الفصل الحادي عشر
حكم الهكسوس في مصر والسودان
تحدثنا في الجزء الرابع من مصر القديمة (ص ٥٤–١٩٨) عن الهكسوس وحكمهم في مصر وما
جلبوه من
مدنية إلى وادي النيل، غير أن البحوث الحديثة قد غيَّرت بعض النظريات الخاصة بهم؛ ولذلك
آثرنا أن نتحدث عن هؤء القوم هنا مُقَدِّمِينَ آخر ما وصلت إليه الكشوف الحديثة وبخاصة
البحث الذي وضعه الأستاذ «سيف زودربرج»
١ وإن كان كثير من آرائه لا يُعْتَمَدُ عليه لأنه مجرد نظريات، إلى أن له فضلًا
عن ذلك في بعض الأحيان منحًى خاصًّا في النظر إلى المصريين القدامى على أنه لم يأت بشيء
جديد مؤكد أكثر مما ذكرناه في مقالنا السابق من الهكسوس اللهم إلا أشياء طفيفة في العلاقات
الخارجية.
مقدمة٢
كانت مصر في الأسرة الثانية عشرة أقوى دولة في الشرق الأدنى أي في خلال القرن التاسع
عشر
قبل الميلاد فكانت تسيطر على بلاد النوبة السفلى جيوش مصرية في حين أنه في بلاد النوبة
العليا أي بلاد «كوش» كانت الوكالات أو المستودعات المصرية في «كرمة» مزدهرة نامية، فكانت
مصر تَجْلِبُ من هذه البلاد الجنوبية الذهب والسلع الأخرى الثمينة بكميات ضخمة، وقد نجم
عن
كُلٍّ من المكانة السياسية والتجارية التي احتلتها مصر في هذه الأصقاع أن أخذت مصر تلعب
دورًا خطيرًا كذلك في الشمال، أي في آسيا، ولا أدل على ذلك من أن ملوك «ببلوص» (جبيل)
في
سوريا كانوا على ما يظهر من أتباع الفرعون، فقد كانوا يستعملون شارة يلبسونها من صنع
مصري
ومن الجائز أنهم كانوا يُعَطَّرُونَ عند تتويجهم بالمسوح من أوانٍ تحمل اسم ملك
مصري.
٣ ومن المحتمل أن بعض المدن السورية الأخرى مثل «رأس شمرة» («أوجاريت») كانت
تابعة لمصر سياسيًّا،
٤ وبعد سقوط الأسرة الثانية عشرة (١٧٧٥ق.م.) مرت على البلاد فترة تقرب من جيل من
الزمن كانت وحدة مصر في خلالها قد تمزقت، ولكن في تلك الفترة كان يحكم البلاد عدة ملوك
مؤقتين يعاصر بعضهم بعضًا،
٥ وعلى أية حال لم تلبث أن قامت مصر من عثرتها واسترجعت وحدتها السياسية وقوتها،
وهذا الضعف العارض الذي طرأ على مصر لم يغير من مكانتها السياسية في الشرق الأدنى. وفي
عهد
ملوك الأسرة الثالثة عشرة وبخاصة في حكم الملك «نفرحتب» وأخيه «سبكحتب» (١٧٦٠–١٧٥٠ق.م.)
كانت الأحوال في مصر في غالبيتها كما كانت عليه في عهد الأسرة الثانية عشرة، فقد وَحَّدَتْ
مصر نفسها ثانية، وفي بلاد النوبة السفلى دلت ظواهر الأحوال على أن كثيرًا من المقابر
الغنية الواقعة بالقرب من البلاد المحصنة تُؤَرَّخُ بهذا العهد نفسه، وفي «كرمة» الواقعة
في
السودان تدل مدنية الأهالي على مقدار عظيم من الثراء الناتج عن التجارة مع مصر كما
تَحَدَّثْنَا عن ذلك من قبل.
وعلى أية حال فإن البراهين الأثرية تُوحي ببعض الاختلاف، فقد ازداد الفخار الأجنبي
في
العدد في المقابر المصرية ومن ثَمَّ نجد ما يسمى فخار «تل اليهودية» منتشرًا من أول بلدة
«كرمة» في الجنوب حتى بلاد سوريا في الشمال. وهذا الفخار وغيره من السلع يعد شاهدًا على
قيام تجارة نشطة تشغل مساحة شاسعة كان من نتائجها أنها غيرت إلى حد ما صبغة المدنية المصرية
وكسرت إلى حد ما قيود أشكالها وخاصيتها التي كانت تتميز بها في العصور التي قبل ذلك
العهد.
ففي الشمال كانت علاقات مصر التجارية بمدينة «ببلوص» (جبيل) لا تزال محفوظة فقد عثر
في
«ببلوص» على نقش غاية في الأهمية نشاهد فيه ملك «ببلوص» المسمى «أنتن» يقدم خضوعه لاسم
الملك «نفرحتب» فرعون مصر،
٦ ومن ثَمَّ نعرف أن «أنتن» قد عد نفسه تابعًا لملك مصر. ومن المحتمل أن «أنتن»
هذا موحد بملك «ببلوص» المسمى «يانتن-خامو» الذي جاء ذكره في سجلات بلدة «ماري» الشهيرة
الآن،
٧ والمتون التي كُشِفَ عنها في «ماري» تُلْقِي ضوءًا جديدًا على تاريخ الشرق
الأدنى في منتصف القرن الثامن عشرق.م. فملك «أشور» المسمى «شماشي أداد الأول» حكم جزءًا
كبيرًا من «مسوبوتاميا» العليا ولكن ابنه الْمُسَمَّى «أشمي-داجان» لم يكن في مقدوره
المحافظة على قوة آشور السياسية ومن ثَمَّ خلصت «ماري» نفسها من نيرها. وقد وصف لنا بوضوح
مركز «ماري» السياسي في خطاب لحاكم «ماري» الْمُسَمَّى «زمري ليم» وهاك الخطاب: «إنه
لا
يوجد ملك يعد وحده الأقوى؛ إذ يتبع «حمورابي» ملك «بابل» عشرة أو خمسة عشر ملكًا. ويدين
بالطاعة مثل هذا العدد لملك «لارسا»
٨ المسمى «رم-سن» ومثل هذا العدد يتبع «إبال-بي-إيل» ملك «أشنونا» ونفس هذا العدد
يتبع «آموت-بي-أيل» ملك «قطنا». وتبع عشرون ملكًا «ياريم-ليم» ملك «يامخاد».
٩ على أن هذا التوازن الدولي بين تلك الممالك الصغيرة لم يمكث طويلًا، إذ نجد أن
«حمورابي» ملك «بابل» قد هزم «لارسا» و«ماري»، ومن المحتمل أنه حكم لمدة قصيرة بلاد «آشور»،
ولكن لم تلبث أن انْقَضَّتْ قبيلة من الجبال الشرقية على السهل، وأهلها هم القوم الذين
يُسَمَّوْنَ «الكاسيين»، وقد وطدوا حكمهم في الجزء الشرقي من بلاد «بابل».
وفي «آشور» نجد قومًا آخرين أجانب من الشرق يُدْعَوْنَ الحوريين قد أصبحوا تدريجًا
عاملًا
سياسيًّا قويًّا في بلاد النهرين. ولما كان «الكاسيون» قد ثبَّتوا أقدامهم في «بابل»
فإن
هذه القوة الجديدة الفاتحة قد اتجهت نحو الجنوب وسافر أفرادها غربًا فاجتاحوا «ألالاخ»
عاصمة «يامخاد» الواقعة في أعالي نهر الفرات، ومن المحتمل أن هؤلاء الجدد هم الذين
اجتاحوها، وقد شاع في «سوريا» عدم استقرار عام يرجع سببه إلى زحف الشعوب من الشرق.
١٠
والآن يتساءل الإنسان ماذا حدث في مصر في تلك الفترة؟ الواقع أنه بعد حكم الأخوين
«نفرحتب» و«سبكحتب» أخذت الحكومة المصرية في التدهور نحو الانحلال، ويلحظ هنا أن قوائم
الملوك المتأخرة وكذلك الآثار المعاصرة تذكر عددًا كبيرًا جدًّا من صغار الملوك الذين
يجب
أن يكونوا قد حكموا في عصر واحد. والواقع أن مصر قد صارت إلى حالة تشبه الفوضى، وبذلك
كانت
فاكهة ناضجة لمن أراد أن يجنيها دون كبير عناء، وفي هذا الوقت أخذ بعض الآسيويين يتسربون
إلى الدلتا، ولم يلبثوا أن مَكَّنُوا أنفسهم في أرجائها حكامًا محليين، ومن المحتمل أن
سبب
تسرب هؤلاء الآسيويين يرجع إلى اضطراب في بلاد سوريا، وقد ذكرت لنا قائمة «تورين» الخاصة
بملوك مصر وهي التي يرجع عهدها إلى عصر الرعامسة
١١ من بين الملوك العديدين الذين لم يحكُموا إلا فترة وجيزة أسماء الملوك
«عا-نا-تي» (عنتي» (= عنت-حر «عنا تحر») على جعارين معاصرة، وببنم
(Bebnem) أو ببلم
(Bblm) وهذان الاسمان
يدلان على أنهما مصطبغان بصبغة آسيوية، ومن المحتمل أنهما من أمثال ملوك الأسرة التي
كانت
تحكم في الدلتا، وقد حكم الملك «خع نفر. رع. سبك. حتب» وهو أخو «نفر حتب» على أقل تقدير
مدة
ثماني سنوات
١٢ أي حوالي (١٧٤٠–١٧٣٠ق.م.) وعلى حسب رأي الأثري «شتوك»
١٣ نجد أن أخلاف هذه الأسرة كذلك حتى حكم الملك «مرحتب رع سبكحتب» قد حكموا كل مصر
مما جعله يستنبط أنهم حكموا حتى عام ١٧١٠ق.م. تقريبًا.
على أن وجود جعران باسم «مر نفر رع-آس»
١٤ «في تل اليهودية»
١٥ ليس بالدليل على سلطان هذا الملك في الدلتا، وعلى ذلك فإن أول ملوك للهكسوس
«عناتحر» وببنم أو (ببلم) إلخ، يمكن أن يكونوا قد وطَّدُوا حكمهم في الدلتا الشرقية حوالي
١٧٣٠ق.م. وبعض ملوك هذا العهد العديدين الذين جاء ذكرهم في ورقة «تورين» يمكن
١٦ أن يقابلوا الملوك الذين يطلق عليهم ملوك «إكسيوس» (سخا) وهم ملوك الأسرة
الرابعة العشرة الذين يُؤَرَّخُونَ على ذلك بحوالي ١٧٣٠–١٧١٠ق.م.
وهكذا نرى أن الأثري «سيف زودربرج» في كل استنباطاته التي ذكرناها هنا لا يرتكز على
رأي
قاطع بل كل آرائه ترجع إلى الاحتمالات التي قد تصيب أو تخطئ.
وقد حكم هؤلاء الهكسوس مصر بعد انقضاء جيل على عهد حكم الملك «نفرحتب» أي قبل عام
١٧٠٠
ق.م. وقد أخذوا في أيديهم السلطان على بلاد النوبة السفلى كما استحوذوا على التجارة في
«كرمة» في بلاد «كوش».
وليس لدينا مصدر يصف لنا كيفية استيلاء الهكسوس على السلطان في البلاد إلا تاريخ
مصر الذي
كتبه «مانيتون» في القرن الثاني قبل الميلاد أي حوالي ١٥٠٠ عام بعد وقوع هذا الحادث العظيم.
ومن ثَمَّ نفهم أنه مصدر متأخر، غير أنه مع ذلك مأخوذ عن وثائق مبكرة. وعلى أية حال فإنه
من
مميزات كل هذه المصادر المتأخرة الخاصة بالهكسوس أننا نجدها مطبوعة بطابع الدعاية ضد
الأجانب الفاتحين، والواقع أنه كلما كان المصدر حديثًا كانت محتوياته تنم عن العداء
والبغضاء للهكسوس، وعلى ذلك يجب أن نذكر ذلك عندما نقرأ ما رواه «مانيتون» عن هؤلاء
الغزاة
١٧ فاستمع لما يقول:
«إنه في عهد «توتيمايوس» أو «تيمايوس» أصابتنا جائحة على حين غفلة لسبب لا أعرفه
من إقليم الشرق فقد انقض غزاة من أصل غامض على أرضنا وقد اسْتَوْلَوْا علينا بالقوة
الغاشمة بسهولة دون أن يضربوا ضربة واحدة. وبعد أن أخضعوا حكام البلاد أحرقوا بعد
ذلك مدننا بدون رحمة، وهدموا معابد الآلهة وعاملوا كل الأهالي بعدوان غاشم، فقتلوا
البعض وقادوا الآخرين من زوجات وأولاد أناس إلى العبودية، وأخيرًا نصبوا ملكًا منهم
يُدْعَى «ساليتيس» (Salitis) وكان مقر حكمه في
«منف!» وفرض الضرائب على أهل الوجهين القبلي والبحري، وكان دائمًا يترك خلفه حاميات
في أهم المواقع الإستراتيجية».
ويحدثنا بعد ذلك «مانيتون» أن «ساليتيس» قد أقام حصنًا في «أواريس» في الدلتا الشرقية
وحكم بعده الملوك «بنون» (Bnon) و«أپاخان» (Apachan) و«أبوفيس» (Apophis) و«ياناس» (Yannas)
و«أسيس» (Assis) (أو «أسث» Aseth أو «كرتوس» Kertos) وأخلافهم، وكل
سلالة هؤلاء الغزاة كانت تُسَمَّى «هكسوس» Hyksos.
والآن من هم الهكسوس؟ والتعبير المصري الدال على هؤلاء الحكام هو «حقاو-خاسوت» ومعناه
حكام الممالك الأجنبية. وهذا التعبير كان على ما يظهر التسمية المعتادة لمشايخ في فلسطين
وسوريا منذ بداية الأسرة الثانية عشرة. فمثلًا نجد واحدًا من هؤلاء المشايخ قد حضر إلى
مصر
ومعه سبعة وثلاثون أسيويًّا
١٨ حاملين معهم محاصيلهم إلى مصر كما هو مُصَوَّرٌ في مقبرة من مقابر «بني حسن».
وقد سُمِّيَ في النقش الذي يتبع هذا المنظر «أبيشاي» حاكم أجنبي. وهذه الصورة يمكن أن
تُتَّخَذَ تفسيرًا لهؤلاء الأسيويين الذين تسربوا إلى الدلتا حوالي نهاية الأسرة الثالثة
عشرة، غير أنه ليس لدينا برهان لنعتبر هؤء «الحقاو-خاسوت» الذين ذُكِرُوا في القرن العشرين
أي قبل عهد الهكسوس بقرنين أو ثلاثة قرون هم نفس الهكسوس الذين أَتَوْا متأخرين أو بمثابة
عنصر أجنبي في فلسطين بوصفهم فرسان أشراف يهاجمون البلاد المصرية من سوريا. والواقع أنه
لم
يصبح استعمال التعبير «حقاو خاسوت» دالًّا على لقب ملكي يُطْلَقُ على حكام مصر إلا فيما
بعدُ ويُقْصَدُ به جماعة الأسيويين الذين حكموا مصر.
وهذا التعبير يوحي إلى نفوسنا أن الهكسوس كانوا جماعة صغيرة من الأسر الأجنبية لا
أقوامًا
عديدين لهم مدنية خاصة. والظاهر على حسب رواية «مانيتون» أن حكم الهكسوس كان لا يعني
إلا
تغيير القواد السياسيين في مصر، وأنهم لم يكونوا قد وفدوا على البلاد غازين لها بجموع
عديدة
من عنصر أجنبي. وهذا الرأي يستند على براهين معاصرة كما يقول الأثري «سيف زودربرج»: فيوجد
عدد عظيم من المقابر من عصر الهكسوس في مصر، غير أنه لا يوجد في أي مكان أدلة واضحة تحدثنا
عن غزوة أجنبية من الشمال. حقًّا يوجد غالبًا فخار أجنبي، غير أن وجوده كان نتيجة الازدياد
التدريجي لتدفق السلع الأجنبية وهذا ما يمكن ملاحظته من أول سقوط الأسرة الثانية عشرة
وما
بعدها، هذا ولا يوجد في أي مكان تغيير مفاجئ في عادات الدفن. ولم ينسب إلا عدد محدود
من
المقابر في «تل اليهودية» و«أبو صير الملق» و«قاو» و«سدمنت» و«دشاشة» إلى عهد
الهكسوس،
١٩ وعلى حسب رأي الأستاذ شارف
٢٠ يحتمل أن بعض الأجسام المصرية في «أبو صير الملق» كانت من طراز سامي الأصل، غير
أن هذه النسبة غير مؤكدة، وعلى أقل تقدير فإن هياكل أبو صير الملق تُنْسَبُ إلى آخر عهد
من
حكم الهكسوس.
وكان في الغالب يُنْسَبُ عدد عظيم من الأشياء الأثرية وما شابهها إلى عهد الهكسوس،
ومن
هذه المادة قد استنبطت نتائج فيما يتعلق بمدنية قوم الهكسوس ووطنهم وتكوينهم من حيث
السلالة.
٢١ وسنذكر هنا بعض هذه الاستنباطات وما يعترضها من حقائق فقد ذُكِرَ مرارًا
وتكرارًا أن ما يُسَمَّى فخار «تل اليهودية» يجب أن يُعْتَبَرَ من منتجات الهكسوس، وكما
يقول العالم الأمريكي «إنجبرج» يُعَدُّ سندًا لا يقدر بقيمة في الكشف عن احتلال الهكسوس
للموقع.
٢٢ وهذا في اعتقاد بعض العلماء ليس له أي مبرر، لأن من الخطر أن يستنبط الإنسان
قيام زحف سلالي من مجرد بعض طُرُزٍ خاصة من الأواني الفخارية إذا لم يكن هناك في الوقت
نفسه
شيء من التغيير الهام في عادات الدفن؛ ومن الممكن البرهنة غالبًا على أن التغير في المواد
الأثرية قد يكون سببه التجارة وإلا فما عساه أن يستنبطه أثري في المستقبل بهذه الطريقة
من
أواني منزل مصري حديث؟ فقد يري أن مواقد الغاز قد حلت محل المواقد الكبيرة المصنوعة من
الفخار، ومن ثَمَّ يري الباحث أن قومًا يستعملون مواقد الغاز قد غَزَوْا مصر في أوائل
القرن
العشرين بعد الميلاد، هذا ولما كان بعض هذه الآلات يمكن نسبتها إلى الولايات المتحدة
فإن
هؤلاء القوم يكونون قد أَتَوْا من أمريكا ومن جهة أخرى يُلْحَظُ أن وجود موقد «بريمس»
يمكن
أن يبرهن على زحف سلالة من السويد قد اختلطت بعنصر لاتيني، وذلك بسبب وجود كتابة لاتينية
على المواقد، وهكذا من الأمثلة التي لا تدخل تحت حصر (غير أن هذا الرأي الذي أدلى به
الأستاذ «سيف زودربرج» مردود عليه لأن الأمثلة الجديدة التي أوردها هنا كان منشؤها سهولة
المواصلات بين الأمم وانتشارها في كل العالم لا في أماكن محصورة).
وفضلًا عن ذلك نجد أن طراز أباريق «تل اليهودية» الخاص كان يتطور تدريجًا في فلسطين
وسوريا وكان ظهوره هناك لا يُشْعِرُ بتغير مفاجئ في تقاليد الفخار.
٢٣
ومما هو جدير بالذكر أن هذه الأواني كانت قد جلبت إلى مصر قبل دخول الهكسوس بزمن طويل،
وقد وُجِدَتْ في مقابر في بلاد النوبة السفلى مُؤَرَّخَةً بزمن لم يكد يكون فيه الهكسوس
قد
وصلوا إلى مصر الوسطى. ومعظم ما يمكن أن يقال عن العلاقة بين الهكسوس وأباريق «تل اليهودية»
هو أن الهكسوس على ما يظهر كانوا يميلون إليها ومن المحتمل أن عددًا عظيمًا منها قد
اسْتُورِدَ عندما كان حكام الهكسوس يسيطرون على التجارة أكثر مما كانت في أيدي حكومة
مصرية
أشد محافظة، ويجب أن نؤكد هنا أن هذه الأباريق كانت تُسْتَعْمَلُ في مصر بعد أن طُرِدَ
الهكسوس المبغوضون من البلاد.
وينطبق هذا التدليل على أوانٍ أخرى من الفخار قد أُخْطِئَ استعماله إذا صح أن نقول
ذلك
عندما نريد البرهنة على أنه كان يوجد عنصر حوري بين الهكسوس، وهذا الفخار هو الذي يُسَمَّى
الفخار ذا اللونين المصنوع بعجلة صانع الفخار، وهو معروف من العهد المتوسط الثاني في
مصر،
وقد عثر عليه في «أبو صير الملق» و«قاو» و«سدمنت».
٢٤ وقد اسْتُعْمِلَتْ زينة مشابهة، ولكن على أوانٍ مختلفة في «مسوبوتاميا» العليا
حيث نجد جزءًا من السكان يتكلم اللغة الحورانية، ومن ثَمَّ كان هذا الطراز من الفخار
يُدْعَى أحيانًا «الفخار الحوري». ويمكن أن نلحظ أولًا أنه حتى العلاقة التي بين الحوارتيين
وهذا الفخار الملون الخاص بمسوبوتاميا العليا — وهو الذي يُسَمَّى فخار «خابور» — لم
تقرر
بعد، أما فخار الدولة الحورانية المتني الأصلي فهو فخار نوزي مختلف تمام الاختلاف.
٢٥ على أنه لا فخار «خابور» الحقيقي ولا الفخار الذي يحتمل أنه «نوزي حوراني» قد
وُجِدَ في مصر بل كل ما عُثِرَ عليه في مصر هو بعض قعاب عليها زينة تشبه الزينة التي
على
فخار «خابور» ولكنها من طراز آخر.
٢٦
وطراز فخار فلسطين ذي اللونين وهو الخاص بها قد وصل إلى قمته بعد عصر الهكسوس، ويمكن
أن
يكون له صلة بأواني العصر المتوسط الثاني التي عُثِرَ عليها في مصر؛ ومن المحتمل أنه
قد
تأثر بفخار شمالِي سوريا، وهو بدوره يمكن أن يكون قد اشْتُقَّ من فخار «خابور» الحقيقي،
وهو
الذي بدوره ثانية يمكن أن يكون ذا صلة بالحورانيين، وعلى ذلك نجد أن الطريق طويلة جدًّا
لنسبة القعاب التي وُجِدَتْ في مصر إلى الحورانيين بوصفهم عنصرًا جنسيًّا، فتسمية هذا
الفخار حوراني يُعَدُّ في رأي بعض العلماء تخمين له خطورته وعلى فرض أنها كانت قعابًا
حورانية فإن ذلك لا يكفي بأية حال من الأحوال ليبرهن على أنه كان يوجد حورانيون بين
الهكسوس، وذلك لأن هذا الطراز من الفخار يمكن أن يكون قد وصل إلى مصر عن طريق
التجارة.
ومن جهة أخرى يظهر أن النظرية القائلة بأن الهكسوس يوجد فيهم عناصر حورانية لا ترتكز
على
براهين لغوية لأن معظم الأسماء الهكسوسية سامية محضة والأسماء التي لا يمكن تفسيرها على
هذا
الأساس لا تكاد تكون حورانية. فمثلًا كلمة «خيان»
٢٧ التي تُعَدُّ في العادة غير سامية قد قرنها الأثري «دوسو» بالاسم العربي
والقبطي حيان — على أن عدم وجود ألفاظ حورانية لا يعد دليلًا على عدم احتلال القوم لمصر،
فلدينا الاحتلال الإنجليزي لم يؤثِّر في لغة القوم — هذا ونجد بعض الصفات في فن النحت
قد
اسْتُنْبِطَتْ بهذه المناسبة لتبرهن على وجود عنصر شرقي في مدنية الهكسوس، ومن أحسن الأمثلة
في هذا الصدد اللوحة المسماة لوحة «هورنبلاور» حيث نجد أن الطائر المرسوم عليها يجب ألا
يُعْتَبَرَ أنه نسر قد رُسِمَ رسمًا رديئًا (وهو الطائر الذي يمثل الآلهة «نخبت» المصرية)
بل يجب أن يعتبر أنه الطائر «إمدوجود»
(Imdugud)
المسوبوتامي، هذا فضلًا عن أن النموذج الذي رُسِمَ في أسفل اللوحة هو طراز مسوبوتامي
لرسم
الجبال.
٢٨ ولا أنكر أن هذا التفسير ممكن كما لا أنكر المجاميع المضادة لذلك وهي التي
تُشَاهَدُ فيها شجرة الحياة على جعارين يمكن أن ترجع إلى تأثير من مسوبوتاميا، ولكن لما
كانت قد وُجِدَتْ أختام من الأسرة الأولى البابلية في «رأس شمرة» فإن هذه الصبغة الشرقية
الأصل في فن النحت يمكن أن تكون نتيجة اتصالات تجارية. ويبرهن على مثل هذه الاتصالات
البعيدة المدى بوجود فخار قبرصي في مصر مع أنه لم يحاول أي إنسان أن يبرهن على وجود عنصر
جنسي قبرصي بين الهكسوس.
وكذلك ظن البعض وجود عنصر آري في الهكسوس ويرتكز هذا الزعم على النظرية القائلة إن
الهكسوس قد غَزَوْا مصر بسهولة كبيرة لأنهم استعملوا العربات التي تجرها الخيل، وهذه
صناعة
حربية يقال عنها إنها آرية، وذلك لأن بعض الاصطلاحات الفنية المتعلقة بها يرجع أصلًا
إلى
قوم الهنود الإيرانيين وهذه العربات في الواقع قد أحدثت انقلابًا في فنون الحرب. ولا
يمكن
أن نستطرد في هذا المكان فنتكلم عن المسائل المعقدة الخاصة بتاريخ الحصان في الشرق الأدنى
بل يكفي أن نشير هنا إلى أن الحصان كان معروفًا في «مسوبوتاميا» منذ زمن طويل قبل أن
نجد
آثارًا هندية إيرانية
٢٩ ومن جهة أخرى ليس لدينا أي برهان على أن الهكسوس قد استعملوا الحصان حتى العهد
المتأخر جدًّا من حكمهم في مصر. وأحدث مصدر أدبي ذُكِرَ فيه الحصان هو المتن الذي يشير
إلى
طرد الهكسوس من مصر
٣٠ وقد وجد «بترى» في «تل العجول» الواقع جنوب فلسطين مقابر غنية كانت فيها
تُدْفَنُ مع الْمُتَوَفَّى جياد وحمير، وقد عُدَّ ذلك برهانًا قاطعًا على أن الهكسوس
من جهة
كانوا يستعلمون الحصان، ومن جهة أخرى كانت هذه المقابر خاصة بالهكسوس.
٣١ ولكن هذه المقابر يرجع تاريخها إلى نهاية عهد الهكسوس، ومن المحتمل إلى أوائل
الأسرة الثامنة عشرة.
٣٢ والواقع أنه لم يوجد حصان واحد أو حتى عظمة حصان في أي قبر من القبور العدة
التي من عهد الهكسوس في مصر، هذا إلى أنه لم توجد صورة واحدة لحصان على الرغم من أن كل
أنواع الحيوانات المختلفة قد صُوِّرَتْ على الجعارين الخاصة بهذا العهد. ففي مناظر الصيد
كان يُمَثَّلُ الصائد واقفًا على قدميه
٣٣ وهذا ليس هو الْمُتَّبَعُ عادة في الممالك التي كانت تَجُرُّ فيها الخيلُ
العربات، وعلى ذلك نجد أن كل البراهين تدل على ان الهكسوس لم يستعملوا قط العربات الحربية
إلا في حروبهم الأخيرة التي شَنُّوهَا على المصريين قبل أن يُطْرَدُوا من البلاد. (يُلْحَظُ
هنا أن سيتي الأول قد رُسِمَ واقفًا على قدميه وهو يصيد في صحراء الجيزة مع أن العربات
كانت
هي العدة السائدة في الصيد).
٣٤
ويقال كذلك إن الهكسوس قد جلبوا معهم طرازًا جديدًا من الحصون في الشرق الأدنى، وهذه
عبارة عن معسكر كبير جدًّا له جدا من الطين محاط بخندق. وقد قيل إن هذا الطراز من الحصون
هو
طبعي يقام فقط على السهول العظيمة مثل التي تجاور البحر الكسبي، وعلى ذلك فإن موطن هؤلاء
الهكسوس لا بد أن يُبْحَثَ عنه في هذه المساحات الشاسعة الأرجاء.
٣٥ ومعظم الحصون التي في فلسطين يرجع تاريخها إلى عصر الهكسوس على الرغم من أن
واحدة منها وهي «هازور» يقال إنها ترجع إلى زمن قبل ذلك، وتاريخ الحصون الأخرى يحوم حوله
الشك الكثير، هذا إلى أن حصن «سيبار»
(Sippar) قد
اسْتُنْبِطَ من متن سومري يَذْكُرُ أن «جدار «سيبار» … كان مصنوعًا من كتل عظيمة من
الطين».
٣٦ وعلى أية حال فإن هذا طراز منتشر انتشارًا عظيمًا في عهد الهكسوس، ولكن — وهذا
هو الأساس — لا يوجد مثال أكيد معروف لنا في مصر وهي البلاد الوحيدة التي وَطَّدَ فيها
الهكسوس أقدامهم على وجه التأكيد بوصفهم عاملًا سياسيًّا.
وقد فُسِّرَ مرارًا وتكرارًا أن كل خرائب «تل اليهودية» وخرائب «هليوبوليس» كان من
هذا
النوع من الحصون غير أن المهندس المعماري «ركه» كما يقول «سيف زودربرج» كان مصيبًا عندما
قرر بأنهما كانا على أغلب الظن أسس معبدين
٣٧ وفي رأيي أن هذا كلام فيه شك كبير لأن لم توجد آثار تثبت ذلك.
وخلاصة القول كما يقول «سيف زودربرج» أن تحليل البراهين الأثرية قد أعطانا نتيجة عكسية
ولكن في الواقع تعاضد الرأي الذي ذكرناه آنفًا، وهو أن حكم الهكسوس لم يكن إلا تغيير
القواد
السياسيين، وأنه لم يكن غزوة قام بها سلالة من الناس بعدد عظيم من الجنود يستعملون آلات
حربية متفوقة ولهم مدنية خاصة، ومن جهة أخرى فإن الهكسوس كان لهم اتصال وثيق بآسيا، ويظهر
أنهم قد ساعدوا على إدخال تجديد من هذه البلاد أكثر من أخلافهم المصريين. والواقع أنهم
عند
نهاية حكمهم في مصر كانوا قد أدخلوا عدة إصلاحات في فنون الحرب سعيًا منهم في أن يحافظوا
على قوتهم السياسية في وجه المعارضة المصرية التي كانت تتزايد. فقد جلبوا أولًا من آسيا
العربات التي تجرها الخيل وطرزًا جديدة من الخناجر والسيوف والآلات المصنوعة من البرنز
والقوس الأسيوي وهو القوس المركب. وهذا التطور الثقافي يتفق مع تواريخ الآثار الفعلية
التي
عُثِرَ عليها وهي الخاصة بهذه التجديدات في مصر، وذلك لأنها لم تكن معروفة حتى نهاية
حكم
الهكسوس، وسنرى بعد مقدار اتصال الهكسوس بآسيا من الغنائم التي استولى عليها منهم
«كاموس».
والرأي القائل بأن الهكسوس لم يُمَثِّلُوا في مصر غزوة حقيقية قام بها أقوام أجانب
يعضده
التطورات التي حدثت في بلاد النوبة وهي التي يمكن تأليفها ثانية من المتون والبراهين
الأثرية.
٣٨ ففي بلاد النوبة السفلى كانت هناك معارضة دائمة قوية للاحتلال المصري، وكان
النوبيون هناك يراقبون مراقبة شديدة بوساطة حصون قوية مقامة في الأماكن الآهلة بالسكان.
وقد
كان على الحكومة المصرية أن تكون صاحبة السلطان السياسي في بلاد النوبة السفلى لأجل أن
تحافظ على قيام تجارتها في «كرمة» الواقعة في الجنوب. أما في «كرمة» فكان الموقف على
العكس
وذلك لأن الأهالي كانوا يُجْنُونَ فوائد عظيمة من التجارة المصرية، ولم يحاول المصريون
قط
أن يسيطروا على هذه البقعة من الأرض سياسيًّا، ولكنهم فضلوا أن يكونوا على اتصال سلمي
تجاري، وقد ورث حكام الهكسوس هذه التجارة السلمية من المصريين في «كرمة»، وقد استمرت
مزدهرة
دون أي انقطاع لمدة تقرب من قرن بعد أن استولى الهكسوس على السلطة في مصر نفسها. ومن
المحتمل أن أحد أواخر ملوك الأسرة الثالثة عشرة في الصعيد بل ربما هو الأخير ويدعى «ددوموس»
وقد وحد بالملك «توتيمايوس» الذي ذكره المؤرخ «مانيتون» وهو الذي في عهده تغلب الهكسوس
على
مصر ما يقال، قد وجد اسمه في «كرمة» على ما يظن في نقش مُهَشَّمٍ.
٣٩ هذا وتوجد أسماء ملوك الهكسوس «شيشي» (=؟ «أسيس»
Assis) و«ماعت أب رع» و«يعقوب-أيل» على طوابع أختام في المستودع التجاري
وهي بلا شك كانت مستعملة الختم الوثائق الرسمية.
٤٠ وهؤلاء الملوك الهكسوس كانوا ضمن أول طائفة من الحكام الأجانب في مصر. ولدينا
براهين أثرية أخرى تظهر أن التجارة قد استمرت حتى ذلك العهد، وهذا يعني أن الحكام من
أول
«ددوموس» حتى هؤلاء الملوك الهكسوس لا بد أنهم كانوا قد حكموا بلاد النوبة السفلى والجزء
الجنوبي من مصر العليا.
وإذا كان هناك قوم عديدون من الأجانب قد غَزَوْا مصر وقَضَوْا على الإدارة المصرية
والقوة
الحربية ونظام الحكومة المصرية فإن هذا التطور الذي حدث في الجنوب يكون من الصعب جدًّا
تفسيره.
ويمكن أن نميز بعد حكم صغار الملوك الهكسوس الذين لا أهمية لهم سياسيًّا في الدلتا،
طائفتين من حكام الهكسوس: الطائفة الأولى هي التي يمكن أن نطلق عليها مع «مانيتون» ملوك
الأسرة الخامسة عشرة، وتحتوي على حسب قائمة الملوك التي دُوِّنَتْ على ورقة «تورين» خمسة
ملوك حكموا حوالي ١٠٨ سنة. وأسماء هؤلاء الملوك قد فُقِدَتْ إلا الاسم الأخير وهو الذي
يُسَمَّى في هذه الورقة «خامودي». وقد ذكر لنا «مانيتون» هذه الأسماء وهي «ساليتيس»،
«بنون»، «أباخنان» «أبو فيس»، «ياناس»، «أثيس»
(Athes) أو
«كرتوس». ونعرف كلًّا من «أبو فيس» و«ياناس» من الآثار المعاصرة في صورة «عاو سر رع»
«أبو
فيس» و«ساوسرت رع» «خيان»؛ أما «أثيس» فيمكن أن يُوَحَّدَ بالملك «شيشي» الذي نجد اسمه
غالبًا على جعارين يمكن تأريخها من حيث الأسلوب بالنصف المبكر من حكم الهكسوس. وهذه
الجعارين تتصل اتصالًا وثيقًا بالجعارين التي عليها اسم «ماعت إب رع» ويمكن أن يكون اسمًا
آخر لنفس هذا الملك ومن المحتمل أن اسم حاكم الهكسوس «يعقوب إيل» الذين نعرف اسمه من
جعارين
يتبع هذه الطائفة المبكرة من الملوك، أو كان أول ملوك الطائفة الثانية، هذا إذا حكمنا
عليه
من حيث الأسلوب وتوزيع جعارينه، وأخيرًا يمكن أن يكون «خامودي» وكذلك «كرتوس» اسمين مختلفين
لنفس الملك.
٤١ وليس لدينا كبير شك في الحقيقة القائمة بأن هؤلاء الملوك مع احتمال استثناء
«ساليتيس»، «بنون»، «أباخنان» قد حكموا كل مصر وبلاد النوبة السفلى كما يظهر لنا ذلك
من
توزيع الآثار التي وُجِدَتْ في أماكنها والتي تحمل أسماء هؤلاء الملوك.
أما الآثار التي عُثِرَ عليها في «كرمة» فقد سبق ذكرها. هذا ونجد اسمى «أبو فيس» «عاو
سر
رع»، «خيان» على بعض قطع أحجار من بلدة الجبلين جنوبي «طيبة» أما الآثار الأخرى فمعظمها
خفيفة الوزن ويمكن حملها كالجعارين وهذا ينطبق على كل الآثار التي عُثِرَ عليها في فلسطين
الجنوبية، ومن المحتمل جدًّا أن هؤلاء الهكسوس قد حكموا هذه البقعة كذلك، غير أن ذلك
ليس
مؤكدًا تمامًا.
ومن البراهين التي استنبطت من هذا الاحتمال هو أنه لا يكاد يكون من المسلم به أن
الهكسوس
قد فتحوا مصر دون أن يكونوا قد تسلطوا على فلسطين من قبل، ولكن إذا كان الهكسوس لم يفدوا
على مصر بوصفهم فاتحين بل بوصفهم مهاجرين مسالمين مكنوا أنفسهم بمثابة ملوك صغار في الدلتا
الشرقية، ومنها أفلحوا في التغلب على صغار ملوك الوجه القبلي الذين كانوا لا يحكمون إلا
مددًا قليلة، فإن هذا البرهان يصبح لا قيمة له. يضاف إلى ذلك أن وجود أسد عليه اسم الملك
«خيان» قد أُحْضِرَ إلى «بغداد»، وأن غطاء من المرمر عليه اسم هذا الملك نفسه وقد وُجِدَ
في
قصر «كنوسوس» في «كريت» لا يبرهن على أي شيء عن القوة السياسية للهكسوس في الشرق
الأدنى.
٤٢ ولكن يظهر واضحًا من متن متأخر خاص بحرب التحرير لرفع نير الهكسوس أن بلدة
«شاروهين» (يُحْتَمَلُ أن تكون «تل الفرعة») في فلسطين الجنوبية كانت معقلًا للهكسوس
وقد
فتحها «أحمس» ملك مصر، بعد أن قام بحصار ناجح على بلدة «أواريس» عاصمة الهكسوس في مصر.
ومهما يكن من حقيقة بلدة «أواريس» فإن وقوعها في الدلتا الشرقية يدل على أن الهكسوس كان
لهم
علاقة وثيقة بفلسطين ومن المحتمل أنهم كانوا يحكمون الجزء الجنوبي منها. هذا وتدل الغنائم
التي استولى عليها كاموس في حربه مع الهكسوس على أنه كان له نفوذ في فلسطين أو على الأقل
اتصال وثيق.
٤٣
ولدينا أثر من «تانيس» يدلنا على التاريخ الذي تولى فيه الهكسوس الحكم في الدلتا
الشرقية
وهذا الأثر هو ما يُسَمَّى لوحة الأربع مئة سنة. وكانت قد أقيمت في عهد الفرعون «رعمسيس
الثاني» وتحدثنا أن ملكي المستقبل «رعمسيس الأول» ومن بعده «سيتي الأول» قد احتفلا بعيد
أربع مئة السنة لعبادة «ست» في «تانيس». ولا بد أن يكون ذلك قد حدث في عهد الملك «حور
محب»
عندما كان كل من «رعمسيس الأوَّل» و«سيتي الأوَّل» يخدم بوصفه ضابطًا في الجيش المصري،
وقد
حكم «حور محب» من حوالي «١٣٣٠–١٣٢٠ق.م» على وجه التقريب. وعلى ذلك فإن عبادة الإله «ست»
تكون قد جُلِبَتْ إلى «تانيس» حوالي ١٧٣٠–١٧٢٠ق.م. وهذا التأريخ يمكن أن يحدد بداية حكم
الهكسوس في الدلتا، وذلك لأن مصادر أخرى تحدثنا أن الإله «ست» أو «سوتخ» كان الإله الرئيسي
عند الهكسوس. وعبادة الإله «ست» كانت موجودة في شرق الدلتا منذ الدولة القديمة أي قبل
عهد
الهكسوس بزمن طويل، ولكن الإله «ست»-«سوتخ» إله الهكسوس كان ذا صبغة أسيوية أكثر منها
مصرية
فكان بينه وبين الإله «بعل» أو الإله «رشب» أو الإله «تشوب» وكلهم آلهة حرب، وجه شبه
من حيث
المنظر؛ ولدينا جعران من عهد الهكسوس نرى عليه صورة «ست» من الطراز الذي مثل على اللوحة
السالفة الذكر،
٤٤ والثوب ولباس الرأس المحلى بقرني الإله من الصفات الخاصة بالأسيويين، ونجد في
المتون المتأخرة أن «أشتار-عشترت» (أو «عنات») كانت تعد زوج الإله «ست-بعل» وهذه الإلهة
العارية الجسم تظهر كذلك مصورة على جعارين هكسوسية.
٤٥
وعلى أية حال لا بد أن نعد من سبيل الدعاية القصة التي من زمن الرعامسة وهي ورقة
«ساليه»
الشهيرة التي تُحَدِّثُنَا أن ملك الهكسوس لم يخدم أي إله آخر غير «سوتخ» محتقرًا بذلك
الإله «رع»، المصري وكذلك قول الملكة «حتشبسوت» من الأسرة الثامنة عشرة إن الهكسوس قد
حكموا
بدون «رع».
٤٦ والبرهان على عدم صحة هذا الزعم هو أن كثيرًا من ملوك الهكسوس يحملون أسماء
مركبة تركيبًا مزجيًّا مع اسم الإله «رع» مثل «عظيمةٌ قوةُ «رع»، و«رع» هو سيد السيف»
وفضلًا عن ذلك نجد أن الملك «عاو سر رع» «أبو فيس» يسمى «ابن جسم «رع» و«الصورة الحية
«لرع»
على الأرض» وهذه النعوت كُتِبَتْ على لوحة يقول عنها الكاتب الملكي «أتيو» إنه تسلمها
هدية
من سيده الملك «أبو فيس».
٤٧ وهذه الحقائق تدل بوضوح على أن حكام الهكسوس كانوا يعبدون الإله المصري «رع»
كما كانوا يعبدون إلههم «سوتخ-بعل».
وتدل شواهد الأحوال على أن الهكسوس كانوا يحترمون المدنية المصرية — على الرغم من
تأكيد
«حتشبسوت» العكس من ذلك — وبخاصة عندما نعلم أن الكِتاب الرياضي الشهير الذي يرجع عهده
للأسرة الثانية عشرة قد نقله الكاتب «أحمس» في السنة الثالثة والثلاثين من حكم نفس الملك
«أبو فيس» السالف الذكر.
٤٨
وإذا حكمنا من الأسماء المصرية الصميمة لهؤلاء الكتبة وجدنا أن الهكسوس الْأُوَلَ
قد
استخدموا موظفين مصريين، يُضاف إلى ذلك أن استمرار تجارة مصر مع «كرمة» في بلاد «كوش»
النائية بدون انقطاع عندما أخذ الهكسوس مقاليد الأمور في مصر، كل ذلك يعضد الرأي أن الهكسوس
الأول قد اعتنقوا نظام الإدارة المصرية القديمة وكذلك استعانوا بالموظفين المصريين في
تيسير
أمور الحكم، ولا غرابة في ذلك فإن المصري كان يهضم أي فاتح لبلاده ويجعله يطبع بطابعها
كما
سنرى بعد:
هذا ونجد موزعًا على نفس الرقعة التي كان يسيطر فيها الهكسوس في مصر وغيرها جعارين
عدة
مثل جعارين الملك «شيشي»، وكذلك من نفس أسلوبها باسم ولقب حامل الخاتم «حار» الذي لا
بد كان
من أهم الموظفين الهكسوس حوالي نهاية حكم طائفة حكام الهكسوس الأولى، واسم «حار» — على
أغلب
الظن يُقْرَأُ «حور» وهي كلمة سامية ومعناها شريف أو «حر» بالعبرية — وعلى ذلك فمن الجائز
أن هذا الأجنبي كان له سلطان إداري يمتد على كل مصر بما في ذلك بلاد النوبة وجنوبي فلسطين.
ولما كان من المحتمل أن «حار» هذا قد عاش في عهد أحد أواخر ملوك الهكسوس الذي كان لا
يزال
يحكم في هذه البقعة فإنه مما يطيب لنا أن نجمع بطريقةٍ ما بين أنه أجنبي وبين المعارضة
المتزايدة من جانب المصريين ضد الهكسوس. وإنه لمن الصعب القول أن تعيين مثل هذا الأجنبي
في
وظيفة إدارية رئيسية كان من الأشياء التي أثارت الشعور المصري على الهكسوس، أو أن المعارضة
المتزايدة قد حركت الهكسوس إلى الاعتماد على أناس من جنسهم أكثر من الاعتماد على المصريين
الذين لم يكن من الممكن بعدُ الاعتماد عليهم، وذلك بالنسبة لانتقاض المصريين عليهم وتحرك
الشعور الوطني في وجه الحكم الأجنبي. ومهما يكن من أمر فإنه جاءت بعد هؤلاء الحكام العظام
طائفة أخرى من الهكسوس حوالي ١٦١٠ق.م. ويمكن أن نسميهم الأسرة السادسة عشرة وأسماء هؤلاء
الملوك لم نجدها بعدُ مذكورة على آثار من بلاد النوبة والجزء الجنوبي من الوجه
القبلي
٤٩ بل نجدها مجموعة في الجزء الشمالِي من مصر وفي فلسطين الجنوبية، ويُمَيَّزُ هذا
العصر بالشجار الذي نشب بين الهكسوس والمصريين، وكما ذكرنا من قبل يظهر أن التجديد في
فنون
الحرب الذي جلبه الهكسوس إلى مصر يمكن أن يُؤَرَّخَ من الوجهة الأثرية بهذا العهد، وذلك
عندما كان موقف الهكسوس السياسي في البلاد يهدده المصريون طلبًا في استقلال بلادهم وطرد
الغاصب. ولدينا من هذا العهد أثر صغير غاية في الأهمية عُثِرَ عليه في مقبرة «بالعرابة
المدفونة»
٥٠ وهذا الأثر هو تمثال «بولهول» له رأس ملكي ووجه سامي. ويلحظ أنه يذبح بمخالبه
مصريًّا، وإذا كان مصري قد استولى على مثل هذا التمثال غنيمة، فإنه على أغلب الظن كان
يهشمه
ويلقي به بعيدًا لما فيه من إثارة الخاطر، بدلًا من أن يدفنه معه في قبره، على أن وجود
هذا
التمثال في «العرابة» قد يدل على أن تاريخه يرجع إلى العهد الذي كان فيه الهكسوس لا يزالون
يحكمون هذا الجزء من الوجه القبلي، ولكن حدث ذلك عندما كان الشعور قد أصبح مريرًا بين
الهكسوس والمصريين.
وفي الوجه القبلي كان الملوك المحليون قد وصلوا في هذا الوقت إلى الحصول على استقلال
ذاتي
أخذ في التزايد كُلٌّ في مملكته الصغيرة في قلب مصر.
فنجد في «طيبة» أنه قد ظهر أول ملوك الأسرة السابعة عشرة بألقابهم الملكية وادَّعَوْا
أنهم الحكام الشرعيون لمصر، غير أنهم لم يكادوا يحكمون أكثر من الرقعة المجاورة لطيبة،
ومن
المحتمل أنه كان لزامًا عليهم أن يدفعوا جزية للهكسوس في الشمال. وأغلب الظن أنه كانت
توجد
أسرات حاكمة كثيرة محلية أخرى في الوجه القبلي في نفس الوقت، غير أن نسل ملوك «طيبة»
هم
الذين طردوا الهكسوس في النهاية بعد أن أصبح سلطانهم قويًّا.
والتأريخ المبكر للشجار الذي نشب بين الهكسوس والمصريين يحيطه الغموض، والمصدر الرئيسي
لذلك لدينا هو قصة من عهد «الرعامسة» أي إنها كُتِبَتْ بعد وقوع الحادث بعدة قرون، هذا
فضلًا عن أن متن القصة ممزق وموضوع القصة هو شجار بين أحد ملوك الهكسوس يُدْعَى «أبو
فيس»
وملك «طيبة» المسمى «سقنن رع» الذي كان سلفًا للملك «كاموس» والملك «أحمس» وهما الملكان
اللذان طردا الهكسوس في نهاية الأمر.
٥١ هذا وسنرى أن اللوحة التي كُشِفَ عنها حديثًا تُقَرِّبُ إلى أذهاننا ما جاء في
هذه القصة كما سنرى بعد.
وتُحَدِّثُنَا الوثائق أن مصر كانت في حالة وباء في هذا العهد وكان الوباء في بلد
الأسيويين، (يقصد أواريس) منذ أن كان الملك «أبو فيس» في أواريس، وكانت كل الأرض خاضعة
له.
وقد اتخذ الملك «أبو فيس» الإله «سوتخ» ربًّا له، ولم يَخْدُمْ أيَّ إله آخر في كل البلاد
وقد أقام معبدًا جميلًا للإله «سوتخ» وعبد هذا الإله بنفس الطريقة التي عبد بها إله الشمس
«رع حور أختي».
وكان الملك «سقنن رع» من جهة أخرى حاكم «طيبة» ولم يَمِلْ إلى أي إله آخر في كل البلاد
إلا «آمون رع»؛ والظاهر أنه أراد أن يهدئ من روع ملك الهكسوس فأكد له ولاءه، ولكن مما
يؤسف
له أن نهاية هذه القصة فُقِدَتْ، ويُحْتَمَلُ أنه جاء فيها ذكر بعض انتصار للملك «سقنن
رع»
بطل القصة على الهكسوس. ولا نعلم أي «أبو فيس» قد أشير له في القصة، والواقع أنه يوجد
ملكان
باسم «أبو فيس» وهما «أبو فيس» «عاقن رع» و«أبو فيس» «نب خبش رع». والأوَّل نعرفه من
النقوش
المعاصرة فقد بنى معبدًا (أو على الأقل جزءًا من معبد) للإله «ست «صاحب» أواريس» ولما
كان
«أبو فيس» الذي ذُكِرَ في القصة قد فعل مثل ذلك فإن عدو «سقنن رع» من المحتمل أن يكون
«أبو
فيس عاقن رع» وعلى أية حال سواء أكان «أبو فيس الأوَّل» أو الثاني فإن اسمه كان مركبًا
تركيبًا مزجيًّا مع اسم الإله «رع»؛ وبذلك يكون من الذي قدسوا هذا الإله، وهذه حقيقة
تُبَرْهِنُ بوضوح على الجانب الذي كانت تتجه إليه الدعاية في القصة.
وإنه لمن الصعب أن يصل الإنسان إلى لب الحقيقة في هذه القصة المتأخرة جدًّا، ولكن
من
السهل أن نفهم أن هذا الملك كان في أواخر عهد «سقنن رع» لا يزال يدفع جزية لملك الهكسوس
وأنه هو الملك الذي بدأ في وضع المقاومة المنظمة لطرد الأجانب، ومن الْمُحْتَمَلِ أن
هذا
المجهود الأوَّل هو الذي أجبر الهكسوس على الاعتراف باستقلال حكام «طيبة».
ونجد في رأس الملك «سقنن رع» خمسة جروح مخيفة، ولكن كما يقول كل من «جن» و«جاردنر»
إن
القول بأن هذه الجروح قد أصابته في خلال معركة مع الهكسوس قول مغر معتمد على الحدس
والتخمين
٥٢ والمرجح صدق هذا القول، وقد أشير بوضوح إلى هذا الموقف السياسي الدال على حكومة
مستقلة في مصر العليا في متن من عهد خلف «سقنن رع» وهو عهد الملك «كاموس». ولدينا روايتان
عنه إحداهما على لوحة معاصرة والرواية الثانية هي نسخة متأخرة بعض الشيء كُتِبَتْ على
لوحة
من الخشب.
٥٣ ومما يُؤْسَفُ له أن نهاية القصة وُجِدَتْ مُهَشَّمَةً في كلا المتنين؛ (ولكن
لحسن الحظ كُشِفَ أخيرًا عن لوحة ثانية هي بلا نزاع تكملة لحروب كاموس التي تحدث عنها
في
لوحة كرنارفون) وهما مؤرخان بالسنة الثالثة من حكم «كاموس» وبعد صيغة التاريخ يستمر المتن
قائلًا: «الملك القوي في «طيبة» «كاموس» مُعْطَى الحياة أبديًّا كان ملكًا محسنًا وقد
جعله
«رع» ملكًا حقيقيًّا وسلمه القوة بالحق المبين».
«وقد تكلم جلالته في قصره لمجلس الأشراف الذين كانوا في حاشيته: «إلى أي مدى أدرك
كنه
قوَّتي هذه عندما أرى حاكمًا في «أواريس» وآخر في «كوش» وأنا أجلس (في الحكم) مشتركًا
مع
أسيوي ونوبي وكل واحد منهما مسئول عن جزئه من مصر هذه؟ وذلك الذي يقاسمني الأرض لا أجعله
يمر في ماء مصر حتى «منف» التي تتبع (في الواقع) لمصر لأنه يملك «هليوبوليس» وإني سأصارعه
وأبقر بطنه، وإن رغبتي هي تحرير مصر والقضاء على الآسيويين».
وعندئذٍ قال عظماء مجلسه: «تأمل أن إقليم الآسيويين يمتد حتى «قوص» ولقد أخرجوا ألسنتهم
لنا حتى آخرها، ولكننا في أمان قابضين على نصيبنا من مصر «فإلفنتين» قوية، والأرض الوسطى
معنا حتى «القوصية»، والناس يزرعون لنا أحسن أرضهم، وماشيتنا ترعى في الدلتا، والشعير
يُرْسَلُ لخنازيرنا، وماشيتنا لم تُغْتَصَبْ، وليس هناك هجوم على … وعلى ذلك … وإنه يستولى
على أراضي الآسيويين ونحن مستولون على مصر، ولكن كل من يأتي إلى أرضنا ويناهضنا عندئذٍ
نناهضه».
والكلام الذي يلي ذلك وهو للملك مهشم، ولكن يمكن أن نفهم منه أنه قد أعلن «أنه سيطرد
من
سيشاطر الأرض معه» وأنه «سيسير شمالًا ليقبض عليه، والنجاح سيأتي، والأرض قاطبة ستصفق
للحاكم القوي في داخل طيبة «كاموس» حامي مصر».
٥٤
وعلى حسب رأي الأستاذ «دي بك» الذي يقول إنه من الموضوعات التقليدية أن الملك قَبْلَ
اتخاذ قرار هام كان يتحدث مع عظماء بلاطه، وأن هؤلاء بدورهم كانوا يعرضون عليه كل الصعوبات
الخاصة بالأمر الْمُقْتَرَحِ على الملك ناصحين إياه بألا يسعى في هذا المشروع الصعب.
ولكن
حتى لو كان ما لدينا هنا هو حيلة أدبية لتبرز لنا قرار الملك وعمله الجريء فإن ذلك لا
يعني
أن كلمات العظماء تقدم لنا صورة كاذبة عن الموقف الحقيقي، إذ في الواقع على عكس الأوصاف
المتأخرة لحكم الهكسوس نجد أن كلام العظماء يقدم لنا صورة أحسن قبولًا عن الموقف؛ إذ
يعترفون أن النوبيين لم يصبحوا بعدُ تحت حكم المصريين، ولكن الحدود كانت محصنة تحصينًا
جيدًا عند «إلفنتين» فلم يكن في إمكان النوبيين أن يهددوا قطر «كاموس». وكان الهكسوس
لا
يزالون يحكمون أجزاء كبيرة من «مصر» حتى «قوص». ومع ذلك فإن هذا الوضع لا يخلو من الفوائد.
فالهكسوس لم يعودوا بعدُ متوحشين قساة ظالمين — وهي الصورة المعتادة التي ورد ذكرها في
المصادر المتأخرة — بل إنه كان من الممكن أن يعاملهم الإنسان ويعيش معهم في سلام. فأهل
«طيبة» كان مسموحًا لهم أن يُرَبُّوا الماشية في الدلتا على الرغم من أن أرضها تابعة
لإقليم
الهكسوس ومع ذلك فلا يَغْتَصِبُ أحد ماشيتهم.
على أن هذا الموقف الذي ينم عن ميل متبادل بين المصريين والهكسوس ليس مجرد تعبير
أدبي
يقابل الفكرة المضادة التي كانت تخالج نفس الملك «كاموس» قبل أن يعلن الحرب على الهكسوس.
على أن عدم وجود حقد في صدور المصريين على هؤلاء الهكسوس يمكن أن نراه ممثلًا في نقش
أثري
كثيرًا ما حَيَّرَ العلماء الذين كانوا يعتمدون على الأوصاف العدائية للهكسوس في المصادر
المتأخرة ليبرهنوا على كُرْهِ المصريين لهؤلاء الغزاة. وذلك أنه قد عُثِرَ في قبر الملك
«أمنمحتب الأول» الذي مات بعد حوالي نصف قرن من عهد «كاموس» (حوالي نفس الوقت منذ أن
نسخ
على لوحة من الخشب نقش «كاموس») على قطعة من إناء المرمر عليها اسم الملك «عاو سر رع»
«أبو
فيس» وابنة الملك المسماة «حريت»، والغريب أنه لم يوجد في هذا النقش أية إشارة تدل على
الكشط، وعلى ذلك فإن وجود أثر نقشٍ عليه اسم ملك من ملوك الهكسوس الذين كان مفروضًا دائمًا
أن المصريين يحقدون عليهم أشد الحقد في مقبرة ملك مصري يدل على أن الملوك المبكرين في
الأسرة الثامنة عشرة كان لهم رأي غير معادٍ للهكسوس إذا ما قُرن بالرأي الذي نقرؤه في
المصادر المتأخرة عن هؤلاء القوم.
٥٥
ويُلْحَظُ أن الملك «كاموس» في جوابه لرجال حاشيته لم يعتنق السبب الذي أشير إليه
في
خطابه الأول وهو أن مواطنيه في الوجه البحري قد عُومِلُوا معاملة سيئة على يد الهكسوس
ولكنه
يؤكد نقطة أخرى وهو أنه لا يمكنه أن يتحمل حاكمًا آخر يقاسمه أرض مصر. وسياسته على حسب
التعابير الحديثة يمكن أن توصف بالكلمات التالية: «شعب واحد وبلاد واحدة وزعيم واحد».
(ويفهم من منطوق النقش أنه كان يعتبر مصر والسودان بلدًا واحدًا).
وعلى ذلك فإنه قد يكون من غير المؤكد أن المصريين فَضَّلُوا أن يدفعوا ضرائب «لكاموس»
بدلًا من دفعها للهكسوس. وتوجد ظروف خاصة يمكن أن تبرر هذه الشكوك. فالعدو الأول الذي
هاجمه
«كاموس»، هو شخصية تُدْعَى «تيتي» ابن «بيوبي» في بلدة الحدود المسماة «نفروسي». ومن
المحتمل أن هذا كان مصريًّا إذا حكمنا عليه من اسمه، وقد قيل عنه إنه قد حوَّل «نفروسي
إلى
عش للآسيويين، وهذا تعبير يوحي بأنه مصري قد انحاز إلى الهكسوس وبخاصة أن كلامه على ما
يظهر
يعد مناقضًا لكلمات «كاموس»: «لقد وَلَّيْتُ ظهري للآسيويين الذين اعْتَدَوْا (؟) على
مصر».
ويمكن أن نفهم أن صغار الملوك قد اخْتَفَوْا عندما تسلَّم الطيبيون زمام الحكم، ومن الجائز
أنهم لم يسلِّموا دون مقاومة وأن بعضهم قد فضل الانضمام إلى الهكسوس الذين كانت قبضتهم
على
البلاد منحلة، ويمكن استنباط ذلك من ظهور الأسرة السابعة عشرة نفسها. هذا هو رأي سيف
زودربرج، ولكن الواقع أن المصريين كانوا في كل تاريخهم لا يفضلون حكم الأجنبي مهما كان
رحيمًا وأنهم بلا شك كانوا يعملون على طرد الهكسوس من بلادهم وأن وجود خائن واحد لا يدل
على
قبولهم حكم الأجنبي.
ومهما يكن من أمر فإننا لا نكاد ننتظر من متن رسمي إشارات للنجاح أكثر وضوحًا في مثل
هذه
الأحوال مما ذكر، ولكن الرواية الرسمية يجب بطبيعة الحال أن توحي بأن «كاموس» قد رُحِّبَ
به
بحماس من الأهلين بوصفه المحرر لوطنهم، وهذه هي الحالة التي يجب أن تسود في أيامنا
أيضًا.
وقد ذُكِرَ في الوصف الأوَّل المختصر للحروب جنود المزوي مرتين والظاهر أنهم قد لعبوا
دورًا هامًّا، ونحن نعلم أن المزوي كانت قبيلة تسكن البقاع الواقعة جنوبي مصر، وجنود
المزوي
الذين ذُكِرُوا في متن «كاموس» كان يجب أن يكون بينهم صلة وبين المقابر التي تُدْعَى
المقابر القعبية التي وُجِدَتْ موزعة في هذا الوقت على مساحة تعادل بالضبط الإقليم الذي
كان
يسيطر عليه «كاموس» وتظهر لنا محتويات هذه المقابر بوضوح أنها ملك لقبيلة حربية من بلاد
النوبة والسودان وكان أهلها مجهزين بأسلحة مصرية، وقد رُسِمَ على رأس ثور أحد هؤلاء
المتوحشين الذين أُتِيَ بهم بوساطة الطيبيين لمساعدتهم على الهكسوس
٥٦ وهو حَامِيُّ السلالة يرتدي قميصًا ويحمل بلطة مصرية ومقلاعًا.
وكذلك لدينا صور معاصرة تقدم لنا فكرة عن منظر المحارب الهكسوسي، فلدينا من عهد ملك
الهكسوس المسمى «أبو فيس» «نب خبش رع» خنجر وُجِدَ في مقبرة «بسقارة»
٥٧ ومن المحتمل أن هذا الملك كان مناهضًا «لكاموس». وقد وُجِدَ الخنجر في قبر رجل
سَامِيِّ الجنس يُدْعَى «عابد» وهو في الأصل كان لسامي محارب آخر. كان سيده يتبع عظيمًا
يُدْعَى «نحمن»، وكان «نحمن» ذا ملامح سامية وأسلحته التي كانت معه حربة وقوسًا قصيرًا
مركبًا وسيفًا وخنجرًا ويحتمل أنها كلها من طراز سامي. وطراز الخنجر نفسه بمقبضه المطعم
يحتمل أن يكون طرازًا أسيويًّا جديدًا أيضًا، والواقع أنه من أقدم العينات المعروفة لهذا
الطراز من الخناجر المتقنة البتارة
٥٨ وكذلك يظهر في الزخرفة التي عليه الأثرُ الأسيوي ويمكن أن نقرنها مثلًا بجعران
من «يريحا» من فلسطين
٥٩ ولدينا في هذه الزينة أسلوب سوري فلسطيني الأصل، وكذلك يوجد نفس الفن في الزينة
في مجوهرات سورية.
٦٠ وقد جاءت اللوحة التي كشفها الأستاذ لبيب حبشي مُؤَيِّدَةً لهذا الرأي كل
التأييد كما سنرى بعد.
وهذه الصور تبرهن لنا بوضوح على أن الهكسوس كان لهم اتصال وثيق بآسيا ومن ثَمَّ أخذوا
عنها قوتهم الفنية في فنون الحروب خلال الحروب الفاصلة التي شنوها على المصريين الذين
اعتمدوا بدورهم على أراضيهم الخلفية في أفريقيا. وهكذا نخرج بفكرة أن حروب التحرير هذه
كانت
حروبًا بين آسيا وأفريقيا.
ولما كانت نهاية متن «كاموس» قد فُقِدَتْ فقد بقِينا لا نعرف إلى أي حد قد نجح المصريون
في طرد الهكسوس نحو الشمال إلى أن كُشِفَتِ اللوحة التي أماط عنها اللثام الأستاذ لبيب
حبشي
في صيف عام ١٩٥٤ هو والدكتور حماد في معبد الكرنك.
٦١
والواقع أن النصر النهائي قد أتى على يدي أخيه وخلفه «أحمس» وقد حدثنا ضابط بحري
يُدْعَى
«أحمس» بن «إبانا» أن «أواريس» قد سقطت بعد حصار طويل وأن «شاروهين» الواقعة في فلسطين
الجنوبية قد حُوصِرَتْ بعد ذلك ثلاث سنوات وسقطت. ولا بد أن «شاروهين» هذه كانت معقلًا
في
فلسطين الجنوبية ويحتمل أنها موحدة ببلدة «تل الفرعة» وهي التي يُسَمِّيهَا «بتري»
«بيت بلث»
(Beth
Peleth) في تقريره عن
الحفائر في هذه الجهة.
٦٢ وبسقوط هذا الحصن أُبْعِدَ الخطر من الشمال وكُسِرَتْ شوكة الهكسوس على الأقل
في هذه الفترة ولا أدل على ذلك من أن «أحمس الأول» حوَّل نظره الآن نحو الجنوب واستولى
ثانية على بلاد النوبة السفلى حتى «بهين» عند الشلال الثاني. فإذا كان الهكسوس وقتئذٍ
يؤلِّفون خطرًا مداهما في الشمال فإن التوسع في الجنوب لم يكن ممكنًا.
وقد أخذ المصريون عن الهكسوس كثيرًا من التجديد في فنون الحرب الأسيوية ولم يلبثوا
أن
أصبحوا من أقوى الدول في الشرق الأدنى وقد فتحوا كذلك دولة في الشمال أيضًا. وفي غضون
الحملات المتأخرة في آسيا تعلَّم المصريون أشياء جديدة من الفنون الجديدة في الحرب التي
أصبحت مميزة بها، وذلك نتيجة لإدخال استعمال العربات التي تجرها الجياد استعمالًا كاملًا.
ففي مصر وكذلك في ممالك أخرى كانت الحروب تُشَنُّ بوساطة جنود محترفين قد تعلموا حرفتهم
منذ
الطفولة، وكانوا يُقْطَعُونَ الإقطاعات مقابل ذلك هبةً من الفرعون، وكانت هذه الإقطاعات
تبقى في الأسرة ما دام فرد من الأسرة يحارب في جيش جلالته.
٦٣
وقد كان نتيجة احتلال الهكسوس لمصر أنها غيرت عاداتها بالنسبة لفنون الحرب وبالنسبة
لتفاصيل أخرى فنية كما غيرت أنظمتها الداخلية السياسية فبدأت مصر تدخل في عهد يمكن أن
يُطْلَقَ عليه عصر الفروسية في الشرق الأدنى.
هوامش