بيكاسو
تساءل بيكاسو إثر اطلاعه على كتاب يتناول سيرته: «هل أنا من سكان المريخ؟»، ثم أسدى للمؤلف النصيحة التالية: «يجب أن تضيف فصلًا تقول فيه إن بابلو بيكاسو له ساعدان وساقان ورأس وأنف وقلب، وكل مظاهر الكائن البشري.»
ولنعمل بالنصيحة ونبدأ من هنا: بيكاسو إنسان، إنسان لا أسطورة، وحتى إذا تكشَّف لعصرنا أنه الصورة التي تمثَّلها لنفسه؛ فذلك لأن هذا هو التعريف الصحيح للأسطورة.
وعندما نقول إن بيكاسو إنسان فنحن نعني أنه ليس نبيًّا أو بهلوانًا أو نَيزكًا سقط علينا من الفضاء، أو شيطانًا لَفَظه الجحيم، أو صانع معجزات.
إنه إنسان ومصوِّر، أي رجل يلتهم الدنيا بعينيه … ثم يفرزها بيده. وبين العينين واليد، يوجد رأس وقلب إنسان تجري من خلالهما عملية تمثيل وتحول.
والقضية الأساسية المطروحة تتلخَّص في استنباط قوانين الاستيعاب والتحول، ماذا يحدث داخل ذلك «الجهاز المحوِّل»؟
لقد فحص الدكتور يونج المبجَّل معرضًا لبيكاسو في زيوريخ، وأعلن بكل الثقة المطلوبة في هذا النوع من التشخيصات أنه «تعبير نموذجي عن انفصام الشخصية».
وأول أعراض هذا المرض: «الخطوط المتكسرة … وشروخ نفسية تتخلل الصورة»، وأخطرها: المرحلة الزرقاء عنده التي ترمز إلى «النزول إلى الجحيم». والأدهى من كل ما مضى: «قوة الجاذبية الشيطانية للقبح والشر». أما التقرير النهائي الذي استخلصه الدكتور يونج من تشخيصاته لحالة بيكاسو فهو: «تناقض في الأحاسيس، بل انتفاء تام للحساسية» … هكذا!
وهناك عالِم آخر من فرع التخصص نفسه، ومن الموطن نفسه، نال شهرته في سالف الأزمان عندما فسَّر تحول لامارتين إلى شاعر كبير وخطيب عظيم، بفطامه الذي جاء مبكرًا.
وسنترك لهؤلاء الأخصائيين تقديراتهم الخاصة؛ وذلك لسبب أساسي، وهو أن هذا النوع من التفسيرات لا يفسر أي شيء، حتى ولو استند إلى مقدمات صحيحة. فلنفرض جدلًا أن بيكاسو مصاب بانفصام الشخصية، فلن يعني ذلك أن أي مريض بهذه الحالة سيكون في مصافِّ بيكاسو، كما لن يتحول أي رضيع عُجِّل بفطامه إلى شاعر أو خطيب في مستوى لامارتين؛ فالفن ليس مجرد محصلة لمجموعة من العناصر.
وبالطبع يساهم كل من البيئة والعصر بدور أساسي في مولد عمل فني ما، ولكنهما لا يدخلان ضمن عناصر هذه المحصلة؛ فكل عصر وكل وسط يطرح قضايا على الإنسان، وبوسعه أن يقدِّم إجابات عليها إذا كان خلَّاقًا.
ويجري الحكم نفسه على «الحكايات» المنسوجة حول الشخصية الفنية، شأنها في ذلك شأن التحليل النفسي وغيره من أساليب التفسير الميكانيكي. فالصحافة الساعية إلى الخبر المثير، وكتب السير، بل والنقاد أحيانًا؛ يهوَون جميعًا بشغف رواية النوادر والتعرض لغراميات الفنان. وهنا أيضًا لا يهمني ما حدث لبيكاسو بقدر ما يعنيني ما فعله بيكاسو بما حدث له. ولو أن الأحداث هي التي كوَّنته لما كان إنسانًا مثل الآخرين، بل لأضحى أقلَّهم شأنًا. فحياته الجنسية أو آراؤه السياسية لم تصنع منه مصورًا؛ فسيول الجنس البشري وتيارات عصره تجري في عروقه، ولكنها لا تكتسب معناها الكوني أو التاريخي إلا لأنه تمكَّن من أن يضفي عليها أرقى أشكال الوجود الإنساني المتمثلة في كل عمل فني عظيم.
الفن ليس إلا أسلوب حياة، وأسلوب حياة الإنسان عبارة عن عمليتَي انعكاس وخلق لا ينفصمان بعضهما عن بعض؛ لأن الإنسان ليس منعزلًا، وعندما تواتيه فرصة التفتح والانطلاق فإنه يتحول إلى عالم صغير يحمل في طياته ثقافة الجنس البشري السابقة عليه، أما حاضره فيتمثل في «تواجد» عصره في كيانه؛ إنه يعيش حياة جامعة تجعل من حدوث انهيار في سوق الأوراق المالية في نيويورك، أو انعقاد مؤتمر في موسكو، أو قيام إضراب في إسبانيا؛ مسائل شخصية تمسُّه … إنها لحياة جامعة «تأكل في كفها كل دروب الدنيا» على حد قول سان جون بيرس. وهو يشارك في الحركة الشاملة للكون ولتاريخه، والمشاركة تعني في آن واحد أن يكون مرآة للكون، وأن يساهم في حركته.
واغفروا لي هذه الانعطافة الفلسفية الطويلة لشرح فكرتين تافهتين؛ بيكاسو إنسان، وهذا الإنسان مصوِّر. ويمكننا أن نترجم الفكرتين الآن إلى ما يأتي؛ أنه يحمل العالم في جنباته، وأعماله تحوِّل العالم المفروض علينا إلى عالم يقيمه هو.
لقد سيطر تصوير بيكاسو على القرن العشرين الذي انقضى منه حتى الآن ثلثا سنواته. كما سجل القرن العشرون خط سيره بهذا التصوير الذي يقوم بدور جهاز قياس الهزات الأرضية. على أن التسجيل هنا ليس مجرد عملية آلية تقدم تسجيلات سلبية، بل ترجمة للهزات إلى رسوم هندسية تعبر بصورها عن قانون معين.
وأعتقد أن بيكاسو تعلم كيف يقرأ قانون هذا العصر بلغته التشكيلية.
وقد تفاوتت أعماله بين الأزرق والوردي، وبين التكعيبية والكلاسيكية، وبين لوحة «جرنيكا» والنقوش الزخرفية في لوحة «نشوة الحياة»، وبين العالم المفروض علينا والعالم الذي يبنيه، وبين الجذب والطرد، وهي تبدو في مجموعها سيرة ذاتية للقرن العشرين؛ فهي في آن واحد شاهد على هذا العصر وتحدٍّ له، أي اتهام وتأكيد لحقيقة.
لم يقدم لنا بيكاسو صورة منقولة أو مثالية لهذا العصر، كما لم يشوهه أيضًا. لقد استوعب قوانينه العميقة لا أحداثه الطارئة، وأثبت أنه من الممكن خلق عالم آخر بقوانين أخرى. لقد استنبتَ فروعًا جديدة على شجرة الواقع، وبث الحياة في كائنات ومسوخ تنتمي إلى جنس مجهول، وإن احتفظت كلها بالوحدة العضوية للكائنات الحية، وتميزت بقدرتها الهائلة على إثارة الأسئلة والتحديات. فتصوير الممكن والخياليات ليس سوى امتداد لتصوير الواقع ولما هو معتاد في حياتنا اليومية. وهذا التصوير لا يترك الإنسان على حاله، بل يضيف إليه جديدًا.
لم يكتفِ بيكاسو بتغيير التصوير فحسب (إذ إنه لم يعد من الممكن أن يصور الرسامون كما كانوا يفعلون قبل ظهور لوحة «آنسات آفينيون» في عام ١٩٠٧م)، بل ساهم أيضًا في تغيير أسلوبنا في الرؤية، وحركة عيوننا وايماءات أيدينا. لقد أصبحت لنا مطالب أخرى بالنسبة لشكل مقعد أو حذاء أو منزل؛ فهناك خطوط منحنية وتماثلات وتناسقات لم نعد نستسيغها. نحن نريد أن تتجاوب الأشياء مع إيقاع عصرنا، وعلى ذلك العصر طبع بيكاسو بصمته.
كيف طرأ هذا التغيير علينا؟ وما هو نصيب بيكاسو في إحداثه؟
أعاد بيكاسو طرح قضية الجمال من جديد، وناقش الاصطلاحات التقليدية والنُّظم المتعارف عليها.
لم يُثر هذه المسائل دفعة واحدة، ولكننا لا نستطيع أن نتكلم مع ذلك عن «تطور» بيكاسو، بل عن الحركة الجدلية لتمرده على الصيغ المعتمدة.
لقد سمعته يقول ذات يوم في عام ١٩٤٥م تقريبًا: «الضد يسبق الإيجاب.»
ذلك هو القانون الجدلي لمسلكه. وسنحاول أن نستخلص هذا القانون بأن نوجه لأنفسنا السؤال التالي عند تعرضنا لكل مرحلة من مراحل نشاطه الفني: «ضد أي شيء يصور بيكاسو؟»
لقد تعاقبت تمرداته بعضها إثر بعض، حتى إنه راح يهاجم أعمق مظاهر الحياة والتصوير ليطرح قوانينها الأساسية للمناقشة. وبوسع بيكاسو أن يقول مثل دون كيشوت: «راحتي معركة»، ومثل مفيسبتوفبليس، شيطان فاوست عند جوته: «أنا الروح التي تُنفى أبدًا.»
ولنتناول الآن مراحل جدلية التمرد المتعاقبة في ترتيبها الزمني.
في بداية الأمر لم نكن بصدد بيكاسو، بل بصدد طفل نابغة يمكننا أن نطبق عليه الكلمات الشهيرة التي كتبها شاتوبريان عن باسكال: كان هناك رجل، استطاع وهو في الثامنة من عمره أن يستوعب حرفيات الرسم الأكاديمي، وتمكن من التصوير بالزيت وهو في العاشرة. وقد عالج في يوم واحد، وهو في الرابعة عشرة من عمره، موضوع امتحان القبول بمدرسة الفنون الجميلة ببرشلونة، في حين أن زملاءه مُنحوا شهرًا لإنجاز العمل نفسه. غير أن قصته العجيبة لا تنتهي حيث انتهت قصة شاتوبريان عندما قال: إن بليز باسكال اكتشف بعبقريته المخيفة أن العلوم الإنسانية التي استوعبها لم تكن إلا عدمًا، فاتَّجه بأفكاره نحو الله.
سنقول ببساطة: إن بيكاسو عبقرية غير مخيفة، استوعبت في السادسة والعشرين كل تجارب التصوير السابقة عليها. على أن بيكاسو لم يستنتج من ذلك أن كل هذه التجارب كانت عدمًا، بل أكد على العكس «أن نوعية المصور تتوقف على كمية الماضي التي يحملها في جنباته»، على حد قول صديقه جوان جري. وقد اتجه بيكاسو بأعماله نحو المستقبل، واستهل في عام ١٩٠٧م مرحلة جديدة في عالم التصوير.
•••
وحتى لا نسيء فهم أعمال بيكاسو اللاحقة لهذا التاريخ، يجب أن نؤكد أولًا تمكنه الكامل من جميع حرفيات الرسم والتصوير التي خضعت بشكل مطلق ليده، ومن كل مقتضيات المهارة الفنية التي مكَّنته من الانتقال في مراحل حياته المتعاقبة، من التعبيرات الكلاسيكية البحتة، مثل الصورة الشخصية لماكس جاكوب في عام ١٩١٥م، إلى جساراته العميقة، كما نلاحظها في الصورة الشخصية لفولار في عام ١٩٠٩م. وانتقل بالمثل من خطوط قلمه الشادية النقية في عام ١٩٤٤م إلى البحث الجاد لتعرية الأشياء من تفاصيلها … فهو يرسم الثور مثلًا من خلال نموذجه الحي، فيستخلص خطوط القوة وعروق البناء ليتخلص في نهاية الأمر من العلة الأصلية ويستبعدها من لوحته تمامًا كما تُستبعد السقالات من المبنى المكتمل التشييد، لتبقى الخطوط الأساسية وحدها أو الرمز أو العلامة التي تشير إلى الحيوان. وهكذا أجرى بيكاسو انقلابًا في التقاليد الممتدة عبر آلاف السنين، والتي تقضي بالذات بمحو خطوط البناء في التصوير عند الانتهاء من العمل. كانت محاكاة النموذج هي الغاية المطلوبة، أما بيكاسو فقد حوَّلها إلى نقطة البدء. وكان البحث عن خطوط القوة والبناء وسيلة، فغدا عند بيكاسو الهدف المنشود. وهكذا اكتشف من جديد الخطوط المتقشفة لفنان العصر الحجري الحديث الذي رسم الحيوان الزخرفي على جدران الكهوف. وقد توصل إلى هذه النتيجة بتحويل الوسيلة إلى هدف، وبالتخلي تباعًا عن التفاصيل.
أما حل المشكلات التشكيلية فلا يثير أية عقبة في طريقه؛ فكل إعادة تصوير للواقع عنده هي نتاج اختيار حر.
كيف أثار بيكاسو هذه القضايا مع أن والده، مدرس الرسم، لقَّنه خير ما عنده عن طريق زملائه من الأكاديميين، أي علَّمه احترام المهنة والاستيعاب الكامل للحرفيات؟
عاش بيكاسو لحظة تحوُّل في التاريخ، تفصل بين عالمين عندما دخل طور الرجولة في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وهو في مدينة برشلونة؛ كانت البرجوازية الإسبانية تكافح ضد الإقطاعيين والكنيسة، أما البروليتاريا التي لم تكن قد اكتسبت بعدُ القوة اللازمة للقيام بثورة حقيقية، فكانت تتردَّى في الفوضوية. واتجه المثقفون والفنانون نحو التعليم الأجنبي ليكتشفوا، بقدر ما يمكن ومن خلال أنفسهم، الأبعادَ التي يتيحها لهم الواقع التاريخي في بلادهم.
وتمثلت العناصر الأساسية للحالة الفكرية عند الفنانين الشبان في برشلونة في الإسراف بلا حدود في تمجيد الأنا، وفي التصوف المسيحي، والفوضوية، فكانوا يبدون نفس الإعجاب في ملتقاهم بمقهى «الصحاري الأربع» بكلٍّ من نيتشه وتولستوي وموريس باريس وروسكين وإبسن. وكان التمرد على الأوضاع هو السمة المشتركة التي تجمع بينهم، ورفع المصور روسينول شعار «لنحطم القوالب».
وأحس بيكاسو بالنفور والامتعاض من كل ما يموت ببطء في نهاية القرن التاسع عشر.
كان أول تمرد له، من وجهة النظر التشكيلية، موجهًا ضد الأكاديمية. وجاء رد فعله مزدوجًا في هذه المرحلة الأولى من جدلية تمرده؛ فهو في آن واحد تمرد من أجل الاستحداث ومن أجل البدائية. وتشهد على ذلك أعماله في عام ١٩٠٦م؛ فهناك أولا العودة إلى الماضي وللبراءة المفتقدة التي كان يتغنى بها ميجل دي أونامونو:
-
قانون الحد الأقصى من الارتباط المعبر عن العلاقة بين الكائن البشري والحيز الذي يتحرك فيه، وترابط الأشكال الملتصقة معًا في كتلة متماسكة كما لو كانت تخضع لقانون جاذبية خاص بها، فينفصل بذلك الشكل الإنساني عن العالم الخارجي.
-
قانون الحركة المتصلة المتمثلة في تلك الخطوط المتداخلة، مثل خطوط الأمواج، دون أن يتوقف أحدها في فراغ، فالكل يتداخل هنا معًا؛ خطوط القوى تستمر في تيار متصل وتفرض على أنظارنا دورة لا نهائية، على غرار ما نشاهد في التصوير الروماني المسيحي، وفي نسخ الصور اليابانية المطبوعة.
واتجه بيكاسو، المعادي لمدرسة العودة إلى «ما قبل روفائيل» وللأكاديمية الرسمية، اتجه نحو موضوعات وحرفيات التصوير الفرنسي الحي. وقد عالج في «اسكتشاته» الأولى الموضوعات الشائعة عند تولوز لوتريك وستيلن المنبوذين والحطام والمومسات والحانات.
على أن بيكاسو يستوعب بطريقته الخاصة، الأسلوب المستلهم من مصور آخر؛ فعندما يعالج موضوعًا مميزًا لتولوز لوتريك في لوحة «القزمة»، فإنه لا يلجأ إلى المساحات الكبيرة، كما هو الحال عند لوتريك، بل يعمد إلى اللمسات المتجاورة ذات الألوان الحادة التي تذكِّرنا بفان جوخ.
وفي مواجهة عالمنا، تطرَّق بيكاسو أيضًا إلى دنيا البؤس والشقاء، شأنه في ذلك شأن ستيلن. ومرحلته الزرقاء الممتدة من عام ١٩٠١–١٩٠٥م، موجهة ضد عالم المتعة المزيفة. وهذه المرحلة بمثابة قصيدة ملحمية للوحدة والعزلة يتخذ التعبير عنها أشكالًا منطوية على نفسها أمام خلفية باهتة. ونجد في أعمال هذه المرحلة عنصرًا مشتركًا مميزًا لها؛ الأيدي الطويلة الهزيلة الباحثة عن لمسة إنسانية في حركة حانية أو متوسلة، والأيدي المتلهفة؛ أيدي الأمومة ومداعبات الحب الجارف، وأيدي الأعمى المتحسسة بحثًا عن الخبز أو عن دفء الوجود الإنساني، وأيدٍ تعاني العزلة وتسعى، مثل الشمندورة، إلى الاتصال بأي شيء ولو بحيوان بائس، وأيدٍ منطوية على نفسها في يأس لتحتضن بلهفة فراغ وحدتها.
وغدت لغة الخطوط والألوان أمرًا ملحًّا عند بيكاسو؛ فالمغزى يدخل في نطاق الشكل دون إشارة مباشرة إلى العالم الخارجي.
ومن الأمثلة الأخاذة لهذا الإصرار في أعمال تلك الفترة دراساتُه العديدة لموضوع العناق من عام ١٩٠١م إلى عام ١٩٠٣م.
وسواء استخدم بيكاسو القلم أو الباستيل أو الألوان الزيتية، فإنه يعمل بالكتل الكبيرة دون أن يحفل بالتفاصيل، مكتفيًا بآخر العريضة؛ فالسواعد هنا لا تمتُّ بصلة إلى السواعد التي يُخضِعها الجراح لمِبضَعه — شأنها في ذلك شأن سواعد «الجارية الكبيرة» لأنجر — ولكنها خطوط قوًى تربط في كتلة واحدة جسمين لا يتفردان بقدر الإمكان بعضهما عن بعض.
وتلك إحدى مراحل الكفاح ضد المحاكاة الساذجة للطبيعة باستخدام الخط، وضد التلوين بالاعتماد على تدرجات اللون الأزرق وحده.
ويجدر بنا أن نؤكد هنا بدء ظهور بعض بوادر التكعيبية في تصوير بيكاسو قبل أن يتأثر بسيزان؛ فهو يختصر التجسيم إلى أقصى حد ويجعل الحيز بلا عمق أو منظور مدروس، ويشتت الضوء. ولا تقوم الألوان عنده منذ هذا الوقت المبكر إلا بدور التابع، كما ترتفع أمام الخلفيات الباهتة أشكال ضخمة منطوية على نفسها.
لقد ساعدت خطوط إلجريكو وألوانه وأضواؤه المغبرة وتشويهاته المعبرة، ساعدت بيكاسو على بعثه المتحرر ضد الواقع ذي الألوان الزاهية. غير أن ما يعبر عن معنًى صوفي عند إلجريكو، أي عن التجرد من مظاهر الحياة على الأرض، والاتجاه نحو السمو الإلهي؛ يكتسب عند بيكاسو معنًى بشريًّا يشق الطريق إلى واقع إنساني أعمق.
وهذا الواقع العميق ليس الحزن.
لقد انتهي بيكاسو من استكشاف واستنفاد كل إمكانيات هذه المرحلة من مراحل الإبداع عنده، وأهلَّت بوادر ضياء الفجر، فبدأ يفصح باللون والخط، منذ عام ١٩١٥م عن الرغبة الجديدة في الحياة. وظهرت ألوان السحر الشاحبة، وتفتحت الخطوط بعد انغلاقها لكي تستهلَّ أنشودة جديدة تتغنى بالتعطش إلى الحياة. وقد سجل أندريه سالمون في قصيدة مهداة إلى بيكاسو وجيوم أبولينير، هذه الانتقالة من المرحلة الزرقاء إلى المرحلة الوردية، من الإعدام حرقًا إلى البعث، فقال:
وكانت الانتقالة بين المرحلتين هادئة، فظلت الأجسام مستطيلة كما هي عند إلجريكو، وبقيت الأصابع هيكلية، والمناكب والمرافق مدببة. وبدأ اللون الأحمر يتأكد في الأشخاص ثم في الخلفيات. وانتصرت الألوان الدافئة على الألوان الباردة، إنه عَود إلى الضياء. واجتاحت الألوان مرة أخرى لوحات بيكاسو، وتفتحت الأشكال بعد انطوائها على نفسها، وانطلقت الخطوط لتصبح تحركات وخطوط سير وطيران تتبعها العين. وقامت علاقات جديدة بين الجسم والحيز، فلم يعد الجسم مجرد كتلة صماء منعزلة في فراغ معادٍ لها يبدو كخلفية معدنية، وكأن الأعضاء تندفع بعيدًا عن الجسم لتدرك العالم وتمسك به.
لم تتحقق السعادة والنشوة بعد، ولكن الحياة راحت تدب من جديد. وقد أوحى مضحكو بيكاسو للشاعر رينر ماريا ريلك بقصيدة جميلة تعبر عن ذلك الترقب وتلك الدعوة.
عندما وصل بيكاسو إلى باريس وهو في العشرين من عمره، كانت التأثيرية تسود جنبًا إلى جنب مع الأكاديمية الرسمية التي لا تعني تاريخ التصوير في كثير.
ولكن من الخطأ أن نتصور أن بيكاسو خاض معركته ضد التأثيرية. كانت لوحة «آنسات آفينيون» خير معبر عن مرحلته الجديدة التي استهلَّها في عام ١٩٠٧م. والواقع أنها (أي المرحلة) لم تكن رد فعل ضد التأثيرية وحدها، بل إعادة نظر في ستة قرون من التصوير.
وحتى ندرك الهدف المنشود والمغزى الحقيقي للطريق الذي فتحه بيكاسو أمام التصوير الحديث؛ علينا أن نتساءل مرة أخرى: ضد من شنَّ بيكاسو هجومه هذا؟
فمنذ القرن الرابع عشر، أي منذ عهد جيوتو، والتصوير يتجه بوعي نحو البحث عن الحقيقة، ونقصد بالحقيقة هنا ما كانت تقصده بها البرجوازية وهي في أوج ازدهارها، أي المفهوم الآلي والحسابي للحقيقة كما تحدده العلوم الطبيعية والمشاريع المُدرَّة للربح.
لقد سيطرت البرجوازية الصاعدة على الحياة في البلدان التي انتصرت فيها، وبالأخص في إيطاليا منذ أيام جيوتو، وفي هولندا ابتداء من فان آيك، ثم في بلدان أوروبا الغربية حيث اتسع نطاق هذا التأثير. وتميزت السيطرة في مجال التصوير بالتقصي الدقيق الرشيد والمنظم لكل مظاهر العالم الخارجية. وكان السعي إلى تحقيق التجسيم والحركة والمنظور والضوء وتدرجات الانتقال من الظلام إلى النور، عبارة عن مراحل استكشاف للعالم الدنيوي. كان الفن البيزنطي والفن الروماني المسيحي يعتبران عالمنا مجرد انعكاس زائل وتافه للعالم الآخر، ويريان في التصوير الدنيوي مجرد وسيلة للتذكير بعالم آخر، عالم الله، عالم مأساة المسيح، الإله المصلوب، وعالم الروحانيات الخالدة.
غير أن فن النهضة أصبح في نهاية الأمر النموذج الأوحد للتصوير، ولم يعد هدفه التعبير عن روح الكائنات بتصوير ما لا غنى عنه من أجسامها، أو النظر إلى الطبيعة بوصفها رمزًا للروح أو للرسالة الإلهية، بل أصبح المطلوب تصوير الأجسام من أجل الأجسام، واستكشاف الطبيعة من أجل الطبيعة، وتجسيمها والبحث عن تناسقاتها ونقل مظاهرها حتى يتحقق خداع البصر في أدق مظاهره.
وهكذا راح الضوء يحتل مركزًا متزايد الأهمية في مجال استكشاف العالم الخارجي. وبلغت هذه العملية قمتها عند التأثيريين، فانصرف مونيه تمامًا إلى البحث عن الضوء في أشد مظاهر تسرُّبه، فتتبَّعه في تعاقب ساعات النهار على زهور الحوزان البيضاء، وفي ضباب لندن، أو على أحجار جدران الكاتدرائيات. وتحول هذا الحرص الشديد على الواقعية إلى نقيضه، بحكم قوانين الجدلية. فقال كوربيه: «أنا لا أصور إلا ما أرى.» واختل التوازن نهائيًّا بين معطيات الحياة وقواعد الفكر على يد التأثيريين، ولكن قصْر الاهتمام على تصوير ما نراه من الأشياء فقط لا على ما نعرفه عنها أدى إلى الابتعاد عن الأشياء نفسها، والتضحية بأشكالها وكتلها لصالح ذبذبات الضوء المتكسرة على الحوافِّ والمذيبة للكتل، بل أدى إلى التخلي عن اللون الصريح لصالح تموجاته وانعكاسات الشمس المختلفة في كل فصل وفي كل ساعة من ساعات النهار. وهكذا دأب التصوير على مطاردة الواقع بكل حماس طوال ستة قرون من الزمن … على أنه، عندما بلغ قمة الصنعة للإمساك بهذا الواقع، لم يجد بين يديه إلا هباء وعالمًا بلا هيكل.
كانت البرجوازية الصاعدة — التي صاغ ديكارت طموحها في الكلمات التالية: «السيطرة على الطبيعة وامتلاكها» — قد ارتضت التهادن الملتبس بين ماديتها وبين وضعية أوجوست كونت إلى أن استسلمت شيئًا فشيئًا لأشكال المثالية الذاتية الجديدة؛ لأن خبرتها جعلتها تتشكك في هذا العالم الذي بدأ زمامه يفلت من قبضتها. وفي فرنسا أدرك تصوير العهد البرجوازي مرحلة انتصاره مع سيطرة الإنسان على العالم على يد عمالقته ابتداءً من بوسان حتى شاردان. غير أن فتور ثقة البرجوازية في تفوق النظام الذي خلقته، دفعها إلى التنكر في الرداء الروماني مع دافيد. وفتح أنجر باب التشويه بروعة؛ لأنه أحس بالانفصام بين العالم الواقعي وبين الجمال. وفي نهاية المطاف ظهرت التأثيرية كآخر طلقة وضاءة لفن في سبيله إلى الاحتضار. وقد شبه موريس رينال هذه المرحلة من فن التصوير «بجهود عامل مناجم في عروق نضبت». ومن وجهة النظر التاريخية، يرجع للتأثيريين الفضل في إثبات عدم وجود رؤية واحدة جاهزة للعالم الخارجي، وأن التفصيص النفعي للطبيعة حسب خطوط التقطيع المناسبة لحاجتنا العملية، واستخدام المنظور، واللجوء إلى المسالك التي يفرضها التكنيك والعلم الحديث؛ لا تشكِّل جميعًا وبالضرورة الإطار النهائي للفنون التشكيلية.
على أن هذا الكشف الصحي كان يحمل في طياته النقيض له، وهو التخلي عن البناء المستقر والرشيد للعالم. وقد قاوم التأثيريون الجدد، ومنهم سوراه، وعلى رأسهم سيزان، جهود تفتيت الطبيعة والإنسان. وحاول سيزان بالذات أن يعيد إلى التصوير الوجود الكامل للإنسان. لم يعد من الممكن أن يكتفي المصور بأن يكون مجرد عين حساسة للغاية وساهرة على الواقع. كان سيزان يسعى لأن يكون إنسانًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي مبدعًا وخلاقًا، يقدم عمله وفقًا لقوانين يضعها الإنسان، أي قوانين قوامها الرؤية والعقل، والإرادة والشعر.
ومن هنا، ومن هنا فقط، نستطيع أن نقدِّر المدى الحقيقي لما أقدمَ عليه بيكاسو في حوالي عام ١٩٠٧م إذ طور محاولات سيزان بجرأة شديدة.
كانوا يعيبون عادة على التأثيرية، في بداية القرن العشرين، افتقادها الإحساس ببناء الصورة، وتقديم تصوير «مجرد من عموده الفقري» كما كانوا يقولون في المراسم. كما أخذوا عليها أيضًا الاكتفاء بالجانب العرَضي والمؤقت للأشياء.
على أن القضية المطروحة لم تكن قضية التأثيرية بالذات بقدر ما كانت تنصبُّ على إعادة النظر في مبادئ التصوير التقليدي الممتدة إلى أيام جيوتو؛ فقد مالت هذه المبادئ منذ أكثر من ستة قرون إلى اعتبار أن الجانب الأساسي في التصوير هو نقل الظواهر المحسوسة اعتمادًا على منجزات العلم التي سمحت بالتعرف لا على المنظور الهندسي فحسب، بل وعلى التركيب الفسيولوجي للألوان أيضًا.
ومع تطور التصوير الفوتوغرافي، أصبح الوعي بمعنى التصوير ودوره مسألة ملحَّة؛ ففي أيام كوربيه كان التصوير الفوتوغرافي يحتاج إلى وقفات طويلة تجعله متخلفًا عن واقعية الفنان القادر على الْتقاط اللمحة السريعة. وكان المصور يستطيع أن يحافظ على مبرر وجوده في عهد التأثيرية؛ لأن الألوان كانت لا تزال مملكته الخاصة التي يواجه بها فن التصوير الفوتوغرافي المحصور آنذاك في حدود الأبيض والأسود.
ولكن ها هي الفوتوغرافيا تتقدم لتسلك خط السير الممتد عبر ستة قرون من التصوير، وتصل إلى نهاية مطافه؛ لقد وصلت إلى آخر المدى في تحقيق حرفيات الإيهام، وألغت الوظيفة النفعية للتصوير.
وهنا أحس بيكاسو بالحاجة إلى إخراج التصوير من طريق الخداع المسدود، بعد أن تمرَّس على الحرفيات التي استخدمها الأساتذة السالفون والمعاصرون له، وبعد أن أثبت قدرته على مجاراة أستاذيه أنجر وكورو. لم تعد المادة هي النموذج، ولم تعد المحاكاة هي الغرض، ولا الموضوع هو المبرر.
ومن الخطأ أن نقول، كما أعلن أحيانًا بعض المتحمسين الذين فقدوا رباطة الجأش في تقديرهم للتاريخ، إن لوحة «آنسات آفينيون» بداية «انقلاب في مصير التصوير»، وإن التصوير تحول على يد التكعيبية من خادم للمادة إلى سيد لها.
فهذا التبسيط الفجُّ لا يعني فقط إلقاء ستار من الغموض على كل التصوير السالف العظيم، بل يعني في الوقت نفسه التقليل من شأن ومن أبعاد الثورة التصويرية التي أطلقها بيكاسو؛ لأن هذه الثورة، مثلها في ذلك مثل أي ثورة أصيلة في أي مجال آخر تتميز بادئ ذي بدء بقدرتها على استيعاب وصيانة وتطوير أفضل المنجزات الخلاقة السابقة عليها، والتي أبدعتها البشرية، وبقدرة الثورة أيضًا على تجاوز هذه المنجزات.
إن التكعيبية — وهي في الحقيقة تسمية غير مناسبة — لا تقطع الصلة بالتقاليد.
كانت هناك جوانب خاصة تميز اللوحة عن النقل، وكان الأساتذة الكبار يخفون هذه الفضائل بوصفها وسائل حرفية تبتغي في نهاية الأمر المحاكاة، وجاء بيكاسو والمصورون التكعيبيون لينقلوا هذه الجوانب الخاصة إلى الصف الأول بوصفها عاملًا يحدد طبيعة التصوير وهدفه.
فما يسميه بوسان الجانب «العقلي» في لغة الكلاسيكيين، وما يسميه ديلاكروا الجانب «الموسيقي» في لغة الرومانتيكيين، هو تلك الضرورة التي لا تنفصل عن أي تصوير، والتي تتمثل في عدم إخضاع اللوحة لقوانين الطبيعة وحدها، بل ولقوانين التشكيل أيضًا. فحتى بداية القرن العشرين الذي شهد انتصار الفردية الفنية، كان أساتذة التصوير قد حققوا المهادنة بين نوعين من القوانين ولو اقتضاهم الأمر النَّيل من قوانين الطبيعة لصالح قوانين التشكيل، على غرار ما فعل أنجر.
أما الجديد الذي ظهر في عام ١٩٠٧م على استحياء مع المدرسة الحوشية، وبجسارة وبحرية مع بيكاسو والتكعيبيين، فهو الإقلاع عن التستر على التعارض بين الجانبين، بل والمطالبة بأولوية الخلق على المحاكاة، والعزم على ألا يكون التصوير سوى تصوير، فاللوحة تنبض بحياتها الخاصة التي تقتبسها من النموذج.
ويعي بيكاسو ذلك تمامًا؛ فقد قال في عام ١٩٢٣م لماريوس دي زاياس: «إنهم يخلقون التعارض بين الطبيعية وبين التصوير الحديث، وأودُّ أن يقول لي أحد إنه رأى في يوم من الأيام عملًا فنيًّا طبيعيًّا؛ فالطبيعة والفن شيئان مختلفان ولا يمكن أن يكونا الشيء نفسه. ونحن نعبر، بواسطة الفن، عن مفهومنا لما نفتقده في الطبيعة.»
فمنذ ظهور التكعيبية، لم تعد مهمة الفنان نقل العالم القائم، أي عالم الطبيعة، بل خلق عالم جديد، عالم إنساني حقًّا.
وكان ديجا يتنهد قائلًا وهو يتتبع المهمة التي يضطلع بها بيكاسو: «هؤلاء الشبان يريدون الإقدام على شيء أصعب من التصوير.»
لقد أصبح الأمر يقتضي أن يحل محل أمانة الرؤية بناء جديد للعالم يخلقه المصور بمغزاه الحقيقي وبذكرياته وخياله ومداركه.
وهذا ما لخصه بيكاسو في كلمات قاسية تستلفت الأنظار حقًّا: «يجب أن تُفقأ عيون المصورين تمامًا كما تُفقأ عيون البلابل لكي يكون غناؤها أجمل.»
وكان من الضروري أن يصحب هذا التحولَ في وظيفة التصوير تغييرٌ عميق في الوسائل وفي الحرفية.
كانت وسائل عديدة للتعبير التشكيلي التقليدي قد فقدت مبرر وجودها.
فهناك أولًا المنظور الكلاسيكي. ومن الخطأ أن نقول مثل أورتيجا إي جاسيه: إن التصوير منذ عهد سيزان لم يعد يصوِّر سوى الأفكار؛ ذلك لأن التصوير لا يكون كذلك إذا ضحى بالمحسوسات من أجل المدرَكات. أما الحقيقة، فهي أن بيكاسو لا يفرق في رسم اللوحة بين ما يعرفه وما يراه.
وهذا المفهوم يستدعي بالضرورة إلغاء تعريف المنظور الذي حدده كلٌّ من ألبرتي وبرونللشي، في عصر النهضة. لقد عرَّف ألبرتي اللوحة بأنها مقطع في هرم يتكون من أشعة تمتد من العالم إلى العين. غير أن هذا المفهوم لا يتفق مع الرؤية الطبيعية، فهو يفترض أننا لا نلاحظ إلا بعين واحدة، وأن هذه العين ثابتة في مكانها، وهكذا فرضوا علينا وضع الشخص الذي يكتفي بالفرجة على العالم من ثقب باب. أما برونللشي، الرائد الكبير لفكرة المنظور، فقد صمم جهازًا يجسد عمليًّا قوانين المنظور. وهذا الجهاز عبارة عن لوحة تمثل مقر التعميد في كاتدرائية فلورنسا، منظورًا إليه من الباب المركزي للكاتدرائية ولقصر الولاية. وفي مواجهة اللوحة توجد مرآة، كما أن هناك ثقبًا تلتصق به العين. والواقع أن منظور عصر النهضة قد يكون طبيعيًّا بالنسبة لكائن خرافي له عين واحدة، أو لإنسان أعور، على أن يظل الأعور ثابتًا لا يتحرك، والكائن الخرافي متحجرًا في مكانه. وكان بوسان يضع هو أيضًا نماذج للوحاته في صندوق ليتفرج عليها من خلال ثقب واحد في الصندوق. وقد تخلَّت التكعيبية عن هذه التقاليد وتلك الحيل، فهي تُظهِر الأشياء على اختلاف أوضاعها المتتالية، في آن واحد، كما لو كانت معروضة أمام إنسان حي ومتحرك، أمام إنسان يحلم ويتذكر. فأنا لا أسأل نفسي على طريقة المهندسين هل يمكن رؤية كاتدرائية نوتردام من هذا الكوبري أو ذاك؛ لأنها ماثلة في مخيلتي ضمن هذا المنظر أو ذاك من مناظر باريس، حتى ولو كان مكانها لا يتفق مع موقعها المحدد في خرائط مصلحة المساحة. ووجه الزوجة والصديق، أتذكره، في آن واحد، في وضعه الجانبي والمواجِه وفي وضع ثلاثة الأرباع، أو أتذكره في نظرة إجمالية تعبر لي عن الوجود الكامل للزوجة أو الصديق، حتى ولو استحالت ترجمة هذا التركيب إلى أرقام تسجَّل على بطاقة لقياس أبعاد الرأس البشرية عند المتخصصين في دراسة السلالات البشرية. ولا شك أن مثل هذه الرؤية تتطلب منا تغييرات مختلفة في المنظور وفي زوايا التصوير، أي تستدعي رقصة حقيقية حول الشيء. على أن السينما عوَّدتنا على مثل هذه التقطيعات. والتصوير عند بيكاسو هو بالذات التصوير في عهد السينما، فكأن الفنان قد الْتقط مختلف وجهات النظر المتتالية لوجه يدور حوله، ثم طبَّقها بعضها فوق بعض ببسط الحيز أو بتفتيته. لقد فقدَ الزمن مع ظهور السينما سمتين تقليديتين أساسيتين، وهما التواصل واستحالة العودة إلى الوراء. وبوسعنا أن نقول أيضًا إن السينما جعلت الزمن «أرحب» بإظهار أحداث تجري في آن واحد، وفي أكثر من مكان. لم يعد الزمن في السينما مجرد خط متواصل يسير في اتجاه واحد، لأن الإنسان يستطيع أن يتحرك فيه في جميع الاتجاهات، وقد تصرف بيكاسو في «المكان» كما تفهمه النهضة، تمامًا كما تصرفت السينما في الزمن الكلاسيكي.
فعندما تستعيد ذاكرتنا شيئًا، لا بد وأن نتمثله في جميع مظاهره المعبرة. وليس هناك ما يَحُول دون أن يعرض علينا الفنان داخليات الأشياء؛ فقوانين البصريات لا تسمح بذلك، ولكن الذاكرة والأحلام تفرض علينا الداخليات غير المنظورة؛ فالطفل الذي يرسم منزلًا لا ينسى أبدًا الشخص المقيم بداخله. وهكذا تصرف بيكاسو وجوان جري وبراك في كثير من لوحات الطبيعة الصامتة. فالقيثارة أو الكوب أو الزجاجة تُعرَض علينا في مستوًى أفقي أو رأسي أو في مقطع، بل قد تُحطَّم لكي نرى ما بداخلها.
وهناك وسيلة أخرى، وهي الشفافية التي تسمح على سبيل المثال بإظهار شخص على السرير من وراء الكتاب الذي يقرؤه، وذلك عن طريق تطابق عدة صور بعضها فوق بعض.
ومن جهة أخرى، لا ضرورة لتسجيل كل مظاهر الشيء، فالمطلوب هو التدليل عليه لا محاكاته. ومن المفهوم بالطبع أننا لسنا هنا بصدد تدليل تجريدي أو تصوري قد نعبر عنه بكلمة أو برمز مرسوم، ولكننا بصدد تدليل إنساني شامل له جانباه التشكيلي والنفسي في آن واحد، ونستطيع أن نسميه «نوايا الأشكال». وهناك بعض الخطوط الخارجية القادرة على التدليل، على عكس البعض الآخر، ولذا نستطيع، بل ويجب، أن نختار من بينها لكي نحصل على الصورة الأقدر على التعبير. فإدغام بعض المساحات الوسطية، وغربلة الأشكال الأساسية ليست أيسر المصاعب في قراءة اللوحات التكعيبية.
والواقع أننا مدفوعون إلى عملية فسخ وتقطيع لأوصال التمثيل المرئي الصرف للأشياء، لكي يُعاد تكوينها وفقًا لقوانين لا علاقة لها بالقوانين الهندسية التي تسمح بتجميع منزل ومقعد، أو بمحاكاتهما لخداع البصر.
وهكذا يتم الأمر كما لو كنا ندور حول الأشياء لنسجل مظاهرها المتتالية حسب اللقطات المختلفة. غير أن هذه اللقطات ليست جزافية، ولا تختارها العين وفقًا لزوايا رؤية معينة، ولكن حسب الفكرة المقصودة لتوصيل معنًى معين. ولا بد بعد ذلك من إيجاد تناسق بين هذه الصور، ويكون التطابق هنا عضويًّا، على عكس ما يحدث في عملية «التوليف» الفوتوغرافية المقتصرة على وضع الصور بعضها فوق بعض بشكل آلي؛ فالصور تتداخل هنا في بعضها، وتؤثر كل منها على الأخريات، سواء في بنائها أو في نسيجها.
وهنا يواجهنا ما يُسمى خطأً ﺑ «التشويه»، مع أنه مجرد نبذ لبعض الاصطلاحات التقليدية.
وينطبق الأمر نفسه على التشويه التأثيري؛ فقد سبق أن قلنا إن الخط عبارة عن أثر أو مجرًى أو مسلك للحركة قبل أن يكون مجرد محيط خارجي للشكل. ومن هنا يتعين تعديل الخط المنحني والمغالاة فيه عادة لتأكيد قوة الحركة، وهذا ما فعله مايكل أنجلو وإلجريكو وأنجر، إذا اقتصرنا على التعرض لأبرز الأمثلة قبل بيكاسو.
وقد أَدخلَ بيكاسو نوعًا ثالثًا من التشويه؛ التشويه في الحيز، أو التشويه الديناميكي الناتج عن التخلي عن المنظور الذي أضحى تقليديًّا منذ عهد النهضة، والمبني على ثبات المشاهد في مكانه. وعليه، فإن التشويه الديناميكي يصدر عن تنقل الذات حول الموضوع، مع تسجيل عدة لقطات حسب تحركات الذات.
تلك هي النتيجة الأولى لهذا التغيير الذي يمكننا أن نطلق عليه قانون وجهات النظر المتعددة.
ويتضح لنا من التحليل السابق أن الرؤية عمل إيجابي يتعدى فكرة التأمل التقليدية في التصوير ليشمل خبرة الإنسان الذي يستكشف الدنيا والأشياء ويعي مستقبلها، كما يدرك بالأخص الفعل الإيجابي الذي يستطيع أن يمارسه لكي يغيرها. ويملي هذا التحليل أيضًا ضرورات جديدة إزاء اللغة التشكيلية، وإزاء المُشاهد الذي يجب ألا يكتفي بالفرحة، بل تتعين عليه المشاركة الإيجابية.
وتؤدي عملية تفتيت وإعادة تكوين موضوع التصوير إلى تعدد المستويات المقسَّمة إلى شرائح صغيرة تضفي على اللوحة مظهرًا بِلَّوريًّا، مما أوحى إلى أحد النقاد السطحيين بإطلاق تسمية «التكعيبية» على هذه الحركة الفنية. وهذه التسمية متعسفة وغير مناسبة؛ لأنها تقلل من شأن هذا التحول الأساسي في مفهوم التصوير الذي لم يعرف فن التصوير مثيله منذ عهد النهضة، كما أنه يجعل «التكعيبية» بهذا المفهوم مجرد أسلوب من أساليب الحرفية، ويوحي أيضًا بتحليلات هندسية لا تمتُّ بصلة إلى رواد هذه الحركة الفنية.
وقد ترتبت على المنطق الداخلي لهذا التحول في التصوير نتائج أخرى نابعة من المبدأ الأساسي له؛ فما دامت اللوحة لم تعد مجرد نسخة من شيء أو من منظر خارجي فهي لا تتألف بالتالي من عناصر تتخللها فراغات أو إضاءات تحدد الأشياء.
ومن هنا تصبح اللوحة كلًّا يخضع لإيقاع واحد، بلا تدرجات في عناصره. وجميع هذه العناصر، سواء كانت أشكالًا أو خلفية، جزء لا يتجزأ من كلٍّ متكامل.
وقد قال أندريه ماسون عن حق: «تكون المساحات بين الأشكال في التصوير العظيم مشحونة بطاقات، بقدر ما تكون الأشكال التي تحدد المساحات مشحونة هي أيضًا بطاقات.» ففي الصورة الشخصية لفولار أو لكانويلر، نجد أن الوجه وما يحيط به مكون من العناصر نفسها، المأخوذة من البلورة نفسها، التي تصبح عمليةُ صقلها المهمةَ الرئيسية للمصور. وهكذا نُحِل فكرة الحيز محل فكرة الجو.
ويسيطر الكل على الجزء داخل هذا الحيز التصويري المبني والخالي من أي فراغ، كما أن تنظيم مجموع العناصر في اللوحة يخضع لحركة ولإيقاع لا يرتبطان بطبيعة الأشياء فحسب، ولكن بمقتضيات المعنى المقصود والتشكيل. ولا تنحصر الألوان بالضرورة في حدود المحيط الخارجي للشكل. وقد تمادى فرنان ليجيه في هذا التفصيص. وفي أغلب الأحوال تعبر الخطوط عن مسار حركة أكثر مما تحدد الخطوط الخارجية. وقد تتميز هذه الحركة بإيقاع صاخب عودَتْنا عليه كلٌّ من السينما وموسيقى الجاز.
تخطى بيكاسو ستة قرون من التصوير، مع حرصه على تراثها الغني، فأعاد النظر في مبادئ التصوير المتعارف عليها، وعقد الصلة من جديد مع تقاليد فنية أعرق من الاصطلاحات التقليدية المعروفة عن عصر النهضة، وعن الفن الإغريقي. وارتبط بيكاسو أيضًا بمفهوم جديد للطبيعة ولمهمة التصوير. لقد أعاد الصلة أولًا بالفن الروماني المسيحي الذي ترك لنا آثارًا رائعة في إسبانيا وقطالونيا، وبالفن البيزنطي في إسبانيا أيضًا، ذلك الفن الذي حافظ إلجريكو على سماته، ونقل إلينا رسالته من خلال تعاليم البندقية وروما. وتوغل بيكاسو في الزمان وفي المكان، وتعرَّف في متحف السلالات البشرية على الأعمال الخلاقة لفن القارة الأسترالية، ولفن القارة الأمريكية قبل أن يكتشفها كولومبس، ولفن الشرق الأوسط وكريت وميسينا، ولفن الإغريق في مرحلته السابقة على الكلاسيكية.
والسمة المشتركة بين هذه الفنون هي التعبير عن طموح أوليٍّ عند الإنسان في مواجهة الطبيعة؛ إذ لا يكتفي بمجرد المشاهدة، بل يشعر بخوف وبضيق، وبحاجة إلى التغلب على هذه الأحاسيس بتغيير العالم، سواء بالصناعات أو بالسحر؛ فالسحر يَنشُد تجاوز حدود البشر بخلق عالم آخر من الأوثان والتمائم، يركز فيها الإنسان كل القوى الأسطورية الغامضة المتفوقة على قوى الطبيعة.
وعندما يتحقق مستوًى من التقدم التكنولوجي أعلى إلى حد كبير من المستوى البدائي؛ تنتاب الإنسانَ مخاوفُ وعذابات لا يسببها عجزه أمام الطبيعة التي استطاع أن يروضها إلى حد كبير، بل تنتج عن مواجهته للقوى الاجتماعية التي خلقها بنفسه، ثم استقلت بنفسها لتتصدى له كما لو كانت حقائق غريبة عليه، معادية له، تهدد بطحنه؛ فالفقر والأزمات وأجهزة القمع والحروب تشكِّل جميعًا قوًى إنسانية انفلتَ عِقالها.
فهناك إذن إحساس باستحالة التغلب على هذه القوى اللاإنسانية المهدِّدة للبشرية، وبأنه لا يمكن دفع أذاها بواسطة التقدم التكنيكي وحده، ولكن عن طريق مبادرة إنسانية صميمة. وحتى تعبر هذه المبادرة عن نفسها بالخلق الفني، لا بد لها أن تعقد الصلة من جديد بأشكال التعبير السابقة على تحويل الفن إلى مجرد «صنعة» مهمتها النقل. على أن إعادة الرابطة من جديد لا يعني محاكاة أو تكرار النماذج القديمة، بل إدراك الاتجاهات الدفينة لمراحل الخلق في الماضي. وتكتسب هذه «النهضة» معنًى جديدًا، لا يقتصر على مجرد تحمل مسئولية الفن الكلاسيكي في حوض البحر الأبيض المتوسط، بل يشمل أيضًا المواصلة الأصيلة للهدف الأساسي الممتد عبر آلاف السنين في كل العهود وكل الحضارات. وهذا الهدف هو تجاوز اللوحة الزخرفية أو الوصفية لخلق عالم مختلف عن عالم الطبيعة، عالم أسطوري يناسب مرحلة من مراحل تطور التكنيك والفكر، ويحمل في طياته الرغبة العارمة في تجاوزه.
ولا بد أن ينشئ هذا الخلق الملحمي الغنائي لغة غير اللغة الطبيعية المصاغة في قالب الإمكانيات العلمية والتكنيكية.
وقد أوضح جيوم أبولينير أن «رسَّامي الصور في غينيا والكونغو يتوصلون إلى تصوير الوجه الإنساني دون اللجوء إلى أي عنصر صادر من الرؤية المباشرة».
وتمادت الأقنعة البولينيزية والأفريقية، وأواني الأزتيك والمايا، وتشكيلات الحيوانات في الفن الروماني المسيحي، والأصنام الميسينية، وأوثان الفن الكريتي، تمادت في إعادة خلق الطبيعة دون نقلها.
وكثيرًا ما لجأ الفن الأفريقي إلى قلب بروزات وتجويفات الوجه في الأقنعة الشعائرية مع الإيحاء بالعمق بواسطة نتوء، أو الإيحاء بالتسنُّم بنحت مقعَّر. ولا تهدف أعمال بيكاسو إلى تبنِّي هذه الأساليب ليواجه الحضارة بما يسمونه البربرية، فهو لا يقلد تلك الأساليب، بل يتفهم غرضها الدفين لينطلق منها باحثًا عن استعارات تشكيلية.
إن خلق الأسطورة عمل إنساني أصيل، هدفه تجاوز الطبيعة والتكنيكات العرضية التي نسيطر بها على الطبيعة. ومهمة الفن الأصيلة هي خلق الأسطورة منذ عهد هوميروس حتى «دون كيشوت» عند سرفانتيس، ومنذ «فاوست» جوته حتى «الأم» عند جوركي. فخلق الشخصية الإنسانية البطولية المعبرة في كل مرحلة عن مصير الإنسان ومستقبله؛ قضية ملحَّة مطروحة برُمَّتها على الإنسانية. وكان بيكاسو من الجسارة بحيث اعتبرها الغرض الأصيل للتصوير. وقد رسم خطوط تلك الرؤية الأسطورية، الغنائية والملحمية معًا، لعصرنا هذا، بما فيه من مسوخ وتمردات ضد البشاعة، وبما فيه أيضًا من تأكيد لإرادة الإنسان ولآماله ومعاركه وانتصاراته.
فهناك لوحات تعلن الحرب، وتوجه الاتهام، وتتحدى، وتمنح الأمل، وتؤكد كل جوانب الحياة المؤلمة منها والباسلة والفياضة عند البشر الحقيقيين في عصر الغضب والرؤيا المخيفة.
على أن المخاطر لا بد أن تهدد الإقدام على مثل هذا العمل الهائل.
فهناك أولًا خطر الانفصال عن الواقع، بحيث تصبح قراءة العمل مستعصية، بالذات على الناس الذين أراد بيكاسو أن يقف معهم في معركتهم. وعندما يطمح المصور في بلوغ مثل هذا الهدف، تصبح مهمته عسيرة، ويتحمل عذابات الأستاذ في رواية بلزاك «التحفة المجهولة»، ذلك الكتاب الذي تنبأ بأشياء جعلت وجه سيزان يمتقع من فرط القلق.
ومن هنا يتضح لنا أن اكتشافات بيكاسو، بما في ذلك أجرأ اكتشافاته، لا تلغي المكتسَبات السابقة عليها، بما فيها القرون الستة الأخيرة، بل تنطلق منها.
وهذا ما حدث بالنسبة لعدد كبير من الاكتشافات التي استمدت أصولها من التقاليد الكلاسيكية النقية، وأكدتها التحليلات العلمية.
وستسمح لنا المقارنة التاريخية بتوضيح الأمر.
لقد عمَّم بيكاسو، على كل مظاهر الشكل، ما طبَّقه التأثيريون — وبالأخص التأثيريون الجدد — على الألوان وحدها.
ويجب أن نطبق القانون نفسه على الخطوط أيضًا.
ولا يقصد بيكاسو «قلب مصير التصوير»، بل يريد أن يدرك بوعي متوقد القوانين النابعة من ذات كل تصوير عظيم، وأن يعي ما كان خاضعًا، حتى ذلك الوقت، لمحاكاة الطبيعة، على الرغم من أنه الجوهر الأساسي للتصوير، ذلك هو نصيب الإنسان فيه ونصيب عمله الخلاق.
ومن نافلة القول أن نردد أن الفن هو الإنسان مضافًا إلى الطبيعة. ومع ذلك فيكفينا أن نتمعن في هذا القول لكي نقطع الصلة بكل وجهات النظر الضيقة في علم الجمال، فلا يمكننا أن نسمي فنًّا إلا ما هو إنساني حقًّا، أي ما هو ليس طبيعة فقط، بل ما ينفصل بالذات عن الطبيعة، كالنار والأدوات، ومِن بعدها ومعها، الفن. لن يكون الفن أبدًا محاكاة للطبيعة، بل خلق يتبع قانونًا إنسانيًّا بحتًا.
وقد فتح بيكاسو للتصوير ولكل الفنون آفاقًا لم يرتَدْها أحد من قبل، وهي آفاق تبدأ بتأكيد الوجود الإنساني بواسطة الإنسان نفسه، وبتأكيد حقه في خلق حقيقة أخرى خارج الطبيعة، بل وتتجاوزها اعتمادًا على قوانين خلق أخرى، وعلى مقاييس جمال ومعايير حكم جديدة.
وأيًّا كانت أوجه الشبه الشكلية بين هذا الفن الجديد والفن الروماني المسيحي، إلا أنه يتعين علينا أن نؤكد أن اختلافاتهما عميقة؛ كان الفن الروماني المسيحي يقطع صلة الفن بالواقع المباشر، للإيحاء بالسمو، ولتوجيه الإنسان نحو الخالق. أما بيكاسو فيلغي المظاهر المباشرة ليؤكد وجود الإنسان ونظامه؛ لأن المستقبل هو الأمل الوحيد الذي يسعى إليه بيكاسو الذي قال إيوار عنه إنه «يعلم أن الإنسان المتقدم يكتشف أفقًا جديدًا في كل خطوة يخطوها».
لقد حطم بيكاسو الأوضاع الرتيبة والاصطلاحات التقليدية ليخرج من الطريق المسدود الذي تردَّى فيه التصوير، ليشق طريقًا جديدًا ويعبر عن عواطف الإنسان وإرادته بلغة لا يستعيرها من الطبيعة مباشرة. وقد عرض جيوم أبولينير، في مقدمة «أثداء تيريزياس» تعريفًا يناسب ابتكار بيكاسو (الذي سُمي التكعيبية اعتمادًا على معايير سطحية) أكثر مما يناسب السريالية: «عندما أراد الإنسان أن يحاكي السير على الأقدام، ابتكر العجلة، التي لا تشبه الساق في شيء.»
وهذه الفكرة الرائدة التي تقول إن الفن ليس محاكاة للواقع، بل خلق إنساني بحت؛ امتداد لتطور راح يسرع خطاه مع ظهور الرومانسية، وهي تعيد النظر في الواقع، وفي الطبيعة الداخلية والخارجية باعتبارها النموذج المطلوب من الفنان تصويره.
فمهمة العمل الفني ليست إعادة نقل العالم، بل التعبير عن آمال الإنسان. وقد تقتصر هذه الآمال على مجرد محاولة الهروب من العالم، أو قد تبتغي — على العكس — تغييره. ويتوقف ذلك على «الذات»؛ فهي إما «أنا» فردية ساخطة وعاجزة، وإما تعبير عن قوة جماعية تاريخية أو اجتماعية كبيرة، رسالتها بناء المستقبل. فالفن إما فن هروبي أو ثوري، وذلك هو الطابع المزدوج الأساسي للحركة الخلاقة.
لم يكن فن بيكاسو في عام ١٩٠٧م يطمع في التعبير عن مضمون اجتماعي معين، ولكنه احتوى بالرغم منه على مضمون اجتماعي. وعلى عكس التصوير الفوتوغرافي، فإن الحياة الحقيقية للَّوحة الفنية ومغزاها مستقلان تمامًا عن الحياة وعن المعنى الذي تصوره. فالموضوع الذي تعالجه لوحة «آنسات آفينيون» بسيط لا يُعتد به؛ فهو عبارة عن واجهة محل يُدار للدعارة. ومع ذلك تُعتبر هذه اللوحة بداية لمستقبل عظيم؛ فهي تشهد ببساطة على ما استطاعت جرترود شتين أن تتبينه فورًا، وهو «أن واقعية القرن العشرين ليست واقعية القرن التاسع عشر أبدًا، وأن بيكاسو كان الوحيد الذي أحس ذلك وهو يصور».
وأحدثت التكعيبية انقلابًا جدليًّا جديدًا داخل كيانها على يد بيكاسو، وهو يشبه ذلك الانقلاب الذي أحدثته التأثيرية في نفسها. في بداية الأمر أراد بيكاسو، ومعه رواد الحركة المسماة بالتكعيبية، أن يعبروا عن العالم الخارجي بحرفية محدودة، لا تستخلص المظاهر كما فعل التأثيريون، بل تتفهم الموضوع أيًّا كان نوعه، وتخلق بواسطته، وفي مواجهة العالم القائم، عالمًا آخر مبنيًّا على قوانين الإنسان.
انصرف التأثيريون عن الواقع التاريخي والاجتماعي، فبدت الكائنات والشخصيات البشرية على يد مونيه وديجا، كأنها على وشك التفتُّت إلى ذرات تراب، كالمومياء التي فقدت منذ أمد طويل قوامها الداخلي وواقعيتها الإنسانية. ولعل هؤلاء الفنانين قد عبروا بالتشكيل، وبلا وعي منهم، عن مرحلة من مراحل التطور تميزت بتحول القوى المحركة للمجتمع إلى قوًى غير إنسانية تجعل من المستحيل حدوث رد فعل إنساني حق وإيجابي وواعٍ.
لا تمثل على أي حال أعمال بيكاسو والتكعيبيين في غضون عام ١٩٠٧م؛ احتجاجًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا ضد أفول البشرية، أو ضد قوى التفكك في المجتمع المتحلل الهابط، ولكنها تشكل نقطة انطلاق في مجال التشكيل، وحركة مقاومة أو هجومًا مضادًّا تشنُّه البشرية.
والثورة الجمالية عند بيكاسو بمثابة تأكيد لأولوية الإرادة في بناء العمل، تلك الإرادة التي يواجه بها ضياع الحقيقة، وانتفاء الوجود الإنساني. فقد تغيرت علاقة البشر بالعالم، ولم تعد المهمة مقتصرة على تقصِّي المظاهر الشاردة، بل تمثلت على العكس في تأكيد الجانب الإيجابي الذي يدرك العالم في أكثر نواحيه ثباتًا ونضجًا؛ فالتصوير عمل حر يقيم وينظم بناء هندسيًّا.
ولنؤكدْ مرة أخرى أن تمرد بيكاسو في هذه المرحلة كان محصورًا في مجال التشكيل فقط؛ فهو يعيد النظر، في آن واحد، في تصور الواقع وتصور الجمال، ويبحث عن قوانين جديدة لتعريف الواقع التصويري، وهي قوانين مستقلة عن قوانين الطبيعة التي تحكم عالم الأجسام. وهو يبحث عن مقاييس جديدة مستقلة عن المقاييس التي قنَّنتْها ستة قرون من التصوير الأوروبي، لكي يعرف بها الجمال.
ومن العبث أن تقول إنه قد تبنَّى مفاهيم الجمال الزنجية البولينيزية، أو السابقة على كولومبوس، عندما تخلى عن المعايير الأوروبية في تصور الجمال. فالتأثير الخارجي لا يمارَس بالفعل وبعمق إلا إذا كان استجابة لحاجة ضرورية أو مرتقبة؛ فشتلة النبات لا تتأصل في الأرض إلا إذا أتاحت لها ظروف النمو الداخلي إمكانية اللقاء بينها وبين الأرض المغروسة فيها. والعودة للفن الإغريقي اللاتيني في عصر النهضة لا ترسم حدود فن هذا العصر، بل كانت مجرد استجابة للرغبات الإنسانية عند الفنانين؛ فقد راح هؤلاء الفنانون يستبعدون خطوة فخطوة، خلال قرنين من الفن القوطي، تلك الحقيقة الإنسانية الجديدة، وذلك الجمال الدنيوي الجديد القريب إلى جماليات وحقائق عهود عبادة الأوثان الغابرة، لمواجهة التحويرات والتشويهات التي جاء بها الفن الروماني المسيحي.
وقد حدث الشيء نفسه مع الصور اليابانية المطبوعة التي ألهمت فجأة التأثيريين الأوائل في عام ١٨٦٧م. وينطبق الأمر نفسه على الأقنعة الأفريقية، وعلى التماثيل البرونزية في مملكة بينان القديمة على الساحل الغيني؛ فهي ليست قيمًا جمالية «يطعم» بها التصوير الفرنسي، ولكنها تأكيد واضح للأفكار التي طبقها بيكاسو قبل أن يتعرف على الفن الزنجي. وهناك مثال مضاد يؤكد هذه الحقيقة؛ فقد رحل جوجان إلى تاهيتي بحثًا عن مخرج من المأزق الذي وقع فيه التصوير في نهاية القرن التاسع عشر، ولم يسفر هذا الالتقاء المباشر بالفن البولينيزي عن أي ثورة في التصوير؛ إذ ظل جوجان متمسكًا بمثاليات الجمال الأوروبي، وبالفعل لا تشبه الأشكال التي صوَّرها الأوثانَ البولينيزية في شيء.
ولم تُخلع القواعد الإغريقية والمسيحية من عرشها بواسطة استعارات خارجية منتمية إلى تراث غريب؛ فهذا التجاوز عن القواعد الراسخة ضرورة جدلية داخلية مُملاة على الجماليات التي لم تعد تسمح للإنسان بالإفلات من الغربة. فما كان المصور يستطيع محاولة الهروب وهو يعيش في عالم تسيطر عليه الغربة في العمل، وتهيمن عليه الآلية الغريبة على الإنسان والمعادية له، وفي مرحلة لم تكن التحولات الثورية ممكنة في التو. كانت محاولة الهروب ممكنة إما بتسجيل الظواهر الملونة السطحية والعرضية على اللوحة، كما فعل التأثيريون، وإما بالالتجاء إلى الدراسات الشكلية البحتة، خارج العالم والتاريخ، للسير في طريق التجريد كما رسمه كاندينسكي، أو كما رسمه موندريان. وكان في وسع الفنان أن يحاول إنقاذ إمكانية البناء الإنساني في العمل الخلاق، في المجال التشكيلي على الأقل، وهذا البناء لن يكون الطبيعة كما هي أو الغربة التي تفرضها الأوضاع. وقد فتح بيكاسو هذه الآفاق.
لقد وضح لنا أنه عثر من خلال تأكيد الوجود الإنساني ضد أشكال الغربة الاجتماعية الحديثة؛ على محاولات الشعوب التي واجهت من قبلُ أشكال الغربة القديمة الطبيعية، ونقصد شعوب القارة الأسترالية وأفريقيا وأمريكا وآسيا التي خلق فنانوها الأوثان. لم يكن المقصود محاكاة فنهم أو إحياءه من جديد، بل تلبية حاجة مماثلة في جوهرها، وهي: تأكيد وجود الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة والمجتمع التي تهدد بسحقه.
ومن هذه الزاوية فقط يتشابه بيكاسو مع الإنسان البدائي بموقفه الإنساني في جوهره، والمتمثل في رفض الحياة كالأدوات، وفي تأكيد الأسلوب الإنساني الحقيقي في الحياة، عن طريق الفن، تمامًا كما تم ذلك في الأزمنة الغابرة عن طريق اكتشاف النار والأداة.
كانت القضية التشكيلية التي طرحها بيكاسو هي التوصل إلى حل جديد يتمشى مع عقلية القرن العشرين لواحدة من قضايا التصوير الأساسية، وهي الإيحاء على قماش اللوحة، أي على بُعدين فقط، لا بالعمق الخادع، ولكن بمظاهر الأشكال المتحركة في آن واحد في الحيز. والواقع أن هذه القضية ليست سوى مظهر تكنيكي لقضية أعمق بمراحل. فعندما يبلور في صورة واحدة إدراكاتنا العديدة للأشكال والضوء والحركة، فإنه يجبرنا بذلك على إعادة النظر في اصطلاحاتنا التقليدية المعتمدة على الإدراك البصري السلبي، وعلى تجاوز كل نشاط ضمني لمداركنا العادية.
وفي هذا الطريق أقدم التأثيريون، وبالأخص التأثيريون الجدد أمثال رينوار وسوراه وسينياك، على الخطوة الأولى؛ إذ أحلُّوا الخلط البصري للألوان محلَّ الخلط الكيميائي لكي يتكون اللون في نظرنا فقط. غير أن الخلط البصري للألوان كان يتم تلقائيًّا وسلبيًّا بالنسبة للمشاهد. أما «التركيب الذهني» للأشكال الذي يطلبه المصور التكعيبي من المتفرج، فهو يفرض علينا الوعي بنشاطنا الإيجابي في نطاق النظام العام للعالم الذي ندركه. لقد وصل بنا الحال إلى الاعتقاد بأن الاصطلاحات التي قننتها النهضة، وانغرست فينا وتجمدت بحكم العادة؛ هي الأشكال الأبدية الضرورية للإدراك. وكانت أعمال بيكاسو التكعيبية بمثابة وعي منه بالمسئولية، وهذا المفهوم الجديد يعبر عن التزام أخلاقي.
وهذا المولود الجديد الذي نشأ في معمل تجارب بيكاسو عام ١٩٠٧م فن ملحمي جديد، أي أنه فن يعلن، على حد قول كانويلر، أنه «لا خضوع لمصير الإنسان العاجز عن تغيير مجرى مصيره، بل تأكيد لعظمة الإنسان المتصدي لمصيره».
وقد عرف هولدراين المفهوم الملحمي لعلاقة الإنسان بالعالم، فقال إن «القصيدة الملحمية، الساذجة في مظهرها، والبطولية في محتواها، هي الاستعارة المعبرة عن الآمال الكبار».
وكانت أعمال بيكاسو أول تعبير تشكيلي عن الآمال الكبار للقرن العشرين، هذا القرن الذي يعاني آلام المخاض منذ بدايته، والمثقَل أيضًا بتغيرات علمية وتاريخية كبيرة لم تعهدها البشرية من قبل.
وقد تمت هذه الانعطافة الكبيرة على يد بيكاسو في غضون ١٩٠٦-١٩٠٧م. ولعلنا نستطيع أن نقول إن بدايتها كانت مع الصورة الشخصية لجرترود شتين. ويجدر بنا أن نلاحظ أن جرترود شتين وشقيقها أعلنا رضاءهما العميق بعد الجلسة الأولى للتصوير، وأصر بيكاسو على أن يتم العمل في تسعين جلسة، ثم محا كل ما رسم وسافر للأقاليم لعدة شهور. وبعد عودته، رسم الصورة الشخصية بدون حضور صاحبتها. وخاب أمل جرترود شتين عندما رأت صورتها، وسألته عما إذا كانت تشبهها في شيء، فأجاب بيكاسو في هدوء: «ستشبهينها يومًا ما.» وتلك ليست نادرة تُحكى، بل المفهوم للتصوير وعلاقته بالواقع، ففي «أليس في بلاد العجائب» ترى أليس ابتسامة القطة تتراقص أمام عينيها، مع أن القطة اختفت تمامًا، وهذا ما أراد بيكاسو أن يحققه؛ أن يرسم ابتسامة القطة دون أن يرسم القطة نفسها.
والمسألة لا تدخل في نطاق المعجزات، بل تخص الحرفية، أو بالأحرى الفن. وقد عودتنا نظرية الجشطالت على ظاهرة استمرار «كيفية الشكل» خارج عملية نقل كل العناصر المكونة للشكل. ولعل ذلك هو الجانب الأساسي في الجماليات عند بيكاسو؛ أن يخلق الواقع العميق لوجوده الإنساني بعناصر داخلية بحتة، غير مستعارة من الطبيعة، وخارجة عن المظاهر العرضية للواقع ولتعبيراته الزائلة. وينطبق ذلك سواء بسواء على الأشكال والأشياء وعلى الوجوه.
ومن هنا ينبع الاهتمام الذي يوليه بيكاسو بتكوينات الوجوه المصممة على شكل أقنعة؛ فالقناع هو في آن واحد حال النموذج، وما يريد أن يكونه، وما يكتشفه المصور فيه أو ما يلهمه به، بغضِّ النظر عن المظاهر المؤقتة أو العرضية. وقد رُسمت الصورة الشخصية لجرترود شتين أو الصورة الذاتية لبيكاسو بهذا المفهوم، «فجاءت على حقيقتها التي غيرها الخلود».
ويتجاوز القناع الصورة الشخصية، فيمنح الأشكال التجرد من التأثر ومن التفرد، مما يسمح بإدماجه في مجموع اللوحة دون أن يكون الوجه مشحونًا بطاقة كامنة أكبر، أو يستأثر بقوة أكبر على حساب التوازن بين التوترات الداخلية للوحة.
رسم بيكاسو الخطوط العريضة لرؤيته التصويرية أثناء قضائه بضعة شهور في جوسول، بوادي أندور. ومن قبل، كان قد تأثر بعمق ببعض أشكال النحت القديم المودعة في اللوفر، والواردة أصلًا من إسبانيا. كما تأثر أيضًا بالتماثيل البرونزية المكتشفة في أوزوما. وقد صور في جوسول أشكالًا تذكِّرنا بالنحت على الخشب الصلب الذي يحتاج إلى «شطف» المساحات. والمقارنة بين «السيدتان العاريتان الواقفتان»، وإحداهما معالجة بطريقة كلاسيكية نسبيًّا، والأخرى بشطف المساحات؛ علامة في الطريق الجديد.
أما «آنسات آفينيون» (١٩٠٧م) فتلخِّص الاتجاه الجديد في عمل واحد، يمكن اعتباره بيانًا يعلن عن ذلك الاتجاه الجديد.
ومما يعمِّق الإحساس بالغربة الكاملة أنه استخدم هنا كل استحداثاته دفعة واحدة؛ معالجة الأجسام، التكوين، الحيز.
وتتيح لنا الأعمال التمهيدية «الاسكتشات» إمكانية تتبع المراحل المختلفة لتطور الوجوه والأشكال. فالوجوه تذكرنا بالرؤى الأولى للإنسانية؛ الأقنعة الأفريقية بأشكالها البيضاوية الهندسية، ومحاجر العيون الخاوية، والعين في وضع مواجِه لوجه جانبي على غرار الأسلوب المصري. والأجسام مجزَّأة إلى مساحات متميزة عن بعضها، والخطوط المنحنية تقل تدريجيًّا لتحل محلها الخطوط المستقيمة الأقرب إلى الخطوط الفاصلة بين وجوه البلورة. أما الأشكال فقد تجردت من الطابع العرضي ومن التفرد.
ويعتمد التكوين على خطوط عريضة مبسطة، لا تشكل المدار الخارجي، بل حدود شكل منشوري مجزَّأ تنحصر فيه الأشكال. وتندمج الأجسام البشرية في المكان، ولا تختلف طبيعة الخلفية عن طبيعة الأشخاص، فجميع هذه العناصر أجزاء «كل» واحد. وتنبع وحدة اللوحة من التفاعل المتبادل المستمر بين الأجسام الصلبة وما يحيط بها. ولا يحيط بالأجسام فراغ، بل حقيقة لا تقل خصوبةً عن الأجسام نفسها. لم يعد هناك مجال واحد لقوة تخضع فيه الكائنات والفراغات لإيقاع واحد، فالتوازن يتعلق باللوحة كلها، لا ببعض الأشكال فقط.
وهذا الحيز الواحد يلغي عن عمد التشكيل البارز والتجسيم؛ فهو لا ينحت سطح اللوحة، بل يوحي على العكس بأن أوجه هذه البلورة تبرز من سطح اللوحة وتتجه نحونا، فكأننا نحن الذين ندخل في اللوحة. وتكفي بعض الخطوط المتوازية على الوجوه، أو بعض التدرجات باللون الأحمر الوردي أو بلون الآجر لكي توحي لنا بالانتقال الهادئ من مستويات إلى مستويات أخرى. وكان بيكاسو نفسه يقول لصديقه النحات جونزاليز: «لا تحتاج هذه الصور إلا لتفريغها، فالألوان ليست في نهاية الأمر إلا إرشادات عن المنظورات المختلفة، وعن مستويات تميل نحو هذا الجانب أو ذاك؛ ولذا يكفي تجميعها حسب إرشادات الألوان لكي نحصل على نحت.»
كانت «آنسات آفينيون» استهلالًا للثورة التكعيبية التي يمكننا أن نقول بصددها أن تاريخ الفن لم يعرف لها مثيلًا في تحولها التام، وفي تجديدها الجذري.
وتدل الدراسات الأولية لهذه اللوحة على أن تكوينها مستوحًى من لوحات «المستحمات» العديدة عند سيزان. غير أن بيكاسو يتمادى في محاولات سيزان حتى يُجري تحولًا كيفيًّا حقيقيًّا باستكمال الخروج عن الأشكال الطبيعية، وبخلق أشكال إنسانية لا تستمد العناصر الأساسية للغتها من الواقع مباشرة، وببناء المستويات بطريقة تدفع العين دائمًا للالتفات إلى سطح اللوحة.
ومن الممكن الآن الاستطراد حول النتائج المترتبة على هذه الثورة الفنية التي تطورت على مرحلتين؛ التكعيبية التحليلية، والتكعيبية التركيبية.
كانت نقطة الانطلاق في التكعيبية، وهي تكعيبية تحليلية، تتمثل في اعتبار الرؤية عملًا، أي تصرفًا يستبعد موقف التأمل السلبي، ويدفعنا إلى استيعاب اللوحة ككلٍّ له مظاهر عديدة، وتناقضات وتنافرات داخلية. فعلاقتنا مع اللوحة، أي مع الشيء الذي أبدعه المصور، بمثابة عمل، أي كفاح من أجل إعادة خلق ما حلله الفنان في لحظات.
لقد تخلص التصوير من وصاية الأدب عليه فحصل على استقلاله.
وتحولت التناقضات الجدلية بين التصوير وبين ما هو ليس تصويرًا، أي الطبيعة أو القصة أو المشهد أو الحدث؛ إلى تناقضات داخلية في التصوير نفسه. فهو تناقض بين مقتضيات لغة التعبير وبين الصورة، وتناقض بين المادة الفنية (الخط أو اللون) وبين الرسالة التي تحملها، وتناقض بين القضية التي تطرحها اللوحة (وأولها قضية مضمونها) وبين الإجابة الخيالية (الأسطورية) الفاجعة التي تقدمها.
وبوصول التكعيبية التحليلية إلى هذه النقطة، انقلبت لتتحول إلى نقيضها وإلى داعي بقائها في آن واحد، أي إلى التكعيبية التركيبية.
وقد تمت هذه الانتقالة في غضون ١٩٠٨-١٩٠٩م.
وأعتقد أننا نستطيع أن نعرف هذا التجاوز فنردد، كما قال د. ﻫ. كانويلر: «إن بيكاسو حوَّل التكعيبية التي بدأت كالتزام بحت، إلى مبدأ للحرية.» فعندما نكون بصدد مفهوم للحرية لا يختلط مع الفردية الفوضوية، فإن الالتزام والحرية لا يتناقضان، بل يستلزم كل منهما الآخر بالضرورة. وعلى النقيض من ذلك، فإن العكس يتمثل بالأحرى في الانتقال من المجرد إلى الملموس (على أن يكون من المتفق عليه بالطبع أننا بصدد تجريد في التشكيل لا في المفهوم)، ومن العام إلى الخاص؛ أي السير في عكس الطريق الذي رسمه سيزان، وواصلت السير فيه التكعيبية التحليلية. كان سيزان يستخلص العناصر الأساسية المكونة للحقيقة الخارجية بواسطة التحليل. أما الآن فالمطلوب خلق أشياء لا تذكِّرنا بالأشياء العادية في الطبيعة من هذا الجانب أو ذاك، على أن يكون الشيء المخلوق كلًّا عضويًّا. ويتم ذلك عن طريق التحليل، وبواسطة عناصر الشكل واللون. وكما يقول جوان جري، وهو أول من أدرك هذا التغير: «أبدأ بتنظيم لوحتي، ثم أصف الأشياء، فالهدف هو خلق أشياء جديدة لا يمكن مقارنتها بالأشياء الطبيعية. وهذا ما يميز التكعيبية التركيبية عن التكعيبية التحليلية.»
لا يصح أن نستنتج من التعارض بين عالم الطبيعة والعالم الذي تنبثق منه مخلوقات المصور؛ أننا بصدد عودة إلى النظرة الصوفية أو إلى مذهب الحلول؛ فمصدر الأشياء المخلوقة هنا ليس عالمًا آخر يسمو على عالمنا، أو «عالم معجزات» بالمعنى الصوفي للكلمة.
ويشهد على ذلك تطور التكعيبية التركيبية عند بيكاسو؛ فقد أدخل بيكاسو وبراك على لوحاتهما في هذه الفترة (في غضون ١٩٠٨-١٩٠٩م) عناصر مأخوذة مباشرة من عالم الأشياء المستخدمة في العادة أو المقلدة، حتى يقاوما المنزلَق الذي يهدد بانحدار الواقعية التحليلية نحو الفن التجريدي. وهكذا كان براك أول من حرص على أن يرسم في إحدى لوحاته، بطريقة رمزية، مسمارًا يبدو بارزًا لكي يعبر بهذه الطريقة الطفولية عن تمسكه بربط التصوير بالواقع. ثم استخدم لصق الورق وتقليد الخشب والرخام لكي تكون هذه المواد همزة وصل بالواقع. لقد استبعد بيكاسو الظلال في طبيعة صامتة له «البيانو» (١٩٠٩م)، ولكنه لصق على اللوحة قطعة بارزة من الجبس ولوَّنها، حتى لا يحرم نفسه من البروز، متمسكًا بالطابع العام للوحة، وحتى يترك للأضواء نفسها مهمة إسقاط الظلال، على غرار ما يحدث في النحت الخفيف البروز. وباءت هذه المحاولات بالفشل، ولكنها دليل، على أي حال، على الرغبة في عدم التردي في التجريد أو في الأشكال التي يستحيل قراءتها، على غرار الأعمال المنتمية إلى أقصى مراحل التكعيبية غموضًا، كما كانت محاولة أيضًا لاستخدام الأشياء كاستعارات موضوعية تحمل مضامين غير متوقعة.
وتحققت أروع النجاحات في هذا الميدان بعد فترة طويلة في مجال النحت، ومنها الرافعة المكونة من جاروف وصنبور قديم وشوكتين والحيوان الأسطوري المصمم من مقعد ومقود دراجة، والعنزة ذات الضلوع المصبوبة على سلة قديمة.
ومن القيم الثابتة في فن بيكاسو استخلاص معانٍ غير متوقعة، ولمسة من الجمال يحققها بالتقارب الشاعري بين أشياء عادية جدًّا، تُنتزع من غرضها التقليدي لتتحول إلى استعارات موضوعية.
وهكذا تجد شاعرية أبولينير القائمة على التأثير الناتج عن تواردات غير متوقعة؛ ما يقابلها في مجال التصوير. كان لوتريامون يقول: «إنه لجمال يشبه الْتقاء مظلة وآلة حياكة على مائدة تشريح.» وقد حقق بيكاسو بالتشكيل هذه «الفكاهة الموضوعية» العزيزة على السيرياليين.
وفي نهاية المطاف، إذا تساءلنا أمام لوحة من هذا النوع: ماذا تمثل؟ ستكون الإجابة: «إنها تمثل مَن رسَمها.» فموضوع اللوحة في هذه الحالة لن يكون منظرًا من مناظر الطبيعة، بل سيكون الفنان نفسه المقدِم على عمل خلاق يعبر به عن سعادته الداخلية.
وسنختتم كلامنا عن نهاية هذه المرحلة الجديدة بقصيدة، على غرار ما فعلنا من قبل، لكي نوضح أن هذا الاتجاه الفني تأكد من قبلُ في أماكن وأزمنة أخرى. كتب أبياتَ هذه القصيدة المنظِّر الصيني تانج هيو، من رجال القرن الرابع عشر الصيني. وقد سجَّلها على قطعة من الحرير محلَّاة برسوم ترجع إلى عصر سونج:
وقفت التكعيبية في وجه التأثيرية لكي تعيد للموضوع شأنه، ولكنها انتهت مثل التأثيرية بتواري الموضوع عن طريق رد فعل جدلي. ومرة أخرى بلغ بيكاسو نهاية المطاف بعد أن استنفد كل إمكانيات الصيغة التي اختارها بمحض حريته، ولكنه استطاع أن يتجنب الانزلاق في طريق التجريد المسدود الذي تاه فيه بييت موندريان.
لم يتمادَ بيكاسو في اتجاهه التحرري ليتردى في اللامعقول، فيتحول بذلك التحرر إلى عبودية ونسخ رديء.
لقد فتح طريقًا، أو بالأحرى طرقًا جديدة عديدة، لا ليلغي الماضي أو ينكره، ولكن لكي يبين، على العكس، أن الوعي الواضح بالالتزامات الشكلية للتصوير، في كل مرحلة من مراحله الهامة، لا يستلزم بالضرورة محاكاة هذه الطرق بشكل لا ينتهي، بل إنه (أي الوعي بالالتزامات الشكلية للتصوير) يحمل في طياته إمكانيات لتجديدات لا متناهية.
لا يَعتبر بيكاسو فنه وسيلة للهروب من العالم الواقعي بدعوى الاستبطان الروحي؛ فهو متفتح للحياة، غني بالخبرة التي اكتسبها، ولا يتردد في أن يبدأ مرحلة كلاسيكية في أعماله، على أثر رحلة إلى إيطاليا، صحبه فيها جان كوكتو في عام ١٩١٧ ليصور ديكورات أحد باليهات دياجيلييف.
وتذكِّرنا الصور التي رسمها لسترافينسكي ولماكس جاكوب؛ بنقاء رسوم أنجر. ويبدو أن العزلة التي فرضتها عليه حرب ١٩١٤–١٩١٨م، ودفعته إلى التقليل من التصوير للاهتمام بالبحث عن اتصال مباشر ووثيق بالناس والأشياء. فالإيماءات المؤثرة للأيدي في لوحات مرحلته الزرقاء، تبحث بحرارة عن وجود الأشياء وعن دفء الأحياء، وتوحي خطوطها بالابتهال أو الملاطفة، وهي ترمز الآن لموقفه الحالي، إنها وسيلة متاحة له يحقق بها التوافق العريض مع العالم، وتحرره من عذابات الوحدة. لقد واجه بيكاسو مراحل البحث، بما تتضمنه من احتمالات الانعزال وعدم الفهم، في لحظات يقظته التامة.
وغداة الحرب، عادت مرحلة الهدوء والصفاء عند بيكاسو، فاعتمدت أعماله على القيم التي أرستها التقاليد العريقة. على أننا لسنا هنا بصدد تراجع أو تقهقر أو مجرد محاكاة للماضي؛ فقد نهل بيكاسو من منابع الماضي متسلحًا بثراء وقوة تجاربه السابقة. فعندما صور «الفلاحين النائمين» في عام ١٩١٩م، لم يقدم لنا عملًا على غرار أنجر بالرغم من أن المضمون يذكرنا ﺑ «الحمام التركي» لأنجر، بل قدم عملًا أقرب إلى مايكل أنجلو، بعد أن بلغ أوج القسوة والعنف. ففي هذه السنوات رسمت فرشاته أعدادًا كبيرة من المردة والعمالقة كأن جذورها تضرب في الصلصال والصخر. وهو لا يتخلى عن هذه الأشكال إلا ليعبر عن الإيماءة الإنسانية للحب والحنان في عدد كبير من لوحات «الأمومة» المنتمية لهذه المرحلة.
ويشبه هؤلاء العمالقة آلهة وثنيين خرجوا من الأرض بعنفوان ونزوة الحيوانات الأسطورية الهائلة.
على أنه من العبث أن نبحث عن «تطور» عند بيكاسو في هذه المرحلة الكلاسيكية. فكل أعمال الخلق تبدأ عنده من مركز واحد، ولذا فمن الممكن أن تتعايش معًا وسائل تعبير مختلفة بل متعارضة لأعمال مرحلة واحدة.
ولا نستطيع أن نتحدث، سواء بالنسبة لهذه المرحلة أو لغيرها، عن التناوب في أعمال بيكاسو. فالمظهر الكلاسيكي أو البناء التكعيبي أسلوبان للتعبير عن الضرورات الإنشائية نفسها، الخاضعة تارة لقوانين التشكيل وحدها، وتارة أخرى لقوانين الطبيعة.
فالفنون التشكيلية تتأرجح دائمًا بين قطبين؛ المحاكاة والموسيقى. ويتجاذب الفنَّ الإيهامُ من ناحية، والتجريدُ من ناحية أخرى. وقد عمل بيكاسو دائمًا على الحفاظ على التوازن بينهما. والتكعيبية عنده لا تلغي الأشياء، ولكنها لا تخضع في الوقت نفسه لعبوديتها.
وهنا أيضًا تحتفظ بقيمتها الدروس المستفادة من الكلاسيكية؛ فعظمة الأعمال الكلاسيكية لا تكمن دائمًا فيما تمثله، وإلا فكيف نستطيع أن نفسر تأثر من ليسوا مسيحيين بأعمال تتعرض لمواضيع دينية بحتة؟ ولنتجاوز مثلًا عن لوحة لروفائيل تمثل العذراء ويسوع الطفل؛ لأن أي شخص يتأثر، بصرف النظر عن عقيدته، بهذه الأمومة الإنسانية. ولكن كيف نفسر انفعالنا بأعمال إلجريكو وهو يعبر عن الجو الروحاني للقديس يوحنا الصليبي أو القديسة تريزا دافيلا، بالأضواء الباهتة، والومضات المائلة للزرقة، وبالتقاطيع البارزة والأشكال الممزقة، مع أننا أبعد ما نكون عن الصوفية؟ ما كان من الممكن أن يحدث ذلك لولا الإحساس بالوجود الإنساني في هذه اللوحات، ولولا تواجد لغة تشكيلية قادرة على التأثير علينا بغضِّ النظر عن موضوع اللوحة.
ويمكننا أن نقدم الملاحظة نفسها على أي عمل آخر خلاف النموذجين السابقين اللذين يتناولان حالات متطرفة، مثال ذلك لوحة «عنزة أمالتيه» لبوسان أو «استسلام مدينة بريدا». فالحدث الذي تحكيه اللوحة الأخيرة لا يثير عاطفتنا ولا يهمنا في شيء، سواء بسواء مثل إناء للفاكهة رسمه سيزان، أو كيس دخان لبيكاسو.
والواقع أن هذه اللوحة تسحرنا لاعتبارات مستقلة تمامًا عن موضوعها. وقد يحكي لنا الموضوعَ المرشدُ المرافق لنا في المتحف فلا يثير في النفس سوى الملل. ولو أني أردت التعرف على الحدث لاستطاع أقل المؤرخين شأنًا أن يقدم لي إجابة أفضل من إجابة أكثر الفنانين عبقرية.
وقد يساهم النموذج أو الحدث في التعبير إلى حد أو آخر عن الصفات الجمالية للعمل، ولكن اللوحة تعتمد أساسًا على هذه الصفات الجمالية؛ فهي التي تهيمن على التأثير الذي تمارسه اللوحة وتحركه في نفوسنا، حسب تعارضات وتآلفات الخطوط والزوايا والألوان والتدرجات، وحسب إيقاع مراكز القوى والتماثل، وحسب المسيرة التي تفرضها على العين بأن تهيئ لها لحظات الراحة والمفاجأة.
وأعمال بيكاسو المسماة كلاسيكية هي أيضًا شديدة التنوع؛ رسوم تحمل طابع أنجر (من عام ١٩١٥م حتى ١٩٢٠م)، ووجوه ذات أحجام عملاقة وخلفها سماوات زاهية (من عام ١٩٢٠م حتى ١٩٢٣م)، وأناقة ناعمة في الأعمال المصورة بلون واحد، والتي أوحى بها التصنع الشائع في القرن السادس عشر، ومن أمثلتها لوحة «الجميلات الثلاث».
غير أن التنوع في إنتاج بيكاسو في هذه المرحلة يتعدى إلى حد كبير تلك النماذج الكلاسيكية المتشعبة.
فهناك أولًا إصرار من جانبه على تصوير أكثر من حدث في آن واحد، وهو أمر مثير للحيرة؛ لأنه من القواعد الثابتة في أعمال بيكاسو. وإلى جانب ذلك، فإن إنتاج هذه المرحلة الممتدة بين ١٩٢٥م إلى ١٩٣٥م، يواكبه تيار خفي من الثقة والسعادة، يتمثل في الزخارف البديعة المبرزة بخط أسود كأنه الرصاص المصبوب حول الزجاج المعشق، يحدد المنحنيات الشهوانية الجذابة كما نرى في لوحة «الحلم» (١٩٣٢م)، وفي «طبيعة صامتة فوق منضدة مستديرة» (١٩٣١م)، و«الفلاحة والسلم» (١٩٣٣م)، حيث تبدو الأضواء كأنها صادرة من خلف اللوحة، مثل ألوان الزجاج المعشق.
ولوحات العمالقة مشكَّلة بأسلوب كلاسيكي وبأقل قدر من التشويه، وهي تعاصر أعمالًا أخرى ألوانها زاهية، معالجة بلا بروز، وبواسطة مسطحات هندسية صغيرة، كما نشاهد في لوحة «إيطاليا» (١٩١٧م)، أو في التكوينات التكعيبية النموذجية في «ثلاثة أقنعة موسيقية» (١٩٢١م) التي تُعتبر من آيات التكعيبية التركيبية.
ولا يمكننا أن نتكلم أيضًا بخصوص المرحلة الجديدة، عن فترة سيريالية عند بيكاسو، فهو لا يخضع للمؤثرات إلا بقدر ما تستدعيها أو تحفرها بخطوط غائرة؛ ضرورةٌ داخلية.
يمجد السيرياليون اللاوعي لأنه — في رأيهم — حقيقة عليا، كما يستغلون المصادفات والتواردات اللامنطقية الناتجة عن التهيؤات والهذيان والأحلام. أما بيكاسو فأبعد ما يكون عن كل ذلك.
بل إننا نلاحظ، على العكس، في المرحلة التي تبدأ عنده في غضون عام ١٩٢٥، بعد انتهاء المرحلة الكلاسيكية والتكعيبية في الوقت نفسه؛ أنه يولي اهتمامًا كبيرًا في أعماله الفنية لنبضات الجنس القوية وللرغبة وللغضب.
وهناك عدد من لوحات الطبيعة الصامتة، تُعتبر من أجمل ما صور في هذا المجال وهو يعالج موضوع المرسم، فكأنه يعبر هنا عن لحظات الانطواء على النفس للعكوف على العمل الذي يسبق الانطلاقة الجديدة. وهذه اللوحات بمثابة «مركب» من اكتشافاته السابقة؛ ففي «طبيعة صامتة مع رأس قديمة» (١٩٢٥م) نجد في آن واحد الوجه الصافي تمامًا في وضع جانبي، والقناع نفسه في وضع مواجه، وتكوينًا ينتمي إلى التكعيبية التحليلية يضم قيثارة مصورة بأسلوب واقعي تمامًا، وأشياء أخرى محورة إلى حد كبير، كل ذلك دون أن تفتقد على أي حال وحدة المجموع وتناسقه.
ومع لحظات الانصراف إلى التفكير الهادئ، ظهرت الوحوش وتكاثرت وكأنها تولدت عن غضب يائس لا يخفف منه سوى ضرب من المزاح العنيف. ويقول تريستان تزارا: «إننا سنسيء فهم بعض المبالغات والتدميرات التي يفرضها بيكاسو على رؤيته للأشياء والكائنات، ما لم نأخذ في اعتبارنا دعابته المأخوذة جزئيًّا من كلٍّ من ألفريد جاري وجويا.»
ومن منجزات بيكاسو المميزة لأعماله في هذه المرحلة لوحة «مستحمة جالسة على شاطئ البحر» (١٩٣٠م)، فهي عبارة عن امرأة آلية تلتهم الرجال، رأسها على شكل كماشة، تذكِّرنا بطرحة الراهبة، وبالأسطورة التي ترمز إليها هذه الآلة الميكانيكية النسائية المكونة من ثديين وظهر وساعدين. ومع ذلك فهي تعبر، بالرغم من الخوف الذي تثيره في النفس، عن راحة متراخية ينعم بها هذا الكائن المشوه، وذلك بفضل الخطوط الرئيسية والألوان الرقيقة من مغرة ذهبية ورمادي مائل إلى البنفسجي.
ومنذ هذا الوقت سيطر موضوعان على أعماله؛ الحركة والكائنات المشوهة.
ولوحة «الرقص» في عام ١٩٢٥م بداية لانطلاقة جديدة؛ فالأجسام هنا ليست سوى دلالات تشير إلى حركة يتزايد احتدامها المجنون؛ فالراقصة القائمة جهة اليسار تتجاوز بمراحل الجسارة التشكيلية التي نشاهدها في «آنسات آفينيون» بانثناءاتها المتهالكة، وأسنانها الأشبه بأسنان الغولة، وبقناع وجهها المتشنج.
وتنطبق على هذه المرحلة بالذات، أكثر من أي مرحلة أخرى، كلمةُ بيكاسو: «لوحاتي مجموعة من التدميرات.» فهو يصب جامَ غضبه على الأشكال العادية الموجودة في الكون.
وجدير بالملاحظة أنه خصص في هذه المرحلة بالذات سلسلة من اللوحات ﻟ «التحفة المجهولة» لبلزاك، كأنه يتآخى مع عذابات الأستاذ «فرينوفر» العجوز الذي «وصل إلى حد الشك في موضوع أبحاثه من فرط استغراقه فيها»، على حد قول بلزاك.
غير أنه ينعم بلحظة هدوء في لوحات كلاسيكية في أسلوبها، صوَّر فيها «التحولات» لأوفيد في عام ١٩٣٠م. وموضوع التحولات يميز إحدى مراحل نشاطه الفني. إنه عصر الكائنات المشوهة المجنونة التي تتولد في خضم الآلام والغضب.
ولكن بوسع كل شيء أن يتغير تمامًا لتنمو الأشكال بغزارة وافرة. فالزوائد الفطرية والالتواءات اللاممكنة تتحدى على الدوام علم التشريح وقوى الطبيعة، ولكنها تخضع دائمًا لقانون إرادة البناء الذي يضفي على المجموع وحدة حية ذات شمول عضوي.
ويعاصر هذا الإنتاج أعمالًا تتميز بصفائها التام.
فنجد الإحساس نفسه بالعذاب وبالبشاعة والألم في تأملات بيكاسو حول أفظع عمليات الصلب، كما وردت في اللوحة الرئيسية لخلفية مذبح أيسنهايم الذي رسمه ماتياس جرونفالد.
حرص بيكاسو على نَسخ أعمال الأساتذة الكبار، أو راح بالأحرى يتأمل أعمالهم وفرشاته في يده؛ فقد أعاد رسم أعمال لكراناش وإلجريكو وبوسان وفيلاسكيز وديلاكرو وكوربيه. على أن استهلاله هذا الاتجاه بلوحة تمثل جبل الجلجلة (الجماجم) له مغزًى خاص؛ فهذا الاختيار يفصح عن حالة الاضطراب الداخلي التي كان يعانيها.
وقد بلغت هذه المرحلة الذروة النهائية أيضًا بلوحة «مصارعة المينوطور» في عام ١٩٣٥م.
ويبدو أن بيكاسو أقام بهذا العمل أكبر أسطورة في حياته الخاصة وفي عصره.
يجب أن نقول أولًا رأينا في التفسير الذي قدَّمه التحليل النفسي، على لسان كورت سيكل، فهو يرى، كاستمرار لأفكار الدكتور يونج، أن هذه اللوحة وسيلة للتسامي بالغريزة الجنسية؛ فالالتقاء الرمزي بين قوى النهار والنور وبين عالم الظلام المقبور، والمواجهة بين العنصر النسائي المتمثل في المرأة الماتادور ذات الثديين العاريين وبين المينوطور الممثل لقوى الظلام والدم، واصطدام الأخير بلا جدوى بالشمعة التي يحملها الطفل الذي يرمز إلى الحب الأسمى؛ كل ذلك تعبير عن «عملية الخلق الناتجة عن التزاوج الأبدي بين النور والظلمات في روح الإنسان». وأيًّا كانت الدوافع الغريزية المحركة لنشاط الفنان، فمن المناسب أن نذكر مرة أخرى أن العمل الفني ليس مجرد محصلة، وأنه لا يمكن اختصاره إلى عملية جمع للقوى المكونة لها.
والتفسير الاجتماعي لا يكفي هو أيضًا. لا شك أن بيكاسو أدرك منذ عام ١٩٣٣م، مع مجيء هتلر إلى الحكم، المخاطرة التي يتعرض لها العالم في هذه المعركة، وأحس بأن الوقت قد حان لإعادة النظر بمزيد من التمعن لا في التقاليد والقيم التشكيلية فحسب، ولكن في نظام العالم وفوضاه الشاملة، مما دفعه إلى الوعي بمغزى الحياة والتاريخ. ويحكي كانويلر أن بيكاسو كلَّمه في عام ١٩٣٣م أمام لوحة «قسم الإخوة هوراس» عن تصوير لا يقدم إجابة على القضايا الشخصية المتعلقة بالكفاح من أجل رؤية تشكيلية جديدة فحسب، بل يجيب أيضًا عن القضايا المؤرقة التي يواجهها الناس جميعًا.
على أنه من الخطأ أن نتصور أن لوحة «مصارعة المينوطور» ترمز إلى معركة الحرية ضد الفاشية.
فالرسم أو التصوير عند بيكاسو لا يحاول أن يحيلنا إلى مفهوم يتخفى وراء اللوحة، أو يرمز إليه بالتجريد كائن مهجَّن له رأس فيلسوف ويد مصور، تطلق باقة من الخطوط والألوان للإشارة إلى فكرة. فالمعنى المقصود ينتشر على مسطح اللوحة عند بيكاسو، والفكرة لا تسبق المعنى ولا ترتفع عليه؛ لأنها جزء لا يتجزأ من الخط أو اللمسة.
فالمينوطور لا يشير إلى القلق، ولكنه القلق نفسه. وقُوى النور التي يدوسها بقدميه ويصطدم بها لا يشير إليها كلٌّ من الطفل والزهور والضوء، بل تتجسد في كل أولئك ولا يمكن فصلها عنها تمامًا، كما لا يمكن فصل الروح عن الجسد.
ولذا نقول إن لوحة صراع المينوطور أسطورة، أي فكرة عظيمة حية وفريدة، لا ترمز لحالة نفسية معينة أو لوضع اجتماعي محدد، بل هي خلق تشكيلي يحمل في ذاته قوته المثالية وأخلاقياته الذاتية.
•••
اشتعلت النار في إسبانيا مع حلول عام ١٩٣٦م … ومرة أخرى احتل «الضد» المقدمة. على أن الطفرة الجدلية التي حققها بيكاسو في هذه المرحلة تفوق كل الطفرات السابقة. كان قد تلمَّس حتى ذلك الحين نبضات عصره العميقة، بالإحساس الغريزي الدفين لكل فنان عظيم، وترجم كل ذلك في سلسلة من الثورات. أما القضية التي أثارتها حرب إسبانيا، وطن بيكاسو، فما كان يستطيع أن يجيب عليها برؤية تشكيلية جديدة فحسب. لا شك أنه كان من المحتَّم أن يعبر بالتشكيل عن الغضب والحب، وعن القلق واليقين. غير أن التزامه التام، ككائن وإنسان لا كمصور فقط، أصبح مطلوبًا الآن حتى تكون أعماله في مستوى الأحداث.
كتب في ذلك الوقت الأديب الكاثوليكي جوزيه برجامين، يتنبأ: «أعتبر أعمال بيكاسو حتى الآن مقدمة لأعماله في المستقبل … فحربنا الحالية من أجل استقلال إسبانيا ستمنح بيكاسو الوعي الكامل بعبقريته التصويرية والشاعرية الخلاقة تمامًا، كما أمدَّت حرب أخرى جويا بنفس الوعي.»
وبالفعل، اقتفى بيكاسو أثر جويا فرسم أيضًا «كوارث الحرب»، فكانت بمثابة قرار الاتهام الأكبر الذي سماه «أحلام وأكاذيب فرانكو»، ثم صوَّر لوحة «ظهر مايو»، ومن بعدها «جرنيكا».
وفي عام ١٩٣٦م سافر بول إيلوار إلى إسبانيا ليفتتح معرضًا لبيكاسو في برشلونة، وهو أول معرض له منذ عام ١٩٠٢م. وقال إيلوار بعد عودته، معبرًا بكلماته عن شعور بيكاسو: «حان الوقت الذي أصبح فيه من حق الشعراء ومن واجبهم أن يؤيدوا كل ما ينبض بقوة في حياة الآخرين، في حياة الجموع.» ونشر ديوان «العيون الخصبة»، وكانت لوحاته بريشة بيكاسو.
حدد بيكاسو موقفه علنًا منذ اليوم الأول. وكان أنصار فرانكو قد أشاعوا أنه قد انضم إليهم، فكتب بيانًا نُشر في نيويورك بمناسبة معرض المصورين الجمهوريين الإسبانيين، جاء فيه: «إن صراع إسبانيا معركة تخوضها الرجعية ضد الشعب، وضد الحرية. لقد كانت كل حياتي، كفنان، معركة متواصلة ضد الرجعية وضد تصفية الفن، فكيف يمكن أن يتصور أحد، ولو للحظة واحدة، أني أتفق مع الرجعية ومع الشر؟!» وأعرب عن سخطه على «الطعمة العسكرية التي أغرقت إسبانيا في بحر من الآلام ومن الموت». وأضاف فيما بعد قائلًا: «لقد آمنت دائمًا، وما زلت أومن، أن الفنانين الذين يعيشون بالقيم الروحية ويعملون بها لا يستطيعون، ولا ينبغي لهم، الانعزال عن الصراع الذي يتهدد أعظم قيم الإنسانية والحضارة.»
وعينته الجمهورية الإسبانية مديرًا لمتحف برادو، وكلفته بزخرفة الجناح الإسباني في معرض باريس الدولي لعام ١٩٣٧م، وقد استجاب بيكاسو، فكانت لوحة «جرنيكا».
استخدم بيكاسو هجوم طيران هتلر وفرانكو على مدينة جرنيكا الصغيرة في إقليم بسكاي يوم ٢٨ أبريل ١٩٣٧م، موضوعًا للوحته دون أن يحكي الأحداث، بل إنه استبعد من لوحته كل رواية، ولم يستخلص سوى الإهانة التي توجهها الفاشية للإنسان. وقدم ما يشبه الصورة الأسطورية لعصرنا في لوحة ارتفاعها ٣٫٥٠ من الأمتار، وعرضها ٧٫٨٠ من الأمتار.
ومرة أخرى نكرر: إننا لسنا بصدد عمل رمزي، بل بصدد أسطورة؛ فالمغزى لا يرد من خارج اللوحة، ولا يمكن تلخيصه في خطاب، ولكنه يؤلف مع الشكل كلًّا واحدًا لا يتجزأ. كان لا بد وأن تكون الألوان آلامًا، وأن يكون الخط أهوالًا أو غضبًا، وأن تكون السيطرة كاملة على التكوين حتى يصبح العمل برُمَّته إدانة، وصرخة يطلقها الإنسان، الإنسان المنتصر حقًّا.
واللوحة مشهد لمذبحة، مشهد بالمعنى الحقيقي للكلمة، مثل المشهد الذي ترتفع أمامه الستارة، ولكنه يسمو على الحكاية المروية أو على الخصوصية، شأنه في ذلك شأن الأساطير القديمة العظيمة. فنحن لسنا بداخل بيت أو خارجه، والضوء لا هو ضوء نهار أو ليل، لا يمكننا أن نقول إن خطوط الضوء الباهتة التي تُبرِز تفاصيل المذبحة، هي أشعة الشمس أو انعكاسات للحريق أو لمخروط ضوئي يرسله مصباح، أو الوضوح المخيف الذي تسكبه النظرة الثابتة على الأشياء.
ويخضع كلٌّ من المنظور والإضاءة هنا لقانون الحد الأقصى من الفعالية؛ فالأضواء والظلال لا تنبع من أي مصدر طبيعي، بما في ذلك المصباح الكهربائي الأشبه بعين تلقي نظرة بلهاء على المشهد، ولا تُبرِز بضوئها القاسي سوى الأشكال الحية المثخنة بالجراح. أما الخلفية فبلون الرماد والكفن والكابوس، وهي تستبعد كل ما يصرف أنظارنا عن الصدمة المأساوية الكبرى.
ويبدو المنظور هنا خاصًّا بكل شيء على حدة، فكل شكل يحمل في طياته حيزه الخاص ويبسطه كل مرة حسب قانون جديد تمامًا، كما تتفتح كل زهرة بطريقتها الخاصة. وهكذا يضفي كل شيء أقصي قدر من الكثافة على هذا النوع من الألم أو البؤس المتفجر من اللوحة.
غير أن هذه المذبحة وتلك الفوضى الشاملة لا تثير فينا الإحساس بالهزيمة أو باليأس، وذلك بفضل التعبير الشكلي وحده.
وهنا يقوم التحكم في التكوين بدور حاسم؛ فاليقين بانتصار الإنسان لا يتولد عن إحدى التفاصيل، ومنها مثلًا وجه امرأة في وضع جانبي أشبه بشعلة تنطلق من النافذة، وتصوب نارها نحو ثور لا يهتز ولا يتأثر، بل ينبع هذا اليقين من التركيب العام للوحة التي تفصح عن الوجود الشامل للإنسان الخلاق والمنظم، عن وجود الفنان – الشاعر المتفوق على تقلبات الأحداث وعلى المجزرة.
وكأن هذه اللوحة مقسَّمة إلى ثلاثة أجزاء؛ مصراعين جانبيين ومثلث كبير متساوي الأضلاع يتوسطهما، وتحتل الشعلة قمته. وتترادف داخل هذا المثلث المحدد الألوانُ السوداء والبيضاء والرمادية، كما تترادف الخطوط المستقيمة والمنحنية معًا فتخلق إيقاعًا يشمل اللوحة بأسرها. ويجسد — إلى حد ما — التنظيمُ المهيب للجموع سيطرةَ الإنسان على الفوضى، وانتصاره على البشاعات.
ومن الخطأ أن نقول إن هذا العمل وأمثاله لا يصل إلى مدارك الجماهير. والواقع أن هذا الفن لا يمتنع إلا على أولئك الذين يريدون تفصيص كل شيء على حدة. وحتى لو لم نحلل تفاصيل بناء اللوحة وفراغاتها، وتوزيع الألوان التي تسيطر عليها تدرجات الرمادي الدقيقة، فإن الانطباعة الشاملة والمحركة للعواطف من خلال هذا العمل، في متناوَل الجميع بشكل مباشر. والادعاء بأن المستوى الأدنى للفن والواقعية المسرفة في السطحية هما الأقرب وحدهما إلى التذوق الشعبي؛ يعني أننا بصدد مفهوم للفن يحتقر الشعب.
طغت القتامة على ألوان بيكاسو مع نشوب الحرب الإسبانية، تمامًا كما اغبر الأفق أيام الشؤم هذه. ويبدو أن العالم بدأ يعاني من التقلصات، ويتفكك مع تصاعد قوى الفاشية والحرب. وتشهد لوحات ورسومات بيكاسو على هذا التقلص، وعلى ذلك العالم الممزق، وعلى البشرية المشوهة بعد تجريدها من الإنسانية. كان بوسع بيكاسو أن يقول: «أنا لم أصور الحرب، لأني لست من هذا الصنف من المصورين الذي يبحث عن موضوع مثل المصور الفوتوغرافي، ولكن لا شك في أن الحرب متواجدة في اللوحات التي صورتها آنذاك. وربما أثبت أحد المؤرخين فيما بعد أن تصويري تغير بتأثير من الحرب.»
على أن الإنسان ليس بحاجة لأن يكون مؤرخًا أو ثاقب البصيرة لكي يلاحظ الأخدود الأسود الذي حفرته الحرب في أعماله.
- ١٩٣٧م: من أي نظرة داخلية لبلاده، إسبانيا المعذبة، تولدت لوحة «امرأة تبكي»؟
- ١٩٣٩م: ألا نرى في لوحة «القطة والعصفور» وفي أسلوب تصويرها، رمزًا للقسوة التي أصبحت قانونًا يحكم العالم؟
- ١٩٤٠م: ليست هناك أي لوحة تاريخية تستطيع أن تعبر عن بشاعة الاحتلال النازي وانتصار الحيوانية ومعاداة البشرية؛ بقدر ما عبرت عن ذلك الوجوهُ المشوهة المصورة في رويان في يونيو سنة ١٩٤٠م. والحق أن الواقعية الفوتوغرافية كانت كاذبة في ذلك الوقت؛ لأن الجيش الذي دخل المدينة في مواكب الاستعراض العسكري كان لا يزال يتملق وينافق قبل أن يُسفِر عن وجهه الحقيقي.
وفي هذه المرحلة نفسها، صور بيكاسو «امرأة عارية تمشط شعرها»، وهو موضوع قد يبدو تافهًا، ولكن ليس هناك ما يفصح عن مأساة اندحار الإنسان بقدر ما أوضحت هذه اللوحة.
يعبر تصوير المرأة عند بيكاسو أحيانًا عن رقة محببة إلى النفس، كما ينتزع في حالات أخرى صرخة استبشاع تخرج من القلب. وجدير بالملاحظة أنه عبَّر من خلال ملامح المرأة المستميتة والمثيرة للقلق؛ عن رؤياه البشعة التي لا تحتملها العين تمامًا، كما جسَّد الإغريق القسوة والعنف في الأرينيه.
ولكن عندما تصبح مهمة التصوير التعبير عن موقفنا تجاه العالم، فكيف نصور رمز ربات الغضب الدمويات في عصرنا، بحيث تكون طبيعتها أبشع مما اكتشف باسكال وأكثر فسادًا مما تراءى لبودلير؟ وما هي الخطوط القادرة أكثر من غيرها على التعبير عن أيام أورادور وأوسفيتش لنصرخ بالجنون والغضب؟ إن التمادي المجنون لا يعبر هنا إلا عن حكم صادر ضد التعقل؛ فالتمسك بالعقل يكون في هذه الحالة ضربًا من الجنون. ويمكننا أن نكرر هنا كلمات جويا التي فسر بها المخلوقات الغريبة التي جاد بها خياله وسخطه: «الحلم الحقيقي يولد الكائنات المشوهة.»
ولا شك أن بيكاسو كان يشعر بالأحاسيس نفسها التي عبر عنها أراجون بالكلمات التالية في الفترة نفسها:
ويعي بيكاسو ذلك تمامًا: «لقد أثبتت لي سنوات الاضطهاد أنه يتعين عليَّ ألا أكافح بفني فقط، ولكن بكل كياني.» وأكَّد بقوة: «ماذا تظنون في الفنان؟ رجلًا أحمق لا يملك سوى عينين إذا كان مصورًا، وأذنين إذا كان موسيقيًّا، وقيثارة في كل طبقات القلب إذا كان شاعرًا، أو حتى عضلات فقط إذا كان ملاكمًا؟! لا، إنه على العكس من ذلك، كائن سياسي دائم اليقظة أمام أحداث العالم يتشكل بها جميعًا، سواء كانت أحداثًا تمزِّق القلب أو أحداثًا رقيقة أو مثيرة.»
والحق أن بيكاسو أحس دائمًا وبعمق بالفقر وبالإهانة وبطبيعة الإنسان، ابتداءً من رسوم العميان ومتسولي برشلونة والبهلوانات الحزانى والأمهات، حتى الاحتجاج الإنساني العظيم المتمثل في لوحة جرنيكا. غير أن الجديد عند بيكاسو الآن ليس مجرد التضامن مع الناس في أفراحهم أو بؤسهم، بل التضامن معهم في الكفاح. والجديد أيضًا أنه أصبح واعيًا تمامًا بأن المصور الثوري الحقيقي لا يكون ثوريًّا لأن تصويره موجَّه ضد نوع آخر من التصوير، بل لأنه موجَّه ضد الأوضاع وضد العالم الناتج عنها. لقد أدت جدلية التمرد التي تكلمنا عنها في البداية إلى ثورة حقيقية، ولا يُعتبر ذلك تحولًا عند بيكاسو، بل استكمالًا، وقد أعلن بنفسه: «إن انضمامي إلى صفوف الحزب الشيوعي استمرار منطقي لكل حياتي ولكل أعمالي، وإني لفخور بأن أقول: لم أعتبر التصوير في يوم من الأيام مجرد فن للترفيه أو للتسلية، لقد أردت أن أتوغل أكثر فأكثر في تفهمي للعالم وللناس، بالرسم والألوان؛ لأنها أسلحتي في هذه السبيل.» وأوضحَ بجلاء أن «التصوير لم يُخلَق لتزيين الحجرات، إنه سلاح حربي هجومي ودفاعي ضد العدو».
لقد انضم بيكاسو للحزب الشيوعي الفرنسي باسم مبادئ ماضيه الذي يفخر به، ولم يفعل ذلك لكي تتطابق أفكاره السياسية مع عمله الفني، ولكن لأن المسيرة الحتمية لأعماله كانت لا بد أن تقوده إلى ذلك الطريق. لقد أصبح شيوعيًّا من أعماق كيانه؛ لأن تعمقه في تمرداته كفنان جعل إيقاع حياته منسجمًا مع إيقاع حركة التقدم في العالم؛ فقد الْتقى بالحركة الصاعدة لعصرنا من خلال مضيِّه في طريقه الخاص الصاعد. وقد عبر هو نفسه عن ذلك بقوله: «لقد سرتُ إلى الشيوعية كما يذهب المرء إلى مورد الماء.»
وقامت ضجة هائلة، وعبَر نقادٌ جهلاء المحيطَ الأطلنطي ليسألوه: هل يجبره هذا الانتماء على تغيير أسلوبه في التصوير؟! كأن الاشتراكية تحتاج، في البلد الذي نشأت فيه مدرسة التصوير الباريسية، إلى من يعبِّر عنها بأسلوب سان-سولبيس، أو كأنها تطالب مصوريها بالعودة إلى عهود جروز أو دافيد أو كوربيه، أو إلى أي عهد من عهود تطور الواقعية البرجوازية، وتلح عليهم ليعملوا في تجاهل تام لوجود سيزان أو ماتيس أو التكعيبية!
إن الالتزام الوحيد الذي يمكننا أن نطالب به المصورين هو أن يكونوا مصورين، أي أناسًا قادرين على اكتشاف أنواع التشكيل المناسبة للتعبير عن زمننا، وهذا لا يستلزم إطلاقًا التصوير بأسلوب بيكاسو، وبالأحرى بأسلوب القرن السابع أو الثامن أو التاسع عشر. وربما فسر كبار الفلاسفة وعلماء الجمال الماء بالماء فقالوا لنا: «التصوير في الوقت الحاضر ليس تصوير الماضي لا في مواضيعه ولا في أسلوبه.»
أما الجديد في الخلق الفني لبيكاسو بعد أن أصبح شيوعيًّا فهو أنه مكافح من أجل البهجة، سواء في حياته أو في تصويره.
كان هذا المصور يلح في التعبير — بإيماءات الأيدي المبتهلة — عن الحاجة إلى وجود وإلى دفء إنسانيَّين. وها هو يدرك الآن أنه لم يعد وحيدًا: «كنت أتوق لأن يكون لي وطن، وكنت دائمًا من المنفيين. أما الآن فلم أعد كذلك.» وقال وهو يتحدث عن لانجفان وجوليو كوري وأراجون وإيلوار، رفاقه في الحزب: «لقد عدت من جديد وسط إخوتي … الذين أكنُّ لهم كل احترام، إنهم أكبر العلماء وأكبر الشعراء، عدت لكل الوجوه الجميلة للثوار التي رأيتها في أيام أغسطس.»
عادت مرة أخرى أيام الحياة ونشوة الحياة. ويبدو أن بيكاسو اكتشف آنذاك في كل شيء الإشراقة والابتسامة التي تشف في نفسه، حتى في أبسط الأشياء وأكثرها شيوعًا. ففي لوحة «طبيعة صامتة لكسارولة مطلية بالميناء» تكتسب شطفات البلور المكعب لون السماء، وتنسجم منحنيات الدورق مع حافة المنضدة المعقوفة، لتصل باللهب إلى قمة عقد، ويلتقي مخروط ظل العقد مع قوس هابط، وتلمع النشوة الجديدة في هذه الأشياء البسيطة المغردة مثل الزجاج المعشق.
و«المرأة الزهرة» تتمايل على غصنها بعيون أشبه بعيون أطفال، بوُرَيقاتها وأوراقها وثمارها.
أما منظر «مينرب» فيبدو كأنه رسوم لديكور باليه مرح، تشع خضرته بالضياء.
وتأملاته ساحرة في لوحة «داود وبتسابيه» لكرانش بزخارفها المتشابكة. وتأملاته في «الحفل الصاخب» لبوسان عبارة عن إحساس بنضج الحياة.
وهناك عمل واحد يلخص كل النشوة التي نصادفها في لوحات الطبيعة الصامتة، وفي صورة المرأة الزهرة، وفي مناظر مينرب وأنتيب، وفي الفن الشعبي وأساطير الماضي. هذا العمل يحمل اسمًا له مغزاه، وهو «نشوة الحياة».
كُتبت هذه اللوحة بزخارف من المرح، ويبدو كل خط من خطوطها كأنه لا يحدد الحواف، بل يرسم حركة. وهي تتناول بخفة أقدم الأساطير الشعبية بحيواناتها وقنطوراتها وحورياتها وماعزها الراقصة، كما أنها تبسط الأشكال كما لو كانت نقوش أوراق نامية نابعة من الأرض لا بشكل زخرفي، بل كأنها تنمو تلقائيًّا. واللوحة بلون السماء والسنابل، كما يشترك البحر والرمل في دورة الموسيقى والرقص حول المينياد.
ويدرك بيكاسو أن هذه اللوحة قادرة على إحداث انطباعة عضوية مباشرة نشعر بها في كياننا أيًّا كان مدى تفوق الحرفية. وقد قال بهذا الصدد: «في هذه المرة على الأقل، كنت أعلم أني أعمل من أجل الشعب.»
وكأن يديه تريدان التمكن من كل شيء لتغييره بنفس الرغبة العارمة المرحة.
وخاض بيكاسو تجارب الحفر على الحجر، وواصل عملية استكشاف خطوط القوة الرئيسية داخل التكوين وهو يعالج موضوع «المرأتان العاريتان».
كما شُغف أيضًا بمعالجة المادة وبتجارب النار الساحرة التي تحول الألوان، فاشتغل ابتداء من صيف ١٩٤٧م مع خزافي فالوري لا في زخرفة الأواني فقط، كأن يحول الطبق البيضاوي إلى حلبة مصارعة بمدرجاتها وجموع المشاهدين وهياج الثيران، بل ساهم في تغيير شكل الأواني نفسها، فحول الوعاء إلى بومة أو امرأة أو ربة من الأرباب. وتذكِّرنا هذه الأواني دائمًا بالأوثان الغريبة المكتشفة في جزيرة كريت وفي ميسين، حيث كان فنانو حوض البحر الأبيض المتوسط يُضفون منذ آلاف السنين أشكالًا أسطورية أو غريبة على الفخاريات لتهدئة مخاوف الشعب أو لتجسيد آماله.
وجاءت مناسبة رائعة حقًّا، أتاحت لبيكاسو تجسيد آمال الشعوب، فقدم في عام ١٩٤٩م «الحمامة»، شعار حركة السلام العالمية.
وقد حصلت هذه الحمامة في آن واحد على وسام أكاديمية الفنون الجميلة في فيلادلفيا، والجائزة الدولية للسلام، واحتلت مكانها في آلاف البيوت التي لم يطرقها الفن من قبل.
وقد أبدى البعض دهشتهم؛ إذ طاف رسم لمصور معروف، لا من متحف إلى معرض، ولكن من قرية إلى قرية، هذا بالرغم من غموض هذا الفنان وصعوبة فهم أعماله. غير أن المصادفات لا تكون بالغة التأثير إلا إذا استدعتها الضرورة. وانتصار «الحمامة» في القارات الخمس ليس سوى انتصار أحرزه أكثر الفنانين إنسانية وعالمية. وكما كتب دانيال هنري كانويلر، أحد رواد التكعيبية، ومن خير نقادها: «إذا كان ملايين الناس يرَون اليوم في بيكاسو، مصورِ الحمامة، رجلًا من أنصار السلام، فإنهم يكونون بذلك أقرب إلى بيكاسو الحقيقي من علماء الجمال البؤساء الذين يستعذبون بعض لوحاته، فلا يرَون فيها سوى مساحات ملونة ليس لها أي مضمون، ولكنهم يولون ظهورهم في ازدراء وتقزز عندما يشاهدون لوحة «مذبحة كوريا».»
إن بيكاسو مخلص لمبادئه الراسخة، وهو مع الإنسان المعاصر في كل معاركه، يناهض الإنسان الآلي وما يخالف طبيعة الأمور، سواء ظهر في جرنيكا أو أوسفيتش، أو كوريا أو إسبانيا، أي في كل مكان تُوجَّه فيه الإهانة للإنسان ولمستقبله. وهو يصور أعداء البشرية كما لو كانوا كوابيس فرانكشتاين، فيكثِر من استخدام الأساليب الوحشية للقرون الوسطى مع إدخال الاستحداثات عليها؛ فهو يضع خلف دروع العصور الغابرة أسلحة لا نعرف لها اسمًا، وسيوفًا مفلولة.
وقد صور هذه الحقيقة الرئيسية التي يعيشها عصرنا في مبنى كنيسة سابقة في فالوري، كانت فيما مضى مِلكًا لرهبان الليران.
ولا يكتفي بيكاسو في لوحتَي «الحرب» و«السلام» بالجمع بين قطبَي حساسيته، كأنه يعقد مواجهة بين «جرنيكا» و«نشوة الحياة»، ولكنه يبين لنا ويشعرنا أيضًا بإمكانية الاختيار المتاحة للإنسان في مفترق المصير، في وقت أصبح فيه من الممكن أن تحوِّل الطاقة الذرية الأرض إلى جحيم، أو أن تمنح الإنسان إمكانيات لم يسمع عنها من قبل، تتيح له حياة سعيدة.
وهنا أيضًا لا يتكلم بيكاسو بالرموز التي تحتاج إلى حل لها كالألغاز. فسواء تعلق الأمر بالحرب أم بالسلام، فإن الشكل لا يحيلنا إلى المعنى المقصود، بل يحمله في طياته ويفيدنا به دون وساطة اللغة أو المفهوم.
وبالطبع يوجد فيض من الرموز في أبسط أشكالها وفي قمة سذاجتها. فالحرب عبارة عن عربة موتى حقيرة في سباق متهالك ومتفسخ، وكتب مشتعلة وأيدٍ مقطعة وسرطان الأسلحة البكتريوليوجية والنووية، والعجز الفاضح للبُلَط والسيوف والحراب المتتالية في نظام يذكِّرنا بالعميان في لوحة بروجيل وهم يتساقطون. وفي مواجهة هذه الحرب، تقف الإنسانية العارية، متمثلةً في المقاومة بأسلحة النور وبميزان العدالة وبسنابل الخصوبة، وبوجه بالوما (ابنة بيكاسو) الملائكي المنقوش على ترس المحارب.
و«السلام» شجرة تطرح ثمارًا من ذهب. وهو مجسَّد في الخصوبة والكتاب والعمل والحساب، وهو العين والشمس المتحدثتان معًا، وجواد فرساوس المجنَّح وهو يحرث الأرض، ورقصة النسوة العاريات الصدر والعصافير السابحة والأسماك الطائرة التي الْتقطتها يد إنسان في توازن يتحدى ساعة الزمن، وهو أيضًا بومة أتينا التي راحت تطير قبل أن يرخي الليل سدوله. وهذه الرمزية البسيطة السهلة الإدراك، هي الخط الموجه للتذكير بالمعنى الأساسي المقصود.
أما تسلط فكرتَي الموت والسعادة القصوى فلا تحتاجان لمثل هذه الصور؛ إذ نحسُّ بهما مباشرة بوجودهما المجسد.
وكان كلود روا محقًّا في ملاحظته عندما قال إن لوحة «الحرب»، على خلاف «جرنيكا»، تؤكد لنا أنها أمر غير مقبول، وتكشف لنا عن سخفها، أي تثبت أنها مَدعاة للسخرية.
وعلى خلاف «نشوة الحياة»، نجد في «السلام» أكثر من وفرة الحياة، وأكثر من النشوة الحيوانية؛ إنه حلم بقوة الإنسان، وتأكيد لقدراته التي لا تعرف حدودًا.
وذلك لا تقوله لنا الرموز، بل تقوله لنا الخطوط والألوان بلغتهما المباشرة.
ولسنا في حاجة هنا إلى تلمُّس الخطوط الخارجية أو المعنى الحرفي للموضوع لكي نحس في كياننا بالصدمة أو الدعوة، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للوحة لديلاكروا أو لفان جوخ.
فعندما يصور لنا ديلاكروا نهاية شارل الجَسور في معركة نانسي، فإننا نحس تمامًا بثقل المصير الذي لا يرحم من خلال التناقض المأساوي في الألوان، ومن خلال الحركة العامة للكتل والخطوط، حتى إذا لم نتمعن في أيٍّ من تفاصيل المشهد. وفي لوحة «الحرب» يرزح فوق صدورنا ثقل تلك الكتلة المشرفة على نهر من الدماء، ويؤكد العنف الدرامي للألوان الصماء. وتتدرج ألوان الكتلة بين البني المائل إلى الحمرة، وبين الرمادي الرصاصي الذي تتخلله الأشباح السوداء. وفي الوقت نفسه يمزق هذه الكتلة الصماء شرخان؛ أولهما المنحنى الأخضر خلف عربة الموتى المحملة بالجماجم، فهذا الخط الأخضر يتغلغل بين عريش العربة و«سيور» جياد الليل كأنه خط الحياة الذي ينخر في قوى الموت، أما الشرخ الثاني فيتمثل في لهيب الكتب المحترقة، ويشع كنجم ذهبي بالرغم من أنه محصور إلى حين بين قوائم الحيوان الذي يدوسه. وهكذا يوحي إلينا توزيع الألوان بالثقة في استحالة قهر الفارس المسلح بالنور، والمتحصن خلف سنابل القمح، وجدران القلعة اللازوردية المنيعة.
وكذلك أيضًا تهزنا لوحة «السلام» بحكم بنائها وتوزيع ألوانها، فكأن كتل أجساد النساء تفجرت ليتفتح سطح كل البشرة عن طريق منظور خاص بكل شكل، وهو منظور دائري، كأن النظرة تتحرك حول محور. أما العين أو الشمس التي تنطلق منها فروع، فتُبرِز التباينات المتتالية لكي تصدح الألوان بذبذباتها الحادة، فتزيد من كثافة الخلفية المعدنية الزرقاء المائلة إلى الخضرة التي ينبسط أمامها مشهد العمل والنشوة.
•••
لا يُعتبر أي عمل من أعمال بيكاسو نقطة وصول؛ إذ تولَّد شيء جديد مع كل عمل من أعماله خلال السنوات الستين الماضية. وتتزايد قدرته على التجديد، حتى إن لوحات السنوات الأخيرة تقدم في أغلب الأحوال أكثر العناصر حداثة، وأشدها خروجًا عن المألوف بالنسبة لإنتاجه الضخم.
تعمق بيكاسو في بحث قضية الشكل، واكتشف رؤية جديدة؛ ولذا أنكر عليه البعض أنه من كبار المصورين البارعين في التلوين. ولكن تأملاته الطويلة في لوحة «منين» لفلاسكيز، والنوافذ المغردة التي صورها في المرحلة نفسها، توضح أنه يحمل هو أيضًا «الشمس في جوفه»، على حد قول ماتيس.
والواقع أن شغفه الشديد بأعمال ديلاكروا، الذي تشهد عليه دراساته حول «نساء مدينة الجزائر»؛ يكشف عن تعطش جديد إلى اللون، وعن تسلط فكرة الحركة التي لم تكن قد اتضحت بعدُ في أعماله.
ويؤكد هذا الاتجاهَ عند بيكاسو أعمالُه في عام ١٩٦٣م، ومنها بالأخص سلسلة معالجاته ﻟ «اختطاف السابينيات».
ويبدو أن بيكاسو الذي شق طرقًا عديدة للتجديد الشامل في التصوير أدرك أنه لم يكتشف بعدُ إلا بعض هذه الطرق؛ ولذا فهو لا يتردد في السير في غيرها كلما بدت له أخصب، وحتى لو كانت مفرطة في البعد عن ميوله.
وهكذا أقام حوارًا مع بعض تلاميذه الذين تمثلوا أعمق ما توصل إليه دون أن يعمدوا إلى النسخ أو المحاكاة.
ومن هنا يبدو لنا «اختطاف السابينيات» طرحًا لقضية تشكيلية، أدار بيكاسو النقاش حولها مع إدوار بينيون، أكثر المصورين الحاليين قربًا منه، لإحساسه مقدمًا بكل إمكانيات الثورة التي بعثها بيكاسو في التصوير، ولأنه في الوقت نفسه أكثرهم بعدًا عنه بسبب طابعه الخاص، وإلهامه الشخصي البحت.
وكان من حظ بينيون التتلمذ على يد بيكاسو، بل والعمل بجانبه، دون أن يتحول إلى أحد أفراد الجيل التالي له؛ إذ واصل المسيرة التي بدأها أستاذه بطريقة غير متوقعة. فأسلوب تواجد بينيون في العالم يختلف عن أسلوب بيكاسو، بالقدر نفسه الذي تختلف به نظرة ديلاكروا الديناميكية للعالم عن نظرة أنجر الاستاتيكية.
فسواء صور بينيون مصارعات الديوك أو المراكب الشراعية أو جذوع الأشجار أو أمواج البحر العاتية، فهو يشارك في المعركة، ويدفعنا إلى المساهمة فيها.
وهنا تتكون من مفهوم العالم ومن الحرفية وحدةٌ واحدة، حتى إن محاولات تعريف أسلوبه في إثبات وجوده في العالم لا بد وأن تتناول، في آن واحد، مفهومه للعالم وحرفيته بلا أي فاصل بينهما.
علَّمَنا بينيون كيف نرى الواقع بعيون عصرنا، ذلك العصر الذي يستدعي منا الإمساك بتلابيبه حتى نرى الواقع ونعبر عنه. فالعالم ليس استعراضًا أو مشهدًا مسرحيًّا نتفرج عليه من خلال أداء الممثلين لأدوارهم ونحن قابعون في أماكننا. ومن هنا لا نستطيع، من الناحية الحرفية، أن نضع الواقع بكل هدوء في علبة زجاجية على غرار المنظور في عهد النهضة، أو أن نشاهده من بعيد من خلال نافذة ألبرتي. لا شك أن ذلك النوع من الوجود له عظمته في حينه؛ كانت إنسانية حركة الكواتروشنتو (القرن الخامس عشر) تعبر عن تحديد مكان الإنسان من العالم ومن الله، وتؤكد استقلالية عقله وقدرات هندسته. كانت نشوة تعقُّل المكان وإعادة بنائه بمثابة تأكيد لقدرة الإنسان على فهم العالم، وعلى السيطرة عليه بالوسائل التكنيكية.
أما الإنسانية العمالية المكافحة والمشبعة بروح بروميثيوسية فلها متطلبات أخرى. فعندما يحطم بينيون نافذة ألبرتي، ويقفز على خشبة المسرح ليحطم الأعمدة التي تحمل مكعبات المنظور الكلاسيكي، ولا يحاول تحديد مكانه من الواقع، بل يسعى إلى إلغاء المسافات بأن يلصق عينه بالأشياء تمامًا كما نراها أثناء المشاجرات، وعندما يحول التصوير والمشاهد إلى مساهمين فيها، فإن هذا التصوير يكون مناسبًا بدرجة أكبر لإيقاع وروح عصرنا الذي عاش تغيرات عميقة، سواء في العالم أو في الإنسان. لم يعد العالم مجموعة من الأشياء والقوانين المحددة والمرقمة والموضوعة بنظام ثابت ومستقل عنا وعن نشاطنا، لم يعد العالم كذلك، سواء بالنسبة للفني أو لرجل العلم أو للسياسي أو للفنان. ولا يمكن أن يكون العلم أو الفن أو التطبيق، أيًّا كانت صورته، مجرد عملية جرد تحليلية بحتة لطبيعة ثابتة، ولإنسان محدد نهائيًّا، ولأخلاقيات تخضع لقواعد أزلية.
إن العالم مجال تصارع قوًى مختلفة، والإنسان أحد هذه القوى التي تواجه القوى الأخرى. وسواء كان هذا الإنسان عالم طبيعة أو مكافحًا سياسيًّا أو فنانًا مصورًا، فهو لا يكون أمام الأشياء، بل بداخلها.
وأعمال بينيون تقحمنا في هذه التجربة الحية للخلق المستمر للعالم وللإنسان بواسطة الإنسان نفسه.
وتوجد أساليب أخرى ﻟ «التباعد» عن الواقع ومعاملته كمشهد، لا يقبلها بينيون. فهناك مثلًا الأسلوب التأثيري الجديد بزعامة سوراه وسينياك، وهو يعتمد على الحرفية المدققة في لمساتها، وعلى المقاييس الدقيقة، فيفصل بين الفنان والعالم بحسابات علماء الرياضة والطبيعة، ويضع بذلك حاجزًا يفصل بلا أي انفعال بين الفنان والأشياء، ويمنعه من أن يتلمس بشكل مباشر دسامة الأشياء وحركتها.
إن وجود الإنسان وإيجابيته في العمل المصور يحوِّل هذا العمل إلى عالم صغير وإلى شمول عضوي حي. وقد تغيرت أشكال هذا الشمول خلال التاريخ، ويعتبرها بينيون إحدى السمات الأساسية للتصوير الحديث. ومن الممكن تحقيق تلك الوحدة بتكوين الأشياء كما هو الحال عند باولو أوسيللو، وبالأضواء كما هو الحال عند رامبرانت، وبالألوان كما هو الحال عند فان جوخ. ولكن العمل الفني لا يتحقق إلا بالإيقاع الداخلي الشامل. أما الشكل الخاص المميز لبينيون في هذا الشمول فيضفي الطابع الإنساني العام على العالم كله؛ فوجود الإنسان وجهوده ملموسة عمليًّا في كل مكان. كان سيزان يحلم بالتوفيق بين «مناكب التلال ومنحنيات النساء»، ويواصل بينيون الطريق الذي بدأه سيزان، وهو طريق يتجه نحو نسخ الواقع ببناء اللوحة بعناصر يبدعها الإنسان، ولا يستعيرها من الطبيعة مباشرة.
ففي لوحات بينيون، تتحول الأشجار والحيوانات والمنازل والصواري والسحابات والناس إلى عضلات متشابكة يوتِّرها مجهود إرادي واحد. وكثيرًا ما يكون هذا التوتر من الشدة بحيث تبدو كأنها عضلات جسم سُلخ جلده، فكشف عن الدماء والألياف.
وقد استفاد بينيون من الثورة التي أطلقها بيكاسو لكي يصل إلى ذلك الانقلاب العميق في الفضاء التصويري. إنها لثورة تشبه ثورة كوبرنيكوس، تعتبر أن العالم يدور حول الإنسان، وتؤدي إلى تغيير عميق في الأشياء.
على أن القضية الشخصية تمثلت في ترجمة الحركة إلى لغة تعبر عن إرادة المشاركة والشمول.
وقد تعرض رودان لهذه القضية، كما توصل إلى حل لها بالربط التركيبي بين الإيماءة المخططة والإيماءة المنجزة. وهكذا تتجمعان معًا في ذاكرتنا، وفي مخيلتنا التي لا تخضع لمقتضيات التصوير الفوتوغرافي اللمحي. فالتصوير اللمحي يثبت الحركة في إحدى لحظاتها، في حين أن ذهننا الذي لا يكف عن النشاط يلتقط ويصوغ ما حدث وما سيحدث، بدلًا من تجميده في «لحظة مجردة» من لحظات الحركة، فيبدو الإنسان وكأنه «يحجل» عند إيقاف حركته للحظة لا تتجاوز واحدًا على الألف من الثانية. لقد علق رودان على لوحة «القديس حنا المعمداني» قائلًا في مجرى معارضته للاستشهاد الآلي بعدسة التصوير: «الفنان هو الصادق، أما الفوتوغرافيا فهي الكاذبة؛ لأن الزمن لا يتوقف في الحقيقة.»
ولا يكتفي بينيون بتكثيف عدة لحظات من الحركة في صورة واحدة. فعالمنا هذا في صيرورة دائمة، وهو ميدان تصارع بين قوًى مختلفة، كما ترى فلسفة هيراقليطس؛ ولذا فالزخارف والخطوط المتشابكة والمتقاطعة تلخص عالم الحركة.
والخط الممدود لا يحدد الحواف بقدر ما يرسم خط السير، ويدل على الإيقاع أكثر مما يدل على أي شيء آخر.
وكثيرًا ما يقوم اللون بمهمة اللحن المقابل، فيتبع تموج الخط الأسود الممدود ويتوافق معه، وهكذا يرشد الخط اللون ويبرزه من خلال التباين. ولا شك أن ذلك يفسر لنا أهمية اللونين الأسود والأبيض بين مجموعة الألوان التي يستخدمها بينيون، فهما أنسب الوسائل لتفجير الأشكال أو لإشعال حرائق من الألوان.
وتساهم اللمسة في مشاركة الفنان والمشاهد في الحركة. وينفعل بينيون بعمل البشر كما انفعل فان جوخ بعذابات الطبيعة. على أن لمسات فان جوخ كانت تنتشر كبُرادة الحديد حول مجال مغناطيسي، وفي نظام تتحكم فيه الحساسية المفرطة. أما لمسات بينيون فتصل إلى أقصى حد من التوتر كما لو كانت أليافًا عضلية تبذل مجهودًا، وتتشابك مثل القبضات.
ومشاهدة لوحة لبينيون ليست مجرد تأمل، بل عمل إيجابي يستلزم التواجد الشامل للإنسان، ويدعو إليه نداء ملحٌّ يوجهه العالم. إنه أشبه بالالتحام بالمعنى الذي يقصده المصارعون بهذه الكلمة، أي إنه يفرض على عيوننا وعلى عضلاتنا الإحاطة والتوتر والمقاومة والتماسك.
وهكذا يهتدي الفن من جديد إلى أصوله الحية؛ العمل والسحر. وكثيرًا ما تدعونا لوحات بينيون إلى التفكير في جدران كهوف لاسكو وألتاميرا عندما كان الإنسان يعبر في عهود الحياة الأولى عن شبح بقرة وحشية، أو وعل بمجموعة واحدة من الخطوط المتشابكة. كان الإنسان البدائي يبرز في آن واحد الوضع الجانبي الخاطف للحيوان وانطلاقاته، مع التعبير أيضًا عن رغبة الإنسان، أي ملاحظته الدقيقة، وعن المفعول السحري للرسم.
إن البحث في الثقافة الفنية الممتدة عبر آلاف السنين يسمح لنا بالتوصل إلى درجات أعلى في نضارة الرؤية وقوة التحكم.
ما أبعدَنا هنا عن اللوحة الكلاسيكية التي تحاكي الواقع، وعن اللوحة-الموضوع، في بداية هذا القرن! وعن اللوحة-الآلة التي يدعو إليها التجريد! إن اللوحة-القوة تستأثر بنا بكل جوارحها وبراثنها.
ويتمثل الواقع في اللوحة-القوة في المشاركة، لا بالمعنى السحري للكلمة، ولكن بمعنى العمل والصراع.
والواقع الفني ليس مجرد أشياء منعزلة عن الإنسان كما تصورته المدرسة الطبيعية.
وهو ليس الأنا المنعزل عن الأشياء كما تصورته المدرسة الرومانتيكية.
إن الواقع وحدة بين الأشياء والإنسان من خلال العمل. إنه واقع عمالي وكفاحي، يشعر الإنسان من خلاله أنه مسئول عن كل شيء؛ عن العالم وعن مصيره، عن نفسه وعما ينقصه، بل وعن جمود حركة الأشياء أيضًا.
وهذا التصوير ليس مجرد رسم للأشكال بالمفهوم الضيق والضحل للواقعية، الذي يكتفي بنقل صورة الأشياء في عالم لا وجود للإنسان فيه.
وهذا التصوير ليس تجريديًّا بمعنى اقتصار مهمة العمل الفني على تلبية المقتضيات الشكلية وحدها، أو «الضرورات الداخلية» وحدها كما يسميها كاندينسكي.
إنه تفهم إنساني للواقع لا يحس به سوى العامل أو المكافح، إنه ليس واقعًا نتأمله، بل نعيشه ونغيره. ويعرِّف بينيون العمل فيقول: «لا بد من نوع من الإيقاع الغريب، ومن إحساس بنبضات الأشياء، فنشعر بالفرح عندما يتضح لنا أن العضلات تستجيب … تلك هي الحالة النفسية والجسدية للعامل المنطلق في عمله الموفق … انظروا لهذه الحواف، إنها تفيض بأعداد من القائمين بعملية الحصاد … إنه احترام للعمل … وقد تعتبرون ذلك ضربًا من الغنائية.»
ومن الأصوب أن نقول إنها ملحمة.
فبينيون، المصور لأعمال الإنسان ومعاركه، ليس شاعرًا غنائيًّا لا يعبر إلا عن ذاته، بل إن واقعيته الملحمية تناسب زمننا.
وهو يعمل بوضوح تام. كان بيكاسو يقول عن جوان جري: «ما أجمل أن يعرف الفنان ما يعمل!» وهذا القول ينطبق على بينيون. فوعيه الجمالي في مستوى قدراته الخلاقة، وهذا التوازن نادر للغاية عند المصورين.
وتكمن أهمية تصوير بينيون في تعبيره عن القانون الحقيقي والعميق لعصرنا. وهو واحد من خير الشهود على زمننا.
ومن هنا يتضح مغزى المرحلة الجديدة التي استهلَّها بيكاسو ﺑ «اختطاف السابينيات».
كان سيزان، ومن بعده بيكاسو، يعيدان النظر في مفهوم الحيز بعد أن أضحى تقليديًّا منذ عهد النهضة. وفي نفس الوقت، كان العلم يعيد النظر هو أيضًا في هندسة إقليدس ونيوتن وكانط، ولا يعتبر الفضاء مجرد فراغ ثابت لا يتحرك.
وكان علم الطبيعة، شأنه شأن التكعيبية، يعيد النظر في المفهوم التقليدي والآلي للأشياء وللذرة، باعتبارها حقائق قابلة للعزل التام ذات تركيب لا يتغير، ووضع محدد وثابت. أما الآن فإن علم الطبيعة يعتبر الشيء مجرد نقطة فريدة في مجال القوى، ولا يمكن تعريفه إلا في علاقته بالمجموع، كما يثبت أيضًا أنه لا توجد مادة بدون حركة، ولا حركة بدون مادة، وأنه يستحيل سبر أغوار الواقع.
لم يكن الانقلاب أقل شأنًا من ذلك في العالم الإنساني. فمنذ نصف قرن من الزمن، قضى علم النفس على التصور التجريبي لعالم المدركات القائم على «المعطيات المباشرة» للحواس، وعلى التصور الميتافيزيقي القائم على تحليل النفس الإنسانية إلى ملكات متميزة عن بعضها البعض، يمكن عزل كل منها على حدة. وقد تصدى بوليتزير لهذا التجزيء، كما تصدى أيضًا ﻟ «المعطيات المباشرة» عند برجسون، وقدم في المقابل الدراما (بمعنى تفاعل الأنا مع الآخرين) التي تعترض أيضًا على علم الظاهريات (الفينومينولوجيا)، وعلى نظرية الجشطالت التي يرجع إليها الفضل في إبراز الدور الأول ﻟ «الكلية». واستخلص هنري فالون جدلية الفكر من جدلية العمل. أما باشلار فقد تعرف على الحدوس العميقة للماركسية وطورها، فأحل «الجدل المتقابل» للغرض وإثباته محل «الأشياء في ذاتها»، كما تقررها نظرية المعرفة عند ديكارت. وفي علم الأخلاق أيضًا طبقت الجدلية على المفهوم التقليدي ﻟ «الطبيعة الإنسانية» الأزلية، والمُثل العليا الثابتة، والوصايا الخالدة، فارتقت قيم الخلق لتحتل الصف الأول.
والفن الحديث الأصيل مظهر لذلك التغير العميق في المفهوم التقليدي للإنسان. وأعمال بيكاسو تشترك في الجبهة المتحركة للمعركة العظيمة، أي لمعركتنا؛ معركة الإنسان.
•••
وهكذا سار بيكاسو منذ ستين عامًا في طريق الإنسان، دون أن يتخلف أبدًا. وأثار بلغته الخاصة قضية مغزى عصرنا ووسائل التعبير عنه، كما أثار أخطر القضايا، وهي قضية الاختيار. وما زالت أعماله تعبر حتى الآن عن إحساس أعمق بالمسئولية.
وكانت ثقته التي لا تتزعزع بالإنسان مرشدًا له على الدوام، مما سمح له بأن يهمس في أحوال كثيرة في آذان الناس بالكلمات التي ودوا لو ترددت في أغانيهم.
لقد رسم من خلال أعماله خطوط التقدم الذي أحرزه الشر في عصرنا، كما رسم أيضًا خطوط التقدم الأعظم للأمل.
كتب موسينياك يقول إن بيكاسو «فنان في مستوى انقلابات العصر الذي نعيشه»، وهو يتيح لنا التعرف على أنفسنا في هذا العصر المتخم بالعنف والفوضى والأمل.
ويستطيع كل إنسان مكافح ومحب أن يدرك ويقدر احتمالات المعركة، وقوة حبه، من خلال ما أسماه أحد النقاد عن حق «الرموز الجبرية للأمل» التي تستخدم علامات جديدة دائمًا.
تتميز الإنسانية التصويرية عند بيكاسو بكونيتها، فقد عاد إلى مصادر العمل الخلاق عند الإنسان في كل العصور وكل القارات؛ لكي يعيد التفكير بشكل شامل في معنى التصوير ومهمته.
وقد قالوا على سبيل المزاح: «إن أعمال بيكاسو بمثابة فيتامين «ب» التصوير.» ويحمل هذا الكلام في طياته الاعتراف بقدرة التجديد الكامنة في هذه الأعمال.
وبفضل بيكاسو أصبح فن التصوير واعيًا باستقلاليته تجاه العالم الخارجي، وتجاه مقاييس الجمال التقليدية. لقد تحرر الفن من الأدب، وحلت المشاركة الإيجابية محل التأمل. وكما قال بول فاليري، لم يكفَّ التصوير عن تغيير الطبيعة لكي ينافسها. فمهمة الفن ليست نقل الطبيعة، بل التعبير عن حركتها وحياتها، وعن تجاوزها بالأسطورة التي تنبئ بصورة المستقبل.
يرى بيكاسو، ككل الثوريين، أن التوصل إلى تفسير جديد للعالم لا يكفي، وإنما يتعين تغييره وإعادة بنائه لا وفقًا لقوانين الطبيعة والمجتمعات المنسلخة فحسب، ولكن وفقًا للقوانين الإنسانية الصرفة. وتصوير بيكاسو يعيد خلق كل شيء بعمل كامل من صنع الحب والأيدي والقلب والفكر.
لم تنشأ الحياة الحقيقية بعد، وهي لا توجد في الأشياء، ولكن في الإنسان وحده. ذلك هو القانون الأعظم الذي استخلصه بيكاسو من أجل التصوير. لقد خلق بيكاسو أساطير ككل فنان أصيل، وواصل تحدي بيجماليون، أي منح المادة نبضات إنسانية حية.
ويعرِّف إيلوار الإسهام الأساسي لبيكاسو من أجل إخوته من البشر في «بيكاسو، أستاذ الحرية الطيب»، بقوله: «أنت تعلمهم أن المرور بالخيالات السعيدة والحلم بإجازة لا نهائية؛ أمر جميل، ولكنك تمنحهم أيضًا الرغبة في رؤية كل شيء، والشجاعة اليومية لرفض الخضوع للمظاهر الفانية.» فهل هناك تقدير أروع من ذلك لواحد من أكبر مستكشفي أبعاد اللامتناهي؟!