الملك ستنخت
رأينا فيما سبق أنه كان من الصعب — ولا يزال — أن نحدد تتابع الملوك الذين خلفوا الفرعون «مرنبتاح»، كما أن الآثار لم تمدنا بمعلومات وثيقة تبرر لنا ما صلة النسب بين هؤلاء الملوك. وقد اضطررنا أن نثبت فيما مضى المقترحات المختلفة التي جادت بها قرائح المشتغلين بالتاريخ والآثار المصرية في هذا الصدد. ولعل لمؤرخي مصر القديمة عذرًا في بلبلة آرائهم في هذا الموضوع، وعدم الاستقرار على رأي واحد ثابت؛ فقد وصف لنا «رعمسيس الثالث» في وثيقة تركها لنا تُعد من أعظم ما خلفه التاريخ المصري من حيث الروعة والإتقان والمعلومات القيمة عن حالة البلاد في نهاية الأسرة التاسعة عشرة، وأعني بذلك «ورقة هاريس» العظيمة الأولى المشهورة وسنتكلم عنها بإسهاب فيما بعد.
قال الفرعون (وسرماعت-محبوب آمون) «رعمسيس الثالث» (له الحياة والفلاح والصحة) الإله العظيم للأمراء، وقواد البلاد، والمشاة، والخيالة، وجنود «شردانا»، وللرماة العديدين، وكل مواطن مصري.
الفوضى السابقة
اسمعوا حتى أخبركم بأنعمي التي عممتها عندما كنت ملكًا على الشعب. لقد غُزِيَتْ مصر من الخارج، وأقصى كل رجل عن حقه، وظل الناس بدون رئيس (فم أعلى) سنين عدة من قبل حتى أتى عليهم حين من الدهر كانت مصر في أيدي أمراء، وحكام مدن، وذبح الرجل جاره، عظيمًا كان أو حقيرًا. وقد توالى على ذلك وقت فيه سنين عجاف، وكان معهم «أرسو» وهو سوري المنبت، الذي نصب نفسه رئيسًا (على البلاد)، وقد جعل كل البلاد تابعة له قاطبة، وجمع كل رفاقه، ونهب ممتلكاتهم (أي ممتلكات المصريين)، وقد ساووا بين الناس والآلهة فلم يقربوا قربانًا في المعابد.
حكم «ستنخت»
ولا نزاع في أن ما قصه علينا «رعمسيس الثالث» يظهر لنا بوضوح تام أن معلوماتنا تصير ضئيلة إذا لم تستند على صور تاريخية.
والواقع أن ما وصل إلينا من آثار لا يحدثنا بأي شيء عن هذا الآسيوي «إرسو» الذي ذكر «رعمسيس الثالث» أنه حكم البلاد، كما أنها قد صمتت صموتًا تامًّا عن الدور الحاسم الذي لعبه «ستنخت» في تطهير البلاد وإعادتها إلى ما كانت عليه من طمأنينة وسلام.
وكل ما لدينا من عهد «ستنخت» بعض آثار ضئيلة لا تشرفه قط بوصفه مخلصًا للبلاد.
آثاره
- (١) «نبيشة»: وُجد في هذه البلدة تمثالان في صورة «بو لهول» من الجرانيت الأسود يرجع عهدهما للدولة الوسطى. وقد اغتصبهما نخبة من ملوك الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين كل بدوره، فقد كُتب اسم «سيتي الثاني» على الصدر، واسم «ستنخت» على الكتف، واسم «رعمسيس الثالث» على مقدمة الشعر المستعار، وعلى القاعدتين نجد اسم «باي» حامل خاتم «سبتاح»٤ ولا يُعرف كيف يمكن تعليل مثل هذه الظاهرة إلا بما نراه في أيامنا من أعمال تشويه الآثار بكتابة الأسماء عليها، والغرض منها التذكار.
- (٢) «قبة توفيق»: وُجد في هذه الجهة عقد باب من الحجر الرملي مبني في بوابة، وقد نُقش عليها اسم هذا الفرعون.٥
- (٣) «القاهرة»: وُجد فيها عمود مؤلف من قطع باسم «أمنحتب الثالث»، وقد اغتصبه «مرنبتاح» ثم «ستنخت»، ويُحتمل أنه مجلوب من «هليوبوليس»، وقد وجد مبنيًّا في جامع التركمان عند باب البحر.٦
- (٤) «العرابة»: وُجدت في «العرابة» لوحة باسم كاهن هذا الفرعون المسمى «مرسأتف»، وقد ظهر فيها الفرعون يتعبد للفرعون «ستنخت» وللملكة «تي مرن أست» زوجه، في حين نرى في أعلى اللوحة الفرعون «رعمسيس الثالث» يقدم القربان للآلهة وقد وُجد كذلك لوحان آخران عليهما اسم هذه الملكة استعملا ثانية في رقعة في معبد «العرابة» عام (١٩٠٣).٧
- (٥) معبد «موت» بالكرنك: وُجدت طغراءاته على البوابة.٨
- (٦)
قبر «ستنخت»
وتدل الأحوال على أن الكهنة الذين أخفوا موميات بعض الملوك في مقبرة «أمنحتب الثاني» قد دخلوا قبر «ستنخت» ووجدوا هناك مومية ظنوا أنها لهذا الفرعون، من أجل ذلك وُجد القبر بطبيعة الحال في ارتباك، ومحتوياته مشتتة، فوضعوا هذه المومية في تابوت «ستنخت» وحملوها إلى مخبئها، إلى أن كشف عنها «لوريه» في عصرنا. وعندما فُكَّت لفائفها عُرفت أنها لامرأة. ومن المحتمل أنها مومية الملكة «توسرت»؛ وذلك لأن ملكات كل هذا العصر كن يُدفن في مقابر «وادي الملكات». وقد بقي هذا القبر مفتوحًا يزوره السياح في العهد الإغريقي، وقد نُظف الآن. وعندما يدخل الإنسان الدهليز الأول يُشاهد على اليمين صور «توسرت» و«سبتاح» في حضرة الإله «بتاح» والإلهة «حرمخيس» وآلهة آخرين، وعلى الجدار المقابل نشاهد الملكة «توسرت» والفرعون «سبتاح» واقفين أمام الآلهة «حرمخيس» و«أنوب» و«إزيس» وغيرهم. والدهليز الثاني مخرَّب. وفي الثالث نشاهد على اليمين والشمال طغراءات وصورة للفرعون «ستنخت» مصورة على طبقة من الجص وُضعت فوق الصور الأصلية لصاحبة القبر «توسرت». وبعد ذلك ننتقل إلى قاعة صغيرة تؤدي إلى حجرة كبيرة، ونشاهد فوق بابها الإلهين «أنوب» و«حور» يتعبدان للإله الأعظم «أوزير»، وبعد ذلك نستمر منحدرين إلى قعر المقبرة، فنشاهد في طريقنا حجرتين لوَّنت جدرانهما بأشكال خشنة من عهد «ستنخت» على طبقة من الجص وُضعت فوق نقوش «توسرت» الأصلية. وبعد ذلك نصل إلى قاعة يرتكز سقفها على ثمانية عمد، وهذه كانت حجرة الدفن الأصلية للملكة «توسرت».
وتدل شواهد الأحوال على أن هذه الحجرة عندما نُحتت كان «سبتاح» قد مات، وأن «سيتي الثالث» — على حسب رأي «إمري» — قد حلَّ محله زوجًا لها؛ وذلك لأننا نرى صورة الملك الأخير على أحد عمد هذه القاعة من اليسار، وقد أضاف بعد هذه الحجرة الملك «ستنخت» دهليزين عندما اغتصب القبر. وأخيرًا نصل إلى القاعة التي دُفن فيها «ستنخت» وفي وسطها نجد غطاء تابوته ملقًى على جانبه، وهو مصنوع من الجرانيت وقد نُقش نقشًا جميلًا، ويصور لنا صورة «أوزير» مضطجعًا. أما حوض التابوت نفسه فقد هُشم. والظاهر أنه لم يُغتصب من مكان دفن الملكة «توسرت» بل عمل خاصًّا به.
ولا شك في أن المدقق يرى في هذه الأسطورة المشوهة صدًى لسيطرة «إرسو» على البلاد المصرية؛ لأن ذلك كان حادثًا قد وقع وانقضى زمنه دفعة واحدة، في حين أن «أمنحتب الرابع» وأخلافه من بعده كان لهم دائمًا السيطرة على جزء من بلاد «سوريا». أما «ستنخت» فقد نُسي ولم تُدون أعماله، وكذلك ابنه العظيم «رعمسيس الثالث». وقد نُسبت هذه الحادثة في الحال إلى «مرنبتاح» لاتصاله به. وهكذا نرى مؤرخنا المصري «مانيتون» يشير إلى هذا الحادث من بعيد، على الرغم من أنه لا يفهم ترتيب الحوادث من الوجهة التاريخية.