كافكا
عالم كافكا هو نفس عالمنا.
والعالم الذي عاشه هو نفس العالم الذي بناه. إنه عالم خانق، مجرد من الإنسانية، عالم الغربة. على أنه يعي هذه الغربة، كما يحدوه أمل لا ينتهي، حتى إننا نرى من خلال ذلك الكون الذي تتنازعه الروائع وروح المرح، قبسًا من النور أو مخرجًا.
ويكفينا لكي نعيش بكل جوارحنا تلك الوحدةَ الحية العميقة؛ ألا نضل في متاهات التفسيرات التي تميل دائمًا إلى حشر الأعمال الخلاقة في إطار نظام عقائدي محدد من قبل، ولا يعتبر تلك الأعمال إلا إخراجًا رومانتيكيًّا لفكرة.
وقد قدم علماء اللاهوت عدة نماذج لهذا التفسير الصارم؛ فمنهم من تصور أنه وجد في كافكا آخر أنبياء إسرائيل، ومنهم من تعرف في شخصه على تمزقات روح تسعى إلى الخلاص، فأرادوا أن يقودوه إلى الهداية، ومنهم من اتخذه واحدًا من أتباع كارل بارت، ومنهم من سلك أدبه في اللاهوتية السلبية.
وفي الطرف النقيض ظهرت التفسيرات التي تدَّعي التمسك بالماركسية، وترى في كافكا إما برجوازيًّا صغيرًا مترديًا في تشاؤمية ناخرة كالسوس، وإما رجل الثورة، إن لم يكن رجل الاشتراكية.
وأرادت الوجودية هي أيضًا أن تُدخِل كافكا في نطاق الجهود العبثية لسيزيف، وفي إطار القلق الطاغي عند هيدجر. أما أخصائيو التحليل النفسي فقد أغرتهم «رسالة إلى الأب»، فاعتقدوا أنهم اكتشفوا في شخصه نموذجًا مثاليًّا لعقدة أوديب. وخاض الطب أيضًا في المعمعة، فلم يتردد البعض في العثور على تفسير حاسم ونهائي لرواية «التحول» أو لرواية «المحاكمة»، اللتين كتبهما في عامَي ١٩١٣م و١٩١٤م، من خلال مرض الدرن الرئوي الذي لم يصَب به إلا في عام ١٩١٧م. وبقدر ما لم تعد عظمة أعمال كافكا موضع أخذ وردٍّ، بقدر ما تعددت التفسيرات والتأويلات المنسوجة حولها.
وهكذا ينتاب المرء عند التعرض لأعمال كافكا نفس شعور بطل قصته المعنونة «الأحراش المتأججة»؛ إذ يقول: «وقعت في أحراش معقدة متشابكة، لا مخرج منها … كنت أتجول في هدوء وأنا مستغرق في التفكير، وإذا بي أقع فجأة، فتحاصرني الأحراش من كل جانب. لقد سقطت في أسرها وضعت.»
والسمة المشتركة بين كل تفسيرات أعمال كافكا، على تعددها واختلافها هي محاولة التوصل إلى «مفتاح» لها من خلال رواياته، سواء كان هذا المفتاح عقيدة لاهوتية أو لاوعيًا اجتماعيًّا أو نفسيًّا، أو برنامجًا ثوريًّا، أو أعراضًا مرضية معقدة.
ولا يعني ذلك أن هذه التفسيرات جميعًا لا تستفيد من جزء من الحقيقة، على أن الحقيقة نفسها سرعان ما تنقلب خطأ عندما تحول التفسيرات ما قد يكون عاملًا مساعدًا إلى منهج شامل لتفهُّم كل أعماله.
ولا نزاع في أن أعمال كافكا تتضمن وقفات دينية. ولا شك أن وضعه الطبقي ساهم في الحد من أفقه، ومن المؤكد أيضًا أننا لا نستطيع أن نقول إن إحساسه بالوجود ليس قريبًا إلى إحساس كيركجارد والجيل الثاني من الوجوديين.
على أن أعماله لا يمكن أن تكون مجرد تعبير مصور لهذا الرأي أو ذاك؛ فالرواية أو الملحمة ليست فكرة مجردة مغلفة ومزينة بالكنايات.
إنها أسطورة موحية، أي صورة للحياة، تضم السماء والأرض في وحدة واحدة، صورة للحياة بكل أبعادها؛ الأسرة والمهنة، الزواج والدين، المدينة بمتاهات آلاتها ومكاتبها، بأوهامها ومؤسساتها الراسخة، بروائعها الإبداعية وبعاداتها اليومية.
أن تكون مادة العمل الأدبي والحياة شيئًا واحدًا، فهذا أمر مسلَّم به يتضح لنا من خلال الإحساس الملحِّ بمدينة براغ في «وصف المعركة»، ومن خلال العلاقات الحميمة بين «خطاب إلى الأب» وبين جو «الحكم» و«التحول» وبين «القلعة» وخطاباته إلى ميلينا.
ويغرق الإنسان في أنحاء هذا العالم، فيَتيه في اللاإنساني، ويُدمج في تروس آلة حاسمة كل ما فيها محسوب ومدروس.
وفي هذا العالم المجرد من أي تعريف به، والمنظم في تسلسل هرمي للمراتب الاجتماعية، يعيش الإنسان مسلوبًا من مزاياه الفردية، ويتحول إلى مجرد أداة خيالية بائسة، عارية من مقومات الشخصية. ذلك هو عالم رأس المال الذي يتكشف بجلاء طابعه اللاإنساني من خلال النظم البالية الطاحنة التي تقوم عليها الإمبراطورية النمساوية المجرية المحتضَرة.
وعالم كافكا، أي العالم المحيط به وعالمه الداخلي، ليسا سوى عالم واحد. وعندما يكلمنا عن عالم آخر، فهو يحرص دائمًا على أن نفهم في الوقت نفسه أن ذلك العالم الآخر يوجد في عالمنا، بل إنه عالمنا نفسه؛ ذلك أن عالم الإنسان يشمل أيضًا كل ما يتحداه وكل ما نفتقده فيه.
وكافكا ليس يائسًا، ولكنه شاهد على عصره، وهو ليس ثوريًّا، ولكنه يفتح العيون.
وتعبر أعماله الأدبية عن موقفة من العالم. وهي ليست مجرد صورة منقولة ومتواكلة، كما أنها ليست نبوءة تسرف في الخيال. ولا تريد أعماله أن تقدم تفسيرًا للعالم، كما لا تريد أيضًا أن تغيره، إنها تكتفي بالإفصاح عن قصوره، وتدعو إلى تخطيه وتجاوزه.
يدور الحوار التالي بين كافكا والقارئ في «كراساته»:
– «تقادُم هذا العالم هو السمة الحاسمة المميزة له … وإذا أردتُ أن أحاربه فعليَّ أن أوجه هجومي ضد سمته الحاسمة، أي ضد تقادمه. وهل أستطيع أن أفعل ذلك في هذه الحياة؟ وهل أستطيع ذلك حقًّا بالاعتماد على أسلحة الإيمان والأمل فقط؟»
ويرد كافكا: أنت تريد إذن أن تحارب العالم بأسلحةٍ أفعلَ من الأمل والإيمان؟! هذا النوع من الأسلحة موجود ولا شك، ولكن التعرف عليه واستخدامه لا يتم إلا وفقًا لشروط معينة، وأريد أن أعرف أولًا إذا كانت هذه الشروط متوفرة فيك.
فيقول القارئ: أنا لا أملكها، ولكن ربما استطعت الحصول عليها.
ويجيب كافكا: بالطبع، ولكني لا أستطيع أن أسدي إليك مساعدة في هذا الشأن.
ويسأله القارئ: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تريد إذن أن تضعني أولًا موضع الاختبار؟
ولكي ينجز كافكا هذه المهمة فقد أقام عالمًا آخر، يصور حقيقة عالمنا؛ ذلك لأنه يحمل في ذاته نقيضه، ويكشف لنا بغموض وإلحاح عن تجرده العميق من الإنسانية.
إنه كفاح ضد الغربة، في صميم الغربة نفسها. وبعبارة أخرى توضح رأي سبينوزا: إنه وعي بالغربة مصحوب بجهل أسبابها، ووسائل التغلب عليها.
وسنتابع الحركة الجدلية الداخلية لأعمال كافكا وحياته، من خلال تعرضنا للقضية الرئيسية، وهي قضية العلاقة بين أعمال كافكا وحياته.
ويتم تجاوز هذا التناقض الأول، برفض أول وبنفي أول، يتمكن بواسطته الكائن من نشاطه في مواجهة سلبية عالم «العندية»، ولكن الذات التي تتمكن مرة أخرى من وحدتها على صعيد العالم الداخلي؛ لا تلبث أن تنتج ثنائية جديدة في هذه الوحدة. إن الوعي بالغربة والتوتر الفاجع الناتج عنه بين الذات والموضوع، بين الكينونة والعندية، له مغزًى ملتبس لا ندري؛ هل هو مغزًى ديني أو مغزًى متمرد؟
(١) العالم المُعاش وصراعاته
كانت التجربة الأساسية عند كافكا في بحثه عن مغزى الحياة هي غربته، وحاجته إلى الحصول على تصريح إقامة في الوجود. وهو يقول لنا في يومياته: «أعيش غريبًا أكثر من الغرباء أنفسهم.»
كان كافكا يهوديًّا صميمًا، ولكنه في الوقت نفسه يهودي مقطوع الصلة بالطائفة اليهودية. ويتسم نقده الموجه ضد الديانة اليهودية بالشراسة والعنف. وهو يقول عن الجالية اليهودية في قصة «داخل معبدنا» إنها تتمسك بمعتقدات وشعائر لا يُفهم مغزاها. والحيوان الغامض الغريب الجاثم على المعبد يرمز إلى غاية غير مفهومة يستعصي تفسيرها، تتجه إليها بإيمان أعمى صلوات المؤمنين بها.
وكافكا ليس كاتبًا تجريديًّا، وقد يبدو ذلك الرجل وكأنه لم يأتِ من أي مكان، وأنه لا ينتمي إلى شيء، بل وأنه يسير نحو العدم، ولكنه يريد أن تكون له جذور أصيلة في أرض البشر. وهو لا يبالي بكل ما لا يرتبط بهذه الرغبة الأساسية.
•••
مارس كافكا علاقاته الاجتماعية وأوضاعه كيهودي، وعاشها داخل أسرته بعمق وكثافة فريدة. كانت علاقته بأبيه — ولم تكن شاذة أو مَرضية — من أسباب زيادة التوتر بينه وبين الجالية اليهودية، سواء من ناحية ممارسة الطقوس الدينية أو من الناحية الاجتماعية.
لم تكن خلافاته مع والده صورة لوجهات النظر التي عرضها أخصائيو التحليل النفسي، بل كانت على عكس ذلك تمامًا. فبينما يرى المحللون النفسيون في النزاع الأول بين كافكا وأبيه تجسيدًا مسبقًا لكل خلافاته التالية، نرى نحن أن النزاع مع الأب يلخص ويضاعف من توتر علاقاته بالمجتمع.
وقد أسرَّ كافكا لصديقه ماكس برود أنه ينوي أن يتخذ لكل أعماله عنوان «محاولة للهروب من دائرة الأب». ومن السخف أن نعتبر أعماله مجرد وثائق للتحليل النفسي؛ أولًا لأن كل شيء يتم على صعيد الوعي الواضح، على عكس ما يحدث في حالة عقدة أوديب، وثانيًا لأن «دائرة الأب» تعبر عند كافكا عن الطريقة التي عاش بها لمدة طويلة علاقات الانسلاخ الاجتماعي وعلاقاته الدينية.
كانت صلاته بأبيه تعاني من نفس الازدواج الذي عرفه في علاقاته مع المجتمع والدين؛ فهي علاقات قائمة على الحب والخوف، وعلى التمرد والحنين.
•••
كانت مهنة كافكا من عوامل إقحامه في المجتمع، مما زاد من حدة إحساسه بالغربة وبازدواج شخصيته؛ فقد اشتغل ابتداء من عام ١٩٠٨م موظفًا في «مؤسسة التأمينات العمالية ضد الحوادث في مملكة بوهيميا».
وكافكا الموظف البيروقراطي يعاني من زيف وضعه داخل هذا الجهاز الكابت.
وفي مجال الأدب، اهتم كافكا بكل جوارحه بالأعمال التي تتناول عالم العمال الذين تقهرهم الآلات، وتعذبهم التشريعات؛ فقرأ هرتزن وكروبوتكين ودستويفسكي وتولستوي وجوركي.
على أن تمرده الفوضوي أو إحساسه الميتافيزيقي بالذنب لم يقوداه إلا إلى أحلام الهروب من الدائرة اللعينة. وهو يحلم أحيانًا بالتأصل في العالم الحقيقي، وبالإخاء بين الناس عن طريق العمل اليدوي. وقد أفصح ليانوش في عام ١٩٢١م عن رأيه فقال له: «العمل الذهني ينتزع الإنسان من الجماعة الإنسانية، أما الصنعة فهي تقوده، على العكس، نحو بقية البشر. ومن المؤسف حقًّا أني لم أعد أستطيع أن أعمل في ورشة أو حديقة.»
وسأله صديقه: أترغب في ترك وظيفتك هنا؟
فأجابه كافكا: ولم لا؟
– وتترك كل هذا؟!
وفي مرحلة أخرى من حياته، في غضون عام ١٩١١م عثر كافكا على أحد أشكال الحياة الحقيقية عن طريق صداقته مع لوفي، مدير إحدى الفرق المسرحية اليهودية. فوجد في نشاط ممثلي الفرقة — الذين يعيشون على الكفاف، ولا يرتبطون بأي شيء سوى فنهم — صورة النقاء الذي يبحث عنه بكل إلحاح. وجدير بالملاحظة أن هناك رواية واحدة له تنتهي بخاتمة سعيدة، وهي رواية «أمريكا»؛ إذ تنتهي المغامرة الإنسانية لبطلها كارل روسمان بالتحاقه بسيرك أوكلاهوما، حيث يلتقي بأمثاله من «المنبوذين» و«الأذلاء»، الذين صورهم لنا دستويفسكي على أنهم يعيشون في فردوس جميل يؤدي فيه كل فرد الدور الذي حرمته منه الحياة.
لقد استنفد كافكا نفسه في كفاح لا نهائي ضد الغربة في عقر دار الغربة نفسها.
إن الشعر نقيض العالم الذي يحاصره من كل الجهات، والإبداع الفني نقيض الغربة.
فلنُلقِ نظرة على اليوميات الفاجعة لهذا الإنسان الممزق الذي يعاني من الازدواج:
«إن أوضاعي لا تُحتمَل؛ لأنها تتناقض مع رغباتي وميولي الوحيدة، وأعني بذلك الأدب، الأدب هو كياني، ولا أريد ولا أستطيع أن أكون غير ذلك. أوضاعي الحالية لن تتمكن أبدًا من إغرائي، بل إنها لا تستطيع إلا أن تدمرني وتقضي عليَّ تمامًا، وهذا ما سيحدث لي عن قريب» (٢١ أغسطس ١٩١٣م). كما يقول أيضًا:
«إني لأعاني من شعور رهيب؛ فكل شيء مهيأ في أعماق نفسي لإبداع عمل أدبي عظيم. وبالنسبة لي سيكون مثل هذا النوع من العمل بمثابة خلاص فعلي، وانطلاقة حقيقية في الحياة، ولكني أقضي حياتي في المكتب وسط أكوام من الملفات البائسة، وعليَّ أن أنتزع اللحم من جسدي، وهو الخليق بأن يمارس البهجة» (٤ أكتوبر ١٩١١م).
«محال أن أتحمل هذه الحياة، أو بالأحرى استمرارها على هذا المنوال. فعقارب الساعات لا تتوافق مع بعضها، والساعة التي تدق في جنباتي تجري بسرعة شيطانية، بسرعة غير إنسانية على أي حال. أما الساعة الخارجية فتتحرك في سرعتها العادية المتقطعة. أيمكن أن تكون نتيجة ذلك شيئًا آخر غير انفصال بين عالمين مختلفين، أو على الأقل تنازعًا رهيبًا بينهما؟!» (١٦ يناير ١٩٢٢م).
«إنها لحياة مزدوجة رهيبة حقًّا، لا أظن أن هناك مخرجًا آخر منها سوى الجنون» (١٩ يناير ١٩١١م).
كان كافكا يبحث بشوق عارم عن التأصل في الحياة، وعن الارتباط بجماعة اجتماعية وروحية. كان ينتمي، بوصفه يهوديًّا، إلى شعب مختار وإلى شعب منبوذ ومشتت في نفس الوقت. كان يشعر بأنه «ابن عاق» في مواجهة والده، منبوذ من عالمه، فلجأ إلى داخلية نفسه التي تحولت شيئًا فشيئًا إلى وطنه الحقيقي. وكان ممزقًا بين مهنته بالنهار، التي تحوله إلى أداة في خدمة جهاز مميت، وبين ميله في الليل إلى عمل واعٍ يؤرقه ويدوخه، ويبدع فيه بالمادة التي حصل عليها من كوابيس الحياة.
ويصبو هذا الإنسان، المنفي من كل مكان والغريب في كل وطن، إلى المشاركة.
والحب هو الوسيط في المشاركة، وهو الشفيع أيضًا.
كان هناك أولًا حب أمه، وقد تلمَّسه كافكا: «إنني أشعر كم تجاهد … من أجل تعويض افتقادها الصلة بالحياة» (٣٠ يناير ١٩٢٢م).
لقد تحول «افتقاد الصلة بالحياة» إلى مرض قضى على كافكا، وكان يحلم بتعويضه بالحب.
«لا أجد من يفهمني في شمول كياني. لو كان هناك من يستطيع ذلك، امرأة مثلًا، فسيكون معنى ذلك أن أقف على قدمي، وأن أكون عندئذ عند الرب» (مذكرات، ١٩١٥م). ولم تتحقق هذه السعادة إلا في السنة الأخيرة من حياته مع دورا ديمانت.
وكان الحب يعاني عند كافكا من الازدواج نتيجة الجدلية المأساوية لحياته الداخلية؛ كان الحب يقربه من الحقيقة ويبعده عنها، وكان شرطًا للمشاركة وعقبة في سبيلها، وكان إغراء ينأى به عن الهدف ووسيلة للوصول إلى الهدف.
وقد وازن كافكا مرات عديدة بين المبررات التي تدعوه إلى الزواج أو إلى رفض الزواج، في «اليوميات الخاصة» وفي «الكراسات»، ونلاحظ دائمًا نفس التناقض في معنى الحب في جوهر تفكيره.
إن السعي من أجل تحقيق الجوهر يتطلب العزلة، ويستلزم تجميع كل القوى الذاتية: «أنا في حاجة إلى العزلة، وكل ما نجحت في تحقيقه ليس إلا نتاجًا للوحدة. إني أخاف الارتباط، وأخاف فقدان ذاتي في كائن آخر؛ لأني لن أصبح وحيدًا بعد ذلك» (١٢ يوليو ١٩١٣م).
ولكن خوفه الشديد من فقدان ذاته يقابله أمل مجنون في التأصل والارتباط بالمجموع: «لا أكون جسورًا، مقدامًا، قديرًا، ومنفعلًا بشكل مدهش إلا عندما أكتب. آه لو استطعت أن أكون كذلك أمام الناس، بفضل امرأة! …»
ويجري الحوار نفسه وتدور الموازنة نفسها بعد ذلك بثلاث سنوات: «عندما أكون وحيدًا، تكون كل قواي كتلة واحدة. وإذا تزوجت ظللت بعيدًا عن المشاركة، وسلمتُ نفسي للجنون، وتركتها نهبًا للرياح …» (٢٠ أغسطس ١٩١٦م).
والمرأة أقوى رباط بالجوهر، ولكنها أقوى المغريات للابتعاد عنه. ويتخذ أبطال روايات كافكا موقفًا مزدوجًا إزاء المرأة؛ ففي «المحاكمة» يتوقع جوزيف ك أن تكشف له علاقته بليني، خادم الأستاذ هيلد المحامي، عن سر القاضي. ولكن بمجرد تقبيله الرمزي لهذه اليد المصابة بعاهة، والتي تشبه مخالب طائر جارح، فإن ليني تقول له: «أنت ملك لي الآن.» وفي رواية «القلعة» يأمل المساح في التقرب إلى سادة القلعة عن طريق غرامه بفريدا، فيبعده عنها فشله في تحقيق غرضه.
ولعل موقف كافكا المزدوج من الحب يعبر عن المواجهة بين موقفين أساسيين له إزاء الحياة وإزاء الإيمان أيضًا.
والسؤال الآن: هل هو أقرب إلى كيركجارد أو إلى هيجل؟
في الحالة الأولى، تكون جهود الإنسان — التي لا تُقاس إطلاقًا بعدالة الله — بلا قيمة، ويكون كل ارتباط جسدي مجرد سخرية أو «تسلية» بالنسبة للحوار الجوهري بين الذات المنعزلة وبين التسامي، علمًا بأن كافكا قطع علاقته بخطيبته فيليس، كما فعل كيركجارد مع رجينا.
وفي الحالة الثانية يكون الحب البشري بالنسبة للحب الإلهي، ككل أفعال الإنسان الأخرى، كالمتناهي بالنسبة للَّامتناهي، وعندئذ يشكل المتناهي خطرًا أكيدًا يمكن أن ننغرز وأن نضيع فيه. ولكن اللامتناهي لا يتحقق أبدًا إلا من خلال المتناهي، وتحقيق المتناهي هو الطريق الوحيد للوصول إلى الشمول. وقد أحس كافكا مرتين بإمكانية الوجود الشامل وبإمكانية المشاركة من خلال حبه لفيليس، وأمله الكبير في ميلينا، ومن خلال السعادة التي تحققت له بالقرب من دورا.
والقضية بالنسبة لكافكا ليست قضية مواجهة بين نظرتين لاهوتيتين أو فلسفيتين، ولكنها مأساة يعيشها بكل كيانه ووجوده.
وفي سبيل البحث عن الوجود الأصيل يشكل الحب والزواج تجربة لا بد من الانتصار عليها؛ فالسعادة لحظة من لحظات الحياة يجب اجتيازها دون التوقف عندها.
ومن الممكن أن يصبح الحب والزواج رابطة بالوجود الأصيل، ومن هنا يصبح كل تفسير وجودي لأدب كافكا ملغيًّا؛ لأن الحرية عنده تتحقق بالارتباط لا بالانفصال.
وقد عمَّق التناقضُ الفاجع بين العزلة والحب الهُوةَ السحيقة المحفورة في لب حياة كافكا، نتيجة وضعه الاجتماعي، ونتيجة لخلافاته مع والده، وللغربة التي يعانيها من التناقض بين مهنته وبين اهتماماته الأدبية.
•••
وهذا العالم المهجور يسير ببطء نحو الفناء … ويستطرد كافكا قائلًا: «هذا العالم ليس عالم التوراة أو عالم الديانة اليهودية»، ولكنه لا يستطيع أن يدلنا على الإله الذي يملك عكس هذه الحركة ليسير به قُدمًا.
ظل كافكا المصاب بالأرق إنسانًا يقظًا يدعو الناس إلى اليقظة، وإن أدى ذلك إلى هلاكه المنتظم. لقد واجه النوم الذي لا يعرف أحلام الغربة، بأحلام لا تعرف السبات إلى أن توارى.
•••
تلك هي تناقضات عالم كافكا، وتناقضات حياته التي قضت عليه.
هل نحن بصدد إنسان استثنائي لا تتعدى شهادته الإطار الفردي؟ أتكون أعماله الأدبية مجرد انعكاس لحالة فكرية عند فئات اجتماعية ذاوية، أو بالأحرى انعكاس لقلق برجوازية صغيرة مهددة في مراكزها ومستقبلها، تحول قلقها إلى ميتافيزيقيا مطلقة؟
ولا شك أيضًا أن مفهوم كافكا للعالم متأثر بظروف طبقته، ومحدود بآفاق تلك الطبقة، ومحكوم بتناقضات وترددات لا نهاية لها. وهذا الوضع يَحُول دون كفاح كافكا ضد الغربة بتركيز الهجوم على أسبابها. على أن أوضاعه نفسها لا تسمح لكفاحه بأن يزيد عن إشاحة النائم بيده ليطرد رؤيا. ولكن القوة التي يتعرض بها لكابوس عالم الغربة، والوضوح الذي يميز تصديه لأثقال ذلك العالم الخانق؛ يسمح لنا بأن نلمح من خلال ذلك إمكانية قيام عالم جديد، ويوحي لنا بحاجة عارمة إلى مثل هذا العالم. وهو يقدم لنا أشياء لها مغزًى دون أن يدعي الإيحاء لنا بنظام ميتافيزيقي يحكم «وضع الإنسان»، ولكنه يتجاوز الفرد والطبقة، ويمثل وعيًا بالقانون العميق لعصرنا، ولو في شكل منسلخ.
إن التساؤلات التي تثيرها أعمال كافكا حول مصير الإنسان لها قيمة اعترافات فتى العصر الذي نعيش فيه.
ويتساءل بطل «أبحاث كلب»: «أكنت وحيدًا حقًّا في أبحاثي هذه؟» ويقول «بطل المحاكمة»: «أنا لا أتكلم عن نفسي، وإنما أتكلم من أجلهم.» ويؤكد بطل «سور الصين»: «إني أتكلم باسم الأعداد الغفيرة»، والمساح في «القلعة» يرفع مطلبًا يسعى إليه سكان القرية ويلتفون حوله، بالرغم من عوامل الشك والخوف التي يثيرها هذا المساح في نفوسهم. وفي الصفحة الأخيرة من المحاكمة، وفي لحظة تنفيذ الحكم في جوزيف ك تُفتح نافذة «كما لو كانت ضوءًا متدفقًا»، ويومئ رجل للمحكوم عليه. وهنا يتساءل كافكا: «من كان هذا الرجل؟ هل كان يريد أن يساعده؟ هل كان وحده؟ أم كان نحن جميعًا؟»
يرفض كافكا الأوضاع التي تملي عليه أن يكون مجرد شيء، ويأبي الأوضاع التي تحكم عليه بالغربة. وهو لا يقبل أن يكون مثل «أودراديك»، أي إنسان آلي سخيف، بل يطالب بكل الأبعاد الإنسانية للحياة.
إنه رجل على غرار جوزيف ك في «المحاكمة»، ومن طراز المساح في «القلعة»، لا تثنيه العقبات ولو ظلت تتراكم أمامه إلى الأبد.
إنه إنسان مصرٌّ على «إيضاح الغايات النهائية»، ولا يقبل الحكم على الأشخاص والمؤسسات، وعلى تصرفاته هو نفسه، بالمعايير التقليدية المألوفة، بل يرى لزامًا أن يواجهها بالغايات النهائية.
إنه إنسان لا يتراجع، ولا يعتبر يأسه من الأوضاع الراهنة مبررًا للإذعان. إنه يبحث عن مغزى كل شيء بإيمان لا يتزعزع في إمكانية قيام وجود عادل ونقي، متمشيًا مع الشريعة العظمى للبشر، ومتفقًا دائمًا مع السعي إلى الصحة والعظمة والحياة.
إن كافكا الإنسان الرياضي، الفارس المتمرس على التجديف والسباحة، لا يبحث عن الجانب المظلم في الحياة. وهو يعلن في «الكراسات» للإنسان الرائع الذي تأصلت جذوره في الوجود، وللمواطن الحقيقي في أرضنا: «لا تيئَس حتى مما أنت غير يائس منه، أنت تتصور أنك وصلت إلى نهاية إمكانياتك، ولكن ها هي قوًى جديدة تهرع نحوك، وهذا هو ما يسمَّى حقًّا الحياة …»
«عرض نفسك للأمطار، ودع السهام الفولاذية تخترق جسدك … ولكن ابقَ مكانك برغم كل شيء، انتظر واقفًا، فلا بد وأن تغمرك الشمس فجأة، وبلا حدود.»
تُرى ما هي تلك الشمس التي عرف كافكا كيف يحافظ عليها برغم التناقضات المميتة في حياته وعالمه؟
(٢) العالم الداخلي وازدواجاته
عالم كافكا هو عالم الغربة، عالم النزاع، عالم الإنسان المزدوج. وهو أيضًا العالم الذي يفقد فيه الإنسان وعيه بذلك الازدواج، فيستسلم للسبات. إن قِوام العالم الداخلي لكافكا هو الإحساس بانتمائه إلى عالم الغربة، وبانغماسه فيه، وبرغبته المتأججة في إيقاظ النيام ليعرفوا الحياة الحقيقية.
ويحاول كافكا التغلب على هذا الازدواج الموضوعي بالتزام واحد.
فمهمته كإنسان هي محاكمة الأوهام الباطلة، ونزع النقاب عن أسطورة النظام القائم، وإيقاظ الرغبة عند كل فرد في قيام قانون حي.
وعليه أن يبدأ أولًا بوعيه الواضح بازدواج شخصية الإنسان، وبالجمود المخيف الذي يقف في وجه من يدعو إلى اليقظة.
فجوزيف ك، بطل «المحاكمة»، نموذج للإنسان المزدوج؛ فوظيفته تحدده من الناحية الاجتماعية، فهو «مفوض». ولما كان النظام الاجتماعي مجرد صورة كاريكاتورية مشوهة وكاذبة لنظام آخر إنساني أو كوني أو إلهي، فإن وظيفة أو مهنة جوزيف ك تكتسب أيضًا مغزًى مزدوجًا؛ فهو مزوَّد ببعض السلطات في ذلك العالم الزائف المنسلخ، أي إنه ترس في القدر البيروقراطي الذي يطحن الإنسان، شأنه في ذلك شأن كافكا الموظف في جهاز حكومي آلي للتأمينات. ولكن البطل يحمل أيضًا، مثله مثل كافكا، تفويضًا آخر من العالم الحقيقي، وهذا التفويض لم تمنحه له أي سلطة معروفة. وهو متهم، بل ومذنب؛ لأنه رسول عاجز عن إثبات صحة مصدر الرسالة التي جاء بها. وسيتحكم من الآن فصاعدًا في أعماله وفي حياته، إحساسه بهذه الخطيئة الأولى، خطيئة عدم الحصول على تفويض معترف به، فلن يهدأ له بال حتى يعثر على قاضيه، وحتى يبرئ نفسه.
وليس هناك ما يمكن أن يعاب على جوزيف ك من وجهة النظر الاجتماعية؛ فهو موظف مستقيم وبرجوازي محترم، واستقراره مضمون في عالم تحدده أبعاد النظام القائم.
لقد أصبح متهمًا في ذلك العالم؛ لأن مجرد تعرفه على بُعد إضافي له، بُعد إنساني أو إلهي، أدى إلى إبطال قيمة كل القوانين وكل الأخلاقيات المتعارف عليها. وترنحت كل عدالة، سواء كانت عدالة دنيوية أو سماوية. وبدا كل شيء في تلك العدالة مقززًا؛ فبضربة واحدة من عصًا سحرية، تحولت المكاتب الملحقة بالمحكمة إلى أكواخ، وأصبحت المحاكم نفسها حيًّا يعيش فيه الدجالون. وصدرت الأحكام الخفية في سراديب، على لسان قضاة لا يراهم أحد، فلا يصل منطوقها أبدًا إلى المتهم.
وعندما استيقظ النائم، اختفت كل الزخارف الزائفة لقصر العدالة، وكل الأرواب الأرجوانية التي يتزين بها القضاة، ولم يعد لها وجود إلا في الصور الشخصية الخيالية التي رسمها المصور تيتوريللي، فرمز فيها إلى العدالة بعملية مطاردة للإنسان.
في عالم «الملكية» هذا، يكون كل شيء مسجلًا بدقة، وكل إنسان محصورًا إلى الأبد في الحدود المرسومة له، وسواء كان هذا الإنسان مالكًا أو قِنًّا أو موظفًا، فإن كل محاولة تجرَى من أجل نقل علامات الحدود من أماكنها تُعتبر عملًا هدامًا يثير الريبة والغضب. ولا مكان في هذا العالم المجمد لمساح؛ ولذا تلفظه القرية. فعالم «العندية» يرفض القياس، وعالم «الكينونة» لا مقاييس له. ولكن المساح يتمتع بجاذبية خاصة؛ فبالرغم من أنه خارج على قوانين القلعة والقرية، إلا أنه يجسِّد في شخصه آمال الأحياء منذ آلاف السنين. وهو يذكِّرنا بليني، خادم المحامي في «المحاكمة»، التي تلاحظ أن «كل متهم وسيم»، فهذا المساح يثير الريبة والخوف، ولكنه في نظر المستسلمين للسبات والقانعين بحالهم، أشبه بمبشر بحياة جديدة، تحيط به هالة من الضياء والغموض.
وكافكا نقيض للساحر؛ فهو لا يحوِّل الكوخ إلى قصر، أو الأسمال إلى ملابس أميرة، بل يُجري التحولات في الاتجاه العكسي. فعندما تواجَه الأوهام البراقة بمطالبتها بتسويغ غاية وجودها فإنها تتمزق وتتهاوى، وتكشف بعُرْيها عن حقيقة بائسة تبعث على القلق.
إن الانصهار الرائع بين المعنى المقصود والحقيقة الإنسانية والشكل، يعبر عن وضوح رؤية كافكا للعالم المحيط به بكل أساطيره المقننة؛ فالمكلفون بتنفيذ «ما لا يقبل الفناء»، بتنفيذ القانون الداخلي للعالم السياسي والاجتماعي، القانون الكوني للنظام الإلهي، القانون الشامل، سواء كانوا قضاة أو كهنة، هؤلاء المكلفون مزودون بتفويض من سلطة أو من دين. وقد طوى النسيانُ وشوَّه منذ زمن بعيد المغزى الإنساني أو الإلهي العميق لذلك التفويض، ولا زال هؤلاء قائمين على الطقوس نفسها بعد أن تجردت من مضمونها، كأي بيروقراطيين طغاة ضيقي النظرة.
ويهيم الإنسان وحده في المتاهات المقفرة لعالم تزدهر فيه عمليات التحريف الساخر والمهين للقانون. والحياة في عالم الموت لا تقل استحالةً عن الحياة في عالمنا؛ ففي قصة «ضيف عند الأموات»، يظل الزائر إنسانًا أجنبيًّا يسير دون أن يتمكن من التوقف في عالم أُسقطتْ عليه الأوضاع نفسها، والوظائف نفسها القائمة في الحياة، والتي تدعو إلى السخرية والاستهزاء. وعلى العكس من ذلك، فإن الميت في «جراكوس القناص» يتمكن من بلوغ شاطئ الأحياء، ويرتدُّ إليه دائمًا كلما ابتعد عنه.
وهكذا يسود تجاهل الفرد وتجاهل الشخصية في هذا العالم وفي العالم الآخر أيضًا؛ ففي عالم الموت يسود صمت مُطبِق هائل يتخلف عن افتقاد الرب، وفي الأرض تموج كائنات لم تعد بشرًا؛ لأن عجلات الغربة سحقتها.
قدم لنا عالم كافكا نماذج صارخة لعبث الحياة عندما تفتقر إلى غاية أو قانون، في صورة الحيوان الغريب الذي يهيم في المعبد كتعبير ساخر عن العقائد المندثرة، والطقوس المجردة من مضمونها الأصلي، وفي صورة ضابط مستعمرة الأشغال الشاقة، العاجز عن تقديم تفسير لتشغيل آلة التعذيب، وفي صورة حارس خط سكك الحديد في «كالد»، وهو خط لا يوصل إلى هدف.
أما القانون بوصفه مبدأ داخليًّا حيًّا قادرًا على التحكم في الوجود الإنساني الحقيقي، فقد حجبه جهاز بشع، قِوامه المجتمع والدولة والكهانة.
وتتمثل ملحمة كافكا في محاولة الكشف عن مغزى الحياة المفتقَد والمنزوي في غياهب النسيان، من خلال تجاوز النظام الاجتماعي والديني الزائف، الذي يحاول أن يبدو كنظام إنساني.
وفي مناسبة أخرى يتكلم كافكا عن «السعادة في الإحساس بالتوافق التام مع النهار المشرق».
على أن محاولة التجسيد الاجتماعي للصهيونية، أو النورانية الداخلية للحاسدية، لم تستطع أن تقود حركة كافكا نحو التأصل الحقيقي، سواء في المجال الدنيوي أو الديني.
فهو يصطدم في كلتا الحالتين بالمعضلة التي يواجهها مساح «القلعة»؛ إما أن يندمج في سكان القرية، فيعمل ويتزوج ويغرق معهم في خمود الغربة، وإما أن يظل يطالب، بلا جدوى، بإجابة على السؤال الذي وجَّهه من قبل إلى القلعة؛ ما هو وضعه الحقيقي؟ ما هو النظام المفروض عليه اتباعه؟ ما هي الغاية النهائية للحياة؟
ظل المساح موزعًا بين السماء والأرض، بين القلعة والقرية، ففقد كلًّا منهما؛ حرَّفه السؤال الملحُّ الذي لم يكفَّ عن توجيهه إلى القلعة عن ماهيته الاجتماعية ومهمته الإنسانية، أما ارتباطاته بالقرية فقد حالت بينه وبين اكتشاف الكلمة السحرية التي تفتح له أبواب القلعة. وهو متردد بين السماء الخاوية (القلعة)، والأرض الميتة (القرية)، وسيظل متأرجحًا بينهما حتى يموت دون أن يحصل على جواز الإقامة في الوجود، ولا على الاعتراف به كمساح.
أما حكاية المهاجر في رواية «أمريكا»، فهي استمرار في تأمل القضية نفسها، أي قضية التأصل في «العالم الجديد» بعد التجارب السابقة التي نستطيع أن نسميها «مجموع إخفاقات الإنسان»، وهو مجموع لم يكتمل بعد.
تتمثل مشكلة كافكا في اكتشاف نقطة الْتقاء الخاص بالعام، والتقاء الفرد بالمجموع، أي في الكشف عن الموهبة الوحيدة لكل فرد، وعن مكانه الحقيقي وسط الجماعة، والعمل وفقًا للقانون الذي يحدد وضعه.
•••
هل يمكن الحفاظ على الخصائص الفردية بالانطواء على الذات؟ هناك قصة صغيرة بعنوان «الجحر» تجيب على هذا السؤال القلق، وتعبر عنه أكثر مما تعبر ثلاثية العزلة المتمثلة في «المحاكمة» و«أمريكا» و«القلعة»، التي نُشرت بعد وفاته.
ونجد الفكرة الأولي لهذه القصة القصيرة، ولهذا الوصف للعالم المغلق والمنطقي والمحدود الأفق؛ في خطاب له كتبه لميلينا يشرح لها فيه الحكاية: «الحق أن الإنسان أشبه بحيوان الخُلْد القديم، فهو يحفر دائمًا دهاليز جديدة.»
ومن فرط حرص الإنسان على إعداد مسكن له فإنه يختلط هو نفسه بالنظام الذي أقامه، ومع النظريات التي يجهزها لكي يسد بها الشقوق التي تفتحها الحياة في أفكاره، وهكذا تكون الغربة شاملة.
– «لا أدري، ولكن كل ما أبتغيه هو البعد عن هذا المكان، فهذا هو سبيلي الوحيد للوصول إلى هدفي.»
وسألني الرجل: «أتعرف هدفك إذن؟»
إنه هدف بلا طريق، وطريق بلا هدف، وهذا شأن الإنسان في نضاله من أجل السمو.
وهنا يحدث تغيير عكسي عند كافكا، فهو لم يعد ذلك الخلد الكامن في جحره، بل الكائن الذي يهاجمه.
لم يعد الحيوان المنطوي على نفسه، ولا الشعب المقيم للمتراس، ولكنه غدا الكافر الذي يطلق سهامه السوداء، والبدوي الذي يهاجم الحدود، إنه المتحمل سلبية زمنه.
وهكذا نجد أن كل المسائل تسير عند كافكا في ازدواج متعارض؛ المشاركة والوحدة، والإيمان ونفيه.
•••
وقد دفع هذا الإحساس العميق بجدلية الحياة عند كافكا، دفع كثيرًا من المعلقين إلى التساؤل حول علاقة تفكيره ﺑ «نظرية الأزمة» التي استهلَّها كيركجارد، وانتهت عند كارل بارت.
وتدور «نظرية الطفرة» حول مفهوم العلاقة بين الإنسان وربه، من زاوية عدم وجود مقاييس مشتركة بين عدالة الله وبين القيم الأخلاقية الإنسانية. فالإنسان لا يستطيع أن يخلص نفسه بنفسه؛ لأن القيم الأخلاقية والثقافية لا تمثل أي شيء أمام المطلق؛ فالمعرفة والعمل، بل وحتى الحب، لا يمكن أن تشكل طرقًا للوصول إلى الرب.
وقد حاولوا إيجاد نوع من التماثل بين مفهوم كافكا وبين النظرية المجددة لأفكار كالفان، استنادًا إلى أن «المحاكمة»، و«التعليق على الرسالة الموجهة إلى الرومانيين» الذي كتبه كارل بارت؛ قد صدرا في وقت واحد تقريبًا، واستنادًا إلى أن كل شيء يمثل حياة جوزيف ك اليومية — مهنته، أعماله، حياته العاطفية — قد انمحى تمامًا، وأصبح كل شيء غير مهم ما عدا حكم الله.
وهكذا تكون الرواية قد عرضت بشكل رمزي المبدأ الأساسي في نظرية الطفرة، الذي يقول إن أي مجهود يقرب الإنسان إلى الله.
وأخيرًا، فقد صوروا مراودة سورتيني الفاحشة لأماليا، واللعنة العامة التي انصبَّت على الجميع من جراء رفض الفتاة الانصياع له، على أنها ترديد لقصة تضحية إبراهيم كما جاءت في التوراة؛ فقد طلب الله من إبراهيم ارتكاب جريمة حقيقية، وهي قتل ابنه. وهكذا فإن حكمه عليه يتوقف على مدى استعداده للطاعة، مما يؤكد علو الوصايا الإلهية الأكيد على كل تصرف إنساني.
على أن هذا التشبيه ينصبُّ في رأينا على المظاهر الخارجية، ولا يمس المصدر الحقيقي لرؤية عالم كافكا.
ونستطيع أن نرجع هنا أولًا، وبشكل مباشر، إلى حكم كافكا على كيركجارد، خاصة وأنه قرأ له على الأقل مؤلَّفَين، هما: «إما … وإما» و«الخوف والرعشة».
ورد اسم كيركجارد لأول مرة في كتابات كافكا في يومياته الخاصة بتاريخ ٢١ يوليو ١٩١٣م، ليؤكد اختلاف اتجاهيهما بصدد أوضاع متشابهة: «تسلمت اليوم كتاب كيركجارد الذي يحمل عنوان «القاضي» (وهو النص نفسه الذي تُرجِم إلى الفرنسية تحت اسم «إما … وإما»)، وكما توقعت، فإن حالتي تشبه حالته بالرغم من الاختلافات العميقة بينهما. وهو يشجعني مثل صديق.» أما الحالة التي يشير إليها كافكا فهي العلاقة بالأب (كان كيركجارد يشارك والده في العذاب المعنوي، أما عذاب كافكا فكان ناتجًا بالذات من تحصُّن أبيه ضد القلق)، والانفصال عن الخطيبة (وإن كان انفصال كيركجارد عن رجينا تضحية تشبه تضحية إبراهيم، أما كافكا فقد تخلى عن فيليس لأنه اكتشف أنها ستكون عقبة في طريق اهتماماته، ولأنه لا يريد أن يفرض عليها هذا العبء). على أن الاختلاف بينهما أعمق وأهم من هذه المسألة الأخيرة.
لا نستطيع أن نفسر إذن «المحاكمة» على أنها قصة ترمز إلى العجز الجذري عند الإنسان، وإلى انتفاء فعالية مبادراته وجهوده.
وتدور المناقشة بين كافكا وكيركجارد حول مسألة محددة، وهي المبادرة الإنسانية. لا شك أن هناك انفصالًا عنيفًا بين عدالة الله وعدالة الإنسانية، كما لا يوجد أي شيء مشترك بين المجتمع المنسلخ وبين ملكوت السماء. وكان كافكا أكثر تمسكًا بالتاريخ من كيركجارد، فلم يعتبر النظام القائم نظامًا أبديًّا، وبالتالي فإن أي نظام إنساني آخر يكون مستحيلًا: «نحن أضعف من أن نعترف في كل لحظة بهذا النظام الحقيقي، ولكنه موجود. والحقيقة واضحة في كل مكان، وهي تخترق ثغرات الواقع المزعوم.»
وهذا ما لخصه كافكا في صيغة واحدة: «التقرب إلى الله وسلوك الحياة العادلة عبارة عن شيء واحد.»
وعندما يشير كافكا في «مستعمرة الأشغال الشاقة» إلى سمو الحكم الإلهي على كل شيء، فإننا لا نجد مشقة في تبين صرخة غضبه في هذا النص؛ فالعقوبة لا تنصبُّ إلا على خرق القانون دون أي اعتبار للظروف المخففة، أي دون أدنى اعتبار للإنسان أو الفرد. فالآلة العمياء تنفذ وتسجل أحكامًا مجردة على جسد المحكوم عليه بحروف من دم: «أطع رئيسك!» «كن عادلًا!»
والإيمان عند كافكا هو الأمل والثقة في قدرة الإنسان على تجاوز الغربة، حتى ولو كان لا يرى بوضوح إلى أين يقوده هذا التخطي. فالوجود الإنساني الحقيقي ممكن خارج نطاق الغربة التي يشن عليها كافكا هجومه في كل أعماله: «الإيمان يعني تحرير الجانب الخالد في نفوسنا، أو بدقة أكبر، التحرر، أي أن نكون خالدين، أو بعبارة أدق أن «نكون».»
ويتمثل مركز الثقل عند كافكا في الإنسان دائمًا وفي حياته، بما في ذلك أيضًا رغبته في تجاوز حدودها.
ذلك هو عالم كافكا بكل ازدواجاته. وهو ليس متفائلًا؛ لأنه لا يتبين ولا يرسم وسائل تغيير العالم باجتثاث جذور الغربة، ولكنه ليس متشائمًا أيضًا؛ لأنه لا يتقبل في أي لحظة عبث هذا العالم أو لعنته. وهو لا يعرف طريق الاستسلام؛ إذ كتب يقول في يومياته: «أنا أكافح، ولا أحد يعلم ذلك … والتاريخ العسكري يذكر الرجال المحاربين المتميزين بمثل هذا الطابع.» وبطل «المحاكمة» لا يهدأ له بال حتى يجد قاضيه، ولا يستسلم للذبح إلا عندما يسقط من الإعياء. ويخوض بطل «القلعة» كفاحًا مريرًا لكي يستقر في القرية ويفرض الاعتراف به.
وفي قصة «المصابيح الجديدة» حاول كافكا أن يرمز إلى الفاصل الجذري بين عالم «الطبقات العليا» وعالم «الطبقات الدنيا»، واعتمد في ذلك على فكرة التعارض الطبقي بين أصحاب الأعمال وبين مندوبي عمال المنجم. فقد أصيب العمال بضعف في قوة الإبصار من جراء استخدام مصابيح رديئة، فرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على مصير طبقتهم. أما المتكلم باسم الإدارة فلا يراه أحد، ويعمد إلى تمييع المسئوليات بين عدد كبير من الوسطاء حتى يصبح من المستحيل التعرف على المسئول عن تدمير الحياة في جهاز القهر العام الذي لا يعلم أحد اسمه.
يقاوم كافكا النظام الراهن المميت، ويكشف عن محتواه اللاإنساني عن طريق أسطورة يقيمها. لقد فجر هاشيك المعاصر له وابن وطنه، فجر الجانب القبيح والبشع المتخفي وراء المؤسسات والبشر، عن طريق الخدع والحيل في «الجندي الشجاع شفيك». وقدم شارلي شابلن في «الأزمنة الحديثة» صورة ملحَّة وموحية لثورة الإنسانية على أوضاعها. إنها ردود فعل فنية مختلفة للإنسان ضد عالم الغربة.
ولم يكن كافكا ملحدًا؛ لأن حساسيته وتفكيره، بل وكل عالمه الداخلي، قد شكلته العقيدة اليهودية، وقراءاته المستمرة لباسكال ودستويفسكي وليون بلوي وكيركجارد، وبالأخص التوراة. ودراسته للُّغة العبرية وللتلمود وشغفه بالمسرح الديني اليهودي، كل هذا يؤكد انجذابه لعالم الإيمان بوصفه أبرز تعبير مأساوي وفردي عن الغربة التي يعانيها. ولكن كافكا لم يكن أيضًا متصوفًا؛ فالعالم الآخر مطموس المعالم بالنسبة له، ولا يتدخل الله في حياة الإنسان، في رأيه، إلا من خلال افتقاده، فكل حياة كافكا تنصبُّ على الإحساس بكل ما يفتقده الإنسان، أي على الإحساس بنواقص العالم وبنفيه. وسواء تعلق الأمر بسادة القلعة أو بقضاة المحاكمة، فإن السؤال الكبير الذي يثيره الإنسان يصطدم دائمًا بإجابتين مخيبتين للآمال؛ إما أن السيد لا وجود له، ومن ثَم يصبح من يضطلعون بمهمة خدمته أسيادًا بحكم تدجيلهم، وإما أن السيد موجود فعلًا، ولكنه لا يظهر إلا من خلال العذابات التي يفرضها علينا خدمه حتى يجبرونا على ألا نتوقف أبدًا. ولكن، هل الإيمان طريق بلا هدف أم هدف بلا طريق يوصل إليه؟
لا يحاول كافكا التحرر من ازدواجات هذا العالم الداخلي إلا من خلال الإبداع الفني، ومن خلال بناء الأسطورة.
(٣) تناقضات العالم المبني
كانت كلمة «الأدب» تعني عند كافكا، بمعناها الدارج، فن الهروب. فالأدب في رأيه «فرار من الواقع».
وقد سأله صديقه يانوش: القصص الخيالي يعني إذن الكذب؟
فأجابه كافكا: لا، الخيال تكثيف للواقع، وتحويله إلى خلاصة مركزة. أما الأدب فهو، على العكس، عملية تذويب، ووسيلة ترفيه تخدر وتخفف من وطأة الحياة غير الواعية.
– والشعر؟
– الشعر على النقيض من ذلك، إنه يوقظ.
– يقترب الشعر إذن من الدين؟
وعلى نقيض رأي فلوبير، لا يعتبر كافكا الفن غاية في حد ذاتها؛ لأنه مكرس من أجل واقع ومن أجل حقيقة أسمى من ذلك. ولا يكتسب الفن أي معنًى إلا بكونه مشاركة مع الحقيقة ومع الكائن الأصيل، وإلا بوصفه رسالة موجهة إلى الجماعة الإنسانية.
ومهمة الفن هي تغيير الإطارات التقليدية للحياة، ولفت الأنظار — من خلال التشققات والشروخ — إلى حقيقة أسمى، أو الدعوة إليها، أو بث الأمل في قيامها. وقد كتب في «أقواله المأثورة»: «الفن هو أن تبهر أنظارَنا الحقيقةُ، فليس هناك ضوء حقيقي إلا الضوء الساقط على الوجه القبيح المتراجع … الفن يحوم حول الحقيقة وهو عاقد العزم على أن يحترق بها. وتتمثل موهبته في البحث، في الفراغ المظلم، عن مكان لم يُعرَف من قبل، نحجز فيه بقوةٍ أشعةَ الضوء.»
والإبداع الفني ليس انطواء على النفس، بل إنه، على عكس عملية حفر السراديب، سراديب الجحر اللانهائية والباطلة، إنه نظرة موضوعية للعالم، ومشاركة وتلاقٍ مع الآخرين.
ولا يبلغ الفن رسالته بوضوح، ولكنه يستطيع أن يوقظ الناس، وأن يجبرهم على السير قدمًا بأن يصبحوا الصورة المرئية للحقيقة. تلك هي قوة الأسطورة التي لا تكتفي بأن تتكلم عما يوجد، ولكنها تتكلم عن حركته أيضًا، وعما يفتقده وما يصبو إليه.
ينتمي كافكا، بوصفه إنسانًا، وبحكم نشأته، إلى عالم الغربة. وقد بدأت حياته الحقيقية مع الخلق الإبداعي عنده، مع تلك الحركة التي لا تقاوَم، والتي تدفعه إلى النزوع نحو المطلق، ومن خلال سلسلة من حالات الفشل والإقصاء. وهذا الانتقال من العالم المعاش إلى العالم الداخلي، ومن العالم الداخلي إلى عالم الأسطورة التي يبنيها هو، أشبه بعملية التناسخ.
•••
وهكذا يكون كل عمل من أعماله وثيقة وشهادة، لا نسخة أو نقلًا حرفيًّا لحالة نفسية أو لحدث. إنه إجابة على سؤال تطرحه الحياة، وتمرد على غربة العالم. إنه عالم مبني بمواد عالم الغربة، ولكن وفقًا لقوانين أخرى.
كانت الكتابات الأولى لكافكا مجرد مناجيات داخلية يترجم بها انطباعاته وأحاسيسه، وينسج بها لغة تعبر عن رغباته. وقد توقف منذ كتابة «الحكم» في ١٩١٢م عن الاكتفاء بوصف ما يدور في نفسه لكي يقيم أعمالًا حقيقية، أي أساطير يعبر فيها عن لحظات اكتشافه للواقع وتناقضاته، وحركته الداخلية، ونواقصه ودعاوى تجاوزه.
والصلات وثيقة بين القضايا التي تطرحها الحياة وبين رواياته، حتى إننا كثيرًا ما نعثر في «اليوميات الخاصة» و«الكراسات»، وفي كلماته على مفاتيح أعماله الكبيرة.
ومما يؤكد أن المحاكمة تجيب على قضايا أثارتها حياة كافكا شخصيًّا؛ فكرة عارضة جاءت على لسانه وهو يجيب على سؤال وجَّهه إليه يانوش حول قيمة قصائده:
– أنا لست ناقدًا. لست سوى إنسان يصدرون أحكامهم عليه.
– والقاضي؟
وسيتبين لنا فيما بعد كيف تولدت فكرة رواية «أمريكا» من تأملاته حول ديكنز.
وهكذا تتحول قصة رجل، أو بالأحرى ملحمته، إلى لحظة من التاريخ، أي من تاريخنا.
•••
كل عمل من أعمال كافكا ليس سوى عنصر من عناصر ملحمة واحدة تدور حول نفس البطل.
فأحداث كل عمل من الأعمال ليست استكمالًا للحدث السابق أو تمهيدًا للحدث القادم، كما يحدث في التسلسل المنطقي للروايات، فكل حدث عبارة عن «كل»، وتتابع الأحداث لا يهم إلى حد كبير كما هو الحال في الملاحم.
وفي مقابل ذلك، نلاحظ أن هناك مواضيع أساسية تبرز في كل أعماله، وتحتل مركزًا رئيسيًّا، وهي موضوع «الحيوان»، وموضوع «البحث»، وموضوع «عدم الاكتمال».
ولا شك أن أوضحها جميعًا هو موضوع «الحيوان»؛ ﻓ «التقرير المقدم للأكاديمية» من وضع قرد أصبح إنسانًا، و«التحول» يتعلق بتحول إنسان إلى صرصار، و«أبحاث كلب» و«المغنية جوزيفين» و«شعب الفئران» و«الجحر»، وكثير من كتاباته المتناثرة؛ تتناول قضايا الإنسان من خلال حياة حيوان.
ويرتبط موضوع الحيوان أولًا بمسألة اليقظة. كيف نبع الإنسان من الحيوان؟ كيف حدثت هذه اليقظة من خلال بلادة العادات والتقاليد، ومن خلال الحياة التي لا تزال حيوانية لأنها محكومة بعادات؟ كتب كافكا يقول لشقيقته: «لكي يصبح الطفل رجلًا، يجب أن ننتزعه في أسرع وقت ممكن من الحيوانية.» فالحيوانية في رأيه هي الوسط العائلي الذي يعفي الإنسان من المسئولية، ومن المبادرة الإنسانية الحقيقية، ومن التساؤل حول الغاية النهائية لوجوده.
ويبدأ الانتقال إلى الإنسانية بالعبودية وبشعور واحد، هو أنه ليس هناك مخرج. ويعيش كل فرد أسير شبكة من التقاليد المتعارف عليها، تمامًا كما تعيش القرود في الأقفاص؛ ولذا فليس أمامه إلا أن يعمل مثل الآخرين.
والذوبان في الجموع هو البديل الأول للحرية:
وهذا الشعور نفسه هو الذي يجعل الوجوه تتجه نحو المساح، ونحو السؤال الكبير الملحِّ المطروح من قبلُ في «القلعة».
هذا السؤال المحتَّم، المتخفِّي في طيات نفس كل إنسان، هو السؤال الذي تثيره اليقظة، بوصفها أول «شرخ» في عالم الغربة المغلق، الشرخ الذي يصنعه في عالم الملكية السؤال التالي: من أكون؟ وما هي غاية حياتي التي تضفي عليها معنًى؟
إنه عَود إلى الحياة الحيوانية بمجرد انزواء السؤال. فما دام الإنسان لا يؤدي وظيفة في عالم الملكية، فإنه لا «يكون» أي شيء من الناحية الاجتماعية، بل مجرد حشرة أو جثة.
ومع انتقال الكائن بهذا السؤال إلى عالم الإنسانية، تبدأ الدورة الثانية، دورة البحث.
•••
«البحث» هو موضوع الثلاثية الكبيرة المكونة من «المحاكمة» و«أمريكا» و«القلعة».
وهذه الأعمال الثلاثة الكبيرة عبارة عن إسقاط لقضايا وعذابات كافكا، في قالب أسطوري. وهي حكايات تجمع بين قصص السحرة والملاحم. «لا توجد إلا قصص سحرة دامية؛ فكل حكاية من حكايات السحرة تنبع من أعماق الندم والخوف. وهذا هو العنصر المشترك بين كل هذه الحكايات حتى لو اختلفت المظاهر. فقد لا تكون القصص الواردة من الشمال عامرة بالحيوانات كما هو الحال في القصص الأفريقية، ولكن النواة والرغبات الدفينة واحدة».
ففي كل حكايات السحرة تكون الغاية التي يسعى إليها البطل هي الحصول على أداة سحرية يترتب على استحواذه عليها تغيير في حياته وفي حياة شعبه. وطريق الوصول إلى هذا الهدف مليء بالعقبات والمغريات، ولكن البطل المنتصر لا يكون إلا أنقى إنسان، وأقل الناس انغماسًا في أمور الدنيا.
نجد كل هذه الجوانب في أعمال كافكا الكبيرة، سواء كنا بصدد قصة سحرة حقيقية مثل «المحاكمة»، أو بصدد «رواية تعليمية» مثل «أمريكا»، التي تذكِّرنا ﺑ «سنوات تدريب ويلهيم مايستر» لجوته، وﺑ «دافيد كوبرفيلد» لشارلز ديكنز، أو بملحمة مثل «القلعة»، التي تعيد إلى الأذهان القصائد الملحمية حول البحث عن كأس «جرال» الذي جُمع فيه دم المسيح، و«دون كيشوت» و«رحلة الحاج» لبونيان.
والغاية المطلوبة هنا ليست أداة سحرية، بل رؤية روحية تغير الواقع، وتسمح بتفهمه بعد تجاوز مظاهره، ويكون «الخلاص». والهدف عند كافكا ليس بلوغ السماء بمواجهة الامتحانات والصعاب، كما يحدث في «رحلة الحاج»، فالبطل عند بونيان يعرف ما هو مطلوب منه ويتساءل: هل أنا قادر على تحقيق ما هو مفروض عليَّ؟ أما عند كافكا فيكون السؤال مختلفًا، سواء في «المحاكمة» أو في «القلعة»، وهو: ما هو المطلوب مني إنجازه؟ أي إنه يتعين على البطل أن يحصل على تصريح بالوجود من خلال عملية البحث.
أما العقبات التي تعترض الطريق عند كافكا، فتتمثل في متاهات المدينة العديدة والمنهكة، بما في ذلك أجهزتها وبيروقراطيتها، والتدرج الهرمي في مراتبها ومناصبها الذي يؤدي إلى تمييع المسئولية وطمسها. والسير في هذه المتاهات أشد عناءً من مسيرةِ دون كيشوت، الفارس ذي الوجه الحزين، فوق أراضي قشتالة الوعرة. وينتشر موضوع المتاهة في أعمال كافكا بوصفه الباعث على الكابوس. ومن الأمثلة التي تصور هذا الموضوع المؤلم، بحث كارل روسمان (بطل «أمريكا») عن مخرج من سلسلة الدهاليز في الباخرة، أو بحثه عن مفتاح مسكن برونلدا لكي يهرب. وفي «المحاكمة» يتيه جوزيف ك بين الممرات والسلالم بحثًا عن مقر المحكمة، ولا ينجح في الوصول إلى باب الكاتدرائية. ويظل المساح (في «القلعة») هائمًا في الطرق المغطاة بالجليد، فيعجز عن الوصول إلى القلعة أو العودة إلى الفندق.
أما الأماكن الأسطورية التي تدور فيها أحداث ملاحم كافكا فتحمل أسماء رمزية لها معناها المقصود، مثل فندق الجسر، فندق السعادة.
إنه يبحث عن القانون، وعن القواعد التي تحكم الحياة وسط أكواخ ومخازن العدالة التي تفوح منها رائحة «النتانة»، وهو لا يصادف أبدًا في طريقه إنسانًا يتشابه وجهه مع القناع الذي يتخفَّى وراءه، ولا مع الوظيفة التي ينتحلها لنفسه، فهو لا يحصل على معلومات عن قضيته عن طريق المحامي، ولكن عن طريق مصور يرسم من خياله وجوه القضاة الذين لا يراهم أحد. ولا ينتهي كابوس هذه الرحلة عبر كل ما هو مجرد من الإنسانية إلا بالموت، وينفِّذ حكمَ الإعدام مهرجو المسرح.
ويريد كارل روسمان أن تَرسُخ قدمه في «العالم الجديد»، وأن يندمج في الحياة، ولكنه لا يجد أول بوادر سعادته — بعد نهاية مطافه، وسلسلة حالات فشله وخيبة أمله المتكررة — إلا على خشبة مسرح متجول يمثل فوقها الذين لفظتهم الحياة، الأدوار التي لم تتحها لهم الدنيا. ومساح القرية هو أيضًا رجل غريب عن القرية، يبحث عن نقطة ارتباطه بالعالم. لم يكن يطمع في السلطة أو الشباب أو المعرفة، كما كان يريد فاوست أو جوليان سوريل (الأحمر والأسود، ستندال) اللذان عبرا عن بداية القرن التاسع عشر المبشر بأحلام البرجوازية الناشئة. لا، إنه لا يرغب إلا في شيء واحد بسيط، وهو أن «يكون».
على أن المساح، ذلك الفارس التائه الجديد، ينزلق شيئًا فشيئًا في هذا العالم الذي يُدار — ابتداءً من القرية حتى القلعة، ومن الأرض حتى السماء — كأنه شركة مساهمة غير اسمية، ترمز تمامًا إلى نظام وإلى عصر بكل ما فيه من موظفين فاسدين وطغاة لا يمكن الوصول إليهم، وبكل ما فيه من روح الخضوع والاستسلام والتدهور الأخلاقي الذي يفرضه على ضحاياه.
هذا العالم مثال لأقصى ضروب الانحطاط الاجتماعي والمعنوي للحياة. إنه عالم «الكونت دي وست وست»، عالم الغرب الأقصى الذي تأفل فيه الشمس.
وهذا البطل الذي تسيطر عليه فكرة وحيدة، وهي إنجاز مهمة واحدة، كما هو الحال في الأساطير والملاحم الشعبية، ليس بالرجل المؤمن الذي يبحث عن إلهه، بقدر ما هو إنسان يبحث عن نفسه وعن نظام إنساني. فسيِّد القلعة غائب أبدًا، ولا يجب أن نبحث عن العظمة في شخصه، بل في الطاقة البشرية للشخص الذي يواصل البحث حتى مماته عن الغاية النهائية، أي في شخص المساح الذي لا يقبل إلا المطلق كوحدة للقياس.
وتجري المأساة بأجلى معانيها في إطار يذكِّرنا بإمارة إقطاعية ألمانية قديمة، لا يزال يتمتع فيها سادة القلعة بحق قضاء الليلة الأولى مع عروس القِن، إنها مأساة العلاقات بين السادة والأتباع في الشكل الاجتماعي الجديد للشركات الرأسمالية غير الاسمية، وفي الشكل الديني لرسالات مزيفة وموظفين مزيفين في خدمة إله مشكوك في وجوده. وهكذا تتمثل العلاقات الاجتماعية في وشائج تخرج عن نطاق الدنيا، وتتخذ العلاقات الزائفة بين الناس مظهرًا أسطوريًّا لعلاقة الله بعباده.
ويخوض المساح كفاحًا غامضًا ضد هذا النظام الزائف القائم في السماء وفي الأرض، لكي يكتشف القانون الحقيقي للحياة، أي القانون الإنساني. ويخر المساح صريعًا في هذه المعركة.
•••
ما هي إذن تلك القوة الخفية التي يتقهقر أمامها الفرسان الساعون إلى اللامتناهي؟ وما هي تلك الحقيقة التي يبذل الشهداء أرواحهم من أجلها؟
لا يمكن حل رموز هذا الواقع وتلك الحقيقة، وعزلهما بعيدًا عن الأسطورة التي يعيشان فيها. لا يمكن فصل القصة عن المعنى؛ لأن العمل الأدبي ليس رداء روائيًّا لأفكار مجردة، ولأن المواقف ليست شعارات، ولأن الشخصيات ليست مجرد شطائر بشرية تُحشَى بالشعارات أو بالنصائح الأخلاقية.
فمن العبث مثلًا أن نبحث في شخص قائد «مستعمرة الأشغال الشاقة»، أو في شخص إمبراطور «سور الصين»، أو في شخص سادة «القلعة»؛ عن رموز بسيطة للأب ولرأس المال ولتصور كيركجارد للرب. ولو أن أعمال كافكا تتلخص في هذه الرموز البسيطة لكان من الأفضل له أن يكون أخصائي تحليل نفسي، أو رجل اقتصاد، أو من رجال اللاهوت، فيقول بوضوح وصراحة كل ما يتراءى له. لم يكن كافكا فيلسوفًا، بل شاعرًا، أي إنه آلى على نفسه ألا يعرض علينا فكرة معينة أو أن يحاول إثباتها، بل عزم على أن يوصل لنا نظرة شاملة ومعينة للعالم، وأسلوبًا في الحياة نختبره دون أن نذوب فيه.
وككل مبدعي الأساطير الكبار، رأى كافكا وبنى عالمًا بالصور والرموز، واكتشف وعرض علاقات قائمة بين الأشياء، ووحد كلًّا من الحلم والخيال والسحر أيضًا في وحدة لا تتجزأ، وذكَّرنا — من خلال تشابك أو ترادف المعاني — بالخطوط الخارجية للأشياء، وبالأحلام المطمورة، وبالأفكار الفلسفية أو الدينية، وبالرغبة في السمو.
ومنظر الثلوج في «القلعة» وفي «طبيب القرية» وفي «سور الصين»، ليس مجرد صورة تشكيلية أخاذة تذكِّرنا بتقشفها، وبقوة إيحائها بلوحة بروجيل «القناصة وسط الثلج»، بل إنها توحي إلينا بالتأمل الحزين حول عزلة الإنسان وافتقاده الكينونة: «هذا الجليد وذلك الضباب الشمالي الذي لا يمكن أن نتصور أي وجود إنساني وسطه». وهكذا يُشعِرنا هذا الجو البارد أننا نعيش، في صميم كياننا، افتقادنا «الأرض والهواء والقانون». فالصورة هنا لا ترمز إلى الفراغ أو العدم، ولكنها هي نفسها العدم والفراغ والمعاناة من افتقاد شيء ما.
لا يمكننا أن ننساق إذن في تفسيرات تلمودية لتفاصيل قصص كافكا؛ فلا يوجد أي توافق حرفي معقول بين التطور الملموس للرمز وبين معناه المجرد. إننا بصدد شخصيات نابضة ومتفردة، تتحرك في إطار عام للرمز، ولا تتنافى واقعية التفاصيل مع الرمزية، بل تضفي عليها حياة.
لقد حاكى كافكا ديكنز تمامًا. كما حاكى بيكاسو، وديلاكروا أو فيلاسكيز، مع وعي ثاقب بشروط وقواعد الإبداع، ومع العزم على إعادة خلق توافقات جديدة، لمرحلة جديدة من التاريخ عن طريق نسخ توافقات الماضي.
ويدرك كافكا تمامًا ما يعود إلى ديكنز وما يميزه عنه. إن جهاز القانون المعقد الرامز إلى المجتمع الذي يعمل في خدمته، يسحق بلا شفقة ضحاياه بواسطة تروسه الغريبة. كان ديكنز معاصرًا للرأسمالية وهي لا تزال يافعة، وكان مواطنًا في الأمة التي تحتل مركز الطليعة في هذا النظام. وحظيت كلمته بجمهور عريض من المستمعين إليها. أما كافكا، فقد عاش تجربة انحطاط النظام، وأحس بذلك بشكل حاد من خلال النظام الملكي النمساوي المجري بمؤسساته البالية. وهو يعلم أن صوته كيهودي يتكلم الألمانية سيُخنَق، وأنه لن يصل في حياته إلا لجماعة محدودة في أحسن الأحوال.
وكان ذلك من أسباب زيادة الطابع الخيالي للإسقاط الأسطوري لتجربته المعاشة.
والواقع الاجتماعي الذي يشهد عليه كافكا، ويعانيه كضحية، ويقيم له المحاكمة، لا يقل وهمية عن المجتمعات السحرية أو الأسطورية عند الإنسان البدائي. لم تعد غربة الإنسان وليدة عجزه عن مواجهة قوى الطبيعة، بل تنشأ اليوم من إحساسه بالعجز أمام قوًى أجنبية معادية. ومن الممكن أن ينقضَّ الطوفان في أية لحظة ليُغرِق الناس ومنجزاتهم وأحلامهم وقيمهم. وفي ظل الغربة تجري الحياة اليومية في جو من القلق والخوف من الكارثة الداهمة، وهذا ما يُشعِرنا به كافكا بشكل مباشر وملموس. وهو لا يحتاج إلى وسيط، بل يكتفي بوصف الواقع كما هو بلا أية إضافات خارجية، أي بوصف الواقع بآلاته المعقدة المصانة بعناية، وأيضًا بتهديداته وضغوطه التي يفرضها، وبالمخاوف ودواعي السخرية والتمردات التي يثيرها في رءوس الرجال وقلوبهم. وهكذا يوحي إلينا كافكا، من خلال هذا الوصف وحده، بضرورة قيام عالم آخر، هذا بالرغم من أن الحركة الذاتية التي تحقق الانتقال من هذا العالم إلى عالم آخر؛ لا تتراءى له.
يقدم لنا كافكا مأساة الوجود في الإطار الظاهري للحياة اليومية، بأشعار لا تعرف التسامح مع عالم الغربة وعالم ضياع الذات. وهو يعرض لنا هذه المأساة بدقته في تشريح أجهزة هذا العالم المعقد، مع إبراز جوانب غموضه ودواعي الشعور بعدم الطمأنينة. ولا تدَّعي موضوعيته في وصف العالم اللاإنساني أنها تقدم إجابات للمشكلات التي تطرحها قضايانا، ولكنها تدفعنا دفعًا إلى البحث عنها. تَحسُر موضوعيةُ كافكا النقابَ عن الوجه الزائف لهذا العالم الذي يدَّعي أنه يحقق الأمان، ليكشف عن حقيقته الفظة المتجهمة، وعن تفسخ وتصدع البناء المهزوز الذي يدعي الشموخ والخلود. وتجبرنا هذه الموضوعية على الإحساس بأن هذا العالم لا يستقيم مع نفسه، وتدفعنا إلى الوعي بحالة الغربة التي نعيشها.
ونجد دائمًا فيما يحكيه لنا كافكا العالمَ المألوف بكامله، ولكننا نحس منذ الوهلة الأولى أن هناك أمرًا شاذًّا يغير من الأضواء المسلطة على كل شيء. وتوقظنا هذه الهزة؛ فها نحن بصدد أسرة برجوازية صغيرة مطمئنة، فإذا بابنها، المندوب التجاري الهادئ، يتحول فجأة إلى حشرة ذات أرجل عديدة، إنه «التحول» في كل العلاقات القائمة بين الأشياء وبين الناس. وجوزيف ك، المندوب المفوض الذي لا يمكن أن يأخذ عليه القانون أو الرأي العام أي شيء، يُقبَض عليه لحظة استيقاظه بلا سبب ظاهر، حتى إنهم يطلقون سراحه فورًا. غير أنه لا يزال متهمًا؛ ولذا فقد انقلب مجرى حياته تمامًا كما انقلبت علاقاته بالمؤسسات وبالناس. فحياته تجري الآن وفقًا لمنطق آخر، لا صلة له بالمنطق العادي. ولكن التحول الذي أجراه كافكا ليس ضربًا من التعسف، مما يُشعِرنا لا بالغربة، ولكن بالدهشة الكاملة. وهكذا يتجلى لنا جمود التقاليد والالتزامات والقيم المتعارف عليها، مما يدعونا إلى النظر في أمرها. كما نشعر أيضًا بأن المفاهيم الاجتماعية والتقليدية لم تعد تقنعنا، وأننا مطالَبون بإيجاد مبررات أخرى غير حكم العادة.
وقد آلى على نفسه أن يحطم هذه الشبكة، وأن يعيدنا إلى حاضرنا بلا قصد ولا تدبير منه. وهذا الحاضر لا يشكل نقطة انتقال في مسيرة، بل حق دائم لنا في رجوعنا إلى أنفسنا. إننا منكبُّون تمامًا على عادات الحياة. لم تعد الأحداث تتعاقب أمامنا كما كان يحدث، وكما عودَنا الواقع السلبي، لقد جرد كافكا هذه الأحداث من ثيابها المتهرئة التي تسمَّى المنطق بحكم تقليديتها، والتي لم تعد تسبقها الأسباب ولا تعقبها التفسيرات.
وفي هذا الحلم أو الكابوس المنسوج من نفس خيوط حياتنا اليومية، يمسك بتلابيبنا كلٌّ من التعسف والشذوذ، ونعجز عندئذٍ عن الاستشهاد بسابقة، فتجبرنا بذلك لامنطقيةُ ما يبدو معقولًا على أن نشعر بكياننا وبمسئوليتنا.
وفي مواجهة الغربة التي تفرضها الحياة الآلية، يقدم لنا كافكا عالمًا غير مكتمل، عامرًا بالأحداث التي تتركنا دائمًا معلَّقين. إنه لا يحاول نقل العالم ولا تفسيره، بل بناءه في شموله ليبرز لنا عيوبه، ويوحي لنا بضرورة تجاوزه، وضرورة البحث عن الوطن المفقود.
وهنا يتخلى كافكا عنا، فقد قادنا في دروب الجحيم المتشابكة، وأرشدنا من بعيد إلى تجربة النور من خلال نفق طويل لا نهاية له، ثم تركنا عند هذه النقطة. فعالم كافكا هو عالم الغربة، وعالم الوعي بالغربة.
وعالمه هو عالم اللغة، ولكنها لغة تم تشكيلها في قالب من عالم الملكية، ولا تستطيع إلا أن تُلمِّح إلى عالم الكينونة. إنها تعجز عن إرشادنا إلى عالم الكينونة كما تعجز عن الكلام عنه.
يخلق كافكا في كل عمل من أعماله ما يشبه «النموذج»، على غرار ما يفعل العلماء الآن لكي يدرسوا الظواهر. ولذا فهناك معانٍ كثيرة تتراكم معًا؛ فالمجاز القضائي في «المحاكمة» قابل للتفسير الطبي أو النفسي أو الديني أو الأسطوري. على أن كلًّا من هذه التفسيرات أو مجموعها معًا، لا يعبر عن المعنى المقصود في أعماله؛ وذلك أولًا لأن الرمز لا ينفصل أبدًا عما يرمز إليه في كل عمل خلاق، في الأدب كما في التصوير والشعر. وأهم ما تتميز به الأسطورة هو قدرتها على الإيحاء لا بالتفسير، ولكن بالرؤية وبالتجربة المعاشة. وثانيًا لأن بناء النموذج ابتداءً من وصف مجموع علاقات إنسانية هو إشارة أو رمز للواقع يتجاوز كل التأويلات، فالمستقبل ينعكس في العالم الصغير الذي تخلقه الأسطورة.
والشعر هو بالذات فن تفتيت الوقائع الحاضرة إلى أساطير ورموز لما لم يحدث بعد، بل إننا نستطيع أن نقول عن طيب خاطر: إن الشعر هو التجربة المعاشة ﻟ «المفارقة»، ولو أن هذه الكلمة ترتبط في الأذهان بمعناها اللاهوتي. لسنا بصدد الحنين الديني إلى عالم آخر، ولكن بصدد شحذ إحساسنا باللامتناهي. وكافكا، كأي فنان آخر أصيل، شاهد على أبعاد هذا اللامتناهي.
إن إمكانيات الإنسان اللامتناهية قادرة على فتح كل الأبواب والنوافذ المغلقة. والفن الحقيقي طريقة للتذكير باللامتناهي، وكانت مهمة الأساطير العظيمة هي التذكير دائمًا باللامتناهي، وبإثارة السعي إليه. ولا توجد أي جوانب لاهوتية في الرغبة في كسر دائرة العالم المغلقة، وفي عدم التخلي عن كل ما يتعدى التحليل الواضح الرشيد للحاضر.
إن المطالبة بالشمول في البحث عن معنى الحياة، وفي إرادة بنائها وفقًا لقوانين أفضل؛ تجعلنا في معركة مع ما سنكون، أي في معركة مع ما ينقصنا حتى الآن وما نجهله بالضرورة عن أنفسنا، ومع ما لا نستطيع أن نفكر فيه أو أن نقوله الآن، دون أن نتخلى مع ذلك عن قوله أو التفكير فيه.
لا بد أن تُترجم لغة هذه «المفارقة» الإنسانية بتعبيرات الإنسانية العظيمة المتفتحة على المستقبل؛ أن تترجم بهذه التعبيرات الخطوات الغامضة للَّاهوتية السلبية التي تكتفي بسرد ما يتنافى مع المطلق، ما دامت لا توجد لغة للتعبير عنه بشكل إيجابي.
وتتمثل عظمة كافكا في نجاحه في خلق عالم أسطوري لا ينفصل عن عالمنا الواقعي، بل يكوِّن معه وحدةً واحدة. والواقع أن الفن عبارة عن خلق إبداعي يتجلى فيه الواقع من خلال الوجود الإنساني. لقد خلق كافكا عالمًا خياليًّا بمواد عالمنا هذا، مع إعادة ترتيبها وفقًا لقوانين أخرى، تمامًا كما فعل المصورون التكعيبيون في الفترة نفسها؛ إذ كشفوا الشاعرية الكامنة في أبسط الأشياء اليومية عن طريق نسخها بوعي. وإذا أردنا أن نعرف كافكا فليس هناك ما هو أفضل من تطبيق حكمه شخصيًّا على أعمال بيكاسو. قال يانوش عن بيكاسو في أول معرض تكعيبي له في براغ: «إنه يشوِّه بإرادته»، فأجابه كافكا: «لا أظن ذلك، إنه يسجل التشويهات التي لم تدخل بعدُ في مجال وعينا؛ فالفن مرآة «تتقدم» كما تتقدم الساعة.»