عهد «مرنبتاح» ونهاية الأسرة التاسعة عشرة
(١) مقدمة
كان عهد «رعمسيس الثاني» العظيم — على الرغم مما أنجزه من أعمال ضخمة داخل البلاد، وما سار عليه من سياسة خارجية قويمة، استردَّ بها كثيرًا من مجدها وسيادتها — يحمل في تضاعيفه عند نهايته بذور الوهن والضعف والركود، فقامت الثورات في أنحاء الإمبراطورية المصرية الآسيوية، كما طمع اللوبيون فأغاروا على الحدود المصرية الغربية، وناصرهم أقوام البحار بعد أن قويت شوكتهم وعظمت قوتهم، فهاجموا مصر في ممتلكاتها، وأغراهم بها أنهم ظلوا عهدًا طويلًا لم يروا جيوش الفرعون تكيل لهم الضربات وتنزل بهم الهزائم، وتشعرهم بقوَّة مصر ومنزلتها الممتازة بين دول الشرق بعامة.
ولا غرابة في ذلك، فقد كان «رعمسيس الثاني» في أواخر حكمه الطويل قد بلغ من العمر أرذله، كما أسرف في أموال الدولة ومواردها إلى حدٍّ بعيد لإشباع شهواته التي كانت لا تقف عند حدٍّ في إقامة العمائر الدينية، ونحت التماثيل الضخمة لنفسه ولآلهته، حتى ملأ بها البلاد وحشدها في المعابد، وقد أفضى ذلك إلى نضوب أموال الدولة في نهاية حكمه، حتى اضطرَّ في آخر أمره إلى نحت تماثيله وإقامة مبانيه من المواد الرخيصة التي لا تكلفه إلا قليلًا من المال الذي نضب معينه في البلاد، وقلَّ وروده من الخارج بصورة بارزة محسة؛ يمكن أن يُشاهدها المؤرخ بعينه ويلمسها بيده إذا وازن بين ما تمَّ في باكورة حكمه، وما أنجزه في أخريات أيامه من الأعمال الباقية. وتدل شواهد الأحوال على أن هذا الفقر المادِّي قد شعرت به البلاد المجاورة، كما فطنت له الممتلكات المصرية في آسيا وغيرها.
وقد زاد الطين بلة أن دولة «خيتا» القوية، التي يرتبط بها وبمصر مصير الشرق قد انحدرت في طريق الانحلال والانهيار، بعد أن كانت صاحبة السيادة على معظم ولايات آسيا الصغرى، فقد أعقب موت عاهلها «خاتوسيل» أزمة داخلية لم تحدثنا الآثار الباقية حتى الآن بشيء كثير عنها، بيد أنه من المحتمل جدًّا أن هذا التدهور قد يرجع إلى هجوم جديد قام به أقوام البحر.
(١-١) بلاد «خيتا»
على أن هذه القرون الطويلة التي سلخت في سبيل توحيد آسيا الصغرى تحت سلطان ملوك «خيتا» ليست من الأمور الشاذة؛ إذ نجد أن أول دولة عظيمة قامت في «مسوبوتاميا» — ما بين النهرين — وهي دولة «سرجون آجادا»؛ لم تمكث فترة طويلة وقد قطعت قرونًا عديدة قبل تكوينها في الاستعداد وفي محاولات عنيفة لتكوينها. وتدل قوائم الأسر التي وصلت إلينا — على الرغم من الخرافات التي تتخللها — على جهود طويلة مستمرة بُذلت في تكوينها.
ولنا أن نتساءل هل كان هذا الاتحاد وثيقًا ثابتًا؟
وقد رأينا كيف أن ملك «خيتا» «مواتالي» قد استعمل الأقوام الهمج في محاربة مصر، وكيف أنه — بتوجيههم لفائدته — قد أمكنه المحافظة على كيان إمبراطوريته، بيد أن الموقف في هذه المرة كان أشد خطورة، فقد كان هجوم «الإيليريين» الذين استوطنوا الشمال الغربي من شبه جزيرة البلقان سببًا في هجرة الدوريين الذين يؤلفون جزءًا من سكان بلاد «البلوبونيز» واستيطانهم جزر «سيكليد» وجزيرة «كريت»، وقد طغت مدنيتهم على المدنية المسينية التي حلت بذورها محل الثقافة المنوانية (كريت)، وقد كانت قبائل «تراقيا» قد وصلت إلى آسيا الصغرى عن طريق البسفور (هلسبونت)، وأخذت أقوام «ماسا» و«دردانيا» وغيرها تنضم إلى حركة هذه الهجرة، وكانت قد بدأت موجة جديدة من «الآخيين» تشق طريقها، فقضت على كل هذه الفيالق التي كانت تؤلف جزءًا من أقوام البحر بزحفهم على مملكة «النيزيين» (خيتا) في «بوغازكوى» عاصمة ملكهم، وهي التي كانت قد تألفت فيما مضى بفضل حركة هجرة مماثلة وإن لم تكن في ضخامتها تشبه التي نحن بصددها الآن.
غير أن هذه الحملات لم تكن حتى نهاية عهد «رعمسيس الثاني» تُعدُّ خطرًا مباشرًا يهدِّد كيان الدولة المصرية أو ممتلكات بلاد «خيتا»، والواقع أن ملك «مصر» كان أحيانًا يستعمل أولئك الأقوام الوافدين جنودًا مرتزقة كما حدث في موقعة «قادش»، فقد رأينا جنود «شردانا» يؤلفون جزءًا مختارًا من جيش «رعمسيس الثاني» عند هجومه على «خيتا»، وكذلك استعان ملك «خيتا» هؤلاء الأقوام في حروبه مع مصر، وقد كان من السهل على كل من الدولتين القضاء على أية قبيلة من هؤلاء الأجانب إذا قامت بعصيان أو ظهر منها أنها خطر يهدِّد كيان البلاد.
وكانت هذه الهجرة كالسيل الجارف، فانتشرت في «آسيا الصغرى» وفي جزر «بحر إيجا» وفي بلاد «الإغريق» كما أسلفنا، حتى وصلت إلى بلاد «لوبيا»، ولم تكن هناك قوة في العالم تستطيع وقف هذا الزحف الجبار، فقد كان المهاجمون يصلون إلى تلك الجهات جماعات عن طريق البر والبحر كلما هيأت لهم الظروف، جالبين معهم نساءهم وأطفالهم وأمتعتهم. ومن ثم نعلم أن غرضهم الأول كان استيطان تلك البقاع الخصبة الغنية، ولم تستقر فئة منهم في جهة حتى تدهمها أخرى من المهاجرين وتضطرها إلى النزوح نحو الجنوب. وقد كانت «خيتا» أول بلد أغار عليه هؤلاء الهنود الأوروبيون، وقد ذكرنا من قبل احتمال أن يكون هذا الغزو السبب المباشر في الأزمة التي حدثت في داخل بلاد «خيتا» وأدَّت إلى الانهيار السريع الذي حاق بهذه الدولة القوية بعد موت عاهلها «خاتوسيل»، ومن المحتمل أن قوم «خيتا» قد حاولوا بادئ الأمر صدَّ تيار هؤلاء الغزاة الذين أتوا عن طريق البحر ونجحوا فعلًا بعض الشيء في استيطان بلادها، وإذا كان بعض أهل هذه القبائل الهندية الأوروبية قد تمكن من خرق الحصار الذي ضربه أهل «خيتا» في طريقهم إلى الجنوب والوصول إلى إقليم «سوريا» و«فلسطين»، فإلى «خيتا» يرجع الفضل العظيم في تأخير الهجوم العنيف الذي قام به هؤلاء الأقوام على هذه الجهات.
ومما يؤسف له أن «رعمسيس الثاني» في تلك الفترة كان في أواخر أيام حياته كما كانت بلاده على غير استعداد للقيام بأية حروب على هؤلاء الغزاة.
ولو كان في استطاعة «رعمسيس الثاني» أن يتدخل في صد هؤلاء المهاجرين من أقوام البحر لقضى على الخطر الذي هدَّد كيان الشرق الأدنى كله، ومن ذلك نرى أن الفرعون المسنَّ قد ترك لابنه وخليفته «مرنبتاح» إرثًا مثقلًا بالمصاعب والمشاكل داخل البلاد وخارجها.
وقبل أن نتحدث عن هؤلاء المهاجرين وأصلهم يجدر بنا أن نتحدث بإيجاز عن نشأة الفرعون «مرنبتاح» الذي كان من نصيبه منازلة هؤلاء الأقوام الذين اجتاحوا الشرق من البر والبحر، فضلًا عن خطر اللوبيين الذي كان يلوح من جهة الغرب.
(٢) «مرنبتاح» قبل تولي الحكم
الأمير النائب عن «جب» إله الأرض (أي الملك)، والنطفة الإلهية (أي الابن الإلهي) الذي أنجبه الثور القوي ومن في يده تجمع السهل والحزن (أي البلاد الأجنبية)، واليقظ القلب لتقديم العدالة لأبنائه (أي أسلافه) وللآلهة كلهم، والوحيد الذي لا مثيل له، ومن كل البلاد الأجنبية تحت سلطانه، الكاتب الملكي، وقائد الجيش الأعلى، والابن الملكي «مرنبتاح» المخلد أبدًا.
ومن هذا النقش الهام نعلم أن الابن الملكي «مرنبتاح» كان يشغل وظيفة الكاتب الملكي، وأهم من ذلك أنه كان القائد الأعظم للجيش.
والواقع أن لدينا برهانًا مقنعًا قد يكون معضدًا لنظريتنا هذه؛ وذلك أننا نجد بعض الجعارين التذكارية مجموعة معًا أحيانًا كما توجد مجاميع المداليات التذكارية معًا، وهذا ما حدث فعلًا في المجموعة التي وجد فيها جعران الأمير «مرنبتاح»، فقد وجدنا من بينها جعرانًا تذكاريًا للملك «أمنحتب الثالث» الذي حكم قبل «رعمسيس الثاني» بمدة.
والآن يتساءل الإنسان عن تلك المناسبة التي أراد «مرنبتاح» إحياء ذكراها بنقش هذا الجعران الذي لم يصل إلينا منه حتى الآن إلا نسخة واحدة.
والظاهر أن هذه الذكرى كانت بمناسبة تنصيبه وليًّا للعهد وقائدًا للجيش، كما يدل على ذلك لقب «الأمير الوراثي» (ربعتي) الذي كان يعني في هذا الوقت نائب الفرعون وولي العهد في آن واحد كما شرحنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٥).
(٣) الفرعون «مرنبتاح» وحروبه مع لوبيا وأقوام البحار
يدل ما لدينا من وثائق على أن اختفاء «رعمسيس الثاني» من مسرح الحياة لم يحدث لها أي أثر ظاهر في حالة البلاد، بل سارت الأمور في مصر على ما كانت عليه في عهد والده، ومنذ ذلك العهد استولى «مرنبتاح» على كل السلطات التي كانت في يده عندما كان وليًّا للعهد، ولما حضرت والده الوفاة لم يكن فتيًّا بعد، إذ يُحتمل أنه كان قد وُلد حين كان أبوه في السادسة والعشرين من عمره، وهي السنة الثامنة من سني حكمه على وجه التقريب، ولم يتولَّ «مرنبتاح» عرش الملك إلا وهو في نحو الستين من عمره، وليس لدينا ما يدل على أنه كان مشتركًا مع والده في الملك كما اشترك «رعمسيس الثاني» مع والده «سيتي الأوَّل».
فكلام من الصعب تصديقه، والواقع أن مكان الملك الملك والذي كانت ترسل إليه فيه الرسائل هو مدينة «رعمسيس» بالدلتا وهي «برعمسيس» (قنتير الحالية)، وفضلًا عن ذلك قد وصل إلينا مصادفة عدد عظيم من أوراق البردي من السنين الأولى من حكم «مرنبتاح» تصف لنا هذا المقر كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٦).
وعلى الرغم من وجاهة ما قاله الأستاذ «إدوردمير» في هذا الصدد ظن بعض المؤرخين أن ما جاء من وصف عن حالة البلاد المقهورة في آخر قصيدة النصر لا يخرج عن كونه مجرد تفاخر اعتاده الفراعنة منذ أوَّل عهود تاريخهم وأصبح أمرًا موروثًا.
ولقد كان من الضروري أن يتحدث المؤلف عن المذبحة العظيمة التي قام بها الفرعون وعن قطع رءوس الأمراء هناك، وكان لا بد له أن يدون لنا الوصف المفخم العادي عن انتصارات «مرنبتاح»، هذا فضلًا عما قاله «مكس مولر» بحق: «إن «مرنبتاح» الذي عاش في سلم مع «خيتا»، والذي كان مهددًا في ملكه «بلوبيا» لا يمكن أن يكون قد قام بفتوح في «سوريا» في السنين الأولى والثانية من حكمه.» وقد أخذ بعد ذلك «نافيل» يفند ما استنبطه «برستد» من يوميات موظف حدود من وقوع حملة في السنة الثالثة قام بها «مرنبتاح» على «سوريا»، ففند ما جاء في هذه الخطابات بطريقة غير التي استنبطها «إدوردمير» كما أسلفنا.
وهكذا نرى أن الأسطر الأخيرة من لوحة النصر تدل على أن سلامة البلاد كانت تامة، ففي الجانب الأفريقي كان نصره مبينًا حاسمًا، ومن جانب «خيتا» كانت هذه البلاد معه في سلام منذ حكم والده، أما الممالك الأخرى التي يصح أن تصبح أعداء له فقد صارت لا حول لها ولا قوة.
والواقع أن ما أدلى به الأستاذ «نافيل» قد يكون في ظاهره أقرب إلى الصواب، وبخاصة عندما نعلم أن لوحة نصر «مرنبتاح» كانت مكررة في المعابد المصرية كما سنرى بعد؛ فهي تصف ما كانت عليه البلاد في الداخل والخارج بعد حرب لوبيا وقبلها كما نرى ذلك في بعض القصائد، اللهم إلا إذا عُثر على متن جديد يؤيد ما فرضه «إدوردمير» وما ادعاه «برستد» في أمر غزوة «فلسطين».
(٣-١) لوبيا وأقوام البحر
والواقع أن الخطر الذي كان يهدد البلاد بعد فترة من حكم «مرنبتاح» قد أتى من ناحيتين:
الأولى من جهة بلاد لوبيا، والثانية من جهة أقوام البحر. وقد كان هذا الخطر موجودًا على حدود البلاد منذ زمن بعيد، بيد أن ما كان «لرعمسيس الثاني» من هيبة وسلطان قد عاق أمثال حملات اللوبيين وحلفائهم من الإغارة على التخوم المصرية، ولكن بعد موته بفترة وجيزة نشاهد العاصفة تهب في عهد ابنه «مرنبتاح» على البلاد من الغرب والشمال مما سبب جرحًا بالغًا لأرض الكنانة، وقد ترك لنا «مرنبتاح» نقشًا على جدران «معبد الكرنك» صور لنا فيه الخطر الذي كان يحوم حول البلاد، كما مثل أمامنا المعدات التي أعدها لصد هذا الخطر والقضاء على العدو الذي تحالف أوَّلًا مع أقوام البحار لغزو مصر طلبًا للقوت والاستيطان.
والواقع أن السنين الأخيرة من عهد «رعمسيس الثاني» كانت سني تدهور مستمر، وقد انتهزت القبائل القاطنة على حدود مصر الغربية تلك الفرصة وأخذ جنودها يزحفون على الأرض الواقعة على حافة النيل الخصيب حتى وصلوا في زحفهم إلى جانب النيل. وقد مكثوا هناك عدة أشهر واحتلوا الواحة البحرية وخربوا «واحة الفرافرة»، وقد زاد الطين بلة أن هؤلاء اللوبيين قد ألفوا حلفًا مع أقوام البحر الأبيض المتوسط الذين أخذوا ينقضُّون على الدلتا من «سردينيا» وفي الجهات الغربية من آسيا الصغرى على الشرق، ويُعد ذكر هؤلاء الأقوام في الوثائق التي تركها لنا «مرنبتاح» أقدم ما عُرف من ظهور الأوروبيين في النقوش والمخطوطات المصرية.
وسنحاول هنا أن نأتي ببعض ما وصل إليه الباحثون في أصل اللوبيين ثم نتبعه بكلمة عن أقوام البحار.
ولما كان اللوبيون لهم صلة وثيقة بمصر كالصلة التي بين مصر وأهل السودان كان من الضروري أن نفرد لتاريخهم هنا فصلًا خاصًّا مختصرًا يمكن الباحث أن يعرف منه مدى اتصال هذه البلاد بأرض الكنانة منذ أقدم العهود حتى عهد الأسرة التاسعة عشرة التي نحن بصددها الآن.
(٣-٢) تاريخ لوبيا
(أ) مقدمة
إن موضوع تاريخ «لوبيا» له أهمية خاصة في تاريخ مصر القديم وسنتناول بالبحث تاريخ «لوبيا» — لا بوصفها بلادًا أجنبية كانت علاقتها بمصر علاقته خارجية محضة، كما كانت علاقة آسيا وأقوام البحر الأبيض المتوسط بمصر بل للعلاقات الخاصة التي كانت تربطها بها، والواقع أن العلاقات التي كانت بين «لوبيا» ومصر كانت في ظاهرها مثل العلاقات التي كانت بينها وبين جيرانها من الأمم الأخرى وبخاصة في المنازعات الحربية أو في استخدام الجنود اللوبيين في الجيش المصري جنودًا مرتزقة، ولا نزاع في أن المصري منذ فجر التاريخ لم ينظر للقبائل اللوبية إلا بهذه النظرة، فكانت هذه البلاد في نظره كأي بلاد أجنبية أخرى يعلن عليها الحرب عندما كانت تريد توسيع رقعتها على حساب مصر، أو عند إغارة أهلها على الحدود المجاورة، ولكن العلاقات الداخلية الأصلية التي كانت تربط أحد البلدين بالآخر منذ عهد ما قبل التاريخ كانت تتعدى تلك العلاقات السياسية الظاهرة التي نراها في العهد التاريخي بكثير، وذلك أن المصري نفسه لم يكن يميز ذلك الشريط الضيق من الأرض الزراعية الذي كان يربط بلاده بجارتها «لوبيا» قط، وكذلك كانت الحال في أعين اللوبيين، فلم يكن في استطاعة لوبي أن يميز الحد الفاصل بين بلاده وبين مصر.
ومن جهة أخرى نجد أن البحوث العلمية الحديثة قد بدأت تفحص تلك العلاقات الوثيقة التي كانت بين البلدين بعد أن كانت كلها موجهة إلى علاقات مصر بآسيا، ومن ثم أصبح من المهم أن نعرف كيف أن الثقافة المصرية كانت تضرب بأعراقها في ثقافة «أفريقيا» وتقاليدها، وكيف أن العلاقات الظاهرة ترجع في أصلها إلى «أفريقيا»، وذلك يُعزى بطبيعة الحال أوًّلًا على الظواهر التي كان لها ارتباط وثيق بحياة القوم الروحية منذ أقدم العهود من حيث الدين واللغة والجنس، وهي عوامل لها تأثيرها الفعال في تقدم القوم ونموهم، وسيتضح لنا مقدار أهمية ذلك عندما نعلم أن كلًّا من هذه العناصر الأصلية كان أفريقي النبعة في الأعم، وأن مصر بذلك قد لعبت — بجوارها المباشر لبلاد السودان جنوبًا وبلاد «لوبيا» غربًا — دورًا هامًّا في تاريخ البلدين.
على أننا — مع ذلك — لا زلنا بعيدين عن الإحاطة التامة بهذا الموضوع، فلا نستطيع إعطاء فكرة واضحة جلية عن العلاقة بين البلدين، وسنحاول مؤقتًا أن نضع هنا بعض الأحجار التي كان الغرض منها إقامة هذا البناء الذي سيقدم لنا عند إتمامه صورة كاملة عن أصل الحضارة المصرية وكيانها.
والواقع أننا — حتى الآن — نجد الاشتغال بالثقافة الأفريقية وعلم الإنسان الأفريقي من الأمور الضرورية في علم الآثار المصرية التي تجب العناية بها.
- (1) Maciver and Wilken, Libyan notes.
- (2) Oric. Bates. The Eastern Libyans.
- (3) MÔller, Die Agypter and ihre Libyschen Nachbarn.
- (4) Scharff: Vorgeschitliches zur Libyerfrage (A. Z. 61, 16 ff).
- (5) Wilhelm HÔlscher: Libyer und Ägypter.
ولا شك في أن الإنسان إذا أراد بحث العلاقات الثقافية والجنسية بين مصر و«لوبيا» وتصوير الروابط التي تربط بعضهما بالبعض الآخر، استدعى ذلك بحث ثلاث مسائل كبيرة تختلف كل منهما عن الأخرى اختلافًا بينًا في المصدر، كما أن الوصول إلى صورة كاملة من مجموعها لا يزال من الأمور الصعبة المنال، يُضاف إلى ذلك أن كل مسألة من هذه المسائل في الوقت نفسه تبعد عن الأخرى بمدة طويلة، ومن يطلع على كتاب «أورك بيتس» يفهم بسهولة هذه الصعوبات.
وأول الموضوعات في بحث العلاقات بين البلدين مصدره الوحيد هو المواد الأثرية وحدها؛ لأنه من عالم ما قبل التاريخ وخاص بأقدم العهود المصرية التي يمكن الباحث أن يطلق عليها اسم «العصر الأفريقي» ونقصد بذلك الوقت الذي كانت فيه مصر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة الأفريقية المبكرة، أي عندما كانت مولية وجهتها غربًا وجنوبًا، ولم يكن ذلك من الوجهة الجغرافية وحسب، بل من الوجهة الثقافية أيضًا التي كانت تتألف منها ثقافة شرق أفريقيا.
والواقع أن مصر في هذا العهد لم تكن قط حدًّا فاصلًا بين ثقافتين، بل كانت ثقافتها مختلطة، وتعد بمثابة حصن لأفريقيا تحميها من الشرق الذي لم يتسرب منه تأثير ثقافي ما. أما من جهة الغرب فالأمر كان مختلفًا؛ إذ تدل الأبحاث الأثرية التي في متناولنا حتى الآن على أنه في هذا الوقت، أي حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، لم يكن بين مصر وغربيها أية حدود، بل كانت ضمن دائرة ثقافية تشمل جزءًا من شمال الصحراء وشرقيها.
ومنذ منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد تطوَّر موقف مصر هذا بالنسبة لجيرانها من أساسه؛ إذ اختفت الحدود بينها وبين الشرق (آسيا). وقد أغلقت الحدود التي كانت مفتحة بينها وبين البلاد الغربية منها، ومن ثم ابتدأ عصر انفصال مصر عن الأمم الغربية المجاورة لها، وكذلك ابتدأ عصر ثقافة مصرية قائمة بذاتها خلافًا للعصر السابق لهذا التاريخ الذي كانت تُعد فيه الثقافة المصرية جزءًا من الثقافة الأفريقية أو نوعًا منها، ومن ثم أخذت العلاقات بينها وبين الغرب تتغير من أساسها، فأصبح منذ ذلك العهد أقوام غرب النيل يُعدُّون أعداء مصر المتوحشين؛ لأنهم كانوا يهدِّدون أرض الكنانة، ومن أجل ذلك اضطرَّت حكومة البلاد المصرية — محافظة على بقائها — أن تعمل على الفتك بكل من يهدِّد كيانها أو يمس سلطانها.
والواقع أن علاقات مصر بالبلاد الغربية منها وقتئذ كانت علاقات عداء تتمثل إما في السعي لتوسيع رقعة بلادها، وإما في الدفاع عن كيانها من هجمات أقوام هذه البلاد.
أما الروابط الثقافية مع أقوام الغرب فقد أخذ نفوذها يقل منذ تلك الفترة، ومن ثم أصبح نمو مصر وتقدمها يأخذ مجرًى مختلفًا تمام الاختلاف عن الثقافة اللوبية، فأصبح من الصعب معرفة ثقافة تلك البلاد أو جنسيتها؛ ففي الوقت الذي كانت مصر تسير فيه بخطًى واسعة في تقدمها ونموها كانت ثقافة البلاد الغربية منها راكدةً ركودًا تامًّا، فإذا شاهدنا في العصر التاريخي المصري بعض أشياء جديدة قد يعزوها الإنسان إلى أصل لوبي فلا يمكن أن يُعد ذلك علامة على فوق الثقافة اللوبية على الثقافة المصرية، بل يرجع السبب الظاهري إلى العلاقات السياسية الخاصة بذلك العهد، والواقع أن هذا النمو الثقافي المتعدد النواحي ليس إلا نتيجة لحكومة مصرية منظمة مقابل نظام بدوي ساذج.
وتتمثل لنا العلاقة الجديدة بين البلدين جليًّا عندما نجد في المتون المصرية أن مصر تتحدث عن «لوبيا» بوصفها بلادًا أجنبية معادية كغيرها من البلاد الأخرى، ولا شك في أن اللوبيين كانوا قد أصبحوا بالنسبة لمصر قومًا أجانب وقتئذ، وتُمدُّنا المصادر التاريخية الأثرية بمعلومات عن هذا العهد، غير أن ما تحدثنا به وما يهم المؤلف يختلف عما تُحدثنا به الآثار التي من عصر ما قبل التاريخ؛ إذ تقص علينا — بالكلام والصور — ما جرى من حوادث تاريخية كالحروب التي شنها الفرعون على بلاد «تحنو» (لوبيا) الثائرة وهزمهم، كما تقدم لنا صور المعارك الحربية أو سوق الأسرى المختلفين في صفوف مكبلين بالأغلال. ومن هذه المصادر نعرف حقائق عن تاريخ مصر من جهة، ومن جهة أخرى نعلم أشياء عن القبائل اللوبية المختلفة التي ربطتها بمصر علاقة ما فنعرف أسماءها ومظاهرها. ومن المهم أن نرى سكان غربي مصر الذين كانوا يقطنون على حدوها ليسوا من سلالة واحدة، بل إن أجناسهم وقبائلهم كانت تؤلف سلالات مختلفة، ومن ثم يظهر لنا السبب في صعوبة البحث في تاريخ هؤلاء القوم في عصر ما قبل التاريخ بل في عصر التاريخ أيضًا.
وفي البحث الذي سنتناوله هنا عن هذه البلاد، لا يمكننا حتى الآن أن نعرف إلا من باب التخمين من أي القبائل اللوبية يرجع أصل القبائل التي من عصر ما قبل التاريخ؛ وعلى المرء هنا أن يكتفي حتى الآن — بوجه عام — بالتعبير عن هؤلاء القوم بأنهم من اللوبيين إلى أن تنكشف الأحوال أمامنا، ويمكننا أن نتحدث على ضوء معلومات محدودة عن كنههم، بيد أن الموضوع يختلف عندما نقرأ أن «بيتس» قد عثر في «مرسى مطروح» على مقابر لوبية، أو أنه قد وجد في الحفائر التي عملت في جبانات بلاد النوبة آثارًا تثبت وجود علاقة بين «لوبية» والنوبة، ولهذا لا يمكن الأخذ بذلك تمامًا عندما يتحدث الإنسان عن علاقات وثيقة بين أقدم التاريخ المصري وبين اللوبيين في ذلك العصر؛ وذلك لأن القبائل اللوبية تختلف في فروعها الأصلية، وأنها ليست متساوية الجنسية؛ لأننا لا نعرف إلى أي قبيلة منها يُنسب هذا الشيء أو من أين أتى.
(ب) التحنو
ومن المدهش أن الأميرة الوحيدة الممثلة في هذا المنظر كانت تلبس تحت كيس عضو التناسل ميدعة قصيرة ربما كانت بمثابة حلية قد أضافها المثال من خياله هو.
- أولًا: أننا لا نجد في المناظر المصرية ملابس للزينة وحدها.
- ثانيًا: يظهر عليها أنها كانت ذات صبغة سحرية؛ إذ لا نجد من بينها قطعة واحدة حيكت للوقاية أو للمحافظة على الجسم من تقلبات الجو، أو للوقاية من حيوان مهاجم، هذا إذا استثنينا حزام قراب عضو التناسل، أما سائر الملبس فليس له غرض عملي ظاهر بل كانت كلها تُلبس لمجرد الزينة أو لأغراض دينية، أو لتمييز مكانة الرجل بين أفراد قومه.
على أن تمييز الرجال بالتحلي بذيل الحيوان لم يأتِ من باب الصدفة، بل يرجع إلى عقيدة سحرية خاصة بالصيد؛ ولذلك أصبح التحلي به موقوفًا على الرجال وحدهم، وفضلًا عن ذلك نشاهد أن البالغين من الرجال كانوا يلبسون كيس عضو التناسل والحزام، والظاهر أن ذلك كان له علاقة بالختان الذي كان عادة متبعة في مصر عند الرجال الذين لم يبلغوا الحلم، غير أن المدهش في ذلك أن هذا الكيس كانت تلبسه النساء أيضًا وهذه ظاهرة واضحة على الآثار تمامًا.
وقد فسرها بعض علماء الآثار بأن الغرض المقصود من لبس هذا الكيس عند قوم «التحنو» قد نُسي، غير أن الأستاذ «مولر» يقول إن لباس الرجال كانت تلبسه الأميرات من نساء «التحنو» وذلك لإظهار مكانتهن، بيد أنه لا يمكن تصديقه؛ لأن الغرض الأول من لبس كيس عضو التناسل هو الإشعار بختان هذا العضو.
وفي اعتقادي أن النسوة كن يلبسنه دلالة على ختانهم أيضًا — كما هي الحال في مصر حتى يومنا هذا إذ نجد الفتيات الصغيرات يُختن. يُضاف إلى ذلك أن الختان كان علامة على الطهارة والنظافة فضلًا عن دلالته على العشق والغرام، فإذا لبسته المرأة كان غرضها أولًا إظهار طهارتها مع إشباع شهواتها وميولها الغزلية.
أما الأمر الثاني الذي يسترعي النظر فهو ما نلاحظه من التشابه بين حلية ملوك مصر وحلية أهل «تحنو»، وقد بدا ذلك واضحًا على آثار معبد الملك «سحورع»؛ إذ نشاهد في ملابس هؤلاء القوم الذيل المعلق في الحزام يرتديه البالغون منهم، وهذا نفس ما نشاهده في ملابس ملوك مصر الذين كانوا يتحلون بتعليق الذيل، وهو من أمارات الملك، يُضاف إلى ذلك أن اللوبي كان يتحلى بخصلة من الشعر نظمها وصفها على جبينه بصورة تحاكي صورة «الصل» المقدَّس الذي كان يتحلى به الفرعون ليحميه شر الأعداء إذا هاجموه.
ويقول الأستاذ «مولر» عن خصلة الشعر التي تزين الجبهة إنها توجد كذلك عند الحاميين الذين يسكنون جنوبي مصر وكذلك عند أهل «كريت»، هذا فضلًا عن أننا نراها حتى يومنا هذا في شرق آسيا، وقد ظنَّ البعض في أول الأمر أن هذه الخصلة هي الصل نفسه، بيد أن من ينعم النظر يجدها خصلة شعر وحسب.
سلالة التحنو
إني أمنحك أمراء تحنو.
وهذا التعبير غريب في بابه؛ وذلك لأن من يمنح في العادة هم القوم أنفسهم لا الأمراء.
فهل يكمن أن يكونوا من أصل لوبي أو أنهم يرجعون إلى أصل مصري؟
والواقع أنهم قد عُدوا منذ زمن بعيد من أرومة مصرية، ويقوي هذه الفكرة اشتراك البلدين في زي واحد، هذا إلى المشابهة في البشرة الخارجية والوجه في كلا السلالتين، يُضاف إلى ذلك أنه قد وُجد اسمان من أسماء أمراء «تحنو» لهما نظائرهما بين الأسماء المصرية وهما: «وني» و«خوتفس»، فالأول اسم قائد معروف عُثر على لوحته العظيمة في «العرابة المدفونة» التي يرجع تاريخها إلى الأسرة السادسة (راجع مصر القديمة ج١).
والثاني معنى اسمه «المحمي من والده» هو اسم كثير التداول بين الأعلام المصرية؛ يُضاف إلى ذلك أن نفس لفظة «تحنو» ترجع إلى أصل مصري معناه «البراق» — وقد تعزي هذه التسمية إلى الملابس البراقة التي كان يرتديها القوم — وكلمة «تحنو» معناها — كذلك — «زجاج» أو «قاشاني»، وقد استُعملت لفظة «تحنو» لتدل على الزجاج كما أن كلمة «صيني» تطلق على «القاشاني» المجلوب من الصين أولًا. والآن يتساءل المرء كيف يتسنى للإنسان أن يبرهن على اشتقاق كلمة «تحنو» بالحجة الدامغة؟
ويمكننا أن نقرر أنها «مصرية»؛ وذلك لأن «التحنو» يختلفون عن اللوبيين الذين يقطنون بجوارهم، ومما له أهمية في هذا الصدد ما نلحظه من أن قوم «تحنو» لا يتحلون بالريشة المميزة للوبيين وهي شعارهم الخاص، هذا إلى أن أسماء الأقوام الآخرين الذين يسكنون هذه الجهات لا يمتون للمصريين بصلة، بل هم في الواقع لوبيون، في حين أن «التحنو» كانت لهم صلات بمصر، وعلامات مشتركة بين السلالتين، كل ذلك يوحي بالتفكير في أن «التحنو» كانوا في الأصل مصريين، وأنهم سكنوا الوجه البحري؛ ثم هاجروا منه في وقت ما نحو الغرب وسكنوا إقليم «تحنو» الواقع على الحدود المصرية. حقًّا لم يصل إلينا حتى الآن أي أثر من بلاد الدلتا يحدثنا عن هذه السلالة من الناس، بيد أننا في الوقت نفسه لا يمكننا أن نعد الأثرين اللذين وجدناهما خاصين ببلاد «تحنو» وهما الأثران المنسوبان للملك «وازي» والملك «نعرمر» مجرد صدفة، بل هما في الواقع أثران قد أُقيما ليحدثانا عن انتصار هذين الملكين على هؤلاء القوم، وقد كان ذلك النصر بطبيعة الحال قبل توحيد الوجه القبلي والوجه البحري، وفي استطاعتنا القول بأن أمير هؤلاء القوم الذي كان يُعد أميرًا صغيرًا بمثابة حاكم مقاطعة «حاتي عا» قد أصبح يطلق عليه «أمير التحنو»، وبتقادم الزمن أصبح هذا اللقب يطلق على كل هذه السلالة التي هجرت موطنها الأصلي، وقد كان هؤلاء القوم الجدد في موطنهم الجديد مخاطبين بأقوام لها ثقافتهم الخاصة، وبخاصة أنهم كانوا آنئذ قد انفصلوا عن مصر التي كانت ذات ثقافة راقية، غير أنهم قد أخذوا بعض الشيء عن ثقافة جيرانهم الجدد، ولا أدل على ذلك من أننا نجد اسم غيرهم في نقوش الفرعون «سحورع» وأعني بذلك قوم «وسا»؛ وعلى الرغم من هذا الاختلاط الجديد فإنهم قد حافظوا على شخصيتهم وتقاليدهم وملابسهم بخاصة.
وكان الإله المسيطر على شرق الدلتا قبل توحيد البلاد بزمن بعيد، هذا بالإضافة إلى أن الإله «حور» الذي يمثل الملك كان يقطن المقاطعة الثانية الواقعة في غرب الدلتا، ومن ملابس هذا الإله نشأت عادة التحلي بذيل الثور الذي كان يعلقه الملك في الوجه البحري، ومن أجل ذلك ينبغي على الإنسان بهذه المناسبة أن يتساءل: هل «الصل» الذي يضعه الفرعون على جبينه كان صورة الإلهة «وازيت» التي كانت تمثل في هيئة صل، وأن قوم «التحنو» قد قلدوا ملوك الدلتا في ذلك؟ والجواب على ذلك أن هذا تفسير محتمل جدًّا.
أرض «التحنو» وموقعها
إن كلمة «تحنى أو تحنو» هذه هي اسم عريق في القدم عُثر عليه على لوحة تُنسب للملك «وازي»، وكذلك على أسطوانة لخلفه «نعرمر» وقد كانت كلمة «تحنو» أو «تيحنو» اسمًا يُطلق على سكان البلاد الذين يسمون «حاتيوعا» وهذا اللفظ كان يطلق على الأمراء المصريين، وهؤلاء القوم الذين نشاهد أزواجهم ورؤساءهم وأولادهم ممثلين على كثير من معابد الدولة القديمة سمر الوجوه كالمصريين، ويعلقون ذيولًا مثل التي كان يعلقها فراعنة مصر، ويحلون جباههم بخصلة شعر صوِّرت في هيئة الصل الذي كان يحلي به الفرعون جبينه، وهذا أمر يدعو إلى العجب والدهشة، وكذلك كانوا يرتدون قرابًا يضعون فيه عضو التناسل، وكان قدماء المصريين يلبسونه في عصور ما قبل التاريخ، وهذه الخصائص كانت تميزهم عن قوم «تمحو» (اللوبيين)، ويظهر أنه كانت بينهم وبين المصريين قرابة وثيقة، ويُلاحظ على لوحة الملك «وازي» أن اسم «تحنو» قد وُضع بين عدد من الأشجار. ويعتقد الأستاذ «نيوبري» أنه شجر زيتون. ومما له أهمية في هذا الصدد وجود نوع من الزيت قد ذُكر باسم «حاتت تحنو» أي «زيت من الدرجة الأولى». وقد كتبت هنا كلمة «تحنو» كما كتب بها اسم هذه البلاد. وقد برهن الأستاذ «نيوبري» على أن شجرة الزيتون تُعد من الأشجار المتوطنة في الشمال الغربي من أفريقية.
وقد وحد الأستاذ «كيس» هذا الإله بالإله «حور تحنو» صاحب الذراع العالية، وقد ذُكر مرات عدَّة في عهد الدولة القديمة، وكذلك نجد الإلهة «نايت» صاحبة «تحنو» قد ذُكرت مرة. ولا بد لنا من أن نفحص هنا بعض الحقائق التي دعت «زيته» وتبعه فيها «هولشر» إلى القول بأن «الفيوم» يمكن أن تكون في الأزمان القديمة ضمن بلاد «تحنو»، فقد دوَّن في مناظر المعبد الجنازي للملك «سحورع» كلمة «باش» وهي المعروفة كثيرًا في النقوش المصرية بلفظة «باخو» أيضًا. وهذا الاسم على الرغم من أنه أطلق فيما بعد على جبل يُعرف بأنه الأفق الشرقي لمصر كان في الأصل جبلًا في الغرب، وكان إله «باخو» هو الإله «سبك» الذي يمثل في صورة تمساح.
ولم تكن عبادة الإله «سبك» قاصرة على «الفيوم»؛ إذ نجد في قائمة مقاطعات القطر المصري الكبرى أنها تصف إله المقاطعة الرابعة من مقاطعات الوجه البحري، وكذلك نرى الإله «سبك» بوصفه ابن الإلهة «نايت» كان يُعبد في المقاطعة الصاوية — نسبة إلى صا الحجر— ومع ذلك فإنه على الرغم من العلاقات الوثيقة التي نجدها بين آلهة الدلتا المختلفين وبين بلاد «تحنو» لا نجد لدينا براهين قاطعة تدل على امتدادها بعيدًا جهة الجنوب.
ونشاهد في نقوش «سحورع» أن الأسرى من بلاد «تحنو» كانوا يقدمون للفرعون بوساطة إله الغرب وبوساطة الإله «عش» سيد «تحنو». وكل ما يمكن استنباطه مما سبق هو أن تحنو تقع في غربي مصر. ومما يلفت النظر في هذه النقوش أنه قد احتفل بالاستيلاء على الغنائم العظيمة التي تشمل ثيرانًا وحميرًا وماعزًا وغنمًا، وأن الماعز كانت غير مذكورة في اللوحة التي كانت من عهد الملك «وازي». وما يستنبط من كل الحقائق السابقة هو أن «تحنو» الدولة القديمة وما فيها من آلهة من الوجه البحري، وكذلك ما فيها من أسماء مصرية الأصل، وملابس رؤسائها التي تتفق تمامًا مع كل مظاهر الملابس المصرية، يدل على أن بلادهم كانت تشمل التخوم الغربية للدلتا، أو كانت تقع على حدودها تمامًا.
التغير في معنى اسم «تحنو»
أشرنا فيما سبق إلى أن استعمال كلمة «تحنو» بمرور الزمن قد طرأ عليه تغير يُذكر فقد كان لتلك البلاد في بادئ الأمر أهمية جغرافية. ويُلاحَظ أنه في عهد «منتوحتب الأول» كان سكان هذه الجهة يدعون سكان «تحنو»، وقد بدأ التغير الجديد عندما ظهرت سلالة جديدة من اللوبيين يسمون «تمحو»، والظاهر أنهم استوطنوا بكثرة على طول ضفة وادي النيل من الجهة الغربية، والظاهرة الجديدة في استعمال كلمة «تحنو» نلحظها في قصة «سنوهيت» في عهد الملك «سنوسرت الأوَّل»، فقد ذكر لنا أن ولي العهد قد أرسله والده في حملة إلى ساحة الميدان في بلاد «تمحو» ليقضي على هؤلاء «التحنو». ومما يُلحظ هنا أن كلمة «تحنو» لم تخصص بعلامة الإقليم، وأنه أحضرهم من بلاد «تمحو»، وعلى ذلك فإنه يقصد من لفظي «تحنو» و«تمحو» قومًا واحدًا بعينهم، ولما كانت بلاد «تحنو» حتى الآن تُعد أقرب بلاد في الغرب متاخمة لمصر فقد أصبح يُطلق عليها مجرد كلمة «الغرب». ومن ذلك نكون قد وصلنا إلى نقطتين هامتين؛ أولاهما: أن اسم البلاد أصبح يُطلق على سكانها، وثانيتهما: أن استعمال كلمة الغرب أصبح يُطلق على بلاد «تحنو»، ومن ثم أُطلق على أهل البلاد «سكان الغرب».
وسنرى بعد أن كلمة «تحنو» تدل على اللوبيين. والواقع أنه لم يكن في الإمكان أن نميز بعد الأسرة الخامسة سكان هذه الجهات على وجه التأكيد، ففي نقوش الفرعون «منتوحتب» نجد أن مميزات ملابسهم قد اختفت، ونجد أن المصادر المكتوبة لا تحددهم لنا، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا.
وبعد ذلك البحث الطويل في قوم «تحنو» يجدر بنا أن نوجه أنظارنا إلى القوم الذين يُسمون بحق «لوبيين» وهم قوم نشأوا في البلاد بطبيعتها ذُكروا لنا في الأزمان التاريخية، ويحق لنا أن نطلق عليهم هذا الاسم بسبب إقامتهم الطويلة ونموهم القومي، ويجب أن نؤكد هنا مرة أخرى أن «التحنو» كانوا يُعرفون عند المصريين منذ أقدم العهود من الآثار بأنهم اللوبيون في أوسع معاني الكلمة.
(ﺟ) قوم «تمحو»
كانت دائرة نفوذ مصر في عهد الدولة القديمة قد تخطت حدودها السياسية؛ ولذلك ينبغي لنا أن نقتفي الأثر الذي تركه سقوط الأسرة السادسة فيما جاورها من البقاع اللوبية.
والآن يتساءل المرء عما إذا كان العنصر الهام في تاريخ مصر قبل الأسرات، وهو الذي يُطلق عليه «عهد الثقافة اللوبية»، ينسب معظمه إلى هؤلاء «التمحو»؟ وسيكون مدار بحثنا فيما يلي إيجاد بعض الأسباب والعوامل التي تحل لنا هذا السؤال؛ وهو ذو أهمية كبيرة للحكم على الثقافة المصرية.
أقدم الأدلة على وجود قوم التمحو
صادفتنا كلمة «تمحو» للمرة الأولى في النقوش المصرية التي ترجع إلى عهد الملك «بيبي الأول» أحد ملوك الأسرة السادسة، ذكرها لنا العظيم «ونى» قائد الجيش الذي سار لمحاربة قبائل آسيا، وكان جيشه مؤلفًا من فرق مختلفة، من بينها فرقة من قوم «تمحو» ثم جاء ذكرهم بعد ذلك في عهد الفرعون «مرنرع» في النقوش التي خلفها لنا الرحالة «خوفوحر» في حملته الثانية الكشفية (راجع مصر القديمة ج١).
ولم تكن علاقة مصر وقتئذ ببلاد «التمحو» وثيقة. ولا يمكن أن نفهم من وجود فرقة من هؤلاء «التمحو» في الجيش المصري إلا أنهم كانوا خاضعين للسيطرة المصرية، ولكن من المحتمل أنه كان يوجد جزء منفصل من قوم «التمحو» يعملون في الجيش المصري. والظاهر من حديث «خوفوحر» أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون بعيدًا عن وادي النيل؛ وذلك لأن الرحلة من «إلفنتين» حتى بلاد «يام» التي أشار إليها «خوفوحر» في كلامه والعودة منها كانت تستغرق مدة تتراوح بين سبعة وثمانية أشهر. ويدل المتن على أن بلاد «تمحو» كانت غربي بلاد «يام».
ومما يؤسف له أن المصادر التي في متناولنا عن «التمحو»، وعن «اللوبيين» في عهد الدولة الوسطى ضئيلة. فلا نجد غير ما جاء في قصة «سنوحيت» أي مصدر تاريخي ذي شأن يحدثنا عن علاقة مصر بهذه البلاد، وبخاصة عن تسرب اللوبيين إلى مصر في ذلك العهد الذي كان يُعد بلا شك الفترة التي حدث فيها هذا التسرب. وقد قيل إن اللوبيين قد اختفوا بعض الشيء في عهد الدولة الوسطى، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة. ولما كانت المصادر قليلة لدينا في هذا الموضوع فسنحاول أن نضع فكرة عن أحوالهم بقدر ما تسمح به النقوش القليلة التي وصلت إلينا عن اللوبيين في هذا العهد.
هذا إلى أن تابعه كان يتحلى بريشة في شعره وهي المميزة للوبي، وقد ظن أن هذا الكيس من مميزات ملابس الصيادين في الدولة الوسطى، وهذا زعم خاطئ كما شرحنا ذلك من قبل.
اللوبيون البيض وملابسهم في الأزمان القديمة
والآن يتساءل المرء عن هذه المرأة، أهي زوجة «خوفو»؟ وأنها هي نفس «حتب حرس» أخت هذا الملك أم لا؟ وقد يزكي ذلك أن ملابسها متشابهة. وبذلك يكون الأمير «خوفو خعف» و«حتب حرس» أخوين؟
ملابس اللوبيين وأسلحتهم في عهد الدولة الحديثة
الأمير المعادي الذي يرى لحاله من اللوبيين قد هرب تحت جنح الظلام وحيدًا بدون ريشة على رأسه.
وعندما وصل إلى وطنه شكا، وكل إنسان في بلاده كره مقابلة الأمير الذي اختطف منه الحظ ريشته.
كل الأمراء الذين يحملون الريشة.
ومن الأشياء التي تصادفنا في وادي النيل منذ أقدم العهود قراب عضو التناسل وذلك منذ العهد الأفريقي، وهو علامة خاصة رئيسية يتميز بها الأفريقيون. والمسألة التي يجب أن نبحثها هنا الآن هي: هل منشأ هذه العلامة على الآثار المصرية المعترف بها هو قراب عضو التناسل أو عضو التناسل المنتشر؟
اختلاف الملابس في لوبيا وأهميته
وكذلك نجد بينهم وبين صورة مقبرة «رعمسيس الثالث» صلة، غير أنهم يختلفون عن اللوبيين الآخرين في أنهم بدلًا من لبس كيس عضو التناسل كانوا يلبسون قميصًا قصيرًا. وهذا الفرق على الرغم من أنه ضئيل قد لا يلفت النظر إلا أنه من الأهمية بمكان؛ وذلك لأنه يميز لنا بين سلالتين وهما «اللوبيون» و«المشوش» وقد ظهرت الأخيرة في منتصف الأسرة التاسعة عشرة وبدأت تلعب دورها في تاريخ بلاد «لوبيا» كما سنفصل القول في ذلك بعد.
وأوَّل شيء عرفناه عن ملابس «اللوبيين» و«المشوش» جاء عن طريق نقوش «رعمسيس الثالث» في مدينة «هابو»؛ لأن ما ذُكر مفصلًا عن حروب «مرنبتاح» مع اللوبيين من المتون لم يصحبه صور مفسرة للملابس.
ملابس اللوبيين
(د) أصل قوم المشوش وملابسهم
أهمية الفرق بين ملابس اللوبيين والمشوش والطهارة عند اللوبيين وكيس عضو التناسل
ولنعد الآن إلى موضوعنا الخاص بالفرق بين ملابس «اللوبيين» و«المشوش»، لنقرر أن اللوبي الذي لم يُختن كان يلبس قميصًا تحت العباءة لأنه لم يعرف شعيرة الختان، وعلى العكس كان لابسو كيس عضو التناسل هم «المشوش» وغيرهم يعرفون هذه الشعيرة ويقدرونها، فكأنهم كلهم قد أجروا عملية الختان.
(ﻫ) «تمحو» الدولة الحديثة هم «لوبيو» نفس هذه الدولة
إن موضوع فحص ملابس «اللوبيين» و«المشوش» قد أصبح مرتبطًا بظهور القميص في ملابس «التمحو» في مقبرة «رعمسيس الثالث»، التي نجد أن «التمحو» فيها يختلفون عن الذين وجدناهم في مقابر الملوك الآخرين، والمناقشة في هذين البابين ينبغي أن يستفاد منها في تحديد اسم «تمحو».
والواقع أن أسلوب الكتابة والتعابير العامة التي نشاهدها في النقوش الملكية، لا يمكن أن تقدم للباحث معلومات دقيقة يمكنه أن يستخلص منها استعمال اسم «تمحو». فإذا فحص الإنسان عبارة المتون، وجد بنفسه قيمة استعمال اسم «اللوبيين» و«المشوش» وغيرهما من أسماء الأقوام. فمثلًا نجد أن «رعمسيس الثالث» بعد حروبه الأولى مع «اللوبيين» يصف نفسه بأنه «صادُّ التمحو»، وبعد نهاية الحرب الثانية معهم نجده يصف نفسه «بمهلك المشوش». وهذا القول في ظاهره يبرهن على عكس وجهة النظر المنتظرة؛ إذ إنه من البدهي أن الملك قد اكتفى في هجمته الأولى على قوم من أهل لوبيا، وأطلق عليهم الاسم العام وهو «اللوبيون»، ولكن لما كان اسم «التمحو» يظهر كثيرًا في التقارير الخاصة بتلك الحروب فإنه ذكره في حربه الثانية ليميزها عن الحرب الأولى. والواقع أن اسم «التمحو» كذلك قد اختفى تقريبًا في المتون والإيضاحات الخاصة بالحرب الثانية التي شنها «رعمسيس الثالث»، وفُضل عليه اسم «المشوش»، ونجد في قوائم القتلى والأسرى التي تركها لنا كل من «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث» ما يقوي هذا الرأي بصفة قاطعة، وكذلك في المناظر المفسرة بمتون تتبعها، وهي التي نشاهد فيها — الأسرى اللوبيين يخاطبون الفرعون — أن اسم «التمحو» لم يُذكر، بل كان يُذكر فقط اسما «اللوبيين» و«المشوش».
وأهم من ذلك الحالات التي نجد فيها في الأزمان القديمة اسم «التحنو» قد استُعمل بدلًا منه في الدولة الحديثة اسم «التمحو» في متن قصة «سنوهيت» التي يرجع تاريخ كتابتها إلى الأسرة العشرين، أو الواحدة والعشرين، وكان في النسخة الأصلية التي يرجع عهدها إلى الدولة الوسطى يُذكر «تحنو». غير أننا لا نعلم تاريخ مثل هذه التغييرات، كما لا نعلم العهد الذي يمكن أن تكون قد حدثت فيه. وكل ما نفهمه هو أن كاتب الأسرة الواحدة والعشرين قد أراد أن يصحح لكاتب الدولة الوسطى — على حسب المعلومات التي لقنها في عهده.
موطن التمحو وهجرتهم
والظاهر أن قيام رئيس قبيلة صغيرة من النوبيين بحملة إلى «الواحة الخارجة» يُعد مشروعًا مستحيل المنال، هذا فضلًا عن أن «الواحة الخارجة» في اتجاه مخطئ مخالف لموطن «خوفوحر» وهو «إلفنتين» كما أنها بعيدة جدًّا من «يام». وعند وصوله إلى هناك وجد أن رئيسها قد ذهب لمحاربة اللوبيين الذين يُنتظر أن يكونوا على حسب ذلك في مكان أبعد في جهة الجنوب الغربي. وإذا سار الإنسان في هذا الاتجاه لا يصادف أماكن صالحة للسكنى حتى يصل إلى «دنقلة» كما أن واحة «سليمة» لا تكاد تكون في هذه المنزلة، وحتى «دنقلة» فإنه من غير المحتمل أن تكون أرض «التمحو» التي كان ينشدها «خوفوحر» أكثر من «الواحة الخارجة». والواقع أن هذه العبارة كما جاءت في نقوش «خوفوحر» لا يمكن تفسيرها. وأرض «التمحو» التي غزاها «سنوسرت الأول» كما جاء في قصة «سنوهيت» كانت تقع في الشمال الغربي من الدلتا. ومن الجائز إذن أنه في هذا الاتجاه الممتد حتى بلاد «طرابلس» يجب أن يكون موطن قوم «تمحو» الذين ذُكروا فيما بعد، ويُلاحَظ أن عبارة قوم «تمحو» في عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين كانت تستعمل على ما يظهر بمعنًى مبهم تقليدي في حين أن التسمية الأكثر دقة هي «ليبو (اللوبيون)»، و«مشوش» كما ذكرنا من قبل.
وإذا كان هناك أي فرق بين هذه العبارة والتعبير الآخر التقليدي أي «التحنو» فإنه ينحصر في أن أرض «تحنو» كانت تقرب إلى مصر من أرض «التمحو».
اسم «التمحو»
جولان التمحو وخزفهم الذي عُثر عليه في بلاد النوبة على ضوء الكشوف الحديثة
والآن نعود إلى التحدث عن الخزف الذي عُثر عليه في هذه البقعة:
والواقع أن هناك صلة مدهشة من حيث الشكل والزينة بين هذا النوع من الزخرفة وبين الزخرفة الأفريقية لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة أو توافق الأفكار. ولا شك في أنه توجد هنا روابط عظيمة قديمة لها أهميتها وضرورتها البالغتان؛ لأنها تجعلنا نطل على دور لعبه هؤلاء القوم لا بظهوره في حالات خاصة في الثقافة المصرية وحسب، بل كذلك في إقامة بنيانها.
وعلى الرغم من القليل الذي نعرفه اليوم في هذا الموضوع فإن المكانة الهامة الخاصة التي يشغلها قوم «اللوبيين» في أعماق التاريخ المصري لها قيمتها التامة.
حقًّا توجد أشياء عدة ليست مصرية في مظهرها في العصر التاريخي تمامًا، بل يجب أن تعبر كذلك عن الثقافة المصرية تعبيرًا صريحًا، ومع ذلك فإنها تُنسب إلى أصل لوبي. ولكن يعوقنا عن التعرف عليها والوصول إلى كنهها قلة المادة التي لدينا عن «لوبيا» في عصر ما قبل التاريخ، ويُلحظ ذلك بصفة بارزة في الديانة حيث نجد أن العلاقة في الأزمان الموغلة في القدم بعيدة الوصول إليها، فلدينا علاقات مختلفة خاصة بالآلهة المصرية، والآلهة اللوبية مثل الإلهة «نايت» والإله «ست» وعلى وجه خاص الإله «آمون» في مظاهره الدينية المختلفة، وكل هؤلاء الآلهة كانوا يُعبدون في «لوبيا» وفي الصحراء بداهة، ولكن لا بد من إيضاحات أخرى عن عبادتهم في هذه الأصقاع أكثر مما نعلمه حتى الآن لنفهم الصلات الأساسية التي تربط هذه الآلهة ببلاد «لوبيا».
(٣-٣) هجرة أقوام البحر الأبيض المتوسط وهجومهم على وادي النيل
ذكرنا في الجزء السادس من «مصر القديمة» أن أقوامًا من البحر الأبيض المتوسط ظهروا في مصر، وبخاصة قوم «شردانا» وقلنا إن ظهورهم لا بد أن يكون قبل عهد «رعمسيس الثاني» ويحتمل أن يرجع عهد هؤلاء القوم بالذات إلى أوائل الدولة الحديثة، وقد فصلنا القول بعض الشيء في تاريخهم، وأنهم لم يأتوا إلى مصر في أوَّل الأمر إلا لغزوها. ولا نزاع في أن أقوام البحر الآخرين كانوا على اتصال بمصر منذ أزمان سحيقة في القدم، وتدل شواهد الأحوال على أنه منذ أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد قد وفدت من «أوروبا» والبحر الأبيض المتوسط أقوام من الغرب إلى الشرق.
وكانت أوَّل موجة وصلت إليه في أواخر الدولة القديمة، وكانت قد بُذرت في هذه الفترة أولى بذور العداء بين المصريين واللوبيين، ولم تُعد بعد الحملة التي قام بها «سحورع» على قوم «التحنو» ضمن هذا العداء؛ لأن هذه الحملة لم يقم بها «التحنو» بدون شك، بل كان غرض «سحورع» منها توسيع نفوذ مصر، ومد حدودها من جهة الغرب. وعلى الرغم من أن المصادر المصرية — حتى عهد الدولة الوسطى وعهد الانحطاط الذي تلاه — ليست واضحة، وعلى الرغم من أن المسابقة بين الأقوام الوافدين من الغرب كانت غاية في الأهمية، فمن المسلم به أن الحدود المصرية قد هدَّدت؛ فقد كانت هناك هجمة لوبية محسة في العهد الإقطاعي الأوَّل — وإن كانت المصادر قد سكتت عنها، وقد كان زحفهم حتى بداية الدولة الحديثة لا ضرر فيه نسبيًّا، ولم يكن صده يحتاج إلى مجهود كبير، وقد بدأت الهجرة بصورة جدية مستمرة من الشمال الغربي في عهد الدولة الحديثة فزحفت أقوام كثيرة على وادي النيل، وواجهت مصر في عهد الأسرتين التاسعة عشرة، والعشرين أخطر الصعاب في صد هجومهم. وقد كان هجوم اللوبيين في هذا الوقت يسير جنبًا إلى جنب مع الهجرة العظيمة التي كانت قائمة في ذلك الوقت في أصقاع شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي التي كان يطلق عليها «هجرة أقوام البحر الأبيض المتوسط»، وقد جاءت في نهاية عهد الثقافة «المنوانية» في «كريت». وفي «بلاد اليونان» كان قد بدأ الزحف الإغريقي الخاص في العهد الذي يطلق عليه «الهجرة الدورية».
والإنسان بعد هذا الاستعراض يجد أنه لا يزال أمامنا كثير لتحقيق مواقع هذه الأماكن، والدور الذي لعبته كل قبيلة أو إقليم في غزوهم لمصر في عهد كل من «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث».
ونعود الآن بعد هذا البحث الطويل في شرح الأقوام الذين كانت تتألف منهم بلاد «لوبيا»، وكذلك الأقوام الذين حاربوا ملك مصر في عهد الأسرة التاسعة عشرة — وبخاصة أقوام البحر في عهد الفرعونين «مرنبتاح» و«رعمسيس» إلى بحث المصادر التي تركها لنا «مرنبتاح» عن حروبه مع «لوبيا» وأقوام البحر الأبيض المتوسط كما تسميها المصادر المصرية، ثم استخلاص ما يمكن استخلاصه منها. وسنبدأ أولًا — كما هي عادتنا — بوضع هذه المصادر أمام القارئ، ثم التعليق عليها.
(٤) حروب «مرنبتاح» مع «لوبيا»
- (١)
نقوش «الكرنك» الكبيرة.
- (٢)
عمود القاهرة.
- (٣)
لوحة «أتريب».
- (٤)
أنشودة النصر.
(٤-١) نقوش «الكرنك» الكبيرة
العنوان
(بداية النصر الذي أحرزه جلالته في «لوبيا») … «أقايواش» «تورشا»، «لوكا»، («ليسيا») «شردانا»، «شكلش»، الشماليون الزاحفون من كل البلدان.
شجاعة «مرنبتاح»
(٢) … شجاعته في قوة والده «آمون» ملك الوجه القبلي، والوجه البحري «بررع مري آمون» بن «رع» «مرنبتاح حتب-حرماعت» معطي الحياة، تأمل هذا الإله الطيب النضر … (٣) … (والده) كل الآلهة دروعه، وكل مملكة في خوف عند النظر إليه، الملك «مرنبتاح» (٤) … أقفرت، وصيرت خرابًا، وآمرًا أن كل من يغزو حدًّا من حدود مصر يمني نفسه في زمنه … (٥) … وكل خططه، وحكمه نفس الحياة، وقد جعل كل الناس خالين من الهموم في حين أن الرعب من قوته كان في … (٦) …
الاستعداد للدفاع
اعتداء اللوبيين
… (٨) … لم يعتنِ بها، وقد تُركت لتكون مرعًى للماشية بسبب أقوام «الأقواس التسعة»، وقد تُركت خرابًا منذ زمن الأجداد، وكل ملوك «الوجه القبلي» يسكنون في أهرامهم (٩) … وملوك «الوجه البحري» ظلوا في وسط مدنهم محصورين في القصر الحكومي لقلة الجنود، ولم يكن لديهم رماة ليجيبوا عنهم.
تولي «مرنبتاح» عرش الملك واستعداداته
وقد حدث … (١٠) استولى على عرش «حور»، وقد نُصب ليحفظ بني الإنسان أحياء، وقد رُفع ملكًا ليحمي عامة الشعب، وقد كان لديه القوة ليفعل ذلك بسبب … في (١١) … «مابارا» (اسم بلدة أجنبية) ونخبة رماته قد صُفوا، وفرسانه قد أُحضروا من كل جانب، وكان طليعة جنوده في … في (١٢) … ولم يحفل بمئات الألوف في يوم النزال، وقد تقدم مشاته، ووصل الجنود المجهزون بالأسلحة الثقيلة في مظهر جميل قائدين الرماة على كل أرض.
خبر تحالف اللوبيين «وأقوام البحار» على مصر
… (١٣) … الفصل الثالث قائلين:
خطاب «مرنبتاح»
-
بداية الحملة: … (والظاهر هنا أن خطاب الفرعون قد انتهى في الجزء الضائع من
المتن وبدأ بعد ذلك سير الجنود):
ويقود الرماة في المقدمة هناك ليهزموا أرض «لوبيا». وعندما انقضوا كانت يد الله معهم، وحتى «آمون» كان معهم درعًا لهم، وقد أمرت أرض مصر قائلًا. (٢٨) … مستعد للسير مدة أربعة عشر يومًا.
حلم «مرنبتاح»
وبعد ذلك رأى جلالته فيما يرى النائم كأن تمثال «بتاح» واقف أمام الفرعون له الحياة والفلاح والصحة، وكان مثل ارتفاع (٢٩) … فتكلم إليه: خذه أنت عندما مد إليه يده بالسيف، وأقص عنك أنت القلب الخائف، فتكلم إليه الفرعون له الحياة والفلاح والصحة: تأمل (٣٠) …
اقتراب الجيشين
المشاة والفرسان قد عسكروا بعدد عظيم أمامهم على الشاطئ أمام صقع «برإر»، تأمل إن رئيس «لوبيا» الخاسئ … في مساء اليوم الثاني من الشهر الثالث من الفصل الثالث (أي الشهر الحادي عشر) عندما سمح الضوء بالتقدم نحوهم. وقد حضر رئيس «لوبيا» الخاسئ المهزوم في تاريخ اليوم الثالث من الشهر الثالث من الفصل الثالث. وقد أحضر (٣٢) … حتى وصلوا. وقد انقض مشاة جلالته وخيالته سويًّا وكان «آمون رع» معهم، والإله «ست» صاحب «أمبوس» يقدم لهم يد (المساعدة).
الواقعة
وكل رجل (٣٣) … ودمهم ولم يوجد فارٌّ من بينهم، تأمل فإن رماة جلالته قد أمضوا ست ساعات يخربون بيوتهم وقد أسلموا للسيف على (٣٤) … للبلاد. تأمل: وعندما كانوا يقاتلون … وقد وقف خاسئ «لوبيا» وقلبه خائف وانسحب ثانية ووقف ثم ركع (٣٥) … نعلاه وقوسه وكنانته بسرعة خلفه وكل شيء كان معه … وساقاه، وجرى رعب عظيم في أعضائه (٣٦)، تأمل فإنهم ذبحوا … ممتلكاته، وعدته، وفضته، وذهبه، وأوانيه من البرنز، وأثاث زوجه، وعرشه وأقواسه وسهامه، وكل ممتلكاته التي أحضرها من بلاده (٣٧) مشتملة على ثيران، وماعز، وحمير، وكل ذلك قد حُمل إلى القصر ليوضع فيه الأسرى، تأمل! فإن خاسئ «لوبيا» كان مسرعًا ليهرب بنفسه، في حين أن (٣٨) كل الناس بين الضباط … وبين من جرحوا بالسيف. تأمل: فإن الضباط الذين كانوا على جياد جلالته اقتفوا أثرهم … وسقطوا بالسهام (٣٩) وحُملوا قتلى …
لفتة إلى الماضي
لم ير ذلك إنسان في تاريخ ملوك «الوجه البحري» (لأن الحرب كانت في الدلتا) تأمل! إن أرض مصر هذه كانت في يدهم، في حالة ضعف في عهد ملوك «الوجه القبلي» (٤٠) وعلى ذلك لم يكن من المستطاع صد يدهم … هؤلاء … حُبًّا لابنهم العزيز ليحموا مصر لربها، ولنجاة معابد مصر ولتعلن (٤١) قوة الإله الطيب الجبارة …
-
هرب رئيس «لوبيا»: وقد أرسل قائد حصن الغرب تقريرًا إلى بلاط الفرعون له الحياة
والقوة قائلًا ما يأتي:
إن «مريي» المهزوم قد حضر، وإنه قد أرخى لساقيه العنان جبنًا منه، وقد مر بي في جنح الظلام في سلام (٤٢) … حاجة، وإنه قد سقط وكل إله في صف مصر، وإن الافتخارات التي فاه بها أسفرت عن لا شيء، وكل ما قاله فمه قد عاد على رأسه هو، وحالته ليست معروفة أميت هو أم حيٌّ … وإنك … من شهرته فإذا كان لا يزال حيًّا فإنه لن يقود (الجنود) ثانية؛ لأنه قد وقع عدوًّا لجنوده هو. وإنك أنت الذي أخذتنا لتجعلنا نذبح. (٤٤) … في أرض «تمحو» (ولوبيا) وقد نصبوا في مكانه آخر من بين إخوته، وهذا الآخر يحاربه عندما يراه، وكل الرؤساء حانقون (٤٥) …
العودة المظفرة
ثم عاد ضباط الرماة، والمشاة، والفرسان، وكل فرقة في الجيش سواء أكانوا من المجندين، أو من الجنود حملة الأسلحة الثقيلة (٤٦) (وحاملين الغنيمة …) وسائقين حميرًا أمامهم تحمل أعضاء التناسل التي لم تُختن (دلالة على عدد القتلى) من بلاد لوبيا ومعها الأيدي (التي قُطعت دلالة على الموتى) من كل بلد كانت معه (مثل السمك على الكلا) والممتلكات (٤٧) … أعداء بلادهم. تأمل: لقد كانت كل البلاد مبتهجة حتى عنان السماء وقد رحبت المدن والأقاليم بهذه العجائب التي حدثت. والنيل (٤٨) … بمثابة جزية تحت الشرفة (أي شرفة القصر الملكي التي كان يطل منها الفرعون على الشعب) ليجعل جلالته يُشاهد انتصاراته.
قائمة بالأسرى والقتلى
قائمة بالأسرى الذين سبقوا من أرض «لوبيا» هذه، والبلاد التي أحضرها معه، وكذلك المتاع (٤٩) … بين قصر «مرنبتاح حتب حرماعت» (مهلك «التحنو») الذي في «برإر» حتى المدن العليا من البلاد مبتدئًا ﺑ … الخاصة «بمرنبتاح حتب حرماعت» (٥٠) أولاد رئيس «لوبيا» الذين قطعت وأحضرت أعضاء تناسلهم غير المختونة، ٦ رجال.
أولاد الرؤساء، وإخوة رئيس «لوبيا» الذين قُتلوا، والذين أُحضرت أعضاء تذكيرهم … (٥١) … «اللوبيون» الذين حُملت أعضاء تناسلهم غير المختونة: ٦٣٥٩.
مجموع أولاد الرؤساء العظماء:
(٥٢) … «شردانا»، و«شكلش» و«إقوش» من ممالك البحار الذين لا غلفة لهم (أي مختونين):
شكلش ٢٢٢ رجلًا.
المجموع ٢٥٠ يدًا.
ترشا ٧٤٢ رجلًا (في لبسيوس ٧٥٠).
المجموع (٧٩٠) يدًا؟
شردانا (٥٤) … … … …
المجموع … … … … …
الإقوش الذين خُتنوا وهم المقتولون الذين حُملت أيديهم لأنهم (٥٥) (مختونون) … في أكوام الذين حُملت أعضاء تذكيرهم إلى المكان الذي فيه الفرعون ٦١١١ رجلًا … …
فيكون مجموع أعضاء التذكير غير المختونة (٥٦): … …
والذين حُملت أيديهم ٢٣٧٠رجلًا.
و«الشكلش» و«التورشا» الذين أتوا بوصفهم أعداء تابعين «للوبيا» (٥٧) … … …
«قهق» و«لوبيون» الذين سيقوا بوصفهم أسرى ٢١٨ رجلًا.
نساء خاسئ «لوبيا» المهزوم اللائي أحضرهن معه أحياء ١٢ امرأة لوبية.
المجموع الذي أسر (٥٨) … ٩٣٧٦ من الناس.
قائمة الغنائم: أسلحة الحرب التي كانت في أيديهم، وحملوا غنيمة: سيوف نحاس خاصة بالمشوش ٩١١١.
(٥٩) … ١٢٠٢١٤ (أسلحة صغيرة؟).
الخيل التي أتى بها — وهي التي كانت تحمل خاسئ «لوبيا» المهزوم — وقد جيء بها أحياء أزواجًا: ١٢.
(٦٠) ممتلكات … «مشوش» التي استولى عليها جيش جلالته له الحياة والفلاح والصحة الذي حارب مهزوم «لوبيا»: ماشية مختلفة ١٣٠٨ ماعز (٦١) … … … مختلفة ٦٤.
كئوس شراب من الفضة: (تركت فضاء في الأصل).
أواني «ثا-بور»، أواني «رهدت» وسيوف، ودروع، وسكاكين وأواني مختلفة ٣١٧٤.
وقد حملوا (٦٢) … وأشعلت النار في المعسكر، وخيامهم المصنوعة من الجلد.
مظاهر النصر في القصر
وقد ظهر سيدهم الملك له الحياة والفلاح والصحة في القاعة الواسعة من القصر في حين كان البلاط يرحب بجلالته له الحياة والفلاح والصحة في القاعة الرحبة من القصر في حين كان البلاط (٦٣) يرحب بجلالته له الحياة والفلاح والصحة مبتهجين عند ظهوره الذي فعله. وخدم جلالته صاحوا فرحًا حتى عنان السماء، والحاشية على كلا الجانبين …
خطاب «مرنبتاح»
(٦٤) (وقال جلالته) … بسبب الخير الذي فعله «رع» لحضرتي، لقد ألقيت خطابهم متكلمًا بوصفي إلهًا يُعطى قوة، ومن مرسومه قد جعل الملك «مرنبتاح» له الحياة والفلاح والصحة … (٦٥) … يجب أن يضم … بمثابة رعايا في وسط مدنهم، وكذلك بلاد «كوش» تحمل جزية المقهورين، وقد جعلته يراها في يدي في … (٦٦) … رئيسه محضرًا جزيته كل سنة في … مذبحة عظيمة قد وقعت بينهم، ومن يعيش منهم سيملأ المعابد (٦٧) … ورؤساؤهم المهزومون هاربون أمامي، وقد وضعت في … ذبحه، وقد عمل شواء اصطيد كطير بري، وقد أعطيت الأرض (٦٨) … لكل إله. وقد وُلدوا من فم سيد مصر الوحيد، والمتعدِّي قد سقط … (٦٩) … … ومنتصر «رع» وجبار على أقوام الأقواس التسعة، والإله «ستخ» يعطي النصر والقوة «لحور» الملك مبتهجًا بالعدالة، وضاربًا — الملك «مرنبتاح» له الحياة والفلاح والصحة — وإني (٧٠) … القوي، لم يؤخذ. وقد تآمر «اللوبيون» على أشياء أثيمة ليرتكبوها في مصر. انظر إن حماتهم قد سقطوا، ولقد ذبحتهم وقد عملوا (…) (٧١) … ولقد جعلت مصر تفيض بنهر، والناس تحبني كما أحبهم، وأعطيهم نفسًا لمدنهم، واسمي يُفرح به في السماء والأرض (٧٢) … وجدوا، وزمني قد نفذ فيه أشياء جميلة في أفواه الشباب على حسب عظم ميزة الأشياء التي أنجزتها لهم وإنها صحيحة كلها (٧٣) … عابدًا السيد الممتاز الذي استولى على الأرضين. الملك «مرنبتاح» له الحياة والفلاح والصحة.
جواب البلاط
قالوا: ما أعظم هذه الأشياء التي حدثت لمصر! … (٧٤) … و«لوبيا» كالمتوسل الذي قد أُتي به أسيرًا، ولقد جعلت أهلها كالجراد؛ لأن كل طريق قد امتلأت بأجسامهم … مانحًا مؤنك إلى فم المحتاج، وإنك تنام مرتاح البال في أي وقت إذ لا يوجد (٧٦) …
(٤-٢) عمود القاهرة
(١) السنة الخامسة، الشهر الثاني من الفصل الثالث (الشهر العاشر) أتى إنسان ليقول لجلالته: إن رئيس «لوبيا» الخاسئ قد غزا مع … رجالًا ونساء من «الشكلش» (٢) …
(٤-٣) لوحة السنة الخامسة من حكم «مرنبتاح»
فعلى الوجه نجد من جهة اليمين الإله «آمون رع»، ومن جهة الشمال يُحتمل أنه الإله «بتاح» والمنظر الذي على اليسار غير تام، ولم يبقَ منه إلا جزء من صورة الإله «بتاح»، وعلى ظهر اللوحة نجد على اليمين الإله «آتوم»، وعلى اليسار الإله «حوراختي» يقبض بيده على سيفه، ويلبس التاج الأزرق (خبرش) ويلوِّح بالسيف، ويقدم إلى الإله «حوراختي» أسيرًا راكعًا. وفي المنظر الذي على اليمين لم تبقَ إلا صورة الإله «آتوم». وهاك ترجمة اللوحة مع ما فيها من نقص في كلا الجانبين.
(٤-٤) متن وجه اللوحة
السنة الخامسة، الشهر الثالث من الفصل الثالث، اليوم الثالث (١) في عهد جلالة «حور» الثور القوي الذي يبتهج بالعدل، ملك الجنوب والشمال (… …) (٢) صاحب السيدتين، والذي ينفذ قوَّته على أرض «تمحو» والملك يصد أعداءه (… …) (٣) والمهزومين بالخوف الذي ينبعث منه، ملك الجنوب والشمال «بان رع مري آمون بن رع مرنبتاح حرماعت» (… …) (٤) انتصاراته. ويتحدث عن أعمال شجاعته لبلاد «مشوش» (… …) (٥) «مرنبتاح حتب حرماعت» معطي الحياة، وهو الذي جعل مصر تستسلم للنوم حتى الإصباح، وعلى ذلك فإنه يأخذ (… …) (٦) الرعب، كل يوم بسبب الخوف الذي يبعثه في النفوس جاعلًا بلاد «لوبيا» تصير تحت قوة الخوف الذي ينبعث منه ملك الجنوب والشمال (… …) (٧) محوِّلًا معسكرهم إلى مكان قفر، ومستوليًا (… …) (٨) وكل عشب تنبته حقولهم. ولم يبقَ حقل بعد خصبًا ليعيش منه. (… …) (٩) والصهاريج مختنقة كالناس العطشى. كالثور القوي الذي يحارب على الحدود (… …) (١٠) وقد نطق «رع» نفسه باللعنات على الناس منذ أن تعدوا (… …) (١١) بفم واحد وهو تابع للسيف الذي في يد «مرنبتاح حتب حرماعت» الابن الذي خرج من جسمه (… …) (١٢) «مرنبتاح حتب حرماعت» معطي الحياة. وقبائل اللوبيين منتشرون على الجسور مثل الفئران (… …) (١٣) قابضين عليهم مثل الطيور المفترسة ولم نجد منهم من قد أفلت ومحل (… …) (١٤) مثل الإلهة «سخمت»، وسهامه لا تطيش عن غرضها في أجسام أعدائه، وأيًّا كان قد تبقى منهم (… …) (١٥) فإنهم يعيشون على الأعشاب مثل الأنعام، والواقع أنه سيد الآلهة، رب «طيبة» هو الذي (… …) (١٦) ابنه الذي يحبه، يتمتع باسمه … … (… …) (١٧) ابن «رع» «مرنبتاح حتب حرماعت» وهذا ما فعله «آمون رع» سيد تيجان الأرضين القاطن في الكرنك (… …) (١٨) ذبح (؟) سكان الصحاري … … (… …) (١٩) «مرنبتاح حتب حرماعت» … (… …) (٢٠) وهو …
النقوش التي على ظهر اللوحة
(١) (… …) نهاية الحدود، ملك الجنوب والشمال «بان رع مري آمون بن الشمس مرنبتاح حتب حرماعت» الأسد ذو النظرة النافذة، المملوءة بالفزع (٢) (… …) … … في موضوع قومه وقبائل الأقوام التسعة أمامه مثل نساء الحريم ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بان رع مرنبتاح» بن «رع حتب» «حرماعت» المتوج (٣) (… …) منشرحًا عند مشاهدة الانتصارات (التي تشمل) ما أحرزه سيفه البتار جاعلًا رجال حاشيته ينظرونها (٤) (… …) مثل الأسرى والشاطئان خلفهم مهللين، ومصر في عيد (٥) (… …) قوم «مشوش» قد هُزموا أبديًّا بقوة المحارب الشجاع، والثور القوي الذي يهزم الأقواس التسعة (٦) (… …) تعداد الأسرى الذين أحضرهم سيف الفرعون البتار له الحياة والصحة والقوة بين الأعداء اللوبيين (٧) (… …) الذين كانوا في الجزء الغربي من (الدلتا) الذين أعطاهم «آمون رع» ملك الآلهة، و«آتوم» سيد الأرضين صاحب «عين شمس» و«حوراختي» و«بتاح القاطن جنوبي جداره» سيد «منف» و«ستخ» (٨) (… … للملك) «بان» (رع مري آمون ابن «رع» «مرنبتاح حتب حرماعت») وقتلى صاروا أكوامًا من الجثث بين قصر (٩) (مرنبتاح …) الذي في «برإر» وجبل نهاية الأرض §.
(٤-٥) قائمة هؤلاء الناس
أولاد رئيس الأعداء اللوبيين الخاسئ (١٠) (… …) ستة رجال.
أولاد الرؤساء وإخوة الخاسئ رئيس «لوبيا» المعادي الذين ذُبحوا وحُملوا بوصفهم اﻟ.
(١١) (… …) أسر «لوبيا» الذين قُتلوا والذين أُحضرت أعضاء تناسلهم ٦٢٠٠ وفي «متن الكرنك ٦٣٥٩» (١٢) (… …) أسر لوبية قُتلوا وأُحضرت أعضاء تناسلهم … (… …) رجالًا (١٣) (… …) … مائتي رجل «إقوش» وأقوام البحر الذين أحضرهم معه الرئيس الخاسئ (١٤) (… …) وهم الذين أُحضرت أيديهم، ١٢١٣ رجلًا، وهذا العدد يخالف ما ذكره «مسبرو» وهو ١٢٠١ ومن «شكلش» ٢٠٠ رجلًا، ومن «طرشا» ٧٢٢ رجلًا (وهذان العددان السابقان قد ذُكرا في متن الكرنك ٢٢٢، ٧٤٢ على التوالي في السطر ٥٣) (١٥) (… …) … عشرة + س رجلًا مجموع «اللوبيين» و«الشردانا» الذين ذُبحوا (… …) رجلًا (١٦) (… …) …: ٣٢ رجلًا.
نساء الخاسئ رئيس لوبيا (… …) امرأة (في نقوش الكرنك سطر ٥٧: ١٢ امرأة) (١٧) (… …) الأعداء اللوبيون رءوس مختلفة (؟)٩٢٠٠.
(١٨) (… …) …: ٨٢٢٤ أقواس …: ١٠٠٠ (+ س) ذكر «مسبرو» في نسخته ٢٠٠٠ (١٩) (… …) آنية «قبت» واحدة وآنية «تبو» من الذهب ٢٠ (+ س) … (٢٠) (… …) مازا (؟) (٢١) (… …) …: ١٥٩٠ …
(٤-٦) قصيدة عن انتصار «مرنبتاح»
(راجع كتاب الأدب المصري القديم الجزء الثاني) هذه القصيدة منقوشة على لوحة تذكارية من الجرانيت الأسود وهي المسماة «لوحة إسرائيل»، وقد أُقيمت في معبد الملك الجنازي، وكذلك على لوحة في معبد «الكرنك» كما يُستدل على ذلك بقطعة وُجدت هناك، وقد كانت بلا شك قصيدة ذات أهمية كبرى لدى الملك، وهي في مجموعها فخار بالنصر العظيم الذي أحرزه الملك على اللوبيين في السنة الخامسة من حكمه ١٢٣٠ق.م، وبه نجت مصر من خطر عظيم، والقصيدة تزخر بالاستعارات والتشبيهات المختارة مما أسبغ عليها صورة أدبية، وقد وصف فيها الشاعر هزيمة الأعداء بمهارة تدعو إلى الدهشة فكأنها صورة رسمها المثَّال أمامنا غير أن هذه صورة ناطقة، يُضاف إلى ذلك أن الشاعر وسط هذه المدائح وتلك الأعمال الجسام التي قام بها «مرنبتاح» للذود عن حياض بلاده وتخليصها من غارات «اللوبيين» وكسر شوكتهم لم يَفُتْهُ أن وصف الفرعون بالاستقامة والعدل، فهو يعطي كل ذي حق حقه، فالثروة تتدفق على الرجل الصالح، أما المجرم فلن يتمتع بغنيمة ما، وما أحرزه الإنسان من ثروة أتت عن طريق غير مشروع تقع في يد غيره لا في يد أطفاله، ثم نرى الشاعر ينتقل إلى وصف السلام والطمأنينة والرخاء التي سادت البلاد بعد هذا الانتصار بصورة هي المثل الأعلى لما يتطلبه الإنسان في الحياة الدنيا، فحتى الحيوان قد تُرك جائلًا بدون راعٍ، في حين أن أصحابهم يروحون ويغدون مغنين، وليس هناك صياح قوم متوجعين. ولا شك في أن هذا هو عين السلام الذي يتطلبه الإنسان في كل زمانٍ ومكان. وفي ختام هذه القصيدة الرائعة يعدد لنا الشاعر القبائل أو الأقاليم التي أخضعها «مرنبتاح» ومن بينها قبيلة بني إسرائيل، وهذه أول مرة ذُكر فيها هؤلاء القوم في المتون المصرية، ولذلك سُميت هذه اللوحة باسمهم، وكذلك قيل عن «مرنبتاح» إنه فرعون موسى الذي ذُكر في القرآن وغيره من الكتب المقدسة، وهذا طبعًا لا يرتكز على حقائق تاريخية.
(أ) المتن
التحدث عن انتصاراته في جميع الأراضي، وكل الأراضي جميعًا قد أخبرت بذلك، وصارت تشاهد جمال أعمال الفروسية.
الملك «مرنبتاح» الثور القوي الذي يذبح أعداءه، جميل الطلعة في ميدان الشجاعة حينما يهاجم.
وهو الذي أزاح تلًّا من النحاس من فوق ظهور الشعب حتى يتمكن من منح من كانوا في الأسر الهواء.
وإنه الملك «مرنبتاح» الواحد الفرد الذي يبعث القوة في قلوب مئات الألوف، ويدخل نفس الحياة في أنوفهم عند رؤيته.
وكان محيا إخوانه يبدو مفترسًا يريد الفتك به، وقد تحارب ضباطه فيما بينهم وحُرقت خيامهم وتحولت إلى رماد، وكل متاعه صار طعامًا للجنود.
وقد وصل إلى بلاده محزونًا، وكل فرد قد تخلف في أرضه كان يستشيط غضبًا (؟) … الذي عاقبه القدر هو الذي يحمل الريشة الحقيرة!
إنه رب مصر العظيم والقوة الشجاعة متاع له، فمن يجسر على الحرب الآن وهو يعلم كيف يخطو قدمًا؟
إن من ينتظر هجومه لغبي أحمق، ومن يتعدَّ على حدوده فلا يعلم ما يخبئه له الغد.
سيكون له عمر كرع ليدافع عن الضعيف أمام كل أرض أجنبية، وجعل مصر فوق … للذي نصبه ليكون ممثله الدائم ليتمكن من تقوية سكانها.
انظر إن الإنسان يعيش في أمان في عصر (الملك) الشجاع، ونفس الحياة يأتي من يد الواحد القوي، والثروة تتدفق على الرجل الصالح، ولن يمتع مجرم بغنيمته (؟) والثروة التي يحرزها الإنسان من طريق غير مشروع تقع في يد غيره لا في يد أطفاله.
وقد قيل هذا:
ما أعظم حبهم للأمير المظفر، وما أكثر تعظيمهم له بين الآلهة، ما أسعده حظًا رب القيادة، آه! إنه لحسن أن يجلس الإنسان يتحدَّث والناس تغدو وتروح ثانية دون عائق ما في الطريق، وليس هناك أي خوف في قلوبهم.
وليس هناك نداء لليل: قف قف؟ بلغة الأجانب.
والناس يروحون ويغدون مغنين، وليس هناك صياح قوم يتوجعون، والمدن أصبحت كرة أخرى معمورة، وذلك الذي زرع غلة سيأكل منها أيضًا.
ولقد وجهه «رع» إلى مصر ثانية، وقد ولد مقدَّرًا له حمايتها، هو الملك «مرنبتاح».
ويقول الرؤساء مطروحين أرضًا: السلام.
وبلاد «خاتي» أصبحت مسالمة.
و«كنعان» أُسرت مع كل خبيث.
وأزيلت «عسقلان».
و«جيزر» قُبض عليها.
و«بنوم» أصبحت لا شيء.
وكل الأراضي قد وجدت السلم.
وكل من ذهب جائلًا أخضعه ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بن رع» محبوب «آمون» ابن الشمس «مرنبتاح» منشرح بالصدق.
معطي الحياة مثل «رع» كل يوم.
(٥) الموقعة الكبرى التي دارت بين اللوبيين والفرعون «مرنبتاح»
سردنا فيما مضى ترجمة حرفية للمصادر التي في متناولنا حتى الآن عن الحرب التي قامت بين «مرنبتاح» وبين غزاة «لوبيا» وحلفائهم من أقوام البحار، وكذلك تحدثنا عن أقوام البحر هؤلاء بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا، ويُلاحظ في كل ما سردناه أن معظم هذه المصادر قد وصلت إلينا من جهة مبتورة مشوَّهة بفعل الزمن، ومن جهة أخرى لم نجد فيها من الحقائق التاريخية الخالصة ما يمكن المؤرِّخ من وضع صورة صادقة عن سير الموقعة، ويرجع السبب في ذلك كله كما هي الحالة في كل النقوش المصرية — إلى أنها وضعت لتكون عقود مدح للفرعون معدِّدة ما قام به من أعمال خارقة للمألوف، ومع كل ذلك ففي استطاعة المؤرخ الذي خبر المتون الفرعونية أن يميز منها ما يدخل حيز التاريخ، وما وُضع عقود مدح وثناء لا يمت إلى التاريخ بصلة، وسنحاول هنا أن نضع صورة عن حروب «مرنبتاح» مع هؤلاء «اللوبيين» الذين فصلنا القول في تاريخهم بعض الشيء لصلتهم الوثيقة بأرض الكنانة في كل عصور التاريخ، كما شرحنا ذلك شرحًا وافيًا.
فقد تحدثنا في الجزء السادس عن حروب «سيتي الأوَّل» ومن بعده «رعمسيس الثاني» مع «لوبيا» (راجع مصر القديمة ج٦).
والواقع أن حكومة «رعمسيس الثاني» القوية، وما كان لها من نفوذ بين دول العالم كان له تأثير على ما جاورها من الأمم حتى إن قيام هجمات معادية كرة أخرى من جانب «اللوبيين» لم تكن لتحدث في تلك الفترة، ولكن نجد بعد موت هذا العاهل العظيم أنه قد هبت العاصفة، وبخاصة أنه في أواخر أيام «رعمسيس» كان قد بدأ الانحلال والوهن يدبان في أرجاء الإمبراطورية المصرية، وقد كان على ابنه «مرنبتاح» أن يتحمل تبعة ما خلفه له والده من إرث مثقل بالصعاب والأخطار المحدقة، وبخاصة إذا صدَّقنا ما يزعمه بعض المؤرِّخين من قيام ثورات في أوائل حكمه في آسيا، وأنه كان له بعض المنازعين على عرش البلاد كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
(٥-١) النقش العظيم الذي تركه لنا «مرنبتاح» على جدار معبد الكرنك
والنقش العظيم الذي تركه لنا «مرنبتاح» على جدران معبد الكرنك يضع أمامنا صورة عن الخطر الذي كان يتهدد البلاد، كما يصف لنا الاستعدادات التي اتخذها «مرنبتاح» لصدِّ أعداء البلاد المغيرين بصورة لا بأس بها.
وقد تألف بقيادة الأمير اللوبي المسمى «مريي بن دد» حلف معادٍ لمصر في السنة الخامسة من عهد الملك «مرنبتاح» في بلاد «تحنو»، ثم زحف على مصر، وتؤكد العبارة التي جاءت في متن «الكرنك» الكبير في السطر الثاني والعشرين وهي: «وقد أتوا إلى مصر ليبحثوا عن طعام بطونهم.» أن الغرض من هجومهم هو البحث عن مواطن جديدة، ووسائل للحياة التي نضب معينها في بلادهم.
إنه قد وصل إلى «هليوبوليس» بلدة الإله «تاتنن» ليحفظها وليقيها الشر عند المكان المسمى «ترعة إتي» … لأنهم كانوا قد ضربوا خيامهم أمام «بوبسطة» واتخذوا مساكنهم في أرض «إتي».
إن مشاته وفرسانه قد عسكروا هناك في عدد عظيم، وكان أمامهم على الشاطئ بالقرب من المكان المسمى «برإر».
ومن ذلك نفهم أن جيش لوبيا المعادي لم يقتحم قط أرض الدلتا.
وقد قام «مرنبتاح» على جناح السرعة بالاستعداد للقيام بهجوم مضادٍّ للعدو في مدة لا تتجاوز أربعة عشر يومًا. وفي اليوم الثالث من الشهر الثالث من فصل الفيضان صمم الفرعون على منازلة العدوِّ في مكان يقع بين «برإر» وجبل «وب تا»، وقد شجعه على ذلك — كما يحدثنا الملك — حلمٌ رأى فيه الإله «بتاح» يقدِّم له سيفًا، وقد كانت أقوى فرقة مهاجمة من جنود العدو هي فرقة قوم «إقوش» ثم يليها فرقة «الترشا» ثم «الشكلش» و«الشردانا» في حين أن قوم «لوكا» (ليسيا) كان لا يمثلهم في هذه الحرب إلا عدد قليل. أما «اللوبيون» أنفسهم فكان معظم الجيش منهم، وقد انضم إليهم عربات «المشوش» ثم قلة لا تُذكر من قوم «قهق»، وأما تعداد الجيش فإن ما ذكره «مرنبتاح» في نقوشه عن مقدار قتلى الموقعة يعطينا فكرة تقريبية عنه، فيذكر أن من صُرع في ساحة القتال من اللوبيين يبلغ ٦١١١ — وفي رواية أخرى ٦٢٠٠ رجلًا. أما أقوام البحر فبلغ عدد قتلاهم ٢٣٧٠ رجلًا، وكان مجموع عدد الأسرى نحو ٩٣٦٧ رجلًا وامرأة، وعلى ذلك يكون قوام الجيش اللوبي وحلفائه حوالي ثلاثين ألف مقاتل، وهذا يدل على أن غزوة «اللوبيين» لمصر لم تكن للسلب والنهب — كما كانت حال الهجمات التي قاموا بها من قبل — بل كان جيشًا له قيادته العليا، ولا شك في أن غرضه الأول كان استيطان مصر واحتلالها.
وقد شجع «مرنبتاح» رؤياه التي رآها في منامه فقام بالهجوم على العدو فعلًا، واستمرَّت الواقعة ست ساعات حمي خلالها وطيس الحرب وانكشفت عن اندحار العدو اندحارًا مشينًا، وما بقي منهم أرخى لساقيه العنان مع قائدهم وأميرهم «مريي»، وقد وصف لنا «مرنبتاح» هذه الهزيمة وصفًا شيقًا في قصيدة النصر التي ذكرناها من قبل. وهكذا أمكن «مرنبتاح» أن يعود إلى عاصمة ملكه مظفرًا بعد أن حفظ مصر من خطرٍ كان يهدد كيانها لم تكن قد رأت مثيله منذ حوالي خمسمائة سنة، أي عندما غزا «الهكسوس» أرض الكنانة.
(٦) قصة خروج بني إسرائيل من مصر وأنشودة انتصار «مرنبتاح»
رأينا في القصيدة الرائعة التي نقشها «مرنبتاح» تخليدًا لذكرى انتصاراته على أقوام لوبيا والبحار وما جاء فيها من وصف خلاب لمدى هذا الانتصار، وما صارت إليه حالة أمير «لوبيا» وأسرته من بؤس وشقاء، وكذلك حالة الأمن والطمأنينة التي سادت البلاد بعد أن أبعد خطر الغزو عنها، هذا وقد جاء في آخرها وصف شامل يدل على استتباب السلام في أنحاء الإمبراطورية المصرية آنئذٍ وخضوع أهلها لمصر خضوعًا تامًّا، وقد كان أهم ما لفت نظر المؤرِّخين في هذه الأنشودة هو ذكر قوم بني إسرائيل، وبخاصة لأنه المثل الوحيد الذي عُثر عليه على الآثار المصرية بل لم نجدهم يذكرون بعد ذلك على الآثار إلا بعد انقضاء أربعة قرون من ذلك التاريخ وذلك في الكتابات المسمارية، يُضاف إلى ذلك أن الجملة التي جاء فيها ذكر هؤلاء القوم قد لفتت الأنظار بصورة مدهشة لما فيها من إشارة خفية وإبهام سُكب في تفسيره والإماطة عن أسراره مدادٌ يغرق ما تبقى من بني إسرائيل في أيامنا. وهذه العبارة هي: «وإسرائيل قد خربت وانقطعت بذرتها.» وعلى الرغم من وجود هذه العبارة في اللغة المصرية القديمة في غير هذا المكان، فإن استعمالها بالذات هنا بالنسبة لبني إسرائيل كان ذا أهمية عظيمة جدًّا في بحث موضوع خروجهم من مصر — سواء أكان في ذلك الوقت أم قبله.
وتاريخ بني إسرائيل في مصر لم نجده في النقوش خلافًا للإشارة التي جاءت في الجملة السابقة، ولكن تاريخ هؤلاء القوم كما ذكره مؤلف التوراة — وهو إسرائيلي المنبت — قد أضفى على حوادثه أهمية لم يخطر ببال مؤلف مصري أن يسبغها عليه في هذا العهد بعينه، بل ربما كان لا يعرف شيئًا عنها، وحتى إذا كان يعلمها فإنها كانت في نظره من الحوادث التافهة التي لا تستحق ذكرًا أو تدوينًا، إذ إن كل ما كان يهم المؤرِّخ المصري في عصوره التاريخية كلها هو تدوين انتصارات الفرعون ومفاخره، وما قام به للآلهة الذين كانوا يؤازرونه وينصرونه في المواقع كلها.
وكان «موسى» من الوجهة المصرية أقل شأنًا من «يوسف»؛ فقد كان كما تقول التوراة لقيطًا في قصر الفرعون ثم هاربًا من وجه العدالة ثم متكلمًا عن عبيد غرباء.
أما عن الإسرائيليين أنفسهم في أرض «غوشن» (وادي طميلات) فلم يكن لهم مكانة اجتماعية أو سياسية تُذكر، فقد كانوا في عهد «يوسف» من رعاة البدو، وكان كل راعٍ يعدُّ في نظر المصري لعنة، وفي زمن موسى كان الإسرائيليون فوق ذلك كله عبيدًا، ومن ذلك نفهم أنهم لم يكونوا بأية حال من هؤلاء الناس الذين كانوا يعنون عادة بتدوين أعمالهم في السجلات الرسمية، غير أنه وُجدت حادثة واحدة تتصل بإقامتهم في مصر كان لها من الوجهة المصرية أهمية سياسية واقتصادية، وذلك أن قيامهم بعمل مشترك وهو قصة خروجهم جملة من الديار المصرية — إذا كان هذا قد حدث فعلًا — كان يهم الحكومة وقتئذ لما كانوا يقومون به من أعمال السخرة للفرعون في إقامة مبانيه، وعلى ذلك فإن الإشارة إليه في السجلات الحكومية الخاصة بهذا العصر ممكنة، وبخاصة إذا كان هؤلاء القوم يقومون بأعمال جسيمة كبيرة مفيدة للبلاد عامة وللفرعون خاصة، كما نوَّهنا بذلك.
وبخروج بني إسرائيل من مصر انتهت إقامتهم في تلك الديار على وجه عام، وعلى ذلك تكون هذه الحادثة التي جاء ذكرهم فيها في المتون المصرية من الأهمية بحيث استرعت اهتمام المؤرخ المصري وكانت في الوقت نفسه آخر ما ذُكر عنهم، ولذلك كان من الطبيعي أن نستنبط من ذلك كله: أنه إذا كان هناك ذكر للإسرائيليين في تلك النقوش المعاصرة لإقامتهم في مصر، فإن ذلك لا بد يشير إلى خروجهم، وفضلًا عن ذلك فإنه ينتظر من المتن أن يسجل لنا انقطاع علاقة هؤلاء القوم بمصر.
إني لا أزال مسلمًا بوجهة النظر التي أدلى بها «لبسيوس» عن موضوع خروج بني إسرائيل — وهي التي يقتفيها معظم الأثريين — أن مضطهد اليهود هو «رعمسيس الثاني» الذي كان حكمه الطويل بداية انحلال الإمبراطورية المصرية، وأن الفرعون الذي يُنسب إليه خروج بني إسرائيل هو ابنه «مرنبتاح.»
إن الآثار المصرية تحصر هذه الحادثة في حكم الفرعون «مرنبتاح».
إن بعض بدو (شاسو) إيتام (إدوم) قد سمح لهم على حسب التعليمات التي لديه أن يجتازوا حصن إقليم «سكوت» (تل المسخوطة) في «وادي طميلات» ليتاح لهم رعي ماشيتهم بالقرب من بلدة «بتوم» في ضياع الفرعون العظيم.
وهذا الخطاب كُتب في السنة الثامنة من حكم هذا الفرعون «مرنبتاح»، ويظهر منه أن هؤلاء الشاسو كان قد سمح لهم بالاستيلاء على بعض أرض التاج في «غوشن» (وادي طميلات) ومن البدهي أن هذه الحالة لا يمكن أن تحدث إذا كان الإسرائيليون لا يزالون يقيمون في أرض «غوشن» في السنة الثامنة من حكم هذا الفرعون، وعلى ذلك فلا بد أن تكون حادثة الخروج قد وقعت في وقتٍ ما قبل هذا التاريخ، وهذا يجعل تاريخ الخروج على أية حال قريبًا من تاريخ نقش اللوحة، وهذا البرهان لا يسمح بتقريب زمن خروجهم أكثر من ذلك، بل يجوز أنه قد يتقدم بهم وسنتحدث عن ذلك بعد.
وقد جاء في بحوث تاريخ الخروج أن غزو اللوبيين لمصر في السنة الخامسة من حكم «مرنبتاح» يحتمل أن يحدث أمورًا في شرقي مصر حيث توجد أرض «غوشن» تساعد على هروب الإسرائيليين، وقد كانت الأحوال وقتئذ تتطلب أن تُسحب الحاميات التي على الحدود الشرقية لتقوية الجيش الذي كان يقوم بصد المغيرين من جهة غربي الدلتا وشماليها، وبذلك لا تُترك إلا قوة قليلة لحماية الحدود، وهذا برهان — إذا صح — يعضد الرأي القائل إن الحادثتين — حرب لوبيا والخروج — قد وقعتا في زمن واحد.
لا بد أن نعترف نتيجة للوحة التي كشف عنها «فلندرز بتري» حديثًا بأنها تدل على أن بني إسرائيل قد خرجوا من مصر قبل «مرنبتاح»، كما أنه لا يعترف باعتقاد «بتري» أن نقش اللوحة يشير إلى حرب وقعت في «سوريا» انتصر فيها الفرعون «مرنبتاح»، وأن الإشارة إلى إسرائيل تدل على أنه كان يوجد في «فلسطين» وقتئذ بعض الإسرائيليين.
- (١)
وإسرائيل قد أقفروا وبذرتهم قد انقطعت (برستد).
- (٢)
وقوم إسرائيل قد صاروا قفرًا، ومحاصيلهم قد ذهبت (جرفث).
- (٣)
وقوم إسرائيل قد أُتلفوا، وليس لديهم غلة (بذر) (بتري).
- (٤)
وإسرائيل قد مُحي وبذرته لا وجود لها (نافيل).
فدعا موسى وهارون ليلًا وقال: قوما فاخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل … الخ.
لأنهم طُردوا من مصر ولم يقدروا أن يتلبثوا حتى إنهم …
وقال الرب لموسى قد بقيت ضربة واحدة أنزلها على فرعون والمصريين، وبعد ذلك يطلقكم من ههنا، وعند إطلاقه لكم جملة يطردكم من ههنا طردًا.
وإذا سلمنا بصحة النتائج التي استنبطناها مما سبق فإن الأجزاء المختلفة من تاريخ إسرائيل في مصر تتآلف بعضها مع البعض الآخر ظاهرًا، وتصبح متحدة تمامًا مع ما جاء في التوراة وما جاء على الآثار المصرية القديمة.
على أن كل ما ذكرناه هنا عن تاريخ خروج بني إسرائيل ومكثهم في أرض مصر لا يرتكز على حقائق تاريخية تشفي الغلة، إذ على الرغم من كل ما استعرضناه في هذا الموضوع فإن بعض علماء الآثار لا يزالون ينظرون إلى موضوع خروجهم وأنه حقيقة تاريخية تنطبق على بني إسرائيل — بعين الحذر والحيطة، ونخص من بينهم الأستاذ «جاردنر» فقد قام بينه وبين الأستاذ «نافيل» الذي استعرضنا آراءه فيما سبق نقاش طويل حول هذا الموضوع، وقد ادعى الأستاذ «نافيل» أن «جاردنر» لا يعترف بموضوع الخروج، ولا الطريق التي ساروا فيها، غير أن «جاردنر» في رده على هذا الادعاء لم ينكر طريق الخروج وقصته إنكارًا تامًّا إذ يقول: لم يدر بخلدي أن أتعرض لصحة تاريخية خروج بني إسرائيل أو عدمه. ولكن إذا فحصت الآراء التي اعتقدها في هذا الموضوع فسيكون ذلك من باب الإيضاح؛ إذ ليس هناك مجال لشك أي مؤرخ في أن الإسرائيليين كانوا في مصر في صورة ما، وذلك لأن أسطورة قوية تمثل لنا الأحوال الأولى لقوم في صورة لا يحسدون عليها لا يمكن إلا أن تكون انعكاسًا لضوء حوادث حقيقية قد وقعت مهما كانت الصورة التي وصلت إلينا عنها مشوهة، ولكن غزو الهكسوس ثم طردهم منها فيما بعد يمكن أن يكوِّنا مادة هذه الأسطورة، على أن ذلك لن يحدث فرقًا ما في هذا الزعم إذا أمكننا البرهنة على أن الهكسوس ليس بينهم وبين الإسرائيليين أي اتصال من جهة الجنس؛ وذلك لأن الأمم ترث بكل سهولة تقاليد البلاد التي احتلوها على مضي الزمن. أفلا يكون غريبًا حقًّا ألا يترك عهد الهكسوس أثرًا بل آثارًا في قصة العبرانيين؟ وفضلًا عن ذلك إذا لاحظنا أن مجيء يوسف على حسب التقديرات المعقولة كان قد حدث في عهد الهكسوس، فليس هناك كبير شك في أن حوادث عهد الهكسوس قد صُوِّرت بشكل ما في قصة خروج بني إسرائيل. غير أن ذكر مدينة «رعمسيس» (قنتير الحالية)، تدخل في القصة عنصرًا من عهد متأخر. وعلى ذلك فليس من المستحيل أن تكون الاقتباسات التي اقتبسها «يوسفس» من «مانيتون» و«كارمون» توحي بأن حوادث قد وقعت فيما بعد في أوائل الأسرة التاسعة عشرة، وأنها قد اختلطت بذكر حوادث الهكسوس، ولدينا مادة مفسرة تدل على مثل هذه العلاقات الموجودة بين مصر وقبائل البدو الذين يعيشون على تخومها ذُكرت في ورقة «أنسطاسي» السادسة، ولكن ليس لدينا أي أثر يبرهن على وجود احتلال جدي لأي صقع مصري تكون من نتائجه حدوث مأساة كانت مُثلت في كتاب الخروج، وإلى أن يظهر في الأفق براهين تختلف في شكلها عن التي في متناولنا حتى الآن فإني أؤمن بأن تفاصيل القصة يجب أن تُعد أسطورة، مثلها كمثل قصة بدء الخليقة المذكورة في سفر التكوين، وعلينا أن نسعى في تفسير هذه التفاسير على فرض أنها أسطورة.
والقول بكذب القصة من أولها إلى آخرها شيء، وكون تفاصيلها خرافية شيء آخر بالمرة، وإني على استعداد للاعتراف بأني إذا كنت قد ظننت أن تفاصيل قصة الخروج خرافية وحسب فإني أكون قد عرضت نفسي لنقد محق، غير أن الأمر على غير ذلك؛ لأن طريقة بحثي في هذا المقال كانت سليمة، إذ سألت القارئ أن يسلم بأن تفاصيل القصة من الجائز أن تكون خرافية … بل ذكرت استنباطاتي ثم برهنت على صحتها بطريق الحوار المعتادة.
والواقع أن البرهان الأخير ليس ذا قيمة تُذكر؛ لأن بني إسرائيل قد هربوا من مصر، أو خرجوا منها أو طُردوا؛ لتذمرهم من أعمال السخرة التي كانوا يقومون بها للفرعون، وبخاصة في بناء المدن وإقامة المعابد، وهم إذا كانوا قد هاجروا إلى «فلسطين»، فقد كان ذلك هربًا من تلك السخرة.
وقبل أن نتحدث عن الطريقة التي سلكها بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر إلى فلسطين، أريد أن أستعرض هنا رأي الأستاذ «أولبريت» في هذا الصدد، إذ إنه على ما يظهر يقرب من الحقيقة فهو يقول: «إن التقاليد التي نجدها في كتاب الخروج، الفصل الأول، وهي التي تُحدثنا بأن الإسرائيليين قد أُجبروا على السخرة في إقامة مباني مدينتي «بتوم» و«رعمسيس» اللتين كانتا تُستعملان مخازن، قد دلت الحفائر التي عملت في «تل رطابة» (بتوم) و«بررعمسيس»، على أن الأولى قد أُعيد بناؤها، وأن الثانية قد أُقيمت في عهد «رعمسيس الثاني».»
والواقع أن هذا الرأي على ما يظهر هو أصوب الآراء التي استعرضناها حتى الآن، غير أن الأستاذ «أولبريت» قد أخطأ في تفسير «بررعمسيس» «بتانيس»؛ إذ إنها هي «قنتير» الحالية، وسنرى بعد أن سير بني إسرائيل عند خروجهم كان من «قنتير»، وأن هذه كانت بداية الطريق المعقولة لخروجهم.
(٦-١) الطريق التي سلكها بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر
وسنحاول هنا أن نضع صورة واضحة لهذه الطريق بقدر المستطاع، وسيكون أساسنا في ذلك المصور الجغرافي الذي وضعه «علي بك شافعي» شرحًا لمقاله الممتع الذي سنسير على هديه في كثير من النقط.
وأهم ما تجب ملاحظته في موضوع خروج بني إسرائيل واقتفاء الطريق التي سلكوها حتى وصلوا إلى «فلسطين»، أن تكون طوبوغرافية البلاد متمشية مع قصة الخروج، وكذلك الخطوات التي اتبعوها.
ويرجع الفضل إلى أعمال الحفر والبحوث التي قامت حديثًا في «قنتير» وتوحيدها مع «بررعمسيس» وما كتبه الأستاذ «جاردنر» و«بتري» في تسهيل عمل مصور جغرافي للطريق التي سلكها هؤلاء القوم في هجرتهم من مصر إلى «فلسطين»، وقد بدءوا طريقهم من بلدة «رعمسيس» (قنتير)، التي كانت وقتئذ مقر قصر الفرعون وكان موسى يحاور الفرعون فيها، ويلتمس منه السماح لقومه بالخروج من مصر، وقد أمضوا الليلة الأولى في بلدة «سكوت» (تل اليهودية)، وعسكروا الليلة الثانية في «إيتام» على حافة الصحراء، وبعد ذلك حوَّلوا طريقهم وضربوا خيامهم في الليلة الثالثة أمام المكان المعروف باسم «فم الحيروث» بين «مجدول» والبحر، وفي هذا المكان لحقهم الفرعون وجيشه في عرباته التي كانت تجرها الصافنات الجياد، يمتطيها الفرسان الذين كانوا من خيرة جنوده، وقد استولى الفزع على بني إسرائيل عندما رأوا الفرعون وجنوده، وعندئذ رفع موسى يده إلى الله فأرسل الله لإغاثته هو وقومه ريحًا شرقية عاتية هبت طوال الليل، وفي الصباح جف مجرى البحر المسمى آنئذ ببحر «يام سوف» — أي يم سوف أو بحر سوف، ومعنى كلمة سوف: البوص — وقد تُرجم خطأ بالبحر الأحمر أو بحر القلزم، فعبروه واستمروا في سيرهم، مما برهن على أن البحر لم يكن عميقًا ولا واسعًا، وقد قاس «علي بك شافعي» عرض خليج السويس قبالة الطور في المكان الذي عبر فيه الكولونيل المساعد «روبرتسون» ووجده حوالي ثلاثين كيلومترًا، مما يبرهن على أن اختراقه من المستحيل، وبعد ذلك ساروا في صحراء «إيتام» مدَّة ثلاثة أيام دون أن يجدوا ماء، وهذا يبرهن على أنهم لم يسلكوا المنطقة الرملية ذات العيون المائية المتعددة المتكونة من مياه المطر الساقط على الساحل، ولا بد أنهم كانوا قد ساروا جنوبًا، ومن البدهي أن موسى كان موليًا وجهه شطر «مدين» حيث كان حموه وزوجته. ومما سبق نلحظ أن القصة بسيطة في ذاتها إذا استطعنا أن نجد المدن والأماكن التي مروا بها، وكذلك إذا أمكننا في الوقت نفسه أن نبرهن على أنها تتفق مع متوسط المسافة التي تقطعها قبيلة في سيرها يوميًّا.
وهاك أسماء المدن والأماكن كما ذُكرت في التوراة:
(١) «رعمسيس»، (٢) «سكوت»، (٣) «بيداء إيتام»، (٤) «طريق الفلسطينيين»، (٥) «فم الحيروث»، (٦) «بحر سوف»، (٧) «مجدول»، (٨) «بعل زيفون».
وكل هذه الأماكن قد حققها «علي بك شافعي» ووضعها على مصوره الجغرافي الذي يتفق مع الأحوال التي كانت سائدة زمن الخروج بقدر المستطاع، وعلى حسب أحدث البحوث (راجع المصور الجغرافي). وهذه البحوث تشمل درس رواسب شمال الدلتا وتآكل البحر، كما أظهر ذلك على المصور الذي وضعه «بطليموس» عام ١٤٢ قبل الميلاد، وقد حُفظت منه صورة في «الفاتيكان»، وقد ساعد على وضع هذه الخريطة ما كتبه الأستاذ «جاردنر» و«فلندرزبتري» عن الطريق الحربية من مصر إلى فلسطين (راجع مصر القديمة ج٦).
وسنتناول بالبحث هذه الأماكن واحدًا فواحدًا على حسب ترتيبها الطبعي:
(أ) بلدة «رعمسيس»
وبلدة «أرابيا» على حسب المصور الجغرافي الذي وضعه الأمير «عمر طوسن» باشا نقلًا عن وصف «جرجس القبرصي» الذي عاش في نهاية القرن السابع الميلادي هي «فاقوس» وكذلك جاء في قائمة الأبرشيات (المقاطعات) المحفوظة في «أكسفورد» أن «أرابيا» هي «فاقوس».
ونحن من جانبنا نعلم أن «فاقوس» تقع على مسافة خمسة أميال من «قنتير» بيد أن خرائب «تل الضبعة» ومعبد «أمنمحات الأول» وأحدهما على اليمين، والآخر على الشمال من ترعة «الديدمون» ويقع كل منهما على نفس المسافة من «فاقوس»، ومن المحتمل أنهما امتداد للخرائب التي لا نهاية لها التي تتحدث عنها هذه السيدة الحاجة، وهاك ما قصته: ولكن بلدة «أرابيا» على بعد أربعة أميال من «رعمسيس» ولكي نصل إلى «أرابيا» وهي محط رحالنا كان علينا أن نخترق وسط «رعمسيس»، وبلدة «رعمسيس» هذه تتألف من حقول لدرجة أنها لا تشمل مسكنًا واحدًا.
حقًّا إنها كانت ظاهرة للعيان لأن سورها كان ضخمًا وفيه مبانٍ عديدة، وعلى أية حال فإن مبانيها ساقطة على الأرض وتظهر الآن كأنها لا نهاية لها، بيد أنه لا يوجد شيء الآن منها إلا حجر ضخم طيبي قد نُحت فيه تمثالان ضخمان يُقال إنهما للقديسين «موسى» و«هارون»؛ لأنه يُقال: «إن بني إسرائيل قد وضعوهما هناك تذكارًا لهما.»
والرأي المرجح الآن هو أن «قنتير» كانت عاصمة الملك المسماة «بررعمسيس» وهذا يتفق مع الطريق التي سلكها بنو إسرائيل.
(ب) سكوت (تل اليهودية)
ولما أطلق فرعون الشعب لم يصيرهم الرب في طريق أرض «فلسطين» مع أنه قريب؛ لأن الله قال: لعل الشعب يندمون إذا رأوا حربًا فيرجعون إلى مصر.
وهذه المسافة تبلغ نحو عشرين كيلومترًا، هذا مع العلم بأنهم قد بدءوا خروجهم في شهر أبريل. (راجع سفر العدد ٣٣: ٢).
وقد غادروا «رعمسيس» في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر منه، وفي اليوم التالي للخروج ذهب بنو إسرائيل إلى الخارج بيد سامية أمام كل المصريين. وبعد الفيضان عندما يكون النيل في منسوب منخفض وكل الحياض جافة؛ يستطيع الإنسان أن يفهم كيف كان من السهل عليهم أن يسيروا دون أن يبتلوا، وكان كذلك في استطاعتهم أن يعبروا أية ترعة أو مصرف يعترضهم في طريقهم، والواقع أنه كان من الصعب على «موسى» وقومه، ومعهم قطعانهم أن يعبروا بهم في قوارب وقت الفيضان، ويقطعون في يوم واحد عشرين كيلومترًا.
وأهم برهانٍ يمكن الاستناد عليه في تحقيق موقع بلدة «سكوت» وأنه عند «الصالحية»؛ قد استقيناه من ورقة «أنسطاسي» التي يرجع عهدها إلى الأسرة التاسعة عشرة، وهي التي تصف لنا «سكوت» بأنها أرض متاخمة؛ أو على الحدود ويسكنها أجانب، وفيها قلعة تُدعى «ختم سكوت» ومستنقعات تُعرف باسم بحيرات «بتوم مرنبتاح» التابعة لبلدة «سكوت» وهذه البحيرات لا تخرج عن كونها بحيرة «مهيشر» ومستنقعات «سعده» و«أكياد» وقد كان الفراعنة مغرمين بالصيد والقنص في أعشاب هذه المستنقعات، وكانوا يستعملون قوارب من الغاب للسير فيها، ولا يبعد أنها كانت مخصصة لفراعنة الرعامسة الذين كانوا يسكنون «قنتير» على مسافة خمسة عشر كيلومترًا من الشمالي الغربي لهذه الجهة.
إن بني إسرائيل لم يسيروا فيها على الرغم من قربها، ولما كان موسى يخاف على قطيعه وكذلك كان يخشى أن يتبعه الفرعون وجنوده فإنه اتخذ طريق الصحراء بدلًا من طريق «فلسطين».
وبعد، فقد أرسلت من بلاط القصر الملكي وراء هذين العبدين في اليوم التاسع من الشهر الثالث من فصل الصيف وقت المساء. ولما وصلت إلى حصن «سكوت» في اليوم العشرين من الشهر الثالث علمت بأن أخبار الجنوب تقول: فَرَّا ذاهبين … اليوم … من الشهر الثالث من فصل الصيف، ولما وصلت إلى القلعة أخبرت أن السائس قد حضر من الصحراء (وأعلن أنهما تخطيا الحدود شمالي حصن «مجدول سيتي» … الخ).
وليس لدينا قصور ملكية إلا في «قنتير» و«سكوت» لا تبعد إلا مسيرة يوم واحد من «قنتير» وهي في اتجاه الصحراء، وهي الطريق الوحيدة التي يتمكن الهاربون من القصور الملكية من اتخاذها.
(ﺟ) سكوت (تل اليهودية)
وغادروا من أمام «فم الحيروث»، ومروا من وسط سطح البحر إلى صحراء، ومكثوا مسافرين في صحراء «إيتام» ثلاثة أيام، وضربوا خيامهم في «مارا».
ثم ارتحلوا من «سكوت» ونزلوا من «إيتام» في طرف البرية.
وهذا الوصف يؤكد لنا ماهية «إيتام» دون أي شك، وقد كانت أرض «إيتام» (إدوم) يسكنها العرب البدو الذين يسميهم المصريون «شاسو»، وقد كانوا ينزحون حتى الحدود المصرية جريًا وراء الكلأ عندما تتنكر لهم السماء وتحجب مطرها دونهم، وقد جاء ذكر أهل «إيتام» (إدوم) في ورقة «أنسطاسي» كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٦).
(د) طريق الفلسطينيين
وصف لنا «سيتي الأوَّل» عودته المظفرة من أرض «كنعان» على جدران معبد الكرنك بعد حروبه التي شنها على «الشاسو» وقد أسهبنا القول في وصف هذه الطريق (راجع ج ٦).
ولهذا السبب كانت بداية الطريق البرية إلى «فلسطين» هي قلعة «ثارو»، ويُلاحَظ أن غربي «ثارو» كان فرع النيل الصالح للملاحة حتى «دفنة» وكل بلاد مصر، وقد كان شاطئا النيل في تلك الأزمان هما الطريقان البريان، وكان الفرع المتجه نحو «ثارو» يُدعى «ماء حور» في حين أن الفرع البلوزي الأصلي كان يُسمى «ماء رع».
(ﻫ) فم الحيروث
كان «حور» الإله المحلي لبلدة «ثارو»، وكان يُسمى على الآثار التي عثر عليها هناك «سيد شاسو» أو «المستنقعات»؛ لأنها تقع بين بحيرات البلح وبحيرة المنزلة. وقد جففت «قناة السويس» هذه المستنقعات؛ لأن مياهها في مستوى ماء البحر، وقد منعت كل مياه النيل عن المستنقعات الواقعة شرقيها، والمقاطعة التي تقع فيها «ثارو» تُسمى «مسن»، وكان «حور» يُدعى هنا سيد «مسن».
وبلدة «ثارو» لا تقع على الفرع البلوزي كما يدل على ذلك مذكرات «أنتونين»، ولكن من جهة أخرى يقول إن بلدة «دافني» تقع عليه، وهذا هو السبب الذي جعل «جاردنر» يسمي هذا الفرع مياه «حور»، وقد جاء ذكرها في خطاب الكاتب «بيبسا» (راجع ج٦)، وكان الملح الذي يأتي منه يُستخرج من بحيرات البلح ومن الجزء الجنوبي الشرقي لبحيرة المنزلة، وكان ماء هذا الفرع من النيل يصب فيهما — ولم يكن لهذه البحيرات منفذ إلى البحر، ولذلك أصبحت مياهها ملحة، كما هي الحال في كل البحيرات التي لا منفذ لها إلى البحر، وهذا الملح هو الذي كان يتحدث عنه الكاتب «بيبسا» في خطابه، وفي عصرنا تُستخرج كميات عظيمة منه من بحيرة المنزلة عند «دمياط»، وقد رسمه «علي بك شافعي» في مصوره الجغرافي شمالي «ثارو» قليلًا فجعل مياهه تنصب في منخفض كتب عليه: «يمكن ملؤه بالماء إذا احتاج الأمر.» ويمكن ترجمة اسم مصب هذا الفرع من الإغريقية بعبارة «فم حور» وهذه التسمية لا تختلف كثيرًا عن تسمية «فم الحيروث». وجاء في التوراة: «تكلم إلى بني إسرائيل حتى يتحولوا ويعسكروا أمام «بيها هيروت»، بين «مجدول» والبحر.» وعلى ذلك كان على «موسى» ألا يسير في خط مستقيم؛ ولذلك وصل أمام «فم الحيروث» بعد مسيرة يوم واحد.
(و) بحر سوف («يام سوف»، أو «يم البوص»)
يعتقد كثير من الكتاب الذين تناولوا موضوع خروج بني إسرائيل أن «بحر سوف» هذا هو البحر الأحمر، بيد أن الحقائق التاريخية والبحوث الحديثة تكشف عن غير ذلك، وسنتحدث هنا عن كل ذلك ببعض الاختصار.
كُتبت التوراة في الأصل باللغة العبرية، وفي خلال القرن الثالث قبل الميلاد أمر «بطليموس» الثالث على ما يُقال بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإغريقية، وهذه الترجمة تعرف بالترجمة السبعينية نسبة إلى الكهنة السبعين الذين ترجموها، ومما يؤسف له جد الأسف أنه لم تصل إلينا نسخة واحدة من الأصل القديم الذي ترجم عنه، وأقدم نسخة لدينا بالعبرية يرجع عهدها إلى القرن العاشر الميلادي، وبالموازنة بين النسختين وجد أنه لم تحدث اختلافات كبيرة بين نسخة القرن الثالث قبل الميلاد المترجمة ونسخة القرن العاشر بعد الميلاد. وحيثما وُجدت فروق فإنها أتت عن طريق المترجمين الذين أرادوا أن يتصرفوا في ترجمتهم بدلًا من تتبع الترجمة الحرفية، ومن ذلك أنهم وضعوا بدلًا من عبارة «يام سوف» (بحر سوف) عبارة «البحر الأحمر» أو «بحر القلزم»، ولا نزاع في أن هذا التغيير كان ذا أثر بيِّن فيما كتبه أولئك الذين فحصوا هذا الموضوع، كما ظهر أثره كذلك في بحوث علماء الآثار الذين قاموا بأعمال الحفر في خرائب «وادي طميلات»، فمثلًا نعلم أن وجود تمثال «رعمسيس الثاني» قد جعلهم يعتقدون أن خرائب «تل المسخوطة» هي «بررعمسيس»، وكذلك لما رأوا السور الضخم الذي بُني حول المعبد من اللبن في هذه البقعة تأكدوا أن الإسرائيليين كانوا مسخرين ههنا لصنعها.
وفي عام ١٩٣٦ قام «روبرتسون» بعبر خليج السويس، ولكنه كان على نقيض «لينان»؛ إذ نجد الأخير قد رفع مستوى البحر الحمر وجعله يصل حتى بحيرة التمساح، على حين أن «روبرتسون» قد خفضه بما يتراوح بين خمس عشرة وعشرين عقدة ليجعل عبره من قبالة الطور ممكنة، وبذلك يقدم للناس اتساعًا معقولًا بين سلسلة الجبال المعروفة باسم «جلال» الشمالية والجنوبية، غير أن كل هذه النظريات السمجة المتكلفة قد تلاشت أمام الكشف الحديث الذي أثبت أن «بررعمسيس» هي «قنتير» الحالية، ونظرة بسيطة إلى المصور الجغرافي تفسر ما نقصده من ذلك.
فرد الرب ريحًا غربية شديدة جدًّا فحملت الجراد وطرحته في «بحر القلزم» ولم تبقَ جرادة واحدة في كل تخوم مصر
(راجع سفر الخروج ١٠: ٢٠).
ويُشاهَد على المصور الجغرافي الذي وضعه «علي بك شافعي» أن «يام سوف» تقع على نفس خط عرض «تانيس» وأن امتداده هو بحيرات البلح قبالة «قنتير».
(ز) مجدول
ذكرنا فيما سبق أن التوراة قد جعلت كلًّا من بلدتي «سفنة» و«مجدول» حدًّا جنوبيًّا وشماليًّا لمصر على التوالي، والمقصود بذلك الحد الجنوبي والشمالي لمصر من جهة بلاد «كنعان»، ويدل على ذلك مصور «سيتي الأوَّل» الذي وضع «مجدول» قبل بلدة «ثارو» على الطريق من «فلسطين» ولم يضعها على مجرى ماء قابل للملاحة مثل «ثارو» وقد كانت معروفة بأنها أول بلدة مصرية على الطريق المؤدي إلى «فلسطين»، وقد جاء ذكرها في مذكرات «أنتونين» على الطريق من «سرابيو» — الواقعة عند نهاية وادي طميلات حتى «بلزيو» — وقد جعل «بتري» «تل الهر» المكان الذي يُحتمل أن يكون هو موقع «مجدول» والقلعة العربية التي على هذا الموقع الآن لا بد أنها أقيمت على مبنًى قديم من هذا النوع يُسمى بالعربية «مجدل» أو «برج» (راجع ما كتبه علي بك شافعي عن هذا المكان).
(ﺣ) بعل زيفون
(٦-٢) خط سير بني إسرائيل من حدود مصر إلى فلسطين
و«صلة» أيضًا ولدت «توبل قاين».
وهو أول صيقل لجميع المصنوعات النحاسية والحديدية.
وبالاختصار نفهم من كل ما سبق أن بلاد «سينا» وبلاد «مدين» كانتا في ذلك الوقت بعيدتين عن رعاة الجمال المتوحشين، وكان يسكنهما قبائل شبه متوطنة تربطهم بمصر وكنعان روابط صناعية وتجارية.
(أ) اليوم الأول
ثم ارتحل بنو إسرائيل من «رعمسيس» إلى «سكوت» بنحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال خلا الأطفال.
والكلمة المترجمة هنا بلفظة ألف لها أحد المعنيين: ألف، أو أسرة.
وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما «شفرة» والأخرى «فوعه» وقال: إذا استولدتما العبرانيات فانظرا عند الكراسي فإن كان ذكرًا فاقتلاه، وإن كانت أنثى فاستبقياها.
وإذا فرضنا أن عددهم ستمائة ألف بغض النظر عن النساء والأطفال فإن عددهم في مجموعه لا بد أنه كان يبلغ حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ونحن نعلم من جانبنا أن متوسط عدد سكان القرية المصرية على وجهٍ عام هو ألفا نسمة، فكيف يتسنى لقابلتين أن تقوما بخدمة مجتمع يبلغ ثلاثة ملايين نسمة، ولكن من المعقول أن هاتين القابلتين يمكنهما أن يرعيا شئون ستة آلاف أسرة، يُضاف إلى ذلك أن عيون الماء لم تكن كافية لمثل هذا العدد، بل إنه لم يكن في الصحراء من خشب الوقود للطهي ما يقوم بحاجة هؤلاء القوم.
رحوا من «رعمسيس» في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر منه، في غد الفصح خرج بنو إسرائيل بيدٍ سامية على مشهد جميع المصريين.
(ب) اليوم الأول
وارتحلوا من «سكوت» ونزلوا «بإيتام» في طرف البرية.
(ﺟ) اليوم الثالث
وكلم الرب «موسى» قائلًا: مُرْ بني إسرائيل أن يراجعوا وينزلوا أمام «فم الحيروث» بين «مجدل» والبحر، أمام «بعل زيفون» تنزلون تجاهه على البحر (راجع الخروج ١٤: ١-٢).
وقسى الرب قلب فرعون ملك مصر فتبع بني إسرائيل، وبنو إسرائيل خارجون بيد سامية.
(د) اليوم الرابع
وكان «موسى» حذرًا؛ لأنه على الرغم من أنه قد حصل على إذن من فرعون بالخروج من البلاد مع أتباعه كان يخاف أن يغير رأيه، ولذلك سلك طريقًا غير الطريق المعتادة، فلم يأخذ طريق الفلسطينيين على الرغم من أنها كانت قريبة كما شرحنا ذلك من قبل.
ومد «موسى» يده على البحر فأرسل الرب على البحر ريحًا شرقية طول الليل حتى جعل البحر جفافًا، وانشق الماء.
ولا يزال منسوب الماء حتى الآن متأثرًا بدرجة عظيمة بالريح في بحيرة «المنزلة» و«البرلس»، ويُلاحَظ أن الطريق من «بلطيم» حتى «برج البرلس» تُغطى بالمياه عندما يهب الهواء غربًا ثم تصبح جافة عندما يهب الهواء من الشرق، ويمكن الإنسان أن يسير عليها بالعربة.
وخلع دواليب المراكب فساقوها بمشقة.
ومما سبق نعلم أن خرافة غرق الفرعون في البحر الأحمر وموته لا أساس لها من الصحة، وقد جاء كل ذلك الخلط من ترجمة «يام سوف» بالبحر الأحمر أو بحر القلزم، هذا فضلًا عن أن ما جاء في القرآن الكريم لا يشعر بأن الفرعون الذي عاصر موسى قد غرق ومات، بل على العكس نجاه الله ببدنه ليكون آية للناس على قدرة الخالق. والتعبير فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ يعادل التعبير العامي «خلص بجلده»، هذا ويُلاحظ أن كلمة «البحر» في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب ج٥: «تطلق على الماء المالح والعذب على السواء»، وقد سبق أن قلنا إن اليم يُطلَق على النيل، وعلى ذلك يمكن فهم الآية القرآنية التي جمعت القصة كلها في اختصار رائع على حسب ما ذكرنا من إيضاحات وبراهين سابقة: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (سورة يونس الآيات ٩٠–٩٢).
(ﻫ) الأيام الخامسة والسادسة والسابعة
وبعد عبر هذه البحيرة بالكيفية السابقة سار بنو إسرائيل في صحراء «شور» مدة ثلاثة أيام، وهكذا أحضر «موسى» إسرائيل من البحر، وذهبوا في بيداء «شور» ومشوا ثلاثة أيام في الصحراء، ولم يجدوا ماء.
وضرب «شاول» عماليق من «حويله» حتى مجيئك إلى «شور» التي تقابل مصر.
وبعد ذلك سار بنو إسرائيل في شبه جزيرة سينا و«مدين» حتى وصلوا إلى أرض «كنعان» وكانت كل هذه الجهات معمورة كما ذكرنا قبلًا.
هذه هي قصة خروج بني إسرائيل كما حدثتنا بها التوراة وكما تتبعناها على الآثار الباقية بقدر المستطاع، ونريد هنا أن نكرر القول بأن هذا الحادث كان ثانويًّا بالنسبة للمصريين، حيويًّا عند الإسرائيليين، ولذلك لم نجده في النقوش المصرية إلا عرضًا على حين فصلت آياته في التقاليد العبرية تفصيلًا تامًّا، وتدل الأحوال كلها على أن هذا الحادث قد وقع فعلًا، غير أن تفاصيله قد دُونت على حسب العقل والتفكير والتقاليد الإسرائيلية، ولذلك يصعب علينا نخله وتمحيصه من الوجهة التاريخية المحضة.
(٧) آثار «مرنبتاح»
(٧-١) مقبرة «مرنبتاح»
ويدل منظر وجهه العام على أن محياه يشبه «رعمسيس الثاني» في قسماته بصورة ناطقة، غير أن شكل الجمجمة وأبعاد الجبهة تتفق إلى حد بعيد مع جده العظيم «سيتي الأول».
وتدل المومية على أن عملية التحنيط التي أُجريت فيها كانت ناجحة إلى حد بعيد؛ إذ كان الجسم محفوظًا لم يَشبه أي تشويه وخاليًا من اللون الأسود الذي نشاهده في موميات الأسرة الثامنة عشرة.
ويُلاحظ أن الجزء اللين من الأنف قد تفرطح بعض الشيء مما شوه منظر الوجه، وقد حشا المحنطون حفرة الجمجمة بعد استخراج نخاعها بقطع صغيرة من الكتان الجميل الصنع، وبعض البلسم، أما المنخران فقد حُشيتا بعجينة راتنجية، وكذلك وُضعت طبقة من نفس المادة على الفم والأذنين، كما وُضعت لطعة سوداء في مكان الحاجبين، وخلافًا لذلك وُضعت طبقة رقيقة من اللون الأحمر على الوجه، ويُلاحَظ أن هذا اللون قد ذهب في بعض المواضع، وظهرت تحته لطع بيضاء، وكانت أذناه مثقوبتين مدة حياته، غير أن الثقبين كانا صغيرين جدًّا.
ولوحظ أن فتحة التحنيط كانت في الجنب في المكان الخاص الذي كانت تعمل فيه الأسرات التاسعة عشرة والعشرين والحادية والعشرين أي أمام الحفرة الحرقفية، وبعبارة أخرى لم تكن بعيدة إلى الخلف أو عمودية كما نجد ذلك في بعض موميات الأسرة الواحدة والعشرين وما بعدها، وقد وُضع فوق الفتحة عجينة بلسم، ثم وُضع فوقها لوحة يُشاهَد جزء من طبعتها.
وقد أُزيلت كل الأحشاء من الجسم إلا القلب على ما يظهر، ولا نعلم إذا كان المقصود هنا ترك القلب بأكمله في الجسم كما كانت العادة في عهد الأسرة الواحدة والعشرين أم لا. وعلى أية حال فلا يمكن الجزم بذلك.
وقد دل البحث على أنه كان مصابًا بالتهاب الأورطي إذ قد وُجدت لطع كلسية عليه ظاهرة.
ويدل الفحص على أنه الجسم قد عبث به اللصوص إلى حد كبير، وعلى الرغم من أن الجسم قد صار هيكلًا عظميًّا يغطيه الجلد وحسب، فإن ما يُلاحظ من غلظ جلد البطن والخدين يدل على أن صاحبه كان بدينًا بعض الشيء. وقد نُظفت مقبرة هذا الفرعون في أوائل القرن العشرين على يد الأثري «كارتر»، وقد كشف عن غطاء تابوته تحت التراب في حجرة الدفن وهو الآن ظاهر للعيان في مكانه الأصلي. وقد حُفر قبره في أعماق الصخر إلى مسافة بعيدة، ويُشاهَد على عتب الباب قرص الشمس وفيه الجعران الذي يمثل الشمس عند الفجر، وصورة إنسان في هيئة كبش يمثل الشمس عند المغيب. كما تُشاهَد الإلهتان «إزيس» و«نفتيس» كل منهما على جانب من جانبي الباب، وبعد ذلك يهبط الإنسان في ممر منحدر انحدارًا عظيمًا، ويُرى على اليسار منظر ملون جميل يمثل الفرعون يتعبد للإله «حور-ماخت». وبعد ذلك بقليل نُقشت ثلاثة أسطر عمودية تحتوي على عنوان كتاب مديح «رع» الذي كُتب على هذا الجدار كاملًا، وبقيته على الجدار المقابل، وبعد ذلك تُشاهَد صورة رمزية لقرص الشمس يمر بين الأفقين. وفي القسم الثاني من الممر يُشاهَد على اليسار صورة الإلهة «إزيس» راكعة وبالقرب منها صورة ابن آوى (آنوب) إله الجبانة، وتحدث «إزيس» الفرعون بأنها تمد حمايتها عليه، وتمنح خيشوميه النفس، وعلى الجهة المقابلة على الجدار منظر مماثل للسابق، تأخذ فيه الإلهة «نفتيس» مكان «إزيس». وفي الممر الثالث نشاهد على اليمين صورة جميلة لسفينة الشمس تخترق العالم السفلي يجرها الآلهة، وعلى الجدار المقابل نشاهد سفينة الشمس ثانية وفيها يقف الإلهان «حور» و«ست»، ومن ثم نعلم أن «ست» في هذا العهد كان إلهًا طيبًا لا إله الشر كما هو معروف عنه. وبعد ذلك يلتوي الممر ويؤدي إلى حجرة مُثل على جدرانها ملائكة وآلهة من عالم الآخرة، فنشاهد على اليسار عند نهاية هذه الحجرة صورة الإله «أنوب» يقف أمامه اثنان من الملائكة الذين يخدمون «أوزير»، وعلى الجانب المقابل صورة «حور» حامي والدته، وأمامه الملكان الآخران.
ويمر الإنسان بعد ذلك في حجرة يستند سقفها على عمودين، وشمال الإنسان مباشرة يُشاهَد الفرعون أمام «أوزير»، وفوق الجدار المتصل بذلك تُلاحظ قطعة ضخمة من الظران ناتئة من السقف لم يهتم العمال بإزالتها، والحجرة التي على اليمين لم تتم بعد، ثم نصل بعد ذلك بوساطة السلم إلى الحجرة التي فيها غطاء التابوت العظيم المصنوع من الجرانيت، والظاهر أن هذا الغطاء لم يُنقل من مكانه إلى حجرة الدفن بل تُرك حيث هو لصعوبة نقله. وبعد ذلك يمر الإنسان في ممر إلى قاعة الدفن المهدمة تهديمًا شديدًا، وكان سقفها المقبب محمولًا على ثمانية عمد محطم معظمها الآن، والمناظر التي على جدران هذه الحجرة قد عُبث بها كثيرًا، ولكن الشيء الذي يلفت النظر فيها بصفة خاصة هو غطاء التابوت الداخلي الذي لا يزال موضوعًا في مكانه الأصلي، فقد كانت مومية الفرعون موضوعة في تابوت من الخشب وكان هذا التابوت داخل تابوت من الجرانيت لم يبقَ منه إلا الغطاء، وقد كان المقصود وضع هذا التابوت في آخر لا يزال غطاؤه يُرى في مكانه في حجرة أخرى كما أسلفنا، وتدل شواهد الأحوال على أنه لم يكن لدى العمال ما يكفي من الوقت للقيام بهذا العمل.
فلدينا قطعتان من الاستراكا عُثر عليهما في «وادي الملوك» نُقش عليهما متون خاصة بقبر هذا الفرعون، والاستعدادات التي اتخذت لتجهيزه في السنة السابعة من حكمه، أي السنة التي توفي بعدها الفرعون على حسب بعض الأقوال، وقد كُتبت كل منهما من الوجهين، غير أنه مما يؤسف له ضياع الجزء الأول من أسطر إحداها من الوجه، ونهاية الأسطر من الظهر، وقد أُرِّخت بالسنة السابعة الشهر الرابع من حكم «مرنبتاح»، ومما تبقى من نقوش هذه الاستراكا نعرف بعض أسماء المؤلفين الذين كانت لهم علاقة بإنجاز هذا القبر، ونخص بالذكر منهم «بانحسي» الوزير، و«ثاي» مدير المالية.
السنة السابعة الشهر الثالث من فصل الفيضان، اليوم الواحد والعشرون وهو اليوم الذي ذهب فيه مدير الخزانة «ثاي» … (٢) عند إغلاق حجرة الدفن لنداء العمال الذين كُتبت أسماؤهم في القائمة … (وقد أعطى) (٤) أربع عشرة جرة من الشراب لأيدي اﻟ … (٥) الاثنان والعشرون، وقد ذهب مدير الخزانة لأجل … (في السنة السابعة الشهر الرابع من فصل الصيف. اليوم الثاني عشر من الشهر، وفي هذا اليوم جرت التماثيل المقدسة إلى ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري «بان رع مري آمون» له الحياة والفلاح والصحة إلى مكانها في حضرة الوزير «بانحسي» (٧) (وفي اليوم الثالث عشر من الشهر الرابع) من فصل الصيف، في هذا اليوم ذهب الوزير «بانحسي» ولم يجد عمالًا في حجرة الدفن فقال: فلتُحمل إلى المصنع … قطعتان من الحجر لكي … (٩) وقال: فليؤت بالرؤساء مع … السنة السابعة اليوم الرابع والعشرون، الشهر الرابع من فصل الصيف. وفي هذا اليوم جاء إلى المصنع المشرف «رعمسو محب» والوزير «بانحسي» لكي يضعوا على المنزلق … لوازم التحنيط — اللفافات وغيرها من الأدوات اللازمة لتحنيط الجسم كالعطور ونحوه — الخاصة بالفرعون له الحياة والصحة والعافية في مكانها، وفي اليومين الرابع عشر والخامس عشر … أتى لإغلاق حجرة الدفن … وأمر الوزير «بانحسي» أن يكون العمال بالقرب منها.
السنة السابعة، اليوم الثالث من الشهر الثاني من فصل الفيضان، وفي هذا اليوم جاء الكاتب «انبو محب» ورئيس الشرطة «نخت مين» وقال رئيس الشرطة (المازوي) «حورا»: المقابر … (٣) فلترفع الحراس، ثم قال عن إرسال الفرعون (له الحياة والفلاح والصحة والعافية) مدير الخزانة «مريوبتاح» وكاتب بيت التحنيط «حوى» … فليذهبا إلى حيث مدخل الوادي لكي يستقبلوا صديق الفرعون (له الحياة والصحة والعافية) (٥) الشهر الثاني من فصل الفيضان. اليوم الرابع عشر، لم يكن قد أتى الوزير «بن سخمت» مع رجال الشرطة فأمر حراس القبور الملكية بالاستمرار في حراستها (٦) إلى أن يعلن قيام رجال الشرطة بذلك، وقد ذهب في اليوم السادس عشر من الشهر الثاني من فصل الفيضان مع الكاتب «حوى» …
(وبقية المتن مهشم).
والواقع أن آخر تاريخ لدينا على الآثار من حياة هذا الفرعون هو السنة الثامنة اليوم السابع والعشرون من الشهر الثالث من فصل الفيضان كما جاء على ورقة «بلوني» رقم ١٩٠٤ أي بعد ثلاثة وأربعين يومًا من التاريخ الذي نقرؤه على ظهر الاستراكا التي نحن بصددها الآن. وهذا يدل على أن الاستعداد لدفن الملك إذا صح أنه مات في العام الثامن من حكمه كان على وشك الانتهاء.
(٧-٢) معبد «مرنبتاح» الجنازي
تقع بقايا معبد «مرنبتاح» الجنازي في شمال معبد «أمنحتب الثالث» على حافة الصحراء. والظاهر أنه أقام هذا المعبد على مقربة من معبد «أمنحتب الثالث» عن قصد؛ لأن الفقر الذي كان ضاربًا أطنابه في البلاد بحالة مزعجة بعد أن أنهكها والده بإقامة مبانيه الضخمة في كل جهات القطر وخارجه؛ جعله يقيم معبده الجنازي في جوار معبد «أمنحتب الثالث» الفخم ليستعمل أحجاره في إقامة معبده، فهشم ما فيه من لوحات وتماثيل، وانتزع أحجاره وأقام بها معبده، وقد ظهر ذلك بصورة مشينة عندما أخذ لوحة «أمنحتب الثالث» العظيمة (راجع مصر القديمة ج٦) واستعمل ظهرها لنقش أنشودة انتصاراته العظيمة التي ذكر فيها مفاخره وما أحرزه من انتصارات على الأعداء وهي اللوحة المعروفة بلوحة بني إسرائيل، ويبلغ ارتفاعها نحو عشر أقدام، وعرضها خمس أقدام. وقد بالغ «مرنبتاح» في إسرافه في استعمال مواد معبد «أمنحتب الثالث» حتى إنه استعمل اللبنات في بناء معبده.
وقد قلد النظام الذي اتخذه والده في بناء معبده الجنازي وهو المعروف باسم الرمسيوم، غير أنه لفقره لم يبلغ به إلا نصف حجم معبد والده. ومن عظات التاريخ وسخرية القدر وانتقامه أن نرى «مرنبتاح» يخرب في معبد «أمنحتب الثالث» ويعبث به إلى هذا الحد، بيد أن ذلك ليس إلا مثلًا سبقه إليه «أمنحتب الثالث» نفسه، إذ قد أظهرت الكشوف الحديثة أنه ارتكب مثل هذه الجريمة مع أسلافه من فراعنة مصر، ولا أدل على ذلك من أن البوابة التي أقامها «أمنحتب الثالث» هذا في معبد الكرنك، وهي المعروفة الآن بالبوابة الثالثة قد حشى داخلها بأحجار معبدين من أجمل المعابد التي خلفها لنا الفراعنة. فالأول: للملك «سنوسرت الأول» أحد فراعنة الأسرة الثانية عشرة، والثاني: للملكة «حتشبسوت» من فراعنة الأسرة الثامنة عشرة (راجع ج٥). وقد وُجد لحسن الحظ معظم أحجارها وأُقيم واحد منها في جهة من الكرنك ثانية، والثاني وشيك أن قام هناك، وهكذا يكون انتقام التاريخ، وسنرى أن ما جناه «رعمسيس الثاني» على آثار غيره من الملوك قد جناه «مرنبتاح» ابنه على آثار والده وجده، وقد كانت هذه هي الحال في كل عصور التاريخ المصري.
(٨) آثار «مرنبتاح» الأخرى
رأينا أن نهاية عصر «رعمسيس الثاني» وما تم فيه من عمائر، وما أحدث فيه من فن كان ضئيلًا إلى حدٍّ بعيد! إذا ما قُرن بما أنجز من أعمال ضخمة في باكورة حكمه؛ ولذلك لما تولى ابنه «مرنبتاح» لم يجد إرثًا عظيمًا ينفق منه على إقامة المعابد والقصور كما فعل والده بادئ حكمه، ولذلك كان ما خلفه من مبانٍ عظيمة لا يكاد يذكر، وقد عوض ما فاته في هذا المضمار باغتصابه كل ما حلا في عينيه من آثار أسلافه، ولم يفلت منه والده ولا جده المباشر، وقد اتبع في ذلك طريقة وحشية خشنة تدل على انعدام الروح الفنية عنده وعند أولئك القوم الذين قاموا بتنفيذ تعليماته وخططه؛ فقد رأينا أنهم أخذوا ينقشون اسم «مرنبتاح» على كل أثر جميل بعد محو اسم صاحبه بصورة تزور عنها العين وتشمئز منها النفس، ويعافها الذوق السليم، ويأباها الفن الرفيع والوضيع معًا، فكم من تماثيل جميلة للملوك السالفين قد مُحي اسمها المنقوش نقشًا جميلًا، ثم كتب مكانها بحروف غليظة سمجة فجة اسم الفرعون «مرنبتاح» مما شوه الأثر وأضاع معالمه أحيانًا، وإن كان العلم الحديث قد استطاع إلى حد بعيد في كثير من الأحيان نسبة الآثار إلى أصحابها الأصليين بعد فحص دقيق، وتدل شواهد الأحوال على أن «مرنبتاح» أراد أن يقلد والده العظيم في تخليد ذكره على الآثار في كل مكان بأية طريقة ولذلك نجد اسمه على كل الآثار التي كانت باقية حتى عهده، فالأثر الذي لم يكن في استطاعته نسبته كله لنفسه كان ينقش اسمه عليه بجانب اسم صاحبه الأصلي أو المغتصب، إذ كثيرًا ما نشاهد والده قد اغتصب أثرًا من ملك سالف أو كتب اسمه عليه وحسب، ثم جاء من بعده «مرنبتاح» فمحا الاسمين ونقش اسمه، أو اكتفى بنقش اسمه وحده، ولذلك لا يدهش الإنسان عندما يرى اسم «مرنبتاح» في كل مكان أثري، وليس من عمل فيه إلا نقش اسمه. وسنذكر هنا الآثار التي قام بصنعها فعلًا، مفصلين القول فيها بقدر المستطاع، كما سننبه إلى الآثار التي اغتصبها من غيره أو اكتفى بكتابة اسمه عليها.
(٨-١) سرابة الخادم
(٨-٢) أبو قير
(٨-٣) الإسكندرية
(٨-٤) تانيس
- أولًا: تمثال «بو الهول»، وهو محفوظ الآن «باللوفر» (S. 23) نُقش عليه اسم «مرنبتاح» على الصدر والكتف، ويرجع عهده إلى الدولة الوسطى، وكان قد اغتصبه من قبل «سيتي الأول» فكتب اسمه على قاعدته وكتفه،٢٢١ وكذلك كتب اسمه على تمثال يمثل «بو الهول» وهو الآن «بمتحف القاهرة»، وقد نقش «سيآمون» على كتف التمثال الأيسر اسمه، كما كتب «سيتي الأول» اسمه على القاعدة.٢٢٢
- ثانيًا: ثلاثة تماثيل نقش عليها «مرنبتاح» اسمه، وكلها مغتصبة من
«سنوسرت الأول» واحد منها في «برلين» والآخران «بمتحف القاهرة»
وكلها من الجرانيت الأسود.٢٢٣ وكذلك وجد له في «صان الحجر» قاعدة تمثال ضخم من
الجرانيت الرمادي جالس اغتصبه من «سنوسرت الأول».٢٢٤ووجدت له قطعة من الحجر عليها اسمه، وقد استعملها ثانية «سيآمون» في محرابه الذي أقامه في «صان الحجر»،٢٢٥ ووجد له تمثال في «تانيس» أيضًا،٢٢٦ وكذلك قاعدة تمثال وقطع صغيرة من مجموعة تماثيل تمثل «مرنبتاح» بين الإله «بتاح» وإلهة،٢٢٧ وأخيرًا وُجد له قطعة جرانيت باسمه مثل فيها وهو يتعبد أمام الإله «نفرتم» وأمام الإله «حور» الممثل برأس صقر.٢٢٨
(٨-٥) نبيشه
(٨-٦) تل بسطة
(٨-٧) تل الربع: (منديس)
(٨-٨) تل المقدام
(٨-٩) تل أم حرب (أو تل مصطاي: بالقرب من محطة «قويسنا» (مديرية المنوفية))
(٩) كفر متبول (مركز كفر الشيخ)
يُوجد في قلب هذه القرية مجموعتان من التماثيل، ملقاتان على الأرض تمثل كل منهما الملك «مرنبتاح» واقفًا على قاعدة وبجانبه إله واقف أيضًا ويبلغ ارتفاع كبراهما حوالي خمسة وسبعين سنتيمترًا ومترين، وعرضها حوالي متر واثنين وعشرين سنتيمترًا ١٫٢٢، ولا يقل وزن كل منهما عن اثني عشر طنًّا، وقد كان أول من رآهما وكتب عنهما «أحمد بك كمال» عام ١٨٩٣م، وقد زار المكان الأثري «جوتييه» عام ١٩٢٢م ونقل نقوشهما ثانية ووصفهما، فقال عن المجموعة الكبيرة إنها ملقاة على الأرض على ظهرها، وإن الكتابة التي على الظهر لم يكن في استطاعته مراجعتها بدقة، ويظهر فيها الفرعون على اليمين مرتديًا «الكوفية» وقرص الشمس المحلى بالصل يعلوه عقاب منتشر الجناحين، وذراعه اليمنى مطوية على صدره، ويقبض بيده على رمز من رموز الملك لم تمكن رؤيته، على حين أن الذراع اليسرى مرسلة على فخذه، ويقبض على جريدة نخل، وهي رمز السنين العدة التي حباه بها الإله، وقد كُتب عليها نقش يدل على كثرة الأعياد الثلاثينية للملك في سلام … الخ، وعلى سرة الفرعون نُقش طغراؤه، وعلى يمينه الإله «رع» برأس إنسان، ولباس رأسه مثل لباس رأس الملك وعلى ظهر المجموعة كُتبت ستة أسطر، مقسمة قسمين أعلى كل منهما مجموعة آلهة، ظهر كل منهما للأخرى، وفي كل مجموعة ترى الإله «رع» أو «آتوم» جالسًا يقدم رمز الحياة «لحور» الذي يمثل الملك، والنقوش تحتوي على الصيغ العادية، والألقاب الفرعونية لهذا الملك. أما المجموعة الثانية فأقل حجمًا من السابقة وهي ملقاة على الأرض بظهرها.
(٩-١) بلبيس
(٩-٢) تل اليهودية
(٩-٣) هليوبوليس
(٩-٤) عرب الأطاولة
(٩-٥) قها
(٩-٦) أتر النبي
في عام ١٩٢٩ كشف «حمزة» بك عن تمثال مهشم للملك «مرنبتاح» لم يتبقَّ منه إلا الجزء الأسفل، ويمثل الفرعون راكعًا، قابضًا بين يديه على محراب صغير في داخله تمثال الإله «رع حور» برأس صقر، وعلى رأسه تاج مؤلف من قرص الشمس يكنفه ريشتان ويستند على قرنين، وعلى قمة المحراب صورة جعل مجسم يرمز به لإله الشمس «خبرى». وتدل تفاصيل قميص الفرعون وتفاصيل نعليه على فن جميل، ويبلغ طول التمثال حوالي متر، ومساحة قاعدته (٠٫٣٣ × ٠٫٥٧٥ مترًا) وقد كتب على واجهة المحراب لقبه الحوري وهو: «حور الثور القوي المبتهج بالعدالة»، ونُقش كذلك على مصراع المحراب الأيسر ألقابه المعروفة وهي: «المنسوب للإلهتين المشرق مثل «بتاح» في مقر مئات آلاف السنين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بان رع مري نترو» (روح «رع» محبوب الآلهة) ابن «رع» «مرنبتاح» «حتب حرماعت» (محبوب «بتاح» المنشرح بالعدالة) محبوب «حعبي» (النيل) والد الآلهة.»
وعلى المصراع الأيمن نجد لقب «حور» الذهبي للفرعون، وهو: «حور الذهبي الذي يجعل مصر عظيمة …» — وهذا اللقب الخاص بحور الذهبي ليس له نظير في النقوش التي كشف عنها حتى الآن — ملك الوجه البحري … الخ.
وعلى الجانب الأيسر للمحراب نُقشت طغراء الفرعون يسبقها بعض نعوته. وعلى جانب المحراب الأيمن نقوش تماثل التي على الجانب الأيسر. وكذلك على ظهر العمود الذي يرتكز عليه تمثال الفرعون نُقشت طغراؤه وألقاب مماثلة.
ملك الوجه القبلي والوجه البحري، والده «حعبي» (النيل) محبوب الآلهة … الخ.
وعلى قمة المحراب جعل كبير مجسم وهو رمز إله الشمس «خبرى» يكنفه طغراءان، والمهم في ذلك كله هو صورة الجعل الذي على قمة المحراب، وصورة الإله «رع حور» التي في داخله؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى المكان الذي وُجد فيه هذا التمثال الممثل بهذه الصورة الغريبة في بابها.
وإذا فحصنا عن هيئة التمثال والصورة الداخلية للمحراب والجعران الذي على قمته اتضح لنا جليًّا أن «مرنبتاح» كان قد قدمه في معبد من معابد الشمس، ولا بد أن المكان الذي وجد فيه وهو «أتر النبي» هو موضعه الأصلي؛ وتحتم شواهد الأحوال وجود معبد في هذا المكان للإله «آتوم» أقدم الآلهة الشمسية في منطقة «عين شمس»، وهذا الإله كان يوحد بإله الشمس «رع حور» الذي وُجدت صورته في قلب المحراب.
وقد حدث أن الأستاذ «جولنشف» زار هذا الموقع الذي وجد بجواره التمثال عام ١٨٨٩م، ورأى في مكان «الجنابية» القريبة من سكة الحديد بالقرب من المكان الذي وجد فيه التمثال بقايا لتمثال «بو لهول» بدون رأس (وبو لهول هو رمز الشمس) من الجرانيت الأحمر؛ وعليه طغراء الملك «أحمس الثاني» أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين كما وُجد كذلك قطع من الحجر الجيري عليها نقوش في نفس الجهة، وقد قال عنها ما يأتي: «وكل هذه البقايا الأثرية الخاصة بمبنًى قديم قد وُجدت عند سفح تلٍّ صخري ذي نتوء متجه نحو وادي النيل، ولا بد أن هذا المبنى القديم كان يستند على هذا النتوء، بل من الجائز أن هذا النتوء الصخري كان يؤلف جزءًا من المعبد الذي كان فيه تمثال «بو لهول» وقطع الأحجار الجيرية السالفة الذكر.»
والواقع أن كشف هذا التمثال في «أتر النبي» في المكان الذي عثر فيه «جولنشف» على الآثار التي ذكرناها قد ألقى بعض الضوء على مكان المعبد الذي زاره «بعنخي» وهو الذي زخرفه فيما بعد الفرعون «أحمس الثاني»، وبعبارة أخرى يمكن أن نقول إن «أتر النبي» هو موقع «خرعحا» القديمة على وجه التأكيد؛ وكذلك معبد «بربسزت» حيث كانت معابد «آتوم» والتاسوع، وكذلك مكان الكهف. ولا نزاع في أن المحراب الذي يشمل في داخله صورة الإله «رع حور» وصورة الإله «خبرى» رمز الإله «رع» على قمته يجعل من الواضح أننا أمام موقع معبد لإله الشمس قد أهدى له التمثال الذي نحن بصدده الآن، وأن هذا المعبد هو كما ذكرنا معبد «آتوم» الذي زاره «بعنخي». وتدل الأحوال على أن معبدي «خرعحا» و«بربسزت» كانا موجودين قبل عهد «مرنبتاح»، كما تدل على ذلك لوحة «رعمسيس الثاني» المؤرخة بالسنة الثامنة من حكمه (راجع مصر القديمة ج٦). وقد جاء فيها: إن «رعمسيس» كان يتنزه في صحراء «هليوبوليس» جنوبي معبد «رع» وشمالي معبد التاسوع، وأمام معبد «حتحور» سيدة الجبل الأحمر. ولهذه التوضيحات الجغرافية أهمية عظيمة؛ لأنها تحدد لنا مكان معبد التاسوع بالنسبة لمعبد «رع» في «هليوبوليس». إذ تدل على ما يظهر على أن «رعمسيس» كان يتنزه في طريق هام معروف يربط «هليوبوليس» ببلاد المقاطعة الهليوبوليتية على الشاطئ الشرقي للنيل بما في ذلك «خرعحا» و«بربسزت» وهما اللذان زارهما «بعنخي».
(٩-٧) منف
(٩-٨) قصر مرنبتاح
(٩-٩) أهناسية المدينة
(٩-١٠) كوم العقارب
(٩-١١) الأشمونين
وقد عُثر على هذا التمثال أمام المعبد الذي كشف عنه فيما بعد «شعبان أفندي»، وتدل النقوش التي عليه على أنه كان قد اشترك في بنائه عدد من ملوك الأسرة التاسعة عشرة.
(٩-١٢) محاجر تل العمارنة
(٩-١٣) السريرية
(٩-١٤) العرابة المدفونة
(٩-١٥) طوخ (نبت)
(٩-١٦) معبد الأوزريون
(راجع مصر القديمة ج٦): تحدثنا عن هذا المبنى العجيب في الجزء السادس، وقلنا إن معظم النقوش فيه ترجع إلى عهد «مرنبتاح»، وتحوي فصولًا من كتاب البوابات، وكتاب ما في العالم السفلي، و«كتاب الموتى».
(٩-١٧) معبد سيتي
(٩-١٨) دندرة
(٩-١٩) المدمود
(٩-٢٠) «طيبة» (الكرنك) معبد منتو
وفي الجزء الأوسط من معبد الكرنك نجد «مرنبتاح» مصورًا في صفين يقدم الأزهار «لآمون» و«امنت»، وكذلك أمام «آمون رع».
(٩-٢١) الأقصر
(٩-٢٢) معبد الدير البحري
(٩-٢٣) أرمنت
كانت علاقة «مرنبتاح» «بأرمنت» ومعبدها وثيقة، فقد أصلح سلسلة التماثيل الأوزيرية الشكل التي وُجدت في ردهات المعبد، كما أضاف اسمه على البرج.
(٩-٢٤) السلسلة
وعلى الجدار الجنوبي نشاهد في الصف الأعلى الملك يقرب القربان «لرعمسيس الثاني» ولإلهين، وفي الصف الثاني يقرب للآلهة «أنحور» و«تفنوت» و«جب»، وفي الصف الثالث تقدم الملكة «است نفرت» للآلهة «تاورت» و«تحوت» و«نوت»، وفي الصف الرابع نشاهد صورتين لإله النيل «حعبي» ثانية.
(٩-٢٥) أسوان
(٩-٢٦) بلاد النوبة
(٩-٢٧) عمارة غرب
- (١) جذع تمثال بدون رأس موجود الآن بمجموعة «مرى كوفر». (راجع Weidemann, Gesch. 497).
- (٢) قاعدة تمثال في متحف تورين. (راجع Lanzone, Catalogue Turin 1382).
- (٣) قطعة من تمثال في متحف كوبنهاجن. (راجع Schmidt Musee de’Copenhgne, 19).
- (٤) لوحة يقدم فيها أسرى للإله «بتاح» محفوظة الآن بمتحف فلورنس. (راجع Schiaparelli, Catalogue, Florence 1601).
- (٥) تمثال «بو لهول» باسم «مرنبتاح» من الجرانيت الأحمر بمتحف باريس. (راجع De Rouge Mon. Egyptien du Louvre, 23).
- (٦) ذكر الأستاذ «جاردنر» عدة تماثيل اغتصبها هذا الفرعون وقد كتب عليها أنه محبوب الإله «ست» سيد «أواريس»، ونخص بالذكر منها تمثالًا ضخمًا يوجد الآن بمتحف برلين، اغتصبه من «أمنمحات الثالث». (راجع J. E. A. vol 5 p. 255).
(١٠) أسرة مرنبتاح
لم يُعرف حتى الآن زوجة للفرعون «مرنبتاح» غير الملكة «إست نفرت»، يُحتمل أنها التاسعة في ترتيب أولاد «رعمسيس الثاني» وقد ذكر اسمها على لوحات السلسلة وكانت تُلقب ربة الأرضين، وهذا يدل على أنها كانت الوارثة للملك.
(١١) عبادة مرنبتاح
(١٢) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد «مرنبتاح»
(١٢-١) الوزراء في عهد مرنبتاح
(أ) وسرمنتو
كان «وسرمنتو» من أسرة عريقة في المجد يرجع عهدها إلى حكم الفرعون «رعمسيس الثاني» فقد كان والده يشغل وظيفة الكاهن الأول لمقبرة الفرعون «تحتمس الثالث» ويُدعى «خنسو»، وقد تزوج من خمس نساء رزق منهن بأسرة كبيرة العدد، كانت كلها تشغل وظائف هامة في الدولة (راجع مصر القديمة ج٦). وقد أنجبت زوجه «معيا» التي كانت تحمل لقب مغنية «آمون» «وسرمنتو» وكان يحمل لقب الأمير الوراثي، وحاكم المدينة، ولا نعلم عنه شيئًا غير ذلك.
(ب) بانحسي
وقد جاء ذكر هذا الوزير على الاستراكا التي تحدثنا عن أعماله في حفر مقبرة الفرعون «مرنبتاح» وتجهيزها بالأثاث وما يلزم من مواد لعملية التحنيط.
(١٢-٢) الكهنة في عهد «مرنبتاح»
يدل ما لدينا من نقوش على أن «رومع روى» كان يقوم بدور الكاهن الأول للإله «آمون» في عهد الفرعون «مرنبتاح» كما فصلنا القول في ذلك (راجع ج٦ مصر القديمة).
(أ) «أنحورمس» الكاهن الأكبر للإله «أنحور»
يُعد تاريخ «أنحورمس» بمثابة واحة من الواحات التي نصادفها في وسط مجاهل التاريخ المصري القاحل في كثير من نواحيه، وسنرى أن حياته تكشف لنا عن صفحة مجيدة من شئون هذا العهد المختلفة.
موقع قبره وأهميته
الكاتب الملكي وكاتب المجندين لرب الأرضين، والكاهن أعظم الرائين «لرع» في «طينة»، ورئيس الحجرة للإلهين «شو» و«تفنوت»، والكاهن الأكبر للإله «أنحور»، «أنحورمس» المرحوم، والذي يرجو لسيده الملك «مرنبتاح» الأعياد الثلاثينية والصحة، رب التيجان، معطي الحياة مثل «رع» أبديًّا يقول: لقد كنت الطفل النبيه عند الفطام، والمستقيم صبيًّا، والمدرب غلامًا، العارف فقيرًا. وكنت مسكينًا فأجيء في الفصل دون مخالفة، وكنت إنسانًا ألاحظ وأجيد «الحل»، وكنت محبوبًا من سيده «الفرعون» ومفيد الآلهة دون أن يمل قلبي العمل على نفعهما، وكنت يقظًا للسفينة فلم تسمح لي بأي نوم، وكان في استطاعة الحراس أن يناموا بسببي، وكنت شجاعًا في البر دون أن يصيبني إعياء وقطعت فيه مسافات عديدة إنسانًا يمشي على الأرض، وكنت كاتب الفرسان المجندين الذين يخطئهم العد ولا يقدر إنسان أن يحصيهم، وكنت ترجمانًا لكل أرض أجنبية لسيدي، وكاتبًا قويًّا في خدمته، وكان سيدي يخاطبني أمام الأرض قاطبة ممتدحًا، وكنت محظوظًا أمام الملك بسبب الاستشارات اليومية وبسبب إطرائه لي، ولذلك كان الرفاق يقولون: «ما أعظم حظوتك» وكنت إنسانًا نشأه قومه وحماه أتباعه منذ جعل الملك مكانتي قوية باختياري نديمًا له، وكنت كاهنًا وحاجبًا ملكيًّا للإله «شو» ملأت بيت ماله، وكنت مشرفًا على مخازن غلاله التي جعلتها طافحة بالغلال، وكنت نافعًا لبيت الإله، وقويًّا في الحقل … والناس الذين خُلقوا من أجل «شو». وكنت منتبهًا ومستعدًّا في كل يوم لخدمة سيدي، وكنت مفيد الرأي للآلهة و… على رأس (المجلس)، وكنت إنسانًا يسير على طريقة الإله دون اعتداء على «قوانينه»، وكنت امرأ ينحني عندما يدخل قدس الأقدس، وامتدح الإله مرات لا عداد لها، وكنت …
تعليق
-
طفولة «أنحورمس» ومدة دراسته: إن التقرير الذي قدمه لنا «أنحورمس» عن سني حياته الأولى
غريب في تعبيراته؛ فقد ذكر لنا أدوار مدة رضاعه حتى فطامه، ثم
تكلم عن حياته وهو طفل صغير فغلام، وكذلك تحدث لنا حتى عن فقره
في صباه، أي إنه كان رجلًا لا وظيفة له ولا دخل يستولي عليه.
والواقع أن افتخار القوم بالعدم كان من الأمور المألوفة التي
جرى عليها العرف في عهد «تل العمارنة»، فكان موضع فخر لأولئك
الذين وصلوا إلى مكانة عالية بعد فقر مدقع. فقد كنا نسمع في
هذا العهد كثيرًا أنه مما يفخر به الرجال الذين كانوا بجانب
الفرعون وقاموا له بأعظم الخدمات أنهم من أصل وضيع، وأنهم
نالوا ما نالوه من رفعة ومكانة بجدهم واستقامتهم في خدمة
الفرعون بما لهم من شخصية. ولدينا أمثلة ناطقة تحدثنا بذلك،
وأهم ما يلفت النظر من أولئك: حامل المروحة على يمين الملك
وكتاب الفرعون وكاتب المجندين والقائد «معي» (راجع الجزء
الخامس) حيث يقول: كنت رجلًا وضيع الأصل أبًا وأمًّا، ولكن
الأمير وطد مكانتي فقد جعلني أعظم … بفيضه عندما كنت رجلًا لا
أملك شيئًا … الخ. وفي عهد الرعامسة الأول نجد مثالًا لذلك في
كتابة رسام على لوحة محفوظة الآن في «ليدن Lyden VI» حيث لم يستعمل فيها
كلمة «نمح» الدالة على الفقر في الأصل كما هي الحال في عهد
العمارنة، بل استعمل الكلمة الكلاسيكية «حورو» (فقير الحال)، فيقول:
لقد كنت إنسانًا فقير الحال من جهة أسرته وصغيرًا في قريته، ولكن سيد البلاد قد تعرف عليَّ … ورفعني على الندماء.
ومما يجذب النظر في العلاقة بين هاتين الحالتين: حالة «انحورمس» وحالة الرسام أن الأب في كل من الحالتين كان يشغل وظيفة مماثلة للتي كان يشغلها الابن، فقد كان والد «انحورمس» المسمى «بن نب» يشغل وظيفة كاتب المجندين لرب الأرضين مثل الابن، وأن والد المفتن المذكور كان حفارًا مثل والده.
ولكن مما لا نزاع فيه أننا بدأنا نجد في عهد الدولة الحديثة خروجًا عن العادة المعروفة التي كانت تخول للولد أن يرث والده في وظيفته أو عمله، وذلك عندما ظهر أفراد أخذوا يثيرون شخصيتهم ويخلعون عن أنفسهم قيود هذا التقليد الأعمى ويشقون طريقهم في الحياة كل على حسب استعداده وما أوتي من قوة وعزيمة ونفس طموح وشخصية ممتازة، وقد تحدثنا عن ظهور الفرد وشخصيته في مثل هذه الأحوال، وبخاصة عندما أخذ يناجي ربه ويظهر ورعه بشخصيته لا بالتعاليم التي ورثها عن آبائه وأجداده (راجع مصر القديمة ج٦).
-
حياته الحربية: تدل شواهد الأحوال على أن مدة خدمة «أنحورمس» في الجيش يقع
معظمها في عهد «رعمسيس الثاني» وهذا فضلًا عن خدمته في مدة
«مرنبتاح» التي لم تتجاوز عشرة الأعوام.
وقد كانت وظيفته الرئيسية «كاتب المجندين الملكي لرب الأرضين»، ومن ترجمته لنفسه يمكننا أن نعرف الخطوات الأولى التي خطاها نحو العلا؛ فقد كان في بادئ الأمر يعمل في الأسطول في وظيفة ثانوية، إذ كان يعمل بوصفه مشرفًا على المجدفين، ثم ترك هذه الوظيفة واشتغل في الجيش البري، ثم تنقل فيه في أماكن عدة وأخيرًا ارتقى إلى وظيفة «كاتب مجندين» — وعلى ذلك لم يعد بعد جندي ميدان — لجنود عربات الحراس الخاص. وهناك قام بخدمات خاصة؛ إذ كان يعمل في جيش «مرنبتاح» الذي حارب اللوبيين وأقوام البحار، وكذلك عمل ترجمانًا في «فلسطين» وغيرها، وقد كانت خدماته المتصلة، والوظائف التي تقلب فيها نحو المجد سببًا في لفت أنظار الفرعون إليه وجعله ممتدحًا أمام الأرض كلها من شرفة قصره كما كانت العادة. هذا إلى أنه رفعه إلى رتبة «نديم».
وفي ترجمة حياته لنفسه يذكر لنا قبل تقلده وظيفة الكهانة أنه كان «كاتب مجندين»، ونحن نعلم من تراجم حياة أفراد آخرين عدة أن وظيفة «كاتب مجندين» كانت ذات أهمية عظمى، وأن حاملها كان يعد من أقرب المقربين إلى الفرعون، وسنذكر فقط على سبيل المثال «أمنحتب بن حبو» الشهير الذي شغل هذه الوظيفة في عهد «أمنحتب الثالث» (راجع مصر القديمة ج٥)، والواقع أن «أنحورمس» كان يحمل أرفع ألقاب الدولة على حسب ترتيبها المعتاد، فكان يلقب «بالأمير الوراثي، والحاكم، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد»، هذا فضلًا عن أنه كان يُنعت «عين ملك الوجه القبلي، وأذني ملك الوجه البحري، والكاهن والد الإله المحبوب، ومن يملأ قلب سيد الأرضين.»
ومن المعلوم أن الموظفين الحربيين ورؤساءهم كانوا في وقت السلم يكلفون بالأعمال المدنية العادية، ومن الجائز أن «أنحورمس» كان قد كُلف من قبل «رعمسيس الثاني» ومن بعده ابنه «مرنبتاح» بالقيام بتجديد معبد «نجع المشايخ»؛ ولذلك كان يُلقب «الذي يملأ قلب سيد الأرضين، ومدير الأعمال على كل آثاره.»٢٩٦والظاهر أنه كان ذا علاقة وثيقة بالفرعون «مرنبتاح»؛ نعلم ذلك من بداية الترجمة لنفسه وهو: «الذي يتمنى لسيده أعيادًا ثلاثينية وصحة.»
ومثل هذه التعبيرات نصادفها كثيرًا في تراجم كهنة «آمون» في عهد الأسرة الثانية والعشرين «بالكرنك». فمثلًا نجد أن الرجل الذي يحمل النعوت: «عيني ملك الوجه القبلي في الكرنك» و«لسان ملك الوجه البحري» يتبع ذلك بذكر: «الذي يتمنى أعيادًا ثلاثينية لسيده بجانب الآلهة التي في هذه الأرض.»٢٩٧ويظهر ذلك جليًّا فيما يقوله كاهن آخر من كهنة «آمون» في نفس العصر:٢٩٨لقد قدمت إلى القصر في عيد تتويج الملك طاقة حملتها للفرعون من «طيبة» وتمنيت لرب الأرضين أعيادًا ثلاثينية.٢٩٩ ولا بد إذن أن هذا الرجل كان عضوًا في حفلة تتويج الملك في «منف» ضمن الكهنة الذين اجتمعوا من كل أنحاء البلاد حاملين طاقات الأزهار التي تحمل السعادة في طياتها من معبد «آمون» ليقدموها إلى الفرعون.وكذلك كانت الحال مع «أنحورمس» فلا بد أنه فكَّر في أن يقدم للفرعون طاقة أزهار لمناسبة عيد تتويجه أو لمناسبة أخرى، كما شاهدنا عظماء القوم يقدمون طاقات الأزهار إلى «سيتي الأول» حينما عاد منتصرًا من «سوريا» (راجع مصر القديمة ج٦)، وقد يجوز أن الفرعون كان يقوم في هذه الحالة بزيارة إلى «طينة» تلك المدينة المقدسة من قديم الزمان.
-
مجال حياته في الكهانة: ليس لدينا في ترجمة حياة «أنحورمس» ما يدل على أنه بعد أن
ختم حياته في سلك الوظائف الحربية قد أصبح كاهنًا إلا فقرة
مهشمة، ومع ذلك فإن فيها ما يكفي. ولدينا هنا برهان لا يتطرق
إليه الشك في وجود وظيفة كهانة في معابد البلاد كانت تعطي
معاشًا للموظفين الذين تقدمت بهم السن، وكان أول ظهور هذه
الوظيفة في عهد الرعامسة، ولكي نحكم على «أنحورمس» في تقلده
هذه الوظيفة يجب أن نعرف إذا كان لوالده أو لأمه أي حق في تقلد
وظيفة دينية في «طينة» ومثل هذا الادعاء في أحقية وراثة هذه
الوظيفة قد لعب دورًا حاسمًا في مصير أسرة «بنيتز» في «الهيبا»
في العهد الساوي.
وقد تحدثنا قبل (انظر مصر القديمة ج٦) عن أسرة في عهد الأسرة التاسعة عشرة شغل أفرادها منصب «الكاهن الأول» للإله «أنحور» مع وظائف أخرى ثانوية مدة أجيال عدة، ولا نعلم أية علاقة للكاهنين «حورا» و«منمس» وعلاقتهما بالكاهن «أنحورمس». ولا يمكن أن نقطع في الواقع إذا كان من باب الصدفة توافق اسمه «أنحورمس» مع اسم إله «طينة» الأكبر المسمى «أنحور» أم لا، وبخاصة أن «مرنبتاح» قد دعاه للقيام بإنجاز أعمال لهذا الإله، هذا على الرغم من أن والده «بن نب» لا يحمل على تمثاله المحفوظ «بمتحف القاهرة» أي لقب كهانة (رقم ١١٣٦).
وقد كان الكاهن الأكبر لهذا الإله في عهد «رعمسيس الثاني» هو «منمس». وتدل شواهد الأحوال على أن «أنحورمس» كان رجلًا حديث العهد «بطينة» جيء به في عهد «مرنبتاح» ليشغل هذه الوظيفة، ولا نزاع في أنه عاش قبل ذلك العهد مع أسرته في «طيبة» وقد تزوج من اثنتين. ولدينا له في معبد «نجع المشايخ» تماثيل مثل عليها معها (القاهرة رقم ١٠٩٣)، وقد كانت إحداهما تُدعى «تاورت حتب» وتُلقب «ربة البيت» زوجته الأولى. وكانت كل من زوجتيه سواء أكانت المتوفاة أم التي مُثلت معه في مقبرته «بنجع المشايخ» وهي التي تُدعى «ربة البيت» «سخمت نفرت» — تحمل لقب «مغنية آمون» ملك الآلهة أو «آمون رع» سيد «الكرنك».
وقد نالت «سخمت نفرت» زوجه لقب «رئيسة» حريم الإله «أنحور»، وهذا اللقب كان يحمله نساء وكهنة «أنحور» العظام، غير أن «أنحورمس» نفسه كان يحمل لقب الكهانة: صاحب اليدين الطاهرتين أمام «آمون رع»، ملك الآلهة في العاصمة الجنوبية. ويدلنا على العلاقة الوثيقة التي كانت بين «طيبة» و«أنحورمس» — وبخاصة المدينة الغربية — ما نشاهده في تمثاله الراكع (رقم ٥٨٢)، إذ يحمل محرابًا فيه صورة الملك «أمنحتب الأول» المعروف بأنه الإله الحامي «لطيبة الغربية». والواقع أن «أنحورمس» كان قد ترعرع في «طيبة» وتزوج هناك، ومن المحتمل أنه قام بأول خدمة كهانة فيها في عيد الوادي، وتدل الآثار على أن وظائف الكهانة في معبد «آمون» «بطيبة» كان يشغلها بعض رجال البلاط في عهد ملوك «اللوبيين» في الأسرة الواحدة والعشرين.٣٠٠وقد كان من نتائج الحكومة اللاهوتية التي كان فيها الإله هو المسيطر الوحيد على أقدار البلاد أن وجدنا علاقات أخرى له بالكهنة، ومن المهم هنا أن نعرف شيئًا عن كيفية تغذية الموظفين الحربيين في عهد الرعامسة.
وورقة «هاريس» الكبرى تقدم لنا في هذا الصدد أمثلة كثيرة من عهد «رعمسيس الثالث» لم يلتفت إليها أحد حتى الآن أو كان قد أُسيء فهمها من قبل؛ فنقرأ في قوائم الهبات لمعابد الأقاليم التصريح التالي: «بيت رعمسيس» في ضيعة الإله «مين» صاحب «إبو» (أخميم) يقول «إنشفنو» مدير البيت — كان فيما مضى قائدًا٣٠١ — وفي ضياع معبد «وبوات» إله «أسيوط» نجد كذلك اثنين من القواد يعيشان من ضياع هذا المعبد وهما: «تحوت محب» و«إنشفنو» السالف الذكر، وقد فهم «شادل» المعنى المقصود من ذلك بأنهما كانا يعيشان من هبات الملك الحاكم «رعمسيس الثالث». ومن ثم نفهم أن مثل هذا القائد المسمى «إنشفنو» كان من الممكن أن يجمع بين وظائف أخرى هامة غير وظيفة «مدير البيت» التي كان يتقلدها، وإذا قرنا ذلك بحالة «أنحورمس» فإن وظيفة الإشراف التي كان من المحتمل أنه يشغلها في عهد كل من «رعمسيس الثاني» و«مرنبتاح» في إقامة المباني الجديدة في «نجع المشايخ» تكون مماثلة لذلك. ولا نزاع في أن تعيينه في وظيفة الكاهن الأكبر للإله «أنحور» صاحب «طينة» وكذلك تقليده منصب «المشرف على كل الكهنة في طيبة» يؤكد ذلك أو يتفق مع ما نقول إلى حد بعيد.وتدل شواهد الأمور على أن الطريقة في ملء وظيفة الكهانة في المعابد الرئيسية في عهد الرعامسة كانت تجري على حسب القاعدة القديمة الأصلية المبنية على توارث «وظيفة الكهانة» على وجه عام على شريطة أن يكون أمر الاختيار موكولًا إلى الإله نفسه، وهذا نفس ما حدث في اختيار «نب وننف» في عهد «رعمسيس الثاني» عندما انتخب رئيسًا لكهنة «آمون» في «الكرنك». وقد كان من الطبيعي أن يسلم المرء بوجهة النظر بأن كل عظماء بيته من أصغر موظف إلى القائد الأعلى في الجيش بما لهم من مكانة ومستقبل كانوا أهلًا لملء وظائف الكهانة، وأن يتقلدوا كل وظائف الكهانة الثانوية دائمًا، ومن جهة أخرى كان المنتظر إذن من الفرعون الذي يعين الكهنة للإله كما جاء في لوحة الإصلاح أن ينتخب الكاهن المطهر والكاهن خادم الإله حتمًا من أولاد أشراف، وأن يكون كل منهما ابن رجل معروف المكانة، وقد ذكرنا من قبل أن عهد «اخناتون» كان على نقيض هذه الفكرة، وأنه ترك المجال لكل شخص على حسب ما تؤهله له مواهبه الشخصية، وبذلك فتح طريق الرقي أمام كل فرد ذي مقدرة وفطنة، وقد كان «أنحورمس» يعمل على محو هذه الفكرة التي كانت لا تزال باقية في عهد «مرنبتاح»، فقد نال مركزه الديني فقط بما أظهره من إخلاص وتفانٍ للإله؛ ولما كان في الأصل من بيت فقير فإنه لم يكن له الحق في أن يُحتسب له معاش مثل أولئك الذين ورثوا الوظائف التي تخول لهم حق التمتع بمرتب دائم. وقد كان هذا الإجراء صحيحًا في دائرة ضيقة، والواقع أن القبول في المدارس التي كانت تعد الأفراد للوظائف الكبيرة كان لها شروط معلومة، وبخاصة من حيث مركز الوالدين، وبقيت هذه الحال كذلك إلى أن اتسعت دائرة حق التعليم لرجال الجيش وجنوده في عهد الدولة الحديثة عندما كان لرجال الجندية شأن يُذكر، ولكن على مر الأزمان وتغير الأفكار وتفاوت الطبقات بخاصة في العصور المتأخرة نشأت هذه الفروق الاجتماعية، وفاضلت بين طبقات الشعب، وقد ظهرت جليًّا عند التعيين في وظائف الكهنة، فكانت القيود القديمة من حيث الحسب والنسب لا بد منها، ولا أدل على ذلك من المثل الذي ذُكر في تقرير الطبيب العالم المسمى «وزاحور رسنت» عندما أراد أن ينشئ مؤسسة جديدة للطب في «سايس» في حكم «دارا الأول» ملك الفرس الذي فتح مصر إذ يقول: «إني أضع أساسها وكل تلاميذها من أولاد رجالٍ معروفين، فلا يكون فيها ابن فقير.» ومن ذلك نعلم أن التقديرات الرسمية لم تكن وحدها في مختلف الأوقات المتغلبة على ما يجب أن يكون، بل كان من البداهة أن نجد مستلزمات الحكم يكون لها القول الفصل بصفة بارزة، فنجد أنه كان بطبيعة الحال في أوقات الحرب؛ من المحتم أن ينظر نظرة خاصة لمعاش الجنود الذين قضوا زهرة شبابهم في خدمة البلاد للدفاع عنها.
وفضلًا عن ذلك نرى أن الكاتب. على الرغم من أنه كان يمجد صناعته ويرفع من قدرها في عهد الدولة الحديثة؛ كانت الوظائف الحربية ووظائف الكهانة في رأيه ليست بعيدة عن وظيفته في قدرها وخطرها، حتى إنه عندما كان يدخل في خدمة المعبد يشعر بضيق داخلي في نفسه، وكانت هذه هي الحالة حقًّا كما نعلم من مجال حياة الكاهن الأكبر «باكنخنسو» في عهد «رعمسيس الثاني»، فقد كانت العادة الجارية آنئذ أن أبناء الكهنة بعد تمضية المرحلة الأولى من تعليم المدرسة؛ يقومون بتأدية خدمة حربية إلى حين. ويُلاحظ ذلك بوجه خاص مدة الحرب كما حدث في حالة خاصة معروفة اضطرت الشبان من الكهنة أن ينخرطوا في خدمة الجيش، كما يدل على ذلك عهد «مرنبتاح»، وقد كان لذلك تأثير لا بأس به، والواقع أنه من مثل هذه الأدوار المحددة يمكننا القول بأن معظم الكهنة ذوي الزعامة في أواخر عهد الرعامسة كانوا في الأصل موظفين.
وقد أشرنا قبل إلى مستقبل «حرحور» وسلفه «أمنحتب بن حبو».
وقد أبرز لنا «أنحورمس» في ترجمته لنفسه بوجه خاص إدارته لأموال معبد الإله «أنحور»؛ فقد ملأ خزانته، وجعل مخازن غلاله ملأى بالحبوب بوصفه «المشرف على المخازن». ولا نزاع في أن بيت المال ومخازن الغلال كانتا الإدارتين الاقتصاديتين اللتين يعتمد عليهما أمر المعبد وحسن سير الأمور فيه، وكذلك نجد الحال عند تنصيب «نب وننف» الذي كان عمله حتى لحظة تعيينه قاصرًا على الإشراف على كهنة الآلهة كلهم في الجنوب حتى «حراي حر-آمون» (طيبة الغربية) وشمالًا حتى «طينة»، فإن الملك قد نزل عن هاتين الإدارتين لكاهن «آمون» الأكبر الجديد، وقد ذكر صراحة؛ إذ يقول الملك له: «إنك الكاهن الأكبر «لآمون» وخزانة ماليته، وقد أصبحت تحت خاتمك مخازن غلاله.» (راجع مصر القديمة ج٦).
ويشير أحد ألقاب «أنحورمس» الأخرى إلى إدارة أموال المعبد، وهو المشرف على مخازن غلال «أنحور»، وكذلك اللقب النادر: «المشرف على قرى الباب الكبير» (القصر) التابعة للإله «شو» بن «رع» في الوجهين القبلي والبحري. ومن ثم نعلم أن الكاهن الأول للإله «أنحور» كان القيم على ضياع «شو أنحور» في قرى القطرين جميعًا، وكانت هذه الضياع بدورها تحت إدارة «مدير بيت» محلي. وقد كان «أنحورمس» بوصفه أكبر كاهن في دائرة هذا الإله يحمل لقب المشرف على كهنة آلهة «طينه» كلهم أي مقاطعة «تاور» وما تحتويه من قرًى وبلدان وبخاصة «نجع المشايخ».
وقد كان امتداد «الأبراشية» أو المقاطعة، يختلف في حدوده على حسب شخصية الكاهن الذي يديرها، وكان ذلك بطبيعة الحال وقفًا على إدارة الفرعون.
ففي أوائل حكم «رعمسيس الثاني» مثلًا كان تحت إدارة «نب وننف» الذائع الصيت بوصفه رئيس كهنة هذه الجهة كل الإقليم الذي على الشاطئ الأيمن من «طينة» حتى «طيبة». وتشعرنا ألقاب أسرة كهنة «أوزير» في «العرابة» في عهد «رعمسيس الثاني» أن دائرة نفوذ مقاطعة «طينة» التابعة للعرابة لم تكن تحت إدارة الكاهن الأكبر للإله «أنحور» — إله «طينة»؛ وقد وصل إلينا من مقاطعة «طينة» في عهد «تحتمس الثالث» — وتلك حالة خاصة نوَّه عنها صراحة — أن الفرعون قد كلف كاهنها الأكبر للإله، «أوزير» صاحب «العرابة» بالقيام بأعباء هذه الوظيفة ست سنوات، على أن يكون في الوقت نفسه قائمًا بعمل رئيس كهنة الإله «حور» في معبد «مين» إله «أخميم» (المقاطعة التاسعة من مقاطاعات الوجه القبلي).
والألقاب الثانوية التي كان يحملها «أنحورمس» بوصفه كاهنًا أكبر نجدها برمتها تقريبًا في ألقاب أسرة رؤساء كهنة هذا الإله في «طينة» وبخاصة الكاهنين «حورا» و«منمس» اللذين عاشا في عهد «رعمسيس الثاني» (راجع مصر القديمة الجزء السادس).
وقد كان من نتائج التفسير القائل بأن الإله «شو» (أنحور) في عهد الدولة الحديثة — هو إله شمسي — أن نقل رؤساء كهنة «طينة» اللقب الهيليوبوليتي القديم: «أعظم الرائين» إليه، كما حدث ذلك في «أرمنت» و«الكرنك». ومنعًا للبس بإله «هليوبوليس» سموه «أعظم الرائين لرع في طينة».٣٠٢ وقد كان الكاهن الأكبر «منمس» يُسمى كذلك الكاهن «سم» أعظم الرائين في «طينة».ومن ألقاب كهنة «طينة» في الدولة الحديثة لقب ثانوي يدل على الرابطة التي بين الإله «أنحور» والإلهة «محيت» من جهة، وبين الإلهين القديمين «شو» و«تفنوت» من جهة أخرى، وهذا اللقب هو: سيد حجرة «شو» و«تفنوت». وهذا اللقب كانت تحمله أسرة «منمس» في عهد «رعمسيس الثاني» بصورة منتظمة، وبعد ذلك نجده منتشرًا جدًّا في الأزمان المتأخرة.
ونعرف من جهة أخرى أن «أنحورمس» كان يُلقب «حاجب الإله «شو» عندما يظهر». وهذا اللقب كان يحمله موظف بوصفه المتكلم عن الفرعون، غير أننا لم نجد أحدًا من الآلهة يحمله.
ومما يؤسف له أننا لا نعلم إذا كان «لأنحورمس» أسرة في «طينة» أم لا؛ والواقع أنه لم يُشاهَد له أي طفل ممثل أو مذكور على جدران قبره، بيد أنه في الدعاء الذي نُقش بجوار زوجته «سخمت نفرت» على جدار المدخل، نجد أن لها أمنية تخاطبه بها قائلة «أن تكافأ على ما فعلته، وأن يتسلم ابنك وظيفتك «الكاهن الأول للإله «أنحور».» ولكن هذا مجرد دعاء اعتاد القوم ذكره.
(ب) «ثانفر» الكاهن الثالث للإله آمون
(ﺟ) «رع إيا» الكاهن الرابع للإله «آمون»
ومعظم هذه الرسوم يرجع عهدها إلى الأسرة التاسعة عشرة، وقد نقلها «ديفز» من مقابر «شيخ عبد القرنة» ومقابر «الخوخة» ومقابر «ذراع أبو النجا» ومقابر «قرنة مرعي»، هذا إلى رسمين من «دير المدينة».
وقد كانت الواجهات ذات العمد معروفة في مقابر عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولكن على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا لم نجدها مصورة على جدران هذا العصر، ولكنها كانت منتشرة في عهد الأسرة التاسعة عشرة.
- (١) إطار باب بسيط محلى بكورنيش وله مدخل في الوسط، وأحيانًا نجد صفًّا من المخروطات تحت الكورنيش، كما نشاهد ذلك في مقبرة «رع موسى» رقم ٥٥.٣١٨
- (٢) نشاهد نفس الصورة السالفة، ولكن نجد على الباب صورة هرم، وأحيانًا نرى عمدًا تكنف الباب، وغالبًا ما نشاهد لوحة أمامه.٣١٩
- (٣) نشاهد مبنًى له كورنيش وعلى قمته هرم وله مدخل على الجانب ثم لوحة.٣٢٠
- (٤) نشاهد قاعة ذات عمد وبجانبها هرم قائم بذاته فيه باب على طوار ذي كورنيش بمثابة قاعدة يرتكز عليها.٣٢١
(١٢-٣) «بن إزن» (ويسمى «رعمسو امبر آمون» أو «مر إيونو»)
والمتن الذي نجده على لوحة القاهرة — وهو الذي ذُكر فيه اسم الفرعون «مرنبتاح» — يدل على ما يظهر على أن «بن إزن» قد وفد إلى مصر في عهد «رعمسيس الثاني» من بلدة «زار باسان» وهي بلا شك «زير بباشاني» التي ذُكرت في لوحات «تل العمارنة» أي «بيسان» الحالية، ويدل هذا المتن أيضًا على أنه في عهد «مرنبتاح» قد سُمي باسمين مصريين وهما «رعمسو امبررع» و«مر إيونو»، وتقلد مناصب «حاجب الفرعون الأول» و«حامل المروحة على يمين الفرعون» والساقي «طاهر اليدين أمام رب الأرضين» و«ساقي الفرعون الأكبر لحجرة القربان الفرعونية» و«ساقي الفرعون العظيم للجعة».
وقد ذكر الأستاذ «شيرني» أنه نشر في سجل استراكا «المتحف المصري» وثيقتين جاء فيهما أن «رعمسيس امبررع» هذا كان مكلفًا مع الوزير بإعداد مقبرة «مرنبتاح» سيدهما.
ومن كل ما سبق نفهم أن هذا الآسيوي الذي كان مغمور الذكر قد أصبح في نظرنا شخصية بارزة.
(١٢-٤) «ثاي» ويُسمَّى كذلك «تا»
(١٢-٥) الشعلة
والأمر الذي لا يمكن الفصل فيه بصفة قاطعة هو فائدة هذه المخاريط التي أصبحت شائعة الاستعمال في عهد الأسرة التاسعة عشرة، وهل كانت للاستصباح مثل المشاعل التي معها أو كانت للتبخير، أو أنها كانت تُستعمل في كلتا الحالتين؟ ومن المدهش أنه على الرغم من أنها للإضاءة، أو للإيقاد، فإن الكيفية التي كانت توقد بها لم يستدل عليها قط، وحتى في عهد الأسرة الثامنة عشرة لم نعرف ذلك إلا عند ختامها، فقد رأينا المشعلة وهي توقد، ولا نعلم إذا كان المفروض في ذلك أن يقوم بذلك المتوفى في أثناء الليل، أو عند الأعياد المسائية، أو لسبب شعيري أو خرافي.
ولا بد أن الشريط كان لا يُستحب القبض عليه باليد عند استعماله، كما لا يمكن أن يستمر مشتعلًا طويلًا؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يبحث الإنسان عن طريقة أفضل من كلتا الطريقتين السابقتين، وبخاصة عندما أصبح من المعتاد عند أصدقاء المتوفى أن يقدموا له الشعلة شخصيًّا. والفتائل التي استُعملت فيما بعد كانت كذلك أكبر من هذه، وأحيانًا تكون ثلاثية الشكل، وكانت تُنصب مستقيمة على قاعدة موضوعة على الأرض.
أما الشمعدان الذي عُثر عليه حديثًا في مقبرة «توت عنخ آمون» فيشبه المسارج التي وصفناها فيما سبق، وهو شريط كالحبل منتصب في قدح له مقبض يُمون بالزيت على الدوام، أو يُصب فوقه الشحم، أو يُوضع في المسرجة. ولا نعلم على وجه التحقيق الغرض الأول من هذا الشمعدان الذي يشبه تمامًا الشمعدان الحديث، أكان للإضاءة أم للبخور؟ وإذا كان الغرض منه الإضاءة فإنه لم يكن يخلو من دخان ينبعث منه.
ويُلاحَظ أن الشعلات المقدمة هنا لا يقدمها كهنة، بل يقدمها أطفال المتوفى بوصفها مظاهر إضافية لهدايا أخرى، لا بوصفها شعيرة دينية.
وتدل شواهد الأحوال على أن كل صور الشعل المخروطية التي كانت تُقدم في المقابر كانت تُرسم منتصبة على قواعد أو موائد، أو في أصص بالقرب من القربان، وكان معها فتيلتان. وأحيانًا كانت تبلغ الفتائل خمسًا كلها مضاءة.
للسنة الجديدة مقدمًا قربانًا «لأوزير» (تا) — (وهو اسم ثانٍ «لثاي» صاحب المقبرة) — كاتب سجلات رب الأرضين، في اليوم المذكور، معطرًا بزيت (مزت) ومشعلًا نورًا، وواضعًا قربانًا «لأوزير تا».
سلام عليك يا شعلة «أوزير تا»، سلام لك يا عين «حور»، يا من ترشدين الآلهة في الظلام، ويا من تقودين «أوزير تا» من أي مكان له إلى المثوى الذي يرغب أن يكون فيه روحه. وإني أمد مصباح «أوزير تا» الجميل بالشحم الجديد … والدك «جب» وأمك «نوت» و«أوزير» و«إيزيس» و«ست» و«نفتيس» حتى يضيئوا وجهك. ولكي يفتحوا بتلك الأصابع الخمس من الزيتون (خمسة مشاعل من زيت الزيتون؟) وهي التي يُفتح بها فم الإله، وقد أعطيت … وأعطى على الأرض، وقد أعطى في حقول «يارو» في ليلة عيد أول السنة السعيد (؟) إلى … وقد أعطيت ماء الآلهة العذب، وقد أعطاك الآلهة كذلك من الماء العذب اﻟ … النجوم الطاهرة التي لا تغرب، والنجوم الثابتة. ليت شعلة «أوزير تا» هذه الجميلة تكون سرمدية، وليت شعلة «أوزير تا» هذا تفلح كما يفلح «آتوم» سيد … في «هليوبوليس»، ليت شعلة «أوزير تا» الجميلة تفلح كما يفلح اسم «شو» وكذلك «تفنوت» و«جب» و«نوت» و«إيزيس» و«نفتيس» و«حور» و«وازيت» … و«تحوت». ليت هذه الشعلة الجميلة ملك «أوزير تا» تسعد في سفينة المساء، وفي سفينة الصباح، وليتها لا تخيب ولا تتلف أبدًا. إن «أوزير تا» قد ضوعف طهوره، وإن السماء مفتوحة لك، والسماء مدحوَّة أمامك، والطرق في الجبانة ممهدة لك، وإنك تروح وتغدو مع «رع»، وتمرح في مشيتك مثل أرباب الأبدية، وإن «حعبي» (إله النيل) هو الذي سيعطيك الماء، وإن «نبر» (إله الغلال) سيعطيك الخبز، و«حتحور» تقدم لك الجعة، والبقرة «حسات» (إلهة) تقدم لك اللبن، أنت يا «أوزيرثاي» يا من طهوره «مضاعف» ا.ﻫ.
(١٢-٦) بنتاور
(١٢-٧) رعمسيس حرو
(١٢-٨) معي
(١٢-٩) حورا
(١٢-١٠) خع امتير
(١٢-١١) قن حر خبشف
وقد وصل إلينا منه خطاب كتبه للوزير «بانحسي» الذي تحدثنا عنه فيما سبق والجزء الخاص بالتحيات للوزير والثناء على الفرعون من هذا الخطاب سهل الترجمة، ولكن الجزء الذي يتحدث عن مطالب العمال ورؤسائهم تظهر فيه صعوبات لغوية لم يمكن التغلب عليها، هذا بالإضافة إلى أن المتن فيه فجوات، وهاك ما أمكن ترجمته: إن الكاتب «قن حرخبشف» لمقبرة الملك «بان رع» العظيمة، محبوب «آمون بن رع» «مرنبتاح» المسرور بالصدق في بيت «آمون» يرسل أخبارًا سارة لسيده حامل المروحة على يمين الفرعون وعمدة المدينة ووزير الوجهين القبلي والبحري «بانحسي» في حياة وسعادة وصحة، وهذا خطاب لإعلام سيدي، وإخباره بما يسر، ذلك أن المكان العظيم (القبر الملكي) للفرعون الذي تحت سلطان سيدي في نظام حسن، وجدرانه في أمان ولم يصبه أي ضرر. وفضلًا عن ذلك فإن العمل في المكان العظيم للفرعون يسير بنظام تام، ويعمل الإنسان فيه على حسب إرادة الفرعون، سيده الطيب، وقد أنجز البناء الأبدي بإتقان. ليت الفرعون سيدي يمضي حياته بوصفه سيد كل أرض، وليته يحكم كما حكم «رع» والده مسيطرًا على كل ما يحيط به قرص الشمس، في حين أن كاتب الملك الحقيقي محبوبه وحامل المروحة على يمين الفرعون، والفم الذي يهب الطمأنينة في الأرض قاطبة، وصاحب الحظوة الأولى عند جلالته، والستار العظيم للأرض جمعاء، والبوابة العظيمة الحامية لجلالته، ومن أوامره مطاعة كلها، ومن مشاريعه كلها لا يخطئ واحد منها، عمدة المدينة والوزير «بانحسي» في حظوته كل يوم. أخبار سارة أخرى لسيدي إذ إننا لسنا … بالمعاول والجبس وعمال الفرعون قد أنجزوا … المعاول التي كانت في أيديهم، وأرجو أن يقصها على المشرف على خزانة الفرعون ويكتب إلى «بياي» وكيل خزانة الفرعون، وأرجو أن يورد معاول ومكاتل، وليته يكتب إلى وكيلي العمال ليمدانا بالجبس، وليته يكتب إلى الكتاب ليجعلهم يعطوننا أرزاقنا؛ لأن المشرف على مائدة القربان المسمى «بياي» كان هنا حتى اليوم ولم نرهم … وبسبب بعد المسافة عنهم التي من أجلها سيدنا الفرعون يكون …
(١٣) حالة البلاد بعد «مرنبتاح»
يدل ما لدينا من الآثار الباقية على أن «مرنبتاح» لم يمكث على عرش الملك أكثر من ثماني سنوات، وليس لدينا حتى الآن ما يثبت أنه قد حكم عشرين عامًا كما ذكر لنا «مانيتون» (راجع مصر القديمة ج٦)، وتُعد الفترة التي تلت موت «مرنبتاح» فترة اضطراب وقلاقل في داخل البلاد بسبب الثورات التي قامت من أجل عرش الملك والتطاحن عليه بين أفراد أسرة هذا العاهل. وهذه الفترة من الزمن في حكم البلاد تشبه الفترة التي مرت علينا في تاريخ التحامسة بعد موت «تحتمس الأول»، وهاتان الفترتان من تاريخ البلاد لا زالتا غامضتين على الرغم مما بذله المؤرخون والأثريون للوصول إلى كشف النقاب عنهما.
والواقع أن البلاد بعد عهد «مرنبتاح» كانت في حالة إعياء وفقر داخلي بالغين؛ فقد كانت — قبل عهد «مرنبتاح» — منهمكة في الحروب التي شنها «رعمسيس الثاني» على البلاد المجاورة، كما أنه كذلك كان قد استنفد مواردها في إقامة المباني الدينية والتماثيل الهائلة التي ملأ بها البلاد من أقصاها إلى أقصاها، حتى إن ابنه «مرنبتاح» أي ابن «رعمسيس الثاني» لما تولى عرش الملك لم يجد من المال ما يمكنه من إقامة آثار لنفسه، فاغتصب آثار أسلافه كما ذكرنا، وقد زاد الطين بلة تألب بلاد «لوبيا» عليه ومهاجمة ممالك البحر لمصر، ولم يكن في استطاعته صدهم عن احتلال الدلتا إلا بشق الأنفس، ومع ذلك نجد أن هؤلاء الأقوام كانوا قد أخذوا يتسربون إلى البلاد ويتخذون لأنفسهم مساكن فيها، بل وكانوا يشغلون أيضًا بعض وظائف الدولة الهامة، ومن أجل ذلك نجد أنه لما تُوفي «مرنبتاح» كانت الأمور مهيأة لقيام الاضطرابات وتأليف الأحزاب التي نجدها تنمو وتترعرع في مثل هذه الأحوال لانعدام الشخصية القوية التي تضرب على أيدي العابثين والنفعيين؛ وقد بقيت البلاد حقًّا في اضطراب مستمر منذ نهاية حكم «مرنبتاح» حتى مجيء «رعمسيس الثالث» الذي خلصها زمنًا من الفوضى التي كانت تهدد كيانها وتسير بها نحو الانحلال أولًا ثم الفناء آخرًا.
(١) سيتي مرنبتاح (سيتي الثاني)، (٢) «منموس»، (٣) «رعمسيس سبتاح»، وأخيرًا: (٤) الملكة «توسرت».
وأخيرًا لم نجد أي شيء يتعارض مع ما جاء في متون مدينة «هابو» عن أن الفلسطينيين كان مثلهم كمثل حلفائهم قد بدءوا غزواتهم من جزر البحر الأبيض، هذا إلى أننا لم نجد ما يدحض التقاليد التي وردت في التوراة أو فيما كتبه الإغريق من أن الفلسطينيين قد جاءوا إلى فلسطين عن طريق «كريت». ولكن فروق التسليح التي بين المنويين (كريت) والفلسطينيين مضافًا إليها قرص «فياستوس» الذي كانوا يلبسونه قد جعل من المحقق أن «كريت» لم تكن الموطن الأول للفلسطينيين مهما كان طول مدة إقامتهم هناك في طريقهم إلى مصر و«فلسطين» أما موطنهم الأصلي فيمكن أن يُبحث عنه في مكان ما في شمال بحر إيجه، ومن المحتمل أن احتلالهم للجزر هناك كان إحدى مراحل هجرتهم وقد أخذ بعض المؤرخين حديثًا يربطون اسم «بلستي» باسم «بلاسوي» لما بين الاسمين من التشابه اللفظي، غير أنه من المستحيل إعطاء رأي قاطع في ذلك الأمر (راجع Gardiner, Onomastica, 205.)
وفي النقوش الكبيرة الخاصة بحروب السنة الثامنة من عهد «رعمسيس الثالث» جاء ما يأتي:
وحلفهم كان يشمل «بلست» و«ثكل» و«شكلش» و«دنى» (دنونا) و«وشش».
- (١)
مرنبتاح: حكم ٨ سنوات على الأقل.
- (٢)
امنمس: حكم ما يقرب من سنتين.
- (٣)
مرنبتاح سبتاح: حكم ٦ سنوات.
- (٤)
سيتي الثاني: حكم ٦ سنوات.
- (٥)
رعمسيس سبتاح: عدة سنوات.
- (٦)
أرسو: عدة سنوات.
هذا الترتيب هو الذي اتبعه «درينون» و«ڤنديه» (راجع Ed Meyer Gesch II, p. 585 note 1 and Peuple D’Onient, Egypte p. 600).