ظهر القلق على وجه «أحمد» لأول مرة وقال: هل يمكن أن يكون قد حصل على أحد قوارب الإنقاذ في الليل وهرب بها في المحيط؟
إلهام: هذا احتمال قائم.
أحمد: إذن فلنبحث عن قوارب الإنقاذ.
ولكن البحث لم يفِد شيئًا؛ فقد كانت القوارب كلها في أماكنها، ولم يختفِ أحدها، وتقابلت عينا «إلهام» و«أحمد» في قلق.
قال «أحمد» في بطء: لم يبقَ علينا غير تفتيش حجرة هذا المجرم.
هتفت «إلهام» في قلق: لعله قد تعمَّد أن يختفي ليدفع من طارده بالأمس إلى محاولة البحث عنه في حجرته فيقوم بقتله.
أحمد: علينا أن نخاطر مهما كان الثمن.
وفكَّر لحظةً وأضاف: ولن أدخل حجرته من الباب هذه المرة … بل من نافذة قُمرته.
وأعدَّ «أحمد» حبلًا طويلًا … وفي منتصف الليل، وبعد أن أوى رُكاب الباخرة إلى قُمراتهم، استعدَّ «أحمد» و«إلهام» للعمل.
وفي حذرٍ صَعِدا لأعلى سطح الباخرة المظلم … وثبَّتت «إلهام» الحبل في جدار سور الباخرة، أعلى قُمرة الكولونيل المزيَّف … وبدأ «أحمد» هبوطه الحذر مثل الفهد، و«إلهام» تتابعه من أعلى بعينَين مليئتَين بالقلق، وهمست «إلهام»: كن حذرًا يا «أحمد».
واصل «أحمد» هبوطه في الظلام … ولم يعد يفصله عن سطح الماء غير مترٍ واحد وهو مُعلَّق في الحبل … وظهرت نافذة قُمرة الكولونيل المزيَّف على مسافة قريبة إلى يسار «أحمد»، فتأرجح قليلًا حتى تمكَّن من الوصول إليها، وفي حذر تعلَّق بإفريزها، ومرَّت لحظات من الصمت و«أحمد» يتنصَّت، ولكنه لم يسمع شيئًا بداخلها.
كانت الحجرة مظلمة … فأضاء «أحمد» كشافًا صغيرًا صوَّبه إلى داخل القُمرة عبر نافذتها … واتسعت عينا «أحمد» ذهولًا وهو يشاهد جسد الكولونيل الممدَّد فوق فراشه، وقد اخترقت رصاصةٌ رأسه، فجحظت عينا الكولونيل وهو ساكن سكون الموت.