تمهيد
وصل البحث في الجزء السابق من تاريخ أرض الكنانة إلى نهاية عصر «رعمسيس الثاني» المنقذ العظيم لبلاده من محنتها في الداخل، والمعيد لمجدها وسلطانها في الخارج، بين أمم العالم المتمدين آنذاك. غير أن يقظة الأمم المجاورة لمصر في نهاية حكم هذا العاهل الذي امتد قرابة ثلاثة أرباع قرن، أنهك فيه مالية البلاد بمبانيه العظيمة وحروبه الطويلة، ثم تولى ابنه «مرنبتاح» من بعده عرش البلاد في سن ذهب عنه فيها شرخ الشباب وأصبح ينوء تحت عبء الشيخوخة؛ مهد للطامعين ممن حوله من الأمم المجاورة وغيرها في أرض مصر سبلهم، وسهل عليهم بلوغ مآربهم. ولا عجب إذن في أن نرى اللوبيين الذين كانوا جيران مصر منذ عهد ما قبل التاريخ يقومون بالزحف على الحدود المصرية بالتسرب إليها تارة، وبالتهديد والغزو تارة أخرى، وتدل الوثائق التاريخية التي في متناولنا على أن علاقة مصر في عهود ما قبل التاريخ بلوبيا كانت علاقة وثيقة، لدرجة أن المصري نفسه لم يكن يميز ذلك الشريط الضيق من الأرض الزراعية الذي كان يربط بلاده بجارتها لوبيا، وكذلك كانت الحال في أعين اللوبيين، فلم يكن في استطاعة لوبي أن يميز الحد الفاصل بين بلاده وبين مصر.
وقد دلت البحوث على أن الثقافة المصرية كانت تضرب بأعراقها في ثقافة أفريقيا وتقاليدها، وأن العلاقات الظاهرة بين البلدين ترجع إلى أصل أفريقي. ويُعْزَى ذلك بطبيعة الحال أولًا إلى الأطوار التي كان لها ارتباط وثيق بحياة القوم الروحية منذ أقدم العهود من حيث الدين واللغة والجنس، وهي عناصر لها أثرها الفعال في تقدم القوم ونموهم، وقد دلت البحوث على أن كل العناصر الأصلية كانت أفريقية النبعة في الأعم؛ وبذلك لعبت مصر بجوارها المباشر لبلاد لوبيا غربًا دورًا هامًّا في تاريخها يشبه الدور الذي لعبته في بلاد السودان جنوبًا.
ومنذ منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد تطوَّر موقف مصر هذا بالنسبة لجيرانها من أساسه؛ إذ قد أغلقت الحدود التي كانت مفتحة بينها وبين البلاد الغربية منها، ومن ثم ابتدأ عصر انفصال مصر عن البلاد القريبة المجاورة لها، وكذلك ابتدأ عصر ثقافة مصرية قائمة بذاتها خلافًا للعصر السابق الذي كانت تُعدُّ فيه جزءًا من الثقافة الأفريقية أو نوعًا منها، وقد فصلنا القول في تطور الأحوال بين مصر والقبائل المجاورة لها من جهة الغرب منذ بداية عصر التاريخ حتى نهاية عصر «رعمسيس الثالث».
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن استعمال كلمة «لوبيين» للدلالة على سكان غربي مصر هو استعمال خاطئ؛ وذلك لأنها لا تعني إلا قبيلة خاصة من سكان شمالي أفريقيا وهم الذين يسكنون الآن الإقليم المسمى «سرنيكا» في البقعة المرتفعة من «برقا»، وهي أقرب جزء من أفريقيا لبلاد اليونان القدامى عن سكان شمالي أفريقيا شرقيها وغربي وادي النيل، وهم الذين أطلقوا هذا الاسم على كل القبائل القاطنة في غربي مصر.
والواقع أن بلاد لوبيا كانت تتألف من قبائل مختلفة أهمها «التحنو» «والتمحو» «والمشوش» واللوبيون، وأقربهم لمصر صلة قبيلة «التحنو» التي يسكن أهلها على الحدود الغربية مباشرة.
وهؤلاء القبائل كانوا في نضال مع مصر منذ فجر التاريخ. وآخر حروب شنَّها المصريون قبل «رعمسيس الثاني» في عهد الفرعون «أمنمحات الأوَّل». ولم يكد يواري التراب «رعمسيس الثاني» هذا حتى قاموا بغزوة شاملة على أرض الدلتا، وقد شجعهم على ذلك القبائل التي هاجرت من شمالي أفريقيا، وكذلك هجرة أهل البحار الذين كانوا آنئذ ينقَضُّون على بلاد الشرق من كل حدب وصوب. غير أن «مرنبتاح» على الرغم من شيخوخته كان لا يزال فتيَّ القلب يضم بين جوانحه روحًا وثابًا، فأعد لهذا الخطر عدته بكل ما لديه من مال وعتاد، فوقف الغزاة عند تخوم بلاده بعد أن صدَّهم خارجها في موقعة فاصلة، ولكن شبح الخوف من هؤلاء الغزاة كان لا يزال مائلًا أمام أعين المصريين، وقد ترك لنا «مرنبتاح» أنشودة عظيمة يصف لنا فيها الهزيمة الساحقة التي أنزلها بهؤلاء اللوبيين، كما أشار فيها إلى ما قام به من أعمال جليلة وما صبه من نكبات وأنزله من ويلات بأقوام البلاد الأخرى المجاورة التي تألبت عليه، وقد ذكر من بينهم قوم بني إسرائيل للمرَّة الأولى في تاريخ العالم على ما نذكر، ومن ثم تشعبت الآراء وتضاربت الأقوال في حادثة خروجهم من مصر، وفي اسم الفرعون الذي غادروا البلاد في عهده، لدرجة أن بعض المؤرخين أنكروا حادثة خروج هؤلاء القوم من أرض الكنانة، وهي التي جاء ذكرها في التوراة، وقالوا إنها مستعارة من حادثة أخرى وهي خروج الهكسوس من مصر. هذا بالإضافة إلى ما جاء من تضارب في تفسير وإيضاح الطريق التي سلكوها عند خروجهم من أرض الكنانة في شمالي الدلتا وتجاوزهم البحر، وما سكب من مداد في تفسير كلمة البحر الذي غرق فيه فرعون وقومه، وقد دلت البحوث الأخيرة على أن المقصود بالبحر هنا ليس البحر الأحمر أو بحر القلزم كما يُسمى عادة بل هو «اليم» الذي يطلق على النيل. وقد جاء الخطأ من طريق ترجمة عبارة «يام سوف» التي ورد ذكرها في سفر الخروج في الأصل العبري القديم الذي يرجع عهده إلى زمن البطالمة الأول، أي في القرن الثالث قبل الميلاد تقريبًا، ومعناها «يم الغاب» أو البردي، وهو يؤلف جزءًا من بحيرة المنزلة، غير أن المترجمين الذين قاموا بترجمة التوراة في القرن العاشر تقريبًا قد تصرفوا في ترجمة هذا التعبير فترجموه بالبحر الأحمر؛ ومن ثم حاول المؤرخون ارتكانًا على هذه الترجمة إيجاد حلٍّ مرضٍ، فتخبطوا زمنًا طويلًا في هذه السبيل على غير هدًى إلى أن اهتدى بعض الباحثين ومن بينهم مُهندسنا الكبير «علي بك الشافعي» لحل هذا المشكل بطريقة علمية بارعة، وقد شرح لنا الطريق التي اتخذها بنو إسرائيل إلى أن وصلوا إلى مقرِّهم بأرض «كنعان» (فلسطين) موطنهم المختار.
وكان هؤلاء اليهود يسكنون في بقعة من بقاع الجزء الشرقي من الدلتا. وكان «رعمسيس الثاني» قد سخرهم في إقامة عاصمة ملكه التي جاء ذكرها في التوراة باسم «رعمسيس» ودلَّت الكشوف الحديثة على أنها «بر رعمسيس» (قنتيرا الحالية)، وهي التي خرجوا منها مُوَلِّين وجوههم شطر فلسطين، ومن أجل ذلك أصبح من المرجح أن خروج بني إسرائيل من مصر قد وقع في عهد «رعمسيس الثاني» أو في عهد ابنه «مرنبتاح» غير أن الرأي الأول هو الأرجح. وأنهم خرجوا من «قنتير» إلى «فلسطين» وعبروا بحيرة المنزلة في طريقهم إلى سينا لا البحر الأحمر، ومن ثم إلى فلسطين.
وقد كانت بوادر الأحوال في أواخر عهد «مرنبتاح» تنذر بسوء المنقلب؛ لما حل بالبلاد من فقر بسبب نضوب معينها من جراء الحروب الطاحنة، والقلاقل الداخلية بين أفراد أسرة هذا العاهل؛ إذ لم يكد يختفي عن مسرح الحياة حتى قام التطاحن على عرش البلاد، وتوالى الفراعنة عليه في فترات متقاربة بالعنف تارة وبالمؤامرة تارة أخرى، حتى إن المؤرِّخ الحديث لا يجد أمامه سبيلًا لاستخلاص ترتيب الفراعنة الذين حكموا البلاد في تلك الفترة ترتيبًا تاريخيًّا صحيحًا؛ ولذلك أصبحوا يشبهون عهد هذا العصر بالعصر الذي تلا موت «تحتمس الأول» مع الاحتفاظ للعهد الأخير بأنه كان عهد رخاء للبلاد، بينما كان الأوَّل عهد شقاء ومحن أدَّت بمصر إلى الهاوية وطمع فيها آسيوي غاصب يُدعى «إرسو» غزا البلاد واستولى عليها فترة من الزمن إلى أن هبَّ المصريون وعلى رأسهم الفرعون «ستنخت» أحد أبناء مصر الأماجد، فخلص البلاد من حكم هذا الأجنبي، واستردَّ لمصر استقلالها وسلطانها.
وقد كان حكم «ستنخت» فاتحة عهد جديد لمصر وهو عهد «الأسرة العشرين» بفضل الدم الفرعوني الجديد الذي بدأ يأخذ بزمام الأمور في البلاد، ويوجه سياستها إلى الطريق المؤدِّية لاسترداد مجدها الغابر وسلطانها المضيع في آسيا وأفريقيا. والواقع أننا لا نعلم عن هذا المخلص العظيم إلا القليل الذي على الآثار الباقية له، وما دونه عنه ابنه «رعمسيس الثالث» الذي يُعد بحق من أعظم الفراعنة الذين ساقهم القدر للنهوض بمصر فترة وجيزة من الزمن، فقد جعل الحياة تدب في أوصالها المتداعية، وتعيد الروح لجسمها المنحل، ولكنه لم يكد يُوارى في التراب حتى خلف من بعده خلف لم يقووا على معالجة الأمراض المنتشرة في جميع نواحي جسم الدولة، وأسرعت الأمور بالدولة إلى الهاوية شيئًا فشيئًا إلى أن انحلت عراها، وتسرب الوهن إلى كل جزء من أجزائها، فعادت سيرتها الأولى من الانقسام إلى مصر العليا ومصر السفلى، ثم إلى مقاطعات.
غير أن عهد «رعمسيس الثالث» (١٢٠٠–١١٦٨ق.م) الذي كان يعدُّ بمثابة صحوة الموت في تاريخ مصر، كان فترة رخاء وقوة ومجد إذا لاحظنا الأحوال والأحداث التي كانت تقع في العالم الخارجي وفي البلاد المجاورة لملكه؛ فقد استطاع «رعمسيس الثالث» هذا في فترة وجيزة أن ينظم شئون البلاد الداخلية، ويصلح حالة الزراعة والمنتجات المحلية، فأثرت البلاد ونعم أهلوها؛ وأصبح في مقدوره أن يقيم القصور الفخمة والمعابد الضخمة التي لا تزال على مر الأيام تغالب الدهر وتجذب إليها أنظار الزائرين من كل أنحاء العالم. كما تمكن من إعداد جيش عظيم قوي الأركان حسن النظام، استطاع به أن يتغلب على أعداء البلاد الذين أرادوا أن يجتاحوها من البحر، والذين طمعوا في استيطانها من الغرب، وأخيرًا استطاع بقوة هذا الجيش المنظم أن يعيد لمصر جزءًا كبيرًا من إمبراطوريتها في آسيا، بعد أن كان قد استولى عليها وعلى مصر «إرسو» عنوة.
وقد دوَّن لنا «رعمسيس الثالث» كل مجهوداته الضخمة التي عادت على البلاد بأعظم المنافع وأبقاها في كتابين ضخمين؛ الأوَّل نقشه على الحجر، والثاني دوَّنه على الورق، وقد أسعد التاريخ الحظ ببقاء الكتاب الأوَّل مصورًا على جدران معبد مدينة «هابو» الذي رفع بنيانه هذا العاهل العظيم في «طيبة الغربية» كما حباه بإنقاذ الكتاب الثاني المدوَّن على القرطاس من غير الدهر وأحداثه؛ إذ عُثر عليه بين أوراق أخرى في أحد مخابئ «دير المدينة»، وتشاء الأقدار والعناية الربانية أن ينقذه مرة أخرى من لهيب النار التي اندلعت في «الإسكندرية» بالقرب من المكان الذي احتفظ فيه «هاريس» بمجموعته من أوراق البردي وغيرها.
وقد صوَّر لنا «رعمسيس الثالث» على جدران معبد مدينة «هابو» الذي كان يشمل في داخل أسواره قصره الفاخر كل مناظر الحروب التي شنَّها على أعدائه، وقد ظهر فيها بمظهر الفاتح المظفر، والجندي الشجاع الذي يغامر بحياته في وسط المعمعة.
هذا بالإضافة إلى ما صوَّر من مناظر تكشف لنا عن حياة الملوك في ذلك العصر في قصورهم الخاصة وقت فراغهم، وكذلك طرادهم وحياتهم الدينية، واتصالاتهم الخارجية ومعاملاتهم للأقوام المهزومين، وغير ذلك من صور الحياة.
والواقع أن الفترة التي عاش فيها «رعمسيس الثالث» تُعد من أحرج الفترات في تاريخ مصر، ومن أهم العهود في تاريخ الجنس البشري؛ إذ في تلك الحقبة من الدهر قامت هجرة عظيمة انحدرت من آسيا الصغرى، ومن شمالي البحر الأبيض المتوسط، وكان غرضها غزو بلاد الشرق، والاستيلاء على مصر. وتدل شواهد الأحوال على أن هؤلاء الأقوام قد أتوا من جزر البحر مثل صقلية وسردينيا، ومن أوروبا، فكان ذلك أول اختلاط لمصر بالأوروبيين، وقد زاد الطين بلة، وعقَّد الأمور أمام «رعمسيس الثالث» للقضاء عليهم أن قام أهل «لوبيا» الأصليون يساعدهم قبائل أخرى، وبخاصة «المشوش»، بالزحف على مصر حتى وصلوا إلى أرض الدلتا، يساعدهم في ذلك أقوام البحار، فأخذ «رعمسيس الثالث» للأمر أهبته، وتقابل مع اللوبيين والمشوش في مواقع طاحنة انتهت بفوز مصر، وردَّ الأعداء على أعقابهم مؤقتًا، وفي تلك الفترة كان أقوام البحار يتأهبون للزحف على مصر بحرًا وبرًّا من جهة فلسطين، وقد كان «رعمسيس الثالث» قد علم بنبأ زحفهم من قبل، فاستعد لملاقاتهم على ما يظهر في بلاد «كنعان» نفسها، وأحاق بهم هزيمة نكراء. أما أولئك الأقوام الذين أرادوا غزو مصر من البحر فقد فوت عليهم غرضهم؛ إذ أقام الاستحكامات، ونصب المتاريس على ساحل البحر عند «دمياط»، ووقف هو على الساحل مع جنوده يعاضد أسطوله الذي أخذ ينازل أسطول العدو في أول معركة بحرية مصوَّرة عُرفت في تاريخ العالم، وقد ترك لنا صورتها على جدران معبد مدينة «هابو» نشاهده فيها وهو واقف كالعملاق بين جنوده يصب على أسطول العدو وابلًا من سهامه، وقد أسفرت الواقعة عن انتصار عظيم للأسطول المصري.
وبعد هذه الانتصارات على قبائل «لوبيا» وأقوام البحار لم يبقَ أمامه إلا غزوات قام بها على الخارجين من أهل «سوريا» العليا والولايات المتاخمة لها، وقد أحرز النصر المبين عليهم جميعًا، وبذلك أصبحت الولايات الآسيوية تدين له بالطاعة كما كانت تخضع له بلاد لوبيا وقبائلها المختلفة.
أما بلاد «كوش»، فتدل النقوش على أنه كان قد غزاها في بادئ حكمه على أثر بعض ثورات هبَّت فيها، ومن ثم بقيت موالية له تؤدِّي جزيتها سنويًّا.
وتدل الوثائق التي في متناولنا على أن «رعمسيس الثالث» قد قضى البقية الباقية من حياته، أي بعد السنة الثانية عشرة من حكمه في هدوء وسلام، وأنه وجه عنايته لإقامة العمائر والمعابد الضخمة في أنحاء البلاد. ولا أدل على ذلك مما جاء في ورقة «هاريس الكبرى» التي تعد أكبر ورقة وصلت إلينا عن تاريخ فرعون مفصلة أعماله؛ إذ يبلغ طولها أكثر من أربعين مترًا، وقد دوِّنت بالخط الهيراطيقي البديع، ولكن مما يُؤسف له جد الأسف أن محتويات هذه الوثيقة الفذة، إذا استثنينا الجزء التاريخي منها قد سِيء فهمه إلى زمن قريب جدًّا، فقد تناولها كل من الأستاذين «إرمان» و«برستد» بالبحث والتحليل، وخطوا في فهم المتن خطوات واسعة، إلا أنهما ارتكبا أغلاطًا جسيمة شوَّهت الحقائق التاريخية تشويهًا مشينًا إلى أقصى حد، لدرجة أن بعض علماء الآثار، ونخص منهم بالذكر الأستاذ «جاردنر» الضليع في فقه اللغة المصرية، قد تساءل كيف أن علماء اللغة قد فاتهم الغرض الأصلي الذي وضعت من أجله هذه الورقة حتى كتب الأستاذ «شادل» مقاله الرائع عن القوائم التي تحتوي عليها ومغزاها؟ والواقع أن كلًّا من «إرمان» و«برستد» قد فهم خطأ أن المعابد والعمائر والهبات التي ذكرت في ورقة «هاريس» وهي الخاصة بالإله «آمون» في «طيبة» والإله «رع» في «هليوبوليس» والإله «بتاح» في «منف»، وكذلك معابد الأقاليم كانت تشمل كل ممتلكات المعابد السابقة، وأن «رعمسيس الثالث» قد أقر هذه الممتلكات، وبذلك ثبت دعواه بأنه هو المُنعم بها كلها. ولكن مقال الأستاذ «شادل» قد جاء على العكس من ذلك، فهو يؤكد بصراحة أن محتويات الورقة لا تتناول إلا الإضافات التي وهبها «رعمسيس الثالث» ضياع المعابد أو المعابد التي بناها هو، وعلى ذلك فما جاء في الورقة لا يمكن أن نقدر به مجموع ثروة الكهنة آنئذ؛ يُضاف إلى ذلك أن «شادل» نفسه قد انساق مع كل من «إرمان» و«برستد» في بعض الأخطاء التي ارتكباها، ولم يمكنه التخلص منها، فقد ظنَّ معهما أن الأرقام المتصلة بالمواد المختلفة تمثل مجموع المنح التي قدِّمت خلال مدَّة حكم هذا الفرعون كلها وهي واحد وثلاثون سنة، وعلى ذلك قسمها واحدًا وثلاثين جزءًا؛ لكي يصل إلى متوسط الدخل السنوي للمعابد. ولكن نثبت فعلًا بالبراهين أن هذه الأرقام لا تضع أمامنا إلا الدخل السنوي، لا دخل مدة حكم هذا الفرعون كلها. ويكفي أن نقول هنا إن هذا الخطأ الفاحش وحده قد جعل كلا من «برستد» و«إرمان» يقدِّر دخل المعابد في عهد «رعمسيس الثالث» بجزء من واحد وثلاثين من قيمته الأصلية، فإذا أضفنا الأوقاف الأصلية التي كانت للمعابد الرئيسية الثلاثة والمعابد الصغيرة قبل تولية «رعمسيس الثالث» وما كانت تنتجه اتضح لنا الفرق الشاسع بين ما قدَّره «برستد» من أملاك وتابعين لأملاك الآلهة، وبين التقدير الحقيقي بعد فهم المتن على الوجه الصحيح.
وقد وصلنا في بحثنا هنا إلى أن النسبة المئوية من عدد السكان التي كانت تملكها المعابد قد أصبحت على ضوء فهم المتون حوالي ٢٠٪، وأن ما تملكه من أرض مصر الزراعية بدلًا من ١٠٪ قد أصبح ٣٠٪، وهكذا يتضح أمامنا جليًّا مقدار ثروة الكهنة في تلك الفترة؛ مما مهد لهم السبيل للسيطرة على شئون البلاد الاقتصادية فضلًا عن سيطرتهم الدينية، وقد انتهى بهم الأمر بذلك على إثر سقوط آخر الرعامسة إلى السيطرة السياسية، فتولوا حكم البلاد، وألفوا حكومة دينية في ظاهرها، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الناحية الدينية وبخاصة عبادة «آمون» مسيطرة على عقول الشعب والفرعون معًا، كما سيرى القارئ في الترجمة التي وضعناها لورقة «هاريس»، وكما تدل الأرقام التي استخلصناها من دراستها. وعلى الرغم من أن معظم محتويات هذه الورقة خاص بالآلهة ومعابدهم، فإن الجزء التاريخي منها ينير لنا السبيل لفهم النقوش والمناظر التي صوَّرها «رعمسيس الثالث» على جدران معبد «مدينة هابو» وبخاصة حروبه.
هذا فضلًا عن أنها تقدم لنا فكرة عن حالة البلاد الزراعية ومنتجاتها المعدنية وما فيها من مصانع ومعامل، وكذلك تحدثنا عن تجارة مصر الخارجية، وبخاصة اتصالاتها ببلاد «سينا» و«بنت» — بلاد الصومال واليمن — وما كانت تجنيه البلاد من ممتلكاتها خارج مصر، وقد لمح لنا «رعمسيس الثالث» عن حالة الرخاء والأمن في البلاد حتى إن المرأة أصبحت تسير في الطرقات دون أن يعترضها أي فرد من سفلة القوم وأشرارهم. وكذلك أقام المتنزهات في أنحاء البلاد، وغرسها بالأشجار الوارفة يستظل القوم بوارف ظلالها في حمارة الصيف. كما أنه أقام العدل في كل ربوع البلاد بين مختلف الطبقات على السواء.
وفي الحق إذا أخذنا معيارًا لحالة السكان وقتئذ، وما كانت تملكه الأسرة المتوسطة من الفلاحين التابعين للمعابد، وجدنا أن الأسرة المصرية وقتئذ كانت أسعد حالًا وأرغد عيشًا من الأسرة المصرية الحالية؛ إذ كان رب الأسرة يملك حوالي سبعة أفدنة ونصف فدان يزرعها ويؤدِّي عنها خراجًا بسيطًا، غير أن العمال على ما يظهر لم يكونوا سعداء الحال إذا صدقنا ما جاء في ورقة الإضراب التي تحدثنا أن العمال قد أضربوا في السنة التاسعة والعشرين من حكم «رعمسيس الثالث» بسبب قلة الجرايات، وقد يكون السبب المباشر في ذلك ارتباك الأحوال داخل البلاد، وقيام مؤامرة دبرتها إحدى نساء القصر لاغتيال الفرعون. هذا فضلًا عن ازدياد عدد الأجانب في البلاد، وسيطرتهم على كثير من شئون الدولة، مما أدَّى إلى تدهورها، وإفساح الطريق للكهنة لتولي حكم البلاد بما لديهم من مال وسلطان، وسترى في الجزء التالي إن شاء الله كيف أن الأحوال في مصر قد أخذت تنحدر شيئًا فشيئًا حتى زال حكم الرعامسة جملة، ودخلت البلاد في طور جديد من تاريخها.