المخبر
أنا ما تشاء أنا الحقير
صباغ أحذية الغزاة، وبائع الدَّمِ والضمير
للظالمين أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ. أنا الدمار، أنا الخراب!
شَفَةُ البَغِيِّ أَعَفُّ من قلبي، وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يديَّ كما تشاء … أنا الحقير!
لكنَّ لي من مقلتي — إذا تتبعتا خطاك
وتقرَّتا قسمات وجهك وارتعاشك — إبرتين
ستنسجان لك الشراك
وحواشي الكفن الملطَّخ بالدماء، وجمرتين
تروِّعان رؤاك إن لم تحرقاك!
وتحول دونهما ودونك بين كفي الجريدَهْ
فتند آهتك المديدَهْ
وتقول: «أصبح لا يراني.» بيد أن دمي يراك
أني أحسُّك في الهواء وفي عيون القارئين
لِمَ يقرءون لأن تونس تستفيق على النضال؟
ولأن ثوار الجزائر ينسجون من الرمال
ومن العواصف والسيول ومن لهاث الجائعين
كفنَ الطغاة؟ وما تزال قذائف المتطوعين
يصفرن في غسق القنال؟
لِمَ يقرءون وينظرون إليَّ حينًا بعد حين
كالشامتين؟
سيعلمون من الذي هو في ضلال
ولأيِّنا صدأ القيود … لأينا صدأ القيود
لأينا
نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفر، سأقتفيه إلى السعير
أنا ما تشاء أنا اللئيم، أنا الغبي، أنا الحقود
لكنما أنا ما أريد أنا القوي، أنا القدير
أنا حامل الأغلال في نفسي، أقيِّد من أشاء
بمثلهن من الحديد، وأستبيح من الخدود
ومن الجباه أعزهن، أنا المصير، أنا القضاء
الحقد كالتنور فيَّ إذا تلهَّب بالوقود
الحبر والقرطاس، أطفأ في وجوه الأمهات
تنورهنَّ، وأوقف الدم عن ثُدِيِّ المرضعات
في البدء كان يطيف بي شبحٌ يقال له: الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع أقدام الخفير
شبحٌ تنفس ثم مات
واللص عاد هو الخفير
في البدء لم أَكُ في الصراع سوى أجير
كالبائعين حليبهن، كما تؤجَّر — للبكاء
ولندب موتى غير موتاهنَّ — في الهند النساء
قد أمعن الباكي على مضضٍ، فعاد هو البكاء!
•••
الخوف والدَّمُ والصغار فأي شيء أرتجيه؟
فعلى يديَّ دمٌ وفي أذنيَّ وَهْوَهَةُ الدماء
وبمقلتي دمٌ، وللدَّمِ في فمي طعمٌ كريهْ!
أثقلْ ضميرك بالآثام فلا يحاسبك الضمير
وانسَ الجريمة بالجريمة والضحية بالضحايا
لا تمسح الدَّمَ عن يديك فلا تراه وتستطير
لفرط رعبك أو لفرط أساك واحتضن الخطايا
بأشد ما وسع احتضانٌ تنجُ من وخز الخطايا
•••
قوتي وقوتُ بَنِيَّ لحمٌ آدميٌّ أو عظام
فليحقدنَّ عليَّ، كالحمم المستعرة، الأنام
كي لا يكونوا إخوة لي آنذاك، ولا أكون
وريث قابيل اللعين، سيسألون
عن القتيل فلا أقول:
«أأنا الموكل — ويلكم — بأخي؟» فإن المخبرين
بالآخرين موكَّلون!
•••
سحقًا لهذا الكون أجمع وليحلَّ به الدمار!
ما لي وما للناس؟ لست أبًا لكل الجائعين
وأريد أن أروى وأشبع من طوًى كالآخرين
فلينزلوا بي ما استطاعوا من سبابٍ واحتقار
لي حفنة القمح التي بيدي ودانية السنين
خمسٌ وأكثر أو أقل، هي الربيع من الحياة
فليحلموا هُمْ بالغدِ الموهوم يبعث في الفلاة
روح النماء، وبالبيادر وانتصار الكادحين!
فليحلموا إن كانت الأحلام تُشبِع من يجوع
إني سأحيا لا رجاء ولا اشتياق ولا نزوع
لا شيء غير الرعب والقلق المُمِضِّ على المصير
ساء المصير!
رباه، إن الموت أهون من ترقبه المرير
ساء المصير
لِمَ كنت أحقر ما يكون عليه إنسانٌ حقير؟!