من رؤيا فوكاي
فوكاي: كاتب في البعثة اليسوعية في هيروشيما، جُنَّ من هول ما شاهده غداة ضُربت بالقنبلة الذرية.
***
(١) هياي … كونغاي، كونغاي١
ما زال ناقوس أبيك يقلق المساء
بأفجع الرثاء:
«هياي … كونغاي، كونغاي»
فيَفزع الصغارُ في الدروب
وتخفق القلوب
وتغلق الدور ببكِّين وشنغهاي
من رجع كونغاي، كونغاي!
فلتُحرَقي وطفلك الوليد
ليُجمع الحديد بالحديد
والفحم والنُّحَاس بالنُّضَار
والعالم القديم بالجديد
آلهة الحديد والنحاس والدمار
أبوك رائد المحيط، نام في القرار
من مقلتيه لؤلؤٌ يبيعه التجار٢
وحظك الدموع والمحار
وعاصف عاتٍ من الرصاص والحديد
وذلك المجلجل المرنُّ من بعيد
لمن، لِمَنْ يدق: «كونغاي، كونغاي»؟
أهم بالرحيل في «غرناطة» الغجر؟
فاخضرت الرياح، والغدير، والقمر؟٣
أم سمر المسيح بالصليب فانتصر
وأنبتت دماؤه الورود في الصخر؟
أم أنها دماء كونغاي؟
ورغم أن العالم استسرَّ واندثر،٤
ما زال طائر الحديد يذرع السماء
وفي قرارة المحيط يعقد الكرى
أهداف طفلك اليتيم، حيث لا غناء
إلا صراخ «البابيون»: «زادك الثرى
فازحف على الأربع فالحضيض والعلاء
سيان، والحياة كالفناء!»
سيان «جنكيز»، و«كونغاي»
هابيل قابيل، وبابلٌ كشنغهاي
وليست الفضة كالحديد
هياي كونغاي، كونغاي!
الصين حقل شاي
وسوق شنغهاي
يعج بالمزارعين قبل كل عيد
هياي … كونغاي، كونغاي!
(٢) تسديد الحساب
تلك الرواسي كم انحط النهار على
أقصى ذراها، وكم مرت بها الظلم
فما فرِحن بآلاف الشموس، ولا
من ألف نجمٍ تردَّى مسَّها ألم
صماء، بكماء، لم تأخذ، ولا هبت
ولا ترصدها موت ولا هرم
لو أودع الله إياها أمانته
لنالهنَّ على استيداعها ندم
ولَاقْتَسَمْنَ مع الأحياء ما دفعت
من جزيةٍ لا تُوفَّى حين تُقتسم
عن كل قهقهةٍ من صرخةٍ ثمنٌ
وما استجد دمٌ إلا وضاع دم
وما تحمل آلام المخاض ولم
يقرب من النور إلا الفكر والرحم
وإن يكن أسعد الأحياء أكملها
فإنما هو أشقاهن لا جرم؟
«قابيل» باقٍ، وإن صارت حجارته
سيفًا، وإن عاد نارًا سيفه الخذِم
ورد «هابيل» ما قاضاه بارئه
عن خلقه، ثم ردت باسمه الأمم
واليوم، في حين وفَّى الدينَ غارمُه
إلا بقايا وكادت تخلص الذمم
وكاد يُرجع للدنيا بشاشتها
ما قربته الضحايا وهي تبتسم
مشى على الأرض خلقٌ عاش في دمه
من وحشها في المخاض الأول الضرم
خلق تراءى ﻟ «يحيى»٥ ساعة افترست
عينيه رؤيا لها من هؤلاء فم
لو يُقبض النور بالأيدي لسوَّره
دون الورى … وَلْتَعُمَّ العالم الظلم
ريان عطشان لا يروى، بلا فرحٍ
جذلان، بادٍ عليه الجوع والبشم
كأنه — وهو ماضٍ في غوايته
من نفسه اقتص، فهو الماء والحُمم
تفجر الضحك المسلوب من رئةٍ
منخوبةٍ بعد أخرى هدها السقم
عن ضحكةٍ أطلقوها فهي صاعقةٌ
أصابهم والورى من رجعها صمم
واستنزفوا متعة الأحياء ما دفعوا
عنها، ولا غارمًا ما استنزفوا رحموا
ثم استزادوا فإن لم يذهبوا ديةً
أو يقصروا عن طماحٍ يرجح العدم!
(٣) حقائق كالخيال٦
ماذا تريد العيون السود من رجلٍ
قد حاش زهر الخطايا حين لاقاها
زهرًا على جسمي المحموم أقطفه
في باقةٍ من جراحٍ بِتُّ أصلاها
هذا الربيع الذي تُهدي شقائقه
ريح المنايا إلى قلبي برياها
أزهار تمُّوز٧ ما أرعى أسلمه
في عتمة العالم السفلي إياها؟
أم صل حواء بالتفاح كافأني
وهو الذي أمسِ بالتفاح أغواها؟
ماذا تريد العيون السود؟ إنَّ لها
ما لست أنساه منها حين أنساها
ما بالهنَّ استعضْنَ البوم أوعيةً
عن أوجه الغيد … حتى ضاع معناها؟
أين المناقير من لعسٍ مراشفها
ربي؟ وأين ابتسام كان يغشاها
من هذه الخربة الظلماء محدقة
بي أعين البوم من أجداث موتاها؟
قفراءُ من غير ثَكْلَى شَفَّ مئزرها
عن وهْجِ فانوسها الكابي وأخفاها
تسعى كما اصطادَ في ليلٍ يراعته٨
طفلٌ، وطارت وقد ألوى جناحاها
محنيَّة تتقرى كل شاهدةٍ
من كل قبرٍ، كما لو كان طفلاها
في كل قبرٍ يذوقان الردى ديةً
عمن يؤاوي وعن أحياء دنياها
نادتهما فانبرى يزقو لصيحتها
من حيث ردَّ الصدى، بومٌ وناداها:
«أماه إنا هنا ريحٌ بنا عصفت
لم ندر أين انتهينا بعد لقياها.»
وانشق من خلفها قبرٌ ليبلعها
واحتازها واشرأبَّت منه كفاها
يختصُّ فانوسها التمتام بينهما
والريح خرساء تعبى غير «ها … ها … ها»
•••
وَيْلُمِّ سازاك٩ كيف اندك حائطه
حتى تعرَّى لي السهل الذي حجبا؟
سهلٌ يكنُّ الصلال الرقط، أجهضه
عادٍ من المحْل حتى يفزع العطبا
وانبحَّت التربة العجفاء من عطش
عن أشدُق فاغراتٍ تنبح السحبا
والشمس كالأطلس١٠ المسعور تنهشه
والريح تُصليه من تَنُّورِهَا لهبا
الريح؟ لا، ليست الريح التي ركضت
بيضاء سوداء رقطاء القفا عجبا
عنقاء١١ في مسعر الجوزاء أعينها
والصخر يرفضُّ من أظلافها شهبا
تلك الزرافات١٢ في السهل العقيم لها
مرعى روى من سرابٍ، ينبت السغبا
ما روَّعتها سوى ضوضاء خشخشة
في كفِّ أبرص يعدو خلفها خببا
تخفيه عنها ضماداتٌ، ويظهره
ما نَزَّ من قيحه الدامي وما شخبا
نادى، وكفَّاه تختضَّان: «وا حربا!»
فاستعبر العاصف المصدور: «وا حربا!»
«ماء اسْقِ يا ماء …» تلهاثٌ مقاطعه
منزوعة من لسان يشبه الخشَبا
حتى استجاب السحاب الجون فانعقدت
في الجو حباته الغبراء فاحتجبا
وانهلَّ لا عن ندى صافٍ ولا مطر
بل عن دم، من ثُدِيٍّ مُزِّقَت حلبا
أو عن مشاش من الأحداق فقَّأها
سيخٌ لجنكيز١٣ دامٍ ينفث اللهبا
«ماء، اسق يا ماء …» والغيث الرهيب كُلًى
مفرية سحَّت الآجال والكربَا
لم يبقَ من مرتوٍ أو ظامئ، بفمٍ
أو دون … إلا ومن ماء الردى شربا
•••
ويلٌ لسازاك! ماذا ينتوي بدمي
من نيةٍ فهو يستصفي ويمتار؟
تلك الزجاجات أشلاء مجزأة
مني، دمي مختزٍ فيهن موَّار!
لم تثن سازاك عن شحذٍ لمُديته
آهات مرضى، ولا ألهاه زوار
إني لدارٍ باني حين يشرعها
رانٍ إليها، فملدوغٌ، فمُنهار
هل تبتغي شفرتاها غير آنيةٍ
فيها دمي راجفٌ، والداء والعار؟
ما كنت يومًا ولا المرضى سوى عَرضٍ
في عين سازاك، يُجبى منه إيجار
ستٌّ وعشرون أعدادٌ على سررٍ
أما الأصحاء والمرضى فأصفار!
فالرقم «عشرون» لا يسقى سوى لبنٍ
والرقم «عشرٌ» نعاه اليوم محرار
واليوم لم يبقَ ما أعطيه عن مرضٍ
إلا دعائي وقولي: «نعمت الدار!»
فليلق سازاك من يسمى «ثمانية»
غيري، ويستوفِ أجر القبر حفار!
١
تحدثنا إحدى الأساطير الصينية عن ملك أراد ناقوسًا ضخمًا يُصنع من الذهب
والحديد والفضة والنحاس، وكلف أحد الحكام بصنعه. ولكن المعادن المختلفة أبت أن
تتحد. واستشارت كونغاي — وهي ابنة ذلك الحاكم — العرافين بالأمر فأنبَئُوها بأن
المعادن لن تتحد ما لم تمتزج بدماء فتاة عذراء … وهكذا ألقت كونغاي بنفسها في
القِدر الضخمة التي تُصهر فيها المعادن … فكان الناقوس … وظل صدى كونغاي يتردد
منه كلما دق: «هياي … كونغاي، كونغاي.»
٢
شكسبير — العاصفة أغنية «أريل» — روح الهواء الذي سخره «بروسبيرو»
الساحر لفرديناند: «على عمق أذرعة خمس ينام أبوك في قرارة البحر، لقد
أصبحت عيناه لؤلؤتين، اسمع ها هو الناقوس ينعاه.» وقد اتخذه ت. س.
إليوت في قصيدته الكبرى «الأرض الخراب» رمزًا عن «الحياة من خلال
الموت»، ولكن لاحظ كيف حولت «يبيعه التجار» المعنى.
٣
هذا البيت مقتبس من قصيدة للشاعر الإسباني القتيل لوركا، شاعر
الغجر.
٤
هذا البيت والأبيات الستة التي تليه — تكاد تكون حرفية — عن الشاعرة
الإنكليزية إديث ستويل من قصيدتها الرائعة ترنيمة السرير Lullaby حيث تجلس البابيون — القردة — في قاع
المحيط تهز مهد طفل بشري — قتل «طائر الحديد» أمه — وتغني له مصبحة
بهذا — وهي القردة — أمًّا للطفل البشري ومعلمة له أيضًا.
وليلاحظ قراء قصيدتي هذه أن هناك شخوصًا ثلاثة تترابط في ذهني: الصياد الياباني — أو الصيني — الغريق الذي أخاطب ابنته، وأبو «فرديناند» — الذي زعم أريل أنه غرق — والقردة «البابيون» التي اتخذت مكان أم الطفل في قرارة المحيط، كما جاء في قصيدة إيديث ستويل.
وليلاحظ قراء قصيدتي هذه أن هناك شخوصًا ثلاثة تترابط في ذهني: الصياد الياباني — أو الصيني — الغريق الذي أخاطب ابنته، وأبو «فرديناند» — الذي زعم أريل أنه غرق — والقردة «البابيون» التي اتخذت مكان أم الطفل في قرارة المحيط، كما جاء في قصيدة إيديث ستويل.
٥
القديس يوحنا، كما يسميه المسيحيون.
٦
المتحدث في هذه القصيدة مريض في مستشفى الصليب الأحمر في هيروشيما، مصاب
بالزهري الذي افترس دماغه حتى عاد يتخيل أشياء لا وجود لها، ولكنه — من خلال
أوهامه ودون وعيٍ منه — يصور جانبًا مما حدث في هيروشيما حين أُلقيت عليها
القنبلة.
٧
تموز هو أدونيس إله الخصب والنماء، وحبيب عشتروت — أو فينوس —
إلهة الحب، وهو يقضي نصفًا من السنة — الشتاء — في العالم السفلي
مع برسفون، والنصف الآخر — الصيف أو الربيع — على الأرض مع
فينوس.
٨
اليراعة ذبابة مضيئة، حباحب.
٩
الدكتور سازاكي كان طبيبًا في مستشفى الصليب الأحمر في مدينة
هيروشيما.
١٠
الأطلس: الذئب.
١١
عنقاء: طويلة العنق.
١٢
الزرافات: جمع زرافة، الحيوان المعروف.
١٣
جنكيز خان السفاح المشهور.