اكتشاف متأخِّر!
صَعِد «أحمد» لأعلى بسرعة وهو يلهث. سألته «إلهام» مندهشةً عمَّا شاهده بأسفل … فقال لها: لقد قُتِل الكولونيل! … هناك من أطلق الرصاص عليه فقتله في فراشه.
هتفت «إلهام» غير مصدقة: هذا مستحيل! … فمن الذي فعل ذلك؟
أحمد: لا أدري … إنها مفاجأة مذهلة.
وتلفَّت حوله وهو يقول: فلنسرع بمغادرة هذا المكان.
وحلَّ الحبل الذي هبط به لأسفل، وأسرع الاثنان يهبطان إلى قُمرتَيهما … وقال «أحمد» وهو يُحدِّق في فراغ الحجرة: إن ما حدث يقلب كل الأوضاع … فإن قتل الكولونيل بمثل تلك الطريقة يعني شيئًا واحدًا … أنه ليس «جاك» السفاح.
قالت «إلهام» معترضة: ولكن، من يكون «جاك» السفاح إذن؟!
ببطء أجابها «أحمد»: إنه من قام بقتل الكولونيل.
نظرَت «إلهام» في حيرة إلى «أحمد»، فقال شارحًا: إن الاستنتاج الوحيد المقبول لتفسير هذا الأمر هو أن الكولونيل أيضًا كان يبحث عن «جاك» السفاح … مثلنا … وهذا يفسِّر وجود المسدس معه، وخروجه من حجرته بعد منتصف الليل؛ فلا شك أنه كان يسعى خلف «جاك» مثلنا … ومن المؤكَّد أنه كان مُكلَّفًا بذلك من جهة أمريكية كان يُهمها القبض على «جاك» السفاح واكتشاف حقيقته … كالمخابرات الأمريكية أو المباحث الفيدرالية …
إلهام: هذا مُذهل! … ونحن الذين ظننا أنه «جاك» نفسه.
أحمد: يبدو أننا قد تسرَّعنا في الحكم على ظاهر الأمور … ومن المؤكَّد أن الكولونيل القتيل قد استطاع الوصول إلى حقيقة «جاك» … وبسبب ذلك دفع حياته ثمنًا لهذا الاكتشاف … فلا بد أن «جاك» قد شكَّ فيه فقرَّر التخلُّص منه فورًا.
قالت «إلهام» في غضب: إذن فقد سقطت ضحية جديدة لهذا المجرم.
أحمد: من المؤسف أنه فاز مرةً أخرى.
وضاقت عيناه وهو يقول: لو أنني قد فهمت الأمر على حقيقته عندما قابلت الكولونيل فوق سطح الباخرة، لربما أمكنني إنقاذ حياته.
تساءلت «إلهام» بدهشة: كيف ذلك يا «أحمد»؟
أجابها: عندما ضبطتُ الكولونيل فوق سطح الباخرة وظننته «جاك» السفاح، قلت له إنني قد جئت لتصفية الحساب القديم، فقال مندهشًا بعد أن تقاتلنا بأنه كان مخطئًا، وأنني الشخص الذي يبحث عنه … وأنه ليس الشخص الآخر … وهذا معناه أن الكولونيل كان يشك في شخص آخر بأنه «جاك» السفاح وكان يراقبه، ولكن تقاتلت أنا معه فظن أنني «جاك» السفاح.
إلهام: هذا مذهل! …
أحمد: أمَّا «جاك» السفاح الحقيقي فمن المؤكد أنه شعر بشكوك الكولونيل حوله ومراقبته له؛ لذلك قرَّر التخلُّص منه بالقتل.
وسادت لحظات طويلة من الصمت بعد كلمات «أحمد» الذي ظهر عليه الضيق الشديد، وغمغم قائلًا: لو أنني فهمت الحقيقة وقتها …
إلهام: لا يزال أمامنا متَّسع من الوقت للكشف عن شخصية «جاك» السفاح الحقيقية.
أحمد: إنني أشعر بنذير الخطر … فما دام «جاك» السفاح قد ارتكب أولى جرائمه فوق ظهر الباخرة، فليس من المستبعد أن يرتكب جرائم أخرى …
إلهام: سوف نحول دون ذلك مهما كان الثمن … ولكن علينا أن نعمل في حذرٍ شديد حتى لا نلفت أنظار «جاك» السفاح إلينا فيسعى للتخلُّص منا.
أحمد: وسوف يكتشفون غدًا موت الكولونيل بكل تأكيد … وسنتظاهر بأننا لا نعرف شيئًا عن هذا الأمر.
وغادر «أحمد» قُمرة «إلهام» متجهًا إلى قُمرته بعد أن أوصاها بإغلاق بابها جيدًا … ووقفت «إلهام» خلف الباب المغلق وقلبها يدق بشدة … فقد كان بداخلها إحساس قوي بأن عينَي «جاك» السفاح قد رصدتهما … وأنه قد يحاول قتلها في أقرب وقت.
وكما توقَّع «أحمد» فقد تمَّ اكتشاف قتل الكولونيل في الصباح، عندما ذهب «قبطان» الباخرة إلى قُمرته للاطمئنان عليه، وعندما طرق الباب ولم يردَّ الكولونيل من الداخل أحضر القبطان مفتاح القُمرة وفتحها، فاكتشف الجريمة.
وساد الذعر فوق الباخرة بعد اكتشاف جثة الكولونيل … ولم يُسْفر التحقيق الذي أجراه القبطان عن معرفة الفاعل أو سبب ارتكاب الجريمة … وقام القبطان بالتحفُّظ على جثة الكولونيل في إحدى ثلاجات الباخرة، وأخطر الشرطة الأمريكية بالحادث، فجاءه الرد بأن يحتفظ بأشياء الكولونيل في حجرته كما هي لفحصها حين وصول الباخرة إلى الشاطئ الأمريكي.
وتجمَّع الركاب فوق سطح الباخرة ولا حديث لهم غير قتل الكولونيل الذي لم يعرف أحدٌ له سببًا.
وجلست «إلهام» و«أحمد» فوق أحد المقاعد الشمسية وهما يراقبان ردود الفعل لدى رُكاب الباخرة، وكانت علامات الذهول والخوف واضحةً على وجوه الجميع.
همست «إلهام» ﻟ «أحمد»: … من الصعب أن نكتشف حقيقة ذلك المجرم وشخصيته من مجرَّد مراقبة وجوه الركاب …
أحمد: هذا صحيح … ويبدو أن ذلك السفاح لديه مهارات لا حدَّ لها، وأنه نجح في تقمُّص الشخصية التي اختارها لنفسه.
قالت «إلهام» في قلق: وما العمل الآن؟ … كيف سنهتدي إلى شخصية هذا المجرم قبل وصول الباخرة إلى أمريكا؟
أحمد: علينا أن نُعد فخًّا لهذا السفاح نجعله يسعى إلينا فنمسك به.
إلهام: كيف ذلك؟
أحمد: سنُضطر للكشف عن أنفسنا لهذا السفاح، فندفعه إلى مطاردتنا ومحاولة قتلنا.
هتفت «إلهام» محتجَّة: ماذا تقول يا «أحمد»؟
أجابها «أحمد» في هدوء: ليس أمامنا غير ذلك … فكما قلت أنت من الصعب وربما من المستحيل اكتشاف حقيقة ذلك السفاح في شخصيته الجديدة … وإن كان الكولونيل قد اهتدى إلى حقيقة «جاك» بطريقة ما، فلنحاول أن نتظاهر بذلك أيضًا لندفع «جاك» لمحاولة قتلنا كما فعل بالكولونيل … وهنا سنكون مستعدين له تمامًا فنمسك به ونكتشف حقيقته.
إلهام: إنها خطة خطرة.
أحمد: ليس أمامنا غيرها … وعلينا أن نخاطر.
نهضت «إلهام» ببطء وعقلها مشحون بالتفكير … واقتربت من حاجز سور الباخرة، وراحت ترمق الأمواج والزَّبَد الأبيض فوق سطح المحيط والباخرة تشقه منطلقةً بأقصى سرعتها … ولفت انتباهها سمكة قرش كبيرة لا يقل طولها عن المترَين عائمة تحت سطح الماء، وقد ظهر ذيلها المثلَّث المخيف فوق سطح الماء … وتجمَّع الركاب أمام حاجز الباخرة وهم يراقبون السمكة المتوحِّشة الكبيرة التي راحت تطارد الباخرة بنفس سرعتها، كأنها تنتظر منها وجبة طعام.
أمسك أحد الركاب بقطعة لحم نيئ ألقاها إلى الماء، فانقضَّت عليها سمكة القرش تفترسها، وظهر جسدها القوي المخيف وأسنانها التي تشبه أسنان المنشار وهي تمزِّق قطعة اللحم.
وهتف قبطان الباخرة في الراكب الذي ألقى قطعة اللحم: هذا خطأ … سوف تستمر هذه السمكة في متابعتنا وقتًا طويلًا بسبب ذلك … وربما تتبعها بعض الأسماك الأخرى المتوحشة …
قال الراكب ساخرًا: وماذا في ذلك؟ هل يمكن لهذه الأسماك مهما كانت درجة توحُّشها أن تصعد إلى الباخرة فتلتهم أحد الركاب؟ …
التفتت «إلهام» نحو «أحمد» … وشاهدته وهو لا يزال فوق مقعده الشمسي غارقًا في أفكاره … وعندما همَّت بالحركة والاتجاه نحوه، أحسَّت فجأة بيدٍ قوية تدفعها من فوق حاجز الباخرة … ولم تدرِ «إلهام» بنفسها إلا وقد اختلَّ توازنها بسبب الدفعة المفاجئة، فصرخت وهي تسقط في قلب الماء!