بور سعيد
يا حاصد النار من أشلاء قتلانا
منك الضحايا، وإن كانوا ضحايانا
كم من ردى في حياةٍ، وانخذال ردًى
في ميتةٍ، وانتصارٍ جاء خُذلانا!
إن العيون التي طفَّأت أنجمها
عجلن بالشمس أن تختار دنيانا
وامتد، كالنور، في أعماق تربتنا
غرسٌ لنا من دمٍ، واخضلَّ موتانا
فازَّلْزِلِي يا بقايا كاد أوَّلُنا
يُبقي عليها، من الأصنام، لولانا
نحن الذين اقتلعنا من أسافلها
لاةً وعزى، وأعليناه إنسانا
حُيِّيتِ بورتَ سعيدٍ، من مسيلِ دمٍ
لولا افتداءٌ لما يغليه، ما هانا
حُيِّيتِ من قلعةٍ صماءَ ناطَحَها
عادٍ من الوحش يزجيهنَّ قطعانا
عاناك في الليل داجٍ من جحافلها
نورًا من الله أعماها ونيرانا
ما عاد ليلٌ قد استخفى بأقنعةٍ
من أوجُه الناس، لولا أنت، عريانا
ليلٌ تعيذ الكهوف السود آنيةً
فيها وفكًّا لموتاها وصَوَّانَا
من بعض ما فيه من ظلماء، ما عرفت
باسمٍ لها، فهي قبلَ اسم إذا كانا
حُيِّيتِ من قلعة ما آد كاهلها
عبء السماوات إلا خف إيمانا
أمسكتِها أن يميد الظالمون بها
دينًا لنا وانتصاراتٍ وعنوانا
يا مرفأ النور، ما أرجعت وادعةً
من غير زادٍ، ولا آويت قرصانَا
ولا تلفظت من مرساك معتديًا
إلا مُدَمًّى ذليل الهامِ خزيانا
جَمَّعتِ من شط صورٍ لمح أحرُفها
واخترتِ من بابلٍ واحتزت مروانا
والنيل ساق العذارى من عرائسه
للخصب، في موكب الفادين، قربانا!
فالويل لو كان للعادين ما قدروا!
لانْهَدَّ من حاضرٍ ماضٍ فأخزانا
فلا ابتنى هرمًا بانٍ، ولا لبست
تيجانها، في انتظار الرُّوح، موتانا
ولا تفجر في «ذي قار» فتيتها
ولا تنفست الصحراء قرآنا!
حييت موتى، وأحياءً، وأبنيةً
مستشهداتٍ أو استعصين أركانا
والنار والباذرون النار كم زرعوا
من كل ثكلى لعزرائيل بستانا!
من كلِّ وجهٍ لطفلٍ فيه زنبقةٌ
تَدْمَى، وتلتمُّ فيه الريح غِربانَا
الجو مما يلزون الحديد به
قاع الجحيم الْتَظَى وانصبَّ طوفانا
سقاك من كل غيمٍ فيه أحرزه
جوف الثرى واشتهته النار أزمانا
كأس الرصاص التي غنَّى بتوأمها
«سقراط» وابتل منها جرح وهرانا١
من أيما رئةٍ؟ من أي قيثار
تنهل أشعاري؟
من غابة النار؟
أم من عويل الصبايا بين أحجار
منها تتز المياه السودُ واللبن المشويُّ كالقار؟
من أي أحداق طفلٍ فيك تُغتصب؟
من أي خبزٍ وماءٍ فيك ما صلبوا؟
من أيِّما شرفةٍ؟ من أيما دار؟
تنهل أشعاري
كالثار؟
كالنور في رايات ثوَّار؟
من مائك السهران أوتاري؟
أم برجك الهاري
يبكي دمًا من جرح بحار؟
أطفالك الموتى، على المرفأ
يبكون في الريح الشماليهْ
والنور من مصباحه المطفأ
قد غار كالمديهْ
في صدري العاري
أطفالك الأموات عارُ الحديدْ
في عرسه الدامي، وذل الرصاص
مالوا بملك شقاء العبيد
واستنزلوا أربابه للقصاص
في ساحة النار
يبكون في الريح الشماليَّهْ
أسرى على السفن الصليبيَّهْ
والريح كالمديَهْ
تجتثُّ أظفاري
يبكون في داري
•••
بالقش والطين سدُّوا كوَّة القمر
والريح في الشجر
قد كمَّموا فاها
كي لا تصيح: «اخبَئُوا عن أعين الغجر
أطفالكم، فهي ما ترتد إحداها
إلا وحال الذي تلقى، إلى حجر»
الريح قيثاري
قد كمموا فاها.
هاويك أعلى من الطاغوت فانتصبي
ماذل غير الصفا — للنار — والخشب
حييت من قلعةٍ شق الفضاء بها
أُسٌّ لها في صدور الفتية العرب
الطين فيها دمٌ منا، وجندلها
من عزمةٍ، والحديد الصلد من غضب
أنت السماوات والأرض، التي خلقت
في عشرةٍ تحسب الأيام بالحقب
والصخر فيك استمد الروح إذ لمست
عقم الجمادات فيه إصبع اللهب
في كل أنقاض دار، من صفاه يدٌ
جبارةٌ تصفع العادين كالشعب
ما انهدَّ إلا وأعلى في ضمائرنا
سدًّا من الثار أعيى حيلة النُّوَبِ
والماء، حتى زُلال الماء، فيك مدى
من فضة الله توهي جحفل الذهب
ما بل للجحفل المأجور غُلَّته
حتى جبى قدر ماءٍ من دمٍ سرب!
أملى على كل شيء فيك جوهره
خلفٌ لجيشين ذي قربى وذي أرَب
إن الحديد الذي صنت الحياة به
غير الحديد الذي وافاك بالعطب
والخير في بندقياتٍ قذائفها
حتف المغيرين، والميلاد في قُضب
لكنه الشر في خبزٍ حقائبه
عونٌ لأعدائك الجوعى، وفي قِرب!
ليت المسيح الذي داجَى بشرعته
من باع مثواه، راءٍ فيك عن كثب
خرسٌ نواقيسك الثكلى وداميةٌ
فيك الأناجيل، والموتى بلا صلُب
والحابس الماء عن جرحاك حمَّلها
عبء الصليبيين من حُمَّى ومن خشب
واستنطق الأم ثكلى أين جيرتها
من فتيةٍ لاصطياد العسكر اللَّجِب؟
فالتمَّ في مقلتيها، وهي تنظره
كل المخاضات والتسهيد والنَّصَب
كأنما استودعتها كلُّ والدةٍ
آجال كل الذراري طيلة الحُقُب
فاختارت الموت صعلوكًا مراضعها
معروكةً في رحى تترى من الرُّكَب
تفدي بما يستبيح الجند من دمها
والنار، أعراض كلِّ الخرَّد العُرُب
أبناء «جنكيز» في روحٍ، وإن بعدوا
في نسبة رُبَّ قربى دون منتسب
شر اللصوص، إذا عَفَّ التتار فما
عَفُّوا عن الريش والأسمال واللُّعَبِ!
فلتنفخ الصُّورَ في أفريقيا أممٌ
بالأمس قد أنزلوها أسفل الرُّتَبِ
ولتسمعن الزنوج البيض صيحتها:
«إنَّا إلى الله أدنى منك في نسب!»
حُييت فالوحش أوهى فيك مخلبه
يا غابة النار قد أثمرتِ بالغلب!
من أي عبءٍ على رُوحي ومسمار
من أعينٍ، في صليب تحت أسواري
تأتيك أشعاري؟
حمراء خضراء من جُرحٍ ومن غار
خضراء من راية، حمراءَ من نار
خضراء كالماء في فردوسك الجاري؟
يا ليت أوتاري
خضراء حمراء من قلبي ومن ثاري!
يا ليت أبواب قلبي منك تلتهب!
يا ليتها دون قفلٍ، ليتها خشب!
أو خرَّب الجند قلبي، فهي تنتحب
في كل إعصار!
سودٌ، كما اسودَّتِ الأموات، أنهاري
فالطين فيها فَمٌ يمتص أسفاري
والريح في داري
سوداء ما رف منها باللظى عصب
لا تسألي بعدُ عنها إنها عشب
أعواده السود غذَّى عجله الذهب
منها، فخبَّأت في عينيَّ قيثاري!
كوني لأشعاري
وحيًا، وشُدِّي ببأسٍ منك أوتاري
يا مرفأ النور، كن مرسًى لأفكاري!
يا مرفأ النار
ألهبت أغواري
بالثار
مزَّقت عنها سودَ أستار
فانهلَّت الشمس على داري
•••
كم من دفينٍ، كلُّ ماء القنالْ
في مدِّه العاتي وفي جزره
يلقى على صدره
عبئًا من الظلماء، كان القتال
من أجل أن يرتاح في قبره!
ما كان إلا من دموع الرجال
والنسوة الباكين في قعره
هذا الذي بين العُبَابَيْن سال!
كالليل هذا الماء فوق القبور
كالنار، كالإعصار، كالداء
تختضُّ في ليل الخليج الصدور
والشمس تحسو كلَّ ماء الصدور
في عالمٍ لم تمش فيه العصور
من ملتقًى للماء بالماء!
كالليل هذا الماء، ندُّ الحياهْ
الموت والميلاد بوَّابتاهْ
في قاعة الموتى قد استبدلوا
بالنبض، ما يُرغِي به المرجل
في موقرات، من سفين الغزاهْ
بالموت مما يصنع المعمل
حتى إذا ما رش عار العتاهْ
بالدمع من عينيه، والنار
من قالبه المورق بالغار
إنسانك العملاق ظل الإلهْ
ظل الملايين التي مقلتاهْ
عنها ترى ما في خيالٍ تراهْ
هذا الذي أعصابها في قواهْ
أحيا دم الموتى، فخرَّ الطغاهْ!
فليحرس الأحياء باب الحياهْ!
غاص المغيرون عن واديك وانحسروا
فالأرض تدمى بقتلاها وتزدهر
وازداركِ الموت لا ملسًا ملامحُهُ
بيضًا، كما تهلك الأنعام والشجر
حاشاك! فالموت توري فيك حدَّتُه
طعم الدم الحي، ما يرقى به البشر
أخفاه عنك التزامٌ فيك واشتباك يدٍ
في مثلها، فهو حيث اجتازه البصر
حتى إذا ارتد واستبشعتِ صورته
أدركت أيَّ انتصارٍ ذلك الظفر!
أدركت أن الضحايا رد كاثرها
فيك الأقل المضحي أنها كثر
من سدد النار في أيديك، يوردها
كيد المغيرين منه الظن والنظر؟
واحتاز في قلبه الأحقاب، يزرعها
في جانبٍ منه واستبسالك الثمر؟
واستنفر الشرق حتى كاد ميِّته
يسعى، أهذا صلاح الدين أم عمر؟
هذا الذي حدثتنا عنه أنفسنا
في كل دهياء نبلوها وننتظر
هذا الذي كَلَّ، عن سحقٍ لبذرته
بالخيل والذابلات، الروم والتتر
يا أمَّةً تصنع الأقدار من دمها
لا تيأسي إن «سيف الدولة» القدر
أعطى لكل انتصارٍ فيك جِدَّتَهُ
فاخضلَّ واخضلَّتِ الآيات والسور
في مسجدٍ أَمَّ مشَّاءٌ بأمته
فيه المصلين، حتى كبَّر الحجر!
واستشرف الساح ناءٍ عنه يحمله
ما بين جنبيه، رامٍ فيه منتصر
عينٌ لسيناء ترقى كلَّ رابيةٍ
فيها، وعينٌ وراء النيل تنحدر
أو تنفض الأفق، حتى ضاء من لهبٍ
حملاقها، فهي ممَّا راء تستعر!
جاءوك! جاء الصليبيون، قاصفة
تنقض في إثر أخرى، فاللظى مطر
في كل فانوس موتى من قذائفها
نورٌ له اختضَّت الأبعاد والعُصُر
فالشرق عارٍ مدى عينيه، منبسطٌ
كالراحة الدور، والأكواخ والحفر
يكاد يبصر ما أبقاه مكتدحٌ
في جبهةٍ، واغتذى من مقلةٍ سهر
إيماضة البرق ألا أنها حقبٌ
تُطوى، ومستقبل يُبْنَى ويُدَّخَر!
المجد لله والإنسان إن يدًا
تحيي وقلبًا يداوي، منهما أثر!
يا قلعة النور تدمي كل نافذةٍ
فيها، وتلظى، ولا تستلم، الحجر
أحسست بالذل أن يلقاك دون دمي
شعري، وأني بما ضحَّيْت أنتصر
لكنها باقةٌ أسعى أليك بها
حمراء يخضل فيها من دمي زهر!
١٩٥٦
١
أُجبِر الفيلسوف الإغريقي سقراط على تجرع كأس من السم.