الفصل السابع عشر
حالة بلاد النوبة الاقتصادية في عهد الدولة الحديثة
تنحصر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها عن الحالة الاقتصادية بين بلاد النوبة ومصر
فيما
نجده مذكورًا من تعداد المحاصيل الجنوبية على الآثار الحكومية والنقوش العادية من جهة،
وما
نجده ممثلًا من جزية وبخاصة في مناظر المقابر الخاصة من جهة أخرى. ومما يؤسف له أن القوائم
الرسمية لم تصل إلينا حتى الآن. والواقع أن النقوش التي نجدها على المباني الحكومية لا
تقدم
لنا صورة حقيقية عن قوائم الجزية الفعلية، إذ نجد مرتين في تواريخ «تحتمس الثالث» أن
الجزية
لم يُذْكَرْ عنها شيء هام، وعلى ذلك لا يمكننا إلا أن نعطي فكرة عامة عن الجزية. ويلحظ
عادة
أن المحاصيل المختلفة كانت تُدَوَّنُ دون ذكر عددها، هذا فضلًا عن أنها كانت تُرْسَمُ
دون
نقش مفسِّر لها، من أجل ذلك لم نستطع في كثير من الأحوال تحديد الغرض من ذكرها. والواقع
أن
المناظر الخاصة بتوريد الجزية كانت تسير على نهج واحد، وذلك أنه كانت تصور أمام الملك
كومة
أنيقة التنظيم من السلع، ويقف الموظف الخاص بتقديمها أمام الفرعون ليقدم حسابه ويرى خلف
الجزية المكدسة أمراء البلاد الذين كانوا يُوردون هذه الجزية راكعين، وكان هؤلاء الأمراء
يُمَيَّزُونَ عن رعاياهم الذين كانوا يرتدون قمصانا قصيرة حاملين على أكتافهم منتجات
بلادهم
بملابسهم الثمينة وزينتهم الفاخرة. وقد جادت الصدف بطريق الاستثناء أن كُتِبَ على أحد
مناظر
الجزية من عهد «أمنحتب الثاني»
١ في معبد قصر أبريم تعداد المحاصيل، وقد وردت الكميات في صور رجال محملين، وهذا
ما يدل عليه منطق الصورة. وهذا الإحصاء لا يعد بحال من الأحوال إحصاء رسميًّا، والمتن
الخاص
بذلك تصعب قراءته في بعض نواحيه، هذا إلى أن الأرقام بسبب تهشم النقش لم يمكن التأكد
منها،
فنجد بعد ذكر اسم الملك ما يأتي: «لقد ظهر جلالته في «طيبة» على العرش». وهذا يدل صراحة
على
أن توريد الجزية وهي التي ذُكِرَتْ في المتن بكلمة «إنو» قد جاءت من البلاد الجنوبية
كما
كان يحدث عادة في عاصمة الملك ويأتي بعد مديح رجال البلاط والجيش للملك القائمة التالية
عن
الجزية الموردة:
قائمة حاملي هذه الجزية
٢٠٠ |
من الرجال محملين ﺑ … |
١٥٠ |
من الرجال محملين بالذهب (؟). |
٢٠٠ |
من الرجال محملين بمادة حماجت |
٢٥٠ |
من الرجال محملين بسن الفيل (أو ٧٠.١٦٠.٣٤٠؟). |
١٠٠٠ |
من الرجال محملين بالأبنوس |
٢٠٠ |
من الرجال محملين بكل رائحة حلوة من أرض الجنوب. |
٥٠ |
من الرجال محملين بخشب (؟) … (أو ٣٤ رجل). |
١٠ |
من الرجال محملين بفهود حية. |
٢٠ |
من الرجال محملين بكلاب صيد |
٤٠٠ |
من الرجال محملين بثيران من نوع «أوا» ونوع «ونچو». |
٢٦٥٧ (؟) أو ٢٦٤٩ (؟) |
مجموع الحاملين لهذه الجزية. |
هذا ولدينا نقش آخر وهو نوع ثانٍ من القوائم الخاصة بمحاصيل الجنوب لم ينشر إلا ترجمته،
وقد وُجِدَ مكتوبًا على صخرة في «تومبوس» وأُرِّخَ بالسنة العشرين من عهد الفرعون «تحتمس
الثالث»، وقد دُوِّنَ فيه مقادير الجزية من الأشياء الثمينة المختلفة الأنواع من «كوش»،
ويرجع الفضل في جمعها إلى مقدرة نائب الملك ومهارته. وهذا المتن المهشم نورده هنا على
حسب
نسخة الأستاذ «ريزنر»: «السنة العشرون الإله الطيب الذي يهزم المعتدي … (وأعد البناء)
وبيت
والده، وبذلك أعطاه القوة (؟) … منخبر رع … (قربان يقدمه الملك قربانا لآمون سيد عرش
الأرضين وتاسوع الآلهة في بلاد النوبة؛ وعلى ذلك أُعْطُوا الشجاعة واليقظة … الحياة
والسلطان والصحة والفطنة، وكذلك الحظوة عند الملك وكل شيء جميل وطاهر لروح ابن الملك،
والمشرف على البلاد الأجنبية «انبني (؟)» … ممتازًا لسيده والذي … ويملأ بيت سيده (الملك)
مع … خنمت، وسن الفيل والأبنوس وخشب «تيشبس» وجلود الفهود وخسيت، وبخور «المزوي» والأشياء
الطريفة من كوش وهي التي يجلبها إلى قصر رب الأرضين، وهو الذي يدخل فيه ممدوحًا ويخرج
محبوبًا ابن الملك «انبني (؟)»
٢ ونجد المحاصيل التي ذكرت هنا قد جاء ذكرها في إحصاء المحاصيل العجيبة التي كانت
ترد من بلاد «بُنت» وكل الأعشاب الجميلة التي كانت تأتي من أرض الإله في معبد «حتشبسوت»
بالدير البحري. فنجد هناك بعد ذكر المحاصيل العطرية خشب الأبنوس وسن الفيل النقي والذهب
الأخضر من «عمو»، و«تيشبس» و«خسيت» و«إهمت» والعطور والكحل ونوعين من القردة وكلاب صيد
وجلود فهود وأناسًا من أهل «بُنت»؛
٣ هذا ولدينا إحصاء قصير مشابه للسابق نقش على لوحة جنازية من عهد الأسرة التاسعة
عشرة
٤ وهو: «وجعل النوبيين يأتون إليه بجزية من الذهب في … وخشب الأبنوس وسن الفيل
وخنمت ونشمت وجلد الفهد لأجل أن تصبح الآثار التي في معابد كل الآلهة أكثر عددًا».
وتقدم لنا كل هذه المتون بما جاء فيها من مقادير الحاصلات صورة ناقصة مبهمة عن الدور
الذي
كانت تقوم به بلاد النوبة في الحياة المصرية الاقتصادية. ولا يمكننا أن نذكر هنا على
وجه
التأكيد ازدياد الأهمية الاقتصادية وبخاصة إذا فهمنا أن الحالة السياسية كانت قد توطدت
وظهر
مفعول النظام الإداري الجديد بوضوح.
الذهب: وكان الذهب هو أهم محصول في بلاد النوبة كما
كانت الحال من قبل في عهد الدولة الوسطى. ونجد للمرة الأولى الآن أنه قد حُدِّدَتْ مقادير
معلومة في عهد الدولة الحديثة لكل عام كانت تُرْسَلُ سنويًّا لمصر جزية. فنجد في تواريخ
«تحتمس الثالث» أن هذه المقادير كانت معروفة من بعد السنة الحادية والثلاثين من حكمه،
وعلى
الرغم من أن كثيرًا من متون هذه الإحصاءات قد وُجِدَ مُهَشَّمًا فإننا بوساطة ما بقي
منها
يمكننا أن نكوِّن صورة عن أهمية مناجم الذهب المختلفة. وتنتظم الضرائب النوبية من الذهب
قسمين: الضرائب التي كانت تُجْبَى من «كوش» والضرائب التي كانت تُجْمَعُ من «واوات» وذلك
على حسب تقسيم البلاد إداريًّا قسمين، فالكمية الكبرى كانت تُجْبَى من بلاد «واوات» وهو
الإقليم الذي يقع بين الشلال الأول والثاني بما في ذلك طرقه الصحراوية التي تشمل على
مناجم
للذهب غنية في «وادي العلاقي» شرقي «كوبان» والإحصاء الذي بقي لدينا من مناجم «واوات»
هو:
السنة الرابعة والثلاثون = ٢٥٥٤ دبنًا = ٢٣٢٫٤ كيلو جراما.
٥
السنة الثامنة والثلاثون = ٢٨٤٤ دبنًا = ٢٥٨٫٨ كيلو جراما.
٦
السنة والواحدة والأربعون=
٧ ٣١٤٤٫٣ دبنًا = ٢٨٦٫١ كيلو جراما.
٨
السنة الثانية والأربعون = ٢٣٧٤٫١ دبنًا = ٢١٦ كيلو جراما.
٩
والمحصول السنوي من بلاد «كوش» أقل بكثير من محصول بلاد «واوات» ويرجع السبب في ذلك
إلى
أن مناجم الذهب كان الوصول إليها صعبًا هناك، هذا إلى أن طرق النقل إلى مصر كانت أطول؛
ويلحظ أن كثيرًا من الذهب الذي كان يستخرج من الإقليم الواقع في الجنوب الشرقي من الشلال
الثاني لم يكن يستخرجه المصري، بل كان يقوم بتعدينه الأهالي من النوبيين وكانوا يدفعونه
جزية لمصر. والذهب الذي كان يدفع جزية لمصر على حسب ما جاء في تواريخ «تحتمس الثالث»
من
إدارة بلاد «كوش» هو:
السنة الثالثة والثلاثون: ١٥٥٫٢ دبنًا = ١٤٫١ كيلو جراما.
١٠
السنة الرابعة والثلاثون: ٣٠٠ دبن = ٢٧٫٣ كيلو جراما.
١١
السنة السابعة والثلاثون: ٧٠٫١ دبنًا = ٦٫٤ كيلو جراما.
١٢
السنة الثامنة والثلاثون: ١٠٠ دبن = ٩٫١ كيلو جرامًا.
١٣
السنة الواحدة والأربعون: ١٩٥٫٢ دبنًا = ١٧٫٨ كيلو جرامًا.
١٤
ولدينا إحصاءات أخرى عن الجزية ذات أهمية من عهد «تحتمس الثالث» فنعلم أن الإله «آمون»
معبود الدولة كان يحصل على مقدار ٦١٣٫٦٦ دبنًا من الذهب أي ما يعادل حوالي ٥٥٫٨ كيلو
جرامًا
في هيئة سبائك وحلقات هدية،
١٥ وقد أُهْدِيَ مرة أخرى ٣٦٦٩٢ دبنًا أي ما يساوي ٣٣٣٨٫٩٦ كيلو جرامًا،
١٦ وفي مرة ثالثة نجده يتسلم أكثر من ١٥٢١٠٤٫١٥ دبنا = ١٣٨٤١٫٥ كيلو
جرامًا،
١٧ ويلاحظ أن كميات الذهب الثلاث لم تأتِ كلها من بلاد النوبة، وذلك لأن مناجم
الذهب الواقعة شرقي «قفط» كانت كذلك تُسْتَغَلُّ، هذا فضلًا عن أنه كان يأتي من الحملات
الآسيوية غنائم من الذهب ومعظمه كان في الأصل من مصر.
١٨
ومن هذه المصادر المختلفة للذهب يظهر لنا أن الذهب النوبي كان يلعب الدور الأهم في
مالية
البلاد. ولكن مما يُؤْسَفُ له أنه ليس لدينا إحصاءات يمكننا بها أن نحدد أرقامها على
وجه
التأكيد، ومع ذلك فقد قُدِّرَ ذهب الجزية الذي كان يورد من رعايا الإله «آمون» في عهد
«رعمسيس الثالث» من ذهب «قفط» بحوالي ٦١٫٣ دبنًا فقط في حين أن كمية الذهب التي كانت
تورد
من «كوش» (يعني كل بلاد النوبة) ٢٩٠٫٨١٢٥ دبنًا،
١٩ يضاف إلى ذلك ٢١٧٫٥ دبنًا من الذهب الجميل،
٢٠ ولم يُنْعَتْ بهذا الوصف بسبب البلاد التي أتى منها بل على ما يظن سُمِّيَ
بالجميل لنقاوته.
٢١
ونجد خلافًا لما جاء ذكره بوجه خاص في تواريخ «تحتمس الثالث» عن ذهب «واوات» و«كوش»
أنه
قد جاء في المتون المصرية ذكر بلاد أخرى يأتي منها الذهب. وعلى الرغم من أننا لا نعرف
مواقع
هذه البلاد بالضبط فإن كثيرًا منها يقع في الجنوب من منطقة «وادي العلاقي» و«أم بناردي».
ونجد فيما يُسَمَّى قائمة ذهب «رعمسيس الثاني»
٢٢ المنقوشة في معبد «الأقصر» على الجدارين اللذين يؤلفان الزاوية الجنوبية لردهة
«رعمسيس الثاني»، سلسلة من شخصيات تمثل الجبال والواحات التي أحضَروا منها الذهب لهذا
الفرعون. ففي حين نجد محاصيل يحملها أناس تتألف من الأحجار الكريمة والفضة، نجد من جهة
أخرى
أن الذهب الذي كان يُحْضَرُ من الجنوب يفوقها قيمة. ويأتي بعد الذهب الذي كان يستخرج
من
مجاري المياه ذكر أماكن يستخرج منها الذهب بكميات كبيرة نخص بالذكر منها «نسوت تاوي»
(أي
جبل برقل)، وهذا الجبل يوجد فيه الذهب والأحجار الكريمة، وجبل «عمو» وجبال «كوش» وجبل
«خاست» في تاستي (بلاد النوبة) وجبل «خنت-حن-نفر» ثم نقرأ بعد ذلك ثلاثة أسماء مهشمة
في
المتن: جبل «يابت خري حب»؟ والجبل المقدس (زووعب) وجبل «إدفو» وجبل «قفط»، وقد ذكر الجبل
الأخير مرة أخرى بأنه يوجد فيه الأحجار الكريمة، وكذلك كان يجلب من أرض الآلهة، ثم يأتي
بعد
ذلك الواحات والأرض الشمالية، هذا ولم يأتِ لنا بجديد إحصاء آخر مماثل للسابق يرجع عهده
إلى
زمن «رعمسيس الثالث» من مدينة «هابو»
٢٣ فقد جاء فيه سبع حقائب معها التفسير التالي: «ذهب من كوش وذهب جميل مقداره ألف
دبن وذهب جبل، وذهب من الماء مقداره ألف دبن، وذهب من صحراء «إدفو» وذهب من «أمبوس» (كوم
أمبو) وذهب من «قفط». ويلاحظ أن هذه الأماكن ليست مرتبة ترتيبًا جغرافيًّا، ولا زلنا
نتساءل
إلى أي حد تمثل هذه المعلومات أماكن مختلفة يوجد فيها معدن الذهب. فالذهب الذي يُسْتَخْرَجُ
من الماء هو نفس الذهب المائي في قائمة «الأقصر» الخاصة «رعمسيس الثاني». والذهب الذي
ذُكِرَ في قائمة «الأقصر» بأنه أُحْضِرَ
٢٤ من جبل «برقل» نجد كذلك ما يؤكده في نقوش عهد «أمنحتب الثالث»، إذ نعلم أنه قد
أحضر ذهبًا في حملته الأولى من «كاراي» إلى مصر، وكذلك ذهب «عمو» قد جاء ذكره في وثائق
أخرى،
٢٥ وكذلك ذكر الذهب الأخضر فإنه من بلاد «عمو» في حملة «بُنت» التي أرسلتها
«حتشبسوت» إلى هذه البلاد، ويشير إلى أنها بلاد في أقصى الجنوب، ويحتمل أنها خارجة عن
دائرة
إدارة بلاد النوبة. ويأتي من إقليم بلاد النوبة من جهة أخرى الذهب الذي أحضره أميرَا
بلاد
ميو و«إرم» للملكة «حتشبسوت»،
٢٦ وفضلًا عن ذلك الذهب الذي أتى من «ميو». وملامح أهل «الميو» تدل على تقاطيع
زنجية. وذُكِرَتْ في تواريخ «تحتمس الثالث» «إرم» ضمن دائرة الإدارة الكوشية.
٢٧ أما الجبل الطاهر (زو-وعب) الذي جاء ذكره في قائمة «رعمسيس الثاني» فيجب أن
نبحث عن مكانه في جهة الشمال لا في جبل «برقل» الذي ذُكِرَ من قبل. وقد جاء كذلك ذكر
«الجبل
الطاهر» في «أبو سمبل» وقد وضع في مصور «تورين»
٢٨ الذي ذكر فيه أماكن مناجم الذهب في جهة الحمامات، ومن ثَمَّ نفهم أن المصري كان
يستغل هذا الإقليم الواسع الذي يمتد من «الحمامات» في الشمال حتى السودان في الجنوب.
والواقع أن تقدير كميات الذهب بحسابنا الحديث لا يقدم لنا نسبة أكيدة. وذلك لأننا لا
نعرف
حتى الآن القيمة الشرائية للذهب في هذا العهد على وجه التأكيد. وعلى أية حال يجب أن يكون
محصول الذهب من هذه البلاد فوق المعتاد، وأنه وضَع مصر في مكانة ممتازة من حيث التجارة
في
العالم القديم. وكان الذهب يُجْلَبُ إلى مصر غفلًا أو مصنوعًا في حلقات أو قضبان ولم
نجد
صناعة محلية للذهب في مصر إلا في النصف الأول من عهد الأسرة الثامنة عشرة.
وما نجده من الذهب مذكورًا في عهد «تحتمس الثالث» هدايا مقدسة مثل موائد القربان
والمواعين والقلائد وحلي «وزا» وعقود «منيت» (الخاصة بالإلهة «حتحور») المصنوعة من السام
وهي التي كان يتسلمها جلالة الملك من الأراضي الجنوبية جزية سنوية ليست محاصيل تجارية
وإنما
تشير إلى ذهب الجزية الذي كانت تُصْنَعُ منه هذه الأشياء.
٢٩
وكانت بلاد النوبة على وجه عام تورد في هذا العهد المواد الغفل وبخاصة تلك التي كانت
ترسم
بداهة في المناظر حيث كانت توضع محاصيل الشمال والجنوب الواحدة مقابلة للأخرى في الصورة،
ففي مقبرة «امنموسى»
٣٠ مثلًا صور أهل الشمال يحضرون الأواني الفنية ومواد التجارة الأخرى، في حين كان
أهل الجنوب يحضرون حلقات من الذهب وحقائب وخشب أبنوس إلخ، ونجد كذلك في مقبرة «رخ مي
رع» أن
الصناعة اليدوية النوبية قد مُثِّلَتْ فيما يقدم من جزية في صور بعض أوان خاصة بالمئونة
هذا
إلى قاعدة إناء. ونجد للمرة الأولى في «عهد تل العمارنة» تمثيل محاصيل من صنع الأيدي
تتألف
منها الجزية النوبية فمن ذلك نشاهد زهريات فاخرة.
٣١ وكراسي
٣٢ ودروعًا وأقواسًا.
٣٣
وأثمن ما سبق الصورة التي وجدت في مقبرة «حوي» إذ نجد ضمن مواد الجزية كنانات وأقواسًا،
ونجد فيما يُقَدَّمُ للملك سهامًا ودروعًا منه اثنتان مُوَشَّاتَانِ بصور بارزة وكراسي
ذات
ظهور ومن غير ظهور وأَسِرَّةً ومساند رأس وعربة بعمود في صورة تمثال عبد ومحفة ومائدة
زينة
لها قاعدة ومسند قدم، ومروحة من ريش النعام. ويقول الأستاذ «ينكر»
٣٤ في هذا الصدد: «والآن بعد نتائج الحفائر التي أجريت في «كرمة» نجد أن الحضارة
هناك كانت متأثرة في كثير من الأشياء بالحضارة المصرية، ولكن المدنية هناك كانت في لبها
سودانية أصيلة، ومن ثَمَّ أصبح في مقدورنا أن نفهم بصورة أحسن بقية الثقافة النوبية.
وتضع
أمامنا الجزية التي صُوِّرَتْ في مقبرة «حوي» فكرة التبادل، وما كانت عليه اليد العاملة
النوبية من مهارة في ذلك العهد. أما فكرة أن النوبيين لم يكونوا إلا مورِّدين للمواد
الغفل،
وأن الصناع المصريين هم الذين كانوا يصنعون الكراسي والمساند وغيرها فقد أصبحت فكرة لا
قيمة
لها بعد الكشف عن ثقافة «كرمة» وما وجد فيها من صناعات غاية في الإتقان».
وهذا الرأي الذي أدلى به «ينكر» يمكن قبوله وبخاصة بعد أن وجدنا أن المحاصيل قد صُنِعَتْ
بأيدي صناع نوبيين؛ هذا إلى الأشياء التي عُثِرَ عليها في مقابر نوبية من عهد الدولة
الحديثة وبخاصة التي من صنع أهالي النوبة أنفسهم، ولكن من جهة أخرى نجد حسب نتائج الحفائر
التي عُمِلَتْ في مصر، وكذلك على حسب النقوش والمناظر أن هذه المحاصيل لم تُصَدَّرْ بمقادير
كبيرة. ولا بد أن نبرز هنا أن الصناعة المحلية في «كرمة» كانت متأثرة بالصناعات المصرية
وأنه بعد تدهور التجارة حدث رد فعل قوي، فقد أخذت المحاصيل المصرية التي من صنع «كرمة»
مثل
التطعيم بالعظم والميكا
٣٥ في الاختفاء شيئًا فشيئًا ولم توجد في مقابر النوبة التي من العصور المتأخرة
بوجه عام. وحتى صناعة أواني الفخار (بكت) الخاصة بثقافة «كرمة» دلت صناعتها على أنها
انحطت
من حيث الإتقان والدقة.
وكانت الأشياء المصرية في بلاد النوبة السفلى في العهد المتوسط الثاني تقليدًا كبيرًا
للأشياء المصرية التي تُعَدُّ الطراز المحبب. ولا شك في أن إعادة فتح بلاد النوبة على
يد
مصريين قد رفع من شأن دقة الصناعة اليدوية في النوبة وبخاصة عندما نعلم أن هؤلاء قد تعلموا
بدون شك دقة الصناعة اليدوية عن مصريين، ومن المحتمل أن ذلك التأثر قد حدث بعد مد حدود
النفوذ المصري حتى الشلال الرابع، غير أنه كان أقوى في بلاد النوبة السفلى. ومما تطيب
ملاحظته في هذه المناسبة ما وجدناه في المنظر الذي في مقبرة «حوي» أمام وفوق الأمراء
والناس
الذين من «واوات» من أشياء فنية مصورة في حين كانت الأشياء التي تقدمها بلاد كوش لا تشمل
إلا المواد الغفل. والواقع أن «واوات» فضلًا عن ذلك هي أقرب جزء من بلاد النوبة إلى مصر
حيث
كان يسكن كبار الحكام الذين يميل ذوقهم الرفيع إلى المنتجات الدقيقة، ولذلك كانوا
يَسْعَوْنَ في تحسين الصناعات المحلية عند السكان ومما يطيب ذكره هنا كذلك أن الصناعات
اليدوية للمنتجات النوبية قد ظهرت للمرة الأولى في المناظر التي من عهد «تل العمارنة»
مما
يدل على أن نوعها وذوقها كانا من طراز مصري؛ وأن المصري قد صدَّرها إلى وطنه، غير أن
هذه
المحاصيل النوبية لم يكن لها قط أية أهمية على ما يظهر للمصري هذا إلى أنها كانت تظهر
من
وقت لآخر في المناظر التي تصور
٣٦ الجزية؛ ولذلك نجد في رسالة من عهد الرعامسة مفصلة عن الجزية أنه لم يذكر غير
تجهيز الذين أُرْسِلُوا إلا الأواني الذهبية فقط،
٣٧ ولكن من جهة أخرى نعلم أنه بدون شك قد مثلت أشياء كثيرة مصنوعة من مواد غفل
نوبية. وفضلًا عن الأشياء المصنوعة من الذهب التي ذكرناها فيما سبق من عهده «تحتمس الثالث»
جاء ذكر عربة كبيرة من خشب السنط من بلاد كوش مشغولة بالذهب
٣٨ من عهد «حتشبسوت»، ويلفت النظر ما جاء في لوحة «جبل برقل» التي أقامها «تحتمس
الثالث» إذ ذكر فيها توريد أشياء من خشب كوش. وقد عمل نجارتها جنود كوشيون عديدون هناك.
وكذلك كان يورد في عهد الرعامسة من بلاد النوبة بوجه خاص مواد غفل فقد جاء في خطاب لنائب
الملك «بانحسي» ما يأتي:
٣٩
وينبغي عليك أن توجه عنايتك لهذه المحفة الخاصة بهذه الآلهة؛ ويجب أن تعتني بها
وتضعها في سفينة ويجب أن تعمل على أن يحضرها أمامه إلى المكان الذي فيه الفرعون
وينبغي أن تحضر له حجر «حرست» وحجر «خنمت» إلى المكان الذي فيه الفرعون لأجل أن
يزاول العمل فيها عمال المصنع.
ومن ثَمَّ نفهم أن الأعمال الخشنة كانت تُعْمَلُ في بلاد النوبة في حين كانت
الأعمال الدقيقة تُنْجَزُ في مصر.
هذا ونشاهد في المناظر بجانب السلات والأواني المملوءة بالذهب بوصفها جزية بلاد النوبة
بعض المواد المعدنية والنباتية الملونة بالألوان الحمراء والخضراء والزرقاء في هيئة كتل،
ولكن غالبًا ما ينقصنا المتن المفسِّر لهذه الأشياء، ومع ذلك قد لا تساعدنا المتون المفسرة
لأن معنى الكلمات غالبًا ما يكون غامضًا فلا يحدد لنا معنى.
فالمادة الحمراء في مقبرة «رخ مي رع» تدعى «حما چت»
٤٠ وقد ظهرت كذلك هذه الكلمة في قائمة جزية «لأمنحتب الثاني» وكذلك لدينا بعض سلات
فيها كتل حمراء في مناظر مقبرة «حوي» وكتب عليها كلمة «خنمت»؛ هذا وتذكر هذه المادة في
النقوش بأنها حاصلات من بلاد النوبة وذلك في أحوال ليست بالقليلة.
٤١ ومن المحتمل أنها تدل على حجر الكرنلين؛ غير أن المصري القديم كان لديه أحجار
حمراء أخرى مثل العقيق والهمتيت والأمتست واليشب، وهذه الأنواع يمكن أن تدل على أن مثل
هذه
الكتل المصورة في هذه السلات وكذلك مادة «ديدي» التي وجدناها في إحدى رسائل عهد الرعامسة
بمثابة مادة من مواد الجزية كانت ملونة باللون الأحمر ومن الجائز أنها مادة معدنية أو
همتيت.
٤٢
ومن المواد الخضراء لدينا حجر الأمزون أي الفلدسبار الأخضر،
٤٣ واليشب الأخضر والفيروز الأخضر والتوتية وحجر الزيتون. ومن جهة أخرى نجد في
مقبرة «رخ مي رع» اسم «شسمت» بجانب اسم مفكت على آنية فيها كتل خضراء، وكلمة «مفكت» الأخضر
تعني الفيروز، وكان ضمن المحاصيل النوبية في الدولة الوسطى، وكذلك مادة «نشمت» وهي فلدسبار
أبيض أزرق معروف لدينا بأنه مادة زرقاء
٤٤ نوبية الأصل. وقد جاء في النقوش ذكر عدة أنواع من الأحجار النوبية، ففي ورقة
«هاريس» الكبرى ذكر الحجر «تمحي» بأنه يوجد في «واوات»
٤٥ وقد جاء ذكره بجانب اللازورد الحقيقي والفيروز (مفكات). هذا وقد ورد في الخطاب
السالف الذكر الخاص بالجزية أسماء مواد غير مفهومة منها حجر حمق (كرنالين؟) والبللور
الصخري
(إرقبس).
٤٦ هذا وقد جاء ذكر حجر «ستي» و«قمي». وحجر «ستي» قد جاء ذكره كذلك في نصوص مقبرة
«رخ مي رع» وفي مقبرة «بومرع» بمثابة كونهما محتويات أوانٍ،
٤٧ ومن الجائز أن هذه الأحجار كانت تستعمل ألوانًا معدنية؛
٤٨ ونعرف من جهة أخرى أن «نحميت» هو القطران أو الصمغ وكان يُسْتَعْمَلُ لونًا
أيضًا.
٤٩ ونجد في الخطاب الذي أرسله الفرعون «رعمسيس الحادي عشر» إلى نائب كوش وهو الخاص
بصنع محفة، خلافًا لما جاء فيه من ذكر حجر «خنمت» اسم زهرة «كاتا» وأزهار زرقاء، وهذه
على
حسب سياق المعنى العام للكلام لا بد أن تكون من أسماء الأصباغ.
هذا ويتصل بأسماء المحاصيل النباتية التي جاء ذكرها في ورقة «إيرس» بمثابة محاصيل
بلاد
«المزوي» كلمة «خسايت» وهي التي ذُكِرَتْ كذلك ضمن حاصلات الجنوب. ويأتي ذكرها غالبًا
مع
الزيوت والعطور
٥٠ ونجدها كذلك مذكورة في نقوش «تومبوس» التي من عهد «تحتمس الثالث» بجانب عطور
بلاد المزوي، ونجد هذه المادة مخصصة بمخصص الخشب كذلك في نقوش حملة «حتشبسوت» إلى بلاد
«بُنت»
٥١ ولا نعلم على وجه التأكيد إذا كانت مادة «خسايت» موحدة مع مادة «شبسي» التي جاء
ذكرها في رسالة الرعامسة الخاصة بالضرائب،
٥٢ وكذلك مع مادة «شسيت» التي تأتي من كوش على الرغم من بعض الاختلاف في كتابة كل
منها، ومع ذلك فهذا ليس من المستحيل لما نلحظه في كتابة الاسم بأشكال عدة.
٥٣
وقد جاء ذكر العطور النوبية (البخور) منذ عهد ظهور نقوش الأهرام أي منذ الأسرة الخامسة
فنجد فضلًا عن التعبير «بخور المزوي» التعبير: «كل رائحة جميلة من بلاد الجنوب»، وقد
ورد
ذلك في قائمة جزية «أمنحتب الثاني» وكذلك نجد نقش مهشم جدًّا عند الشلال الأول التعبير
التالي: «كل رائحة حلوة من … الأراضي الأجنبية»، ومن المحتمل أن المقصود هنا في الجزء
المهشم هي أرض المزوي، ولكن من الممكن أن تكون أرض «بُنت» التي كانت تُعَدُّ المصدر الأصلي
للروائح العطرية، غير أن ذلك ليس مؤكدًا،
٥٤ وعلى أية حال ينبغي أن يكون كثير من السلات والأوعية التي نجدها مُمَثَّلَةً في
مناظر الجزية النوبية هي التي كانت تُوَرَّدُ بمثابة مادة العطور، وذلك لأن المصري كان
يستولي على هذا المحصول الثمين من بلاد النوبة.
وكان كل من خشب الأبنوس وسن الفيل الذي يُوَرَّدُ لمصر من بلاد النوبة منذ الدولة
القديمة
يتدفق على مصر في عهد الدولة الحديثة بكثرة، فنجد ذكر هاتين المادتين يرد في النقوش جنبًا
لجنب وذلك لأنهما كانتا تُسْتَعْمَلَانِ في التطعيم وفي صناعة الخشب معًا، وكان الجزء
الأعظم منهما يأتي من نفس الإقليم ويورد إلى مصر، يضاف إلى ذلك أن سن الفيل كان يورد
من
بلاد آسيا، هذا إلى أن المصري كان يستعمل سن فرس البحر بدلًا من العاج؛ وعلى أية حال
فإن
معظم كميات سن الفيل التي كانت تُسْتَعْمَلُ في مصر كان يُؤْتَى بها من السودان. هذا
ولا
نعرف إلى أي حد كان يوجد سن الفيل والأبنوس في الشمال، وعلى ذلك لا يمكننا أن نحكم إذا
كانت
هذه المنتجات تأتي عن طريق تجاري غير مباشر من أقاليم تقع جنوب الحدود المصرية أو كانت
تأتى
مباشرة من إقليم بلاد النوبة. وهاتان المادتان كانتا تُجْلَبَانِ في صورة ساذجة. فكان
العاج
يُجْلَبُ أسنانًا وخشب الأبنوس يُجْلَبُ كتلًا وهذا ما لاحظه الرحالة «بورخرت» في القرن
المنصرم في «شندي».
وفي تواريخ حروب «تحتمس الثالث» نرى أن العاج والأبنوس كانا يُوَرَّدَانِ بوجه عام
بصفتهما جزية فقط من «كوش»، وذلك على عكس «واوات»، ولكن يحتمل ذلك في السنة الواحدة
والأربعين وكذلك على حسب رأي «زيته» في السنة الثانية والأربعين قد ذكر كل من هذين
المحصولين ضمن محاصيل بلاد النوبة السفلى، وخلافًا لذلك نجد أنهما يذكران بوجه عام بمناسبة
الأقطار التي أتيا منها في الأصل مثل بلاد النوبة السفلى وبلاد الجنوب، وكذلك بلاد «أثرو»
في «كوش» التي جاء ذكرها مرة واحدة.
٥٥
ولم يكن خشب الأبنوس هو المادة الوحيدة التي كانت ترسل من الجنوب بل كانت ترسل ذلك
مواد
غفل أخرى، وبخاصة خشب السفن المعد للتركيب، وأوفى متن لدينا يحدثنا عن ذلك لوحة «برقل»
التي
أقامها «تحتمس الثالث» في «نباتا» حيث يقول:
٥٦
كان يتجر هناك (في «واوات») لبيت الملك له الحياة والسلطان والصحة كل سنة سفن
«خمنتي» (نوع من السفن) وسفن نقل بعدد كبير أكثر من حاميات رجال البحر، هذا فضلًا
عن الضرائب التي كان يحضرها النوبي، وهي التي تحتوى على عاج وأبنوس، وكان يجلب إلى
محفات من «كوش» مع كتل من خشب الدوم، وأشياء من الخشب لا حصر لها من خشب السنط من
أرض الجنوب، وكان يقطعها جنودي في «كوش» وكانوا كثيرين هناك … وكثيرًا من سفن النقل
من خشب الدوم، وهي التي استعملها جلالتي كثيرًا.
ومن الجائز كذلك أن ما نجده مذكورًا في قوائم الجزية في تواريخ «تحتمس الثالث» من
السفن
المحملة بالمحاصيل من السودان كل سنة كان يُصْنَعُ هناك ويُقَدَّمُ بوصفه جزية. ونجد
مثل
ذلك في مناظر مقبرة «حوي» حيث نشاهد أسطولًا من سفن النقل، وكذلك كانت الحال في رسالة
الضرائب
٥٧ حيث يقول المتن:
وعندما يصل إليك كتابي ينبغي عليك أن تنظم الجزية بالتفصيل بما في ذلك ثيران
(أوا) والماشية الصغيرة (جا) والماشية (ونچو) والغزلان والماعز وطير (إبيس) والنعام
وسفنها الواسعة وسفن النقل وسفن «كا-ار» على أن تكون على استعداد مع نواتيها، وأن
تكون الحاميات على أهبة الرحيل». وقد جاء ذكر مثل هذا الأسطول في منشور
«نوري».
٥٨ وليس من المؤكد لدينا أنه كانت تُبْنَى كل عام سفن جديدة لنقل الجزية
ثم تُسْتَعْمَلُ في مصر بعد ذلك لأغراض أخرى، ولكن لدينا مثال مؤكد عن ذلك في لوحة
«جبل برقل»، فقد كان في عهد الدولة الحديثة يُفَضَّلُ صناعة سفن كاملة بدلًا من
توريد خشب لصنعها في مصر، ويشبه ذلك بالضبط ما كان يُوَرَّدُ من أشياء أخرى من
الخشب وبخاصة الأنواع الثمينة من الخشب مثل الأبنوس.
هذا ولدينا نوع آخر من الواردات من الجنوب نجده مذكورًا في جزية النوبة وأعني بذلك
ريش
النعام وبيضه. والنعامة كانت توجد كذلك في الصحراء الشرقية وغربي مصر ولم ينقطع مورد
هذه
المادة إلا في القرن الأخير. وقد وُجِدَتْ مروحة في مقبرة «توت عنخ آمون» مثل على مقبضها
منظر صيد قام به الملك في «عين شمس».
٥٩ هذا ونجد أن «منخبر رع سنب» الكاهن الأكبر لآمون وحامل خاتم الوجه البحري يتسلم
ذهبًا من صحراء «قفط» وذهبًا من بلاد كوش بمثابة جزية سنوية، وكان يتسلم في نفس المناسبة
من
المشرف على الصيد الذي يقف بجوار رئيس شرطة المزوي لمنطقة «قفط» والمشرف على أرض الذهب
في
«قفط» ريش نعام وبيض نعام ولا بد أن مصدرهما بطبيعة الحال كان صحراء «قفط».
ولكن يظهر أن وُجِدَ من هذه المادة في الجهات المجاورة لمصر لم يكن كافيًا لسد حاجة
البلاد المصرية. ولذلك كان يُجْلَبُ محصول ريش النعام من الخارج بكثرة، وذلك لأن ريش
النعام
كان يُسْتَعْمَلُ حلية في لباس الرأس وفي صنع المراوح، وكان يستعمل عند قبائل الجنوب
بكثرة،
وكذلك كان يستعمله اللوبيون على الأقل حلية في ملابس الرأس عند الأمراء. أما في مصر فكان
الطلب عليه كثيرًا لعمل المراوح.
ومن جهة أخرى كان بيض النعام يُسْتَعْمَلُ لصنع الخرز منذ أقدم العهود
٦٠ حتى الأسرة الثامنة عشرة بكثرة، ولكن يلحظ أنه قد اختفى في الأسرة الثامنة عشرة
ثم أخذ يظهر شيئًا فشيئًا في عهد الأسرة التاسعة عشرة وبقي مستعملًا بعد ذلك حتى الأسرة
الثانية والعشرين. ونلحظ اختفاء خرز بيض النعام بانقطاع توريد بيض النعام في تلك الفترة.
ووُجِدَ في مقبرة «بالعرابة» تُؤَرَّخُ بعصر ما بين الأسرة الحادية عشرة والثانية عشرة
آنية
مصنوعة من بيض النعام لها فوهة من الحجر مركبة عليها، غير أن مثل هذه الأواني لا يوجد
مثيلها في آثار الأسرة الثامنة عشرة. وقد عثر في مقابر الثقافة الميسينية التي من هذا
العهد
أي الأسرة الثامنة عشرة على قطع زينة مشغولة مركبة على معدن ومزينة بقطع قشر بيض النعام.
وهذا البيض كان لا يأتي إلا من أفريقيا. وهكذا نستنبط أن الرابطة التي كانت تربط مصر
بالإقليم المسيني الكريتي في ذلك العهد كانت قائمة على أساس حسن، وعلى ذلك فلا شك في
أن هذا
البيض قد ورد من مصر. ولم يكن قشر بيض النعام يحتل أية مكانة ملحوظة في مصر من جهة، ومن
جهة
أخرى نجد أنه كان يمثل سلعة هامة في تجارة الأراضي الشمالية، وعلى ذلك يمكن قبول الرأي
القائل إن الجزء الأعظم من واردات بيض النعام كان يأتي من الجنوب لأجل أن يصدر ثانية
إلى
الشمال. وليس من شك في أن البيض في مصر كان طعامًا محببًا، ولكن في هذه الحالة كان قشر
البيض له استعمال واسع النطاق، وفي الواقع كان يُعَدُّ بوجه عام من مواد التصدير
الهامة.
٦١
ومن المواد التي لا تخلو منها السلع التي كانت تُقَدَّمُ جزية للفرعون الفهود وجلودها.
وكانت جلود هذا الحيوان تُوَرَّدُ إلى مصر منذ الدولة القديمة. ويُلْحَظُ أنه عندما تكون
جزية «كوش» منفصلة عن جزية «واوات» في المناظر، كما يشاهد ذلك في جزية تواريخ «تحتمس
الثالث»، نجد أن هذه الجلود تكون ظاهرة في جزية «كوش» وحدها. أما الجهات التي تأتي منها
هذه
الأشياء كبلاد «نميو» و«أرم» و«ميو» فإنها بلا شك كانت تابعة لإدارة بلاد «كوش».
٦٢ هذا ولا بأس من الأخذ بالرأي القائل إن توريد هذه الأشياء له ارتباط باتساع
الاستعمار وبالنشاط الزراعي وتربية الحيوان في بلاد النوبة السفلى على الرغم من كل ما
يحيط
ذلك من شكوك.
والواقع أن جلد الفهد في الدولة الحديثة كما كان من قبل يُسْتَعْمَلُ بوصفه نوعًا
من
الملبس لدى الكهنة للزينة.
٦٣ ومن المعلوم أن الجلد لا يمكن حفظه بحالة جيدة في المقابر وكان لا يستعمله إلا
الرجال بخاصة في أحوال فردية، ولذلك كان يُسْتَعْمَلُ بدلًا منه جلد الماعز
أحيانًا.
٦٤ هذا وكان الفهد الحي يُسْتَعْمَلُ أحيانًا للفرجة وأحيانًا يُدَرَّبُ على الصيد
والقنص.
٦٥
وكان كذلك من واردات السودان الزرافات، والقردة من جهات الجنوب ويلحظ أن القردة المستوردة
كانت مختلفة الألوان منها ما هو رمادي بوجه أحمر وأحيانًا كانت تورد نسانيس ذات شعر كثيف،
وقد وُجِدَتْ مُمَثَّلَةً في مناظر الأعياد
٦٦ ومناظر أخرى منزلية، وهذا الاستعمال قد صادفناه في عهد الدولة
القديمة.
٦٧ أما توريد الزرافات الحية فلم يحدث إلا في عهد الدولة الحديثة، في حين أننا
نشاهد قبل ذلك أن ذيل الزرافة كان من المحاصيل التي تُوَرَّدُ إلى مصر من الجنوب. وكان
هذا
الحيوان في عهد الدولة الحديثة يُعَدُّ ضمن الجزية التي تأتي من كوش عندما كانت محاصيلها
منفصلة عن محاصيل «واوات» كما نشاهد ذلك في مقبرة «حوي».
٦٨ وقد شوهد للمرة الأولى رسم الزرافة في نقوش طريق «وناس» من عهد الدولة القديمة.
وكانت كلاب الصيد التي تُسْتَعْمَلُ في مصر تُوْرَّدُ جزية من بلاد النوبة، فنشاهد في
منظر
في معبد قصر «أبريم» عشرين رجلًا يقودون كلابًا ضمن قائمة الجزية. وكذلك تصادفنا الكلاب
في
المناظر الخاصة بقوائم الجزية. ومما يدل على حب المصري الشديد الذي يكنه لهذا الحيوان
أنه
كان يحنطه ويدفنه بجواره.
٦٩
الماشية: ومن الأمور الاقتصادية الهامة توريد الماشية
لمصر بوصفها غنائم حرب،
٧٠ ولكن على وجه عام كانت تأتي إلى مصر ضمن الجزية
٧١ ونخص بالذكر الثيران وكذلك الغزال الْمُسَمَّنُ أو المعلوف.
٧٢ والواقع أن المناظر التي نجدها على الآثار لا تقدم لنا إلا نماذج من المحاصيل
المختلفة، فلا ننتظر منها أن تعبر عن مقدار الجزية، ويدل على ذلك إحصاء الجزية الذي عثرنا
عليه مدونًا. فنجد مثلًا أن الإحصاء الذي وُجِدَ في نقوش قصر «أبريم» يذكر لنا أربع مئة
رجل
معهم ماشية من نوع الثيران الذي يُدْعَى «أوا» وماشية «ونچو» وتقدم لنا الإحصاء
التالي:
كـوش
السنة ٣٠/٣١ ثيران «أوا» و«ونچو» = ٢٣٠٫١١٣ المجموع = ٣٤٣
٧٣
السنة ٣٣ ثيران «أوا» و«ونچو» = ٣٠٥٫١١٤ المجموع = ٤١٩
٧٤
السنة ٣٤ ثيران «أوا» و«ونچو» = ١٧٠٫١٠٥ المجموع = ٢٧٥
٧٥
السنة ٣٥ و٣٦ غير موجودتين والسنة ٣٧ ضاعت أرقامها.
السنة ٣٨ الثيران «أوا» و«ونچو» = ١٨٥٫١١١ المجموع = ٣٠٦
٧٦
السنة ٣٩ ثيران «أوا» … والسنة الأربعون لم تُذْكَرْ والسنة الواحد والأربعون ثيران
«أوا» … والسنة الثانية والأربعون مُهَشَّمَةٌ.
واوات
السنة ٣١/٣٢ ثيران «أوا» و«ونچو» ٦١٫٣١ المجموع = ٩٢
٧٧
السنة ٣٣ ثيران «أوا» و«ونچو» ٦٠٫٤٤ المجموع = ١٠٤
٧٨
السنة ٣٤ ضاعت أعدادها والسنتان ٣٥ و٣٦ هُشِّمَتَا
السنة ٣٧ ثيران «أوا» و«ونچو» … المجموع = ٩٤
٧٩
السنة ٣٨ ثيران «أوا» و«ونچو» ٧٧ …
٨٠
السنة ٣٩ ثيران «أوا» و«ونچو» ٥٤٫٣٥ المجموع = ٨٩
٨١
السنة ٤٠ لم تذكر.
السنة ٤١ ثيران «أوا» و«نچو» ٧٩٫٣٥ المجموع = ١١٤
٨٢
السنة ٤٢ (مهشمة)
وأول ما يُلْحَظُ هنا أن الإحصاء في «كوش» كان أكثر منه بوجه عام في «واوات» ونجد
في
الحالتين اللتين حُفِظَتْ لنا فيهما الجزية السنوية أن العدد الذي ورد من «كوش» كان
أكبر بكثير من «واوات» (في السنة ٣١/٣٢: ٣٤٣ يقابله ٩٢ وفي السنة ٣٣: ٤١٩ مقابل ١٠٤ وفي
سنة ٣٨: ٣٠٦ مقابل ٧٧).
ولا نستطيع أن نرجع ذلك إلى نشاط في تربية الماشية حدث في كوش أو إلى سبب آخر؛ ومع
ذلك فإن في هذا الإقليم الشاسع لا بد أن يكون معدل عدد الحيوان فيه على ما يظهر عظيمًا
من حيث النسبة المئوية. وعلى أية حال فإن نقطة الارتكاز في هذه المحاصيل كانت تقع في
الجزء الجنوبي من الإقليم السوداني.
هذا ولا يمكن أن نضع هنا موازنة لهذه الأعداد، والمعلومات التي ذكرها لنا أمير مقاطعة
«الكاب» المسمى «رنني» هي ضريبة الماشية التي كان مُلْزَمًا بدفعها فيقول إنه ورَّد ١٢٢
من البقر و١٠٠ من الضأن و١٢٠٠ من الماعز و١٥٠٠ من الخنازير. وإنه لمن الصعب أن تكون هذه
الأعداد هي التي تمثل المجموع الكلي بل هي في الواقع تمثل نسبة مئوية من الجزية أي جزية
مقاطعة «الكاب»؛
٨٣ ومن ثَمَّ نفهم أن جزية بلاد النوبة بالنسبة لذلك ضئيلة، ويرجع ذلك بلا شك
إلى صعوبة طرق النقل، هذا إذا أريد نقل كل الضريبة إلى مصر. ولا علم لنا إذا كان ذلك
هو
الواقع، وبخاصة عندما نشاهد في المناظر التي في مقبرة «حوي» أن الثيران كانت تنقل في
سفن خاصة إلى مصر؛ فلا بد أن جزءًا كبيرًا من هذه الجزية كان يبقى في بلاد النوبة نفسها
لاستعمال الدولة، وكان موظفو الحكومة يستولون عليها كما كان بعضها يُقَدَّمُ للمعابد
هناك قربانًا منذورة. أما الماشية التي كانت تبقى بعد ذلك — ولا بد أنها كانت من نوع
جيد مثالي يستحق التربية للإنتاج — فكانت على ما يظهر ترسل إلى الفرعون، وغالبًا ما
كانت تُزَيَّنُ هذه الحيوانات لأجل الاستعراض فكانت قرونها تُزَيَّنُ بأيدٍ ويُرْسَمُ
في وسطها رأس زنجي وأحيانًا كان يُرْسَمُ شكل إقليم بأكمله بين قرنيه.
الحبوب: كانت مصر معروفة في كل الأزمان القديمة
بأنها مخزن غلال لبلاد البحر الأبيض المتوسط ففي عهد «مرنبتاح» مثلًا أرسلت حبوبًا
لبلاد «خيتا»
٨٤ لتخفيف وطأة القحط الذي حدث فيها، لم يكن إذن من المنتظر أن يرسل إليها
غلال من وقت لآخر من بلاد السودان. ومع ذلك فقد حدث ذلك في عهد «تحتمس الثالث» فنجد في
تاريخ هذا الفرعون حالة واحدة ضمن كل القوائم السنوية للجزية أن القمح كان يأتي من
«واوات» منذ السنة الثامنة والثلاثين من حكمه، وكذلك من بلاد كوش، ولكن من جهة أخرى لا
نعرف شيئًا عن ذلك الموضوع خلافًا لما ذُكِرَ في تواريخ «تحتمس الثالث» على وجه
التقريب. ويشاهد في منظر من مقبرة «خعمحات»
٨٥ في نقوش محصول الدخل من بلاد كوش حتى حدود بلاد النهرين أن «خعمحات» يتلو
على «أمنحتب الثالث» مقدار المحصول،
٨٦ وكذلك نشاهد في مقبرة «سن أعح» الذي عاش في عهد «حتشبسوت» أن الجزية التي
مُثِّلَتْ من كوش هي على حسب قول الأستاذ «زيته»
٨٧ كان معظمها مواد غذائية، ولكن في قوائم الجزية وفي المناظر لا توجد الحنطة
بوصفها جزية نوبية. هذا ونستخلص مما ذُكِرَ في معبد «سمنة» عن شعير الوجه القبلي وشعير
بلاد «واوات» الذي كان يُقَدَّمُ للإله «خنوم» أنه في الإقليم النوبي كانت أنواع الحبوب
منظمة كما كانت الحال في مصر.
أسرى الحروب: لم تكن الحروب في الأزمان القديمة
مجرد غزو بلاد العدو ونهبها بل كان الغازي يستولي في الغالب على أسرى الحرب ليكونوا
عبيدًا له. من أجل ذلك كان يُجْلَبُ إلى مصر من كل حرب تنشب في الجنوب عدد عظيم أو ضئيل
من الأسرى على حسب الأحوال، وكانوا يُسْتَعْمَلُونَ في مرافق الحياة الاقتصادية
باضطراد. وقد ذكر لنا «أحمس» بن «إبانا» في وصفه للحروب في بلاد النوبة استيلاءه على
أسرى
٨٨ وهذا ما نجده في كل الحروب النوبية تقريبًا. وقد ذكرت لنا حروب «تحتمس
الثالث» أن هؤلاء العبيد كان يُؤتى بهم من الجنوب لا بوصفهم أسرى حرب بل بوصفهم جزءًا
من الجزية، وقد ذكر لنا في جهات متفرقة في النقوش عدد هؤلاء العبيد، فذكر لنا «أحمس»
بن
«إبانا» الذي كان يعد موظفًا صغيرًا نسبيًّا تسعة عبيد وعشر إماء، وكذلك ذكر لنا في
تواريخ «تحتمس الثالث» بمثابة جزية ما يأتي:
كـوش
السنة |
المجموع |
|
٣٧٢ |
٣٢/٣١ |
٦* |
٣٣ |
١٣٤† |
٣٤ |
٦٤‡ |
٣٥ و٣٦ |
مهشمة أعدادهما |
٣٧ |
١٠§ |
٣٨ |
٣٦|| |
٣٩ |
١٠١¶ |
٤٠ |
٢١# |
٤٢ |
مهشمة |
||
راجع:
Urk. IV, p. 720.
واوات
السنة |
المجموع |
|
٨٥ |
٣٢/٣١ |
٥* |
٣٣ |
٢٠† |
٣٤ |
١٠‡ |
٣٥ و٣٦ |
مهشمة |
٣٧ |
٣٤§ |
٣٨ |
١٦|| |
٣٩ |
مهشمة |
٤١ |
صفر¶ |
٤٢ |
مهشمة |
‡
راجع:
. Urk. IV, p. 709.
§
راجع:
. Urk. IV, p. 716.
||
راجع:
. Urk, IV, p. 721.
¶
راجع:
Urk., IV, p. 728.
ومن الجائز أنه بعد مراعاة الأماكن المهشمة والأعداد الناقصة أن يرتفع عدد العبيد
إلى حوالي ١٢٥٠ عبدًا في مدة إحدى عشرة سنة. وإذا قرنَّا هذا العدد بما كان يُؤْتَى
به من عبيد من بلاد سوريا أسرى حرب فإن هذه الفرق النوبية لم تكن كثيرة نسبيًّا.
فقد ذكر في تواريخ «تحتمس الثالث» ما مجموعه أكثر من ٦٤٣٠ أسيرًا من سوريا، هذا بغض
النظر عن الأعداد المهشمة والناقصة.
وفي الإحدى عشرة سنة الأخيرة التي نعرف جزيتها من بلاد النوبة يلحظ أن مقدار ما
يُجْبَى من سوريا في تلك المدة يزيد بمقدار ٢٩٩٠ في نفس المدة، ومما يُؤْسَفُ له
أنه في إحصاء مماثل خاص بأوقاف لآمون في آسيا وبلاد النوبة قد ذُكِرَ فيه عدد
الأسرى الذين أُتِيَ بهم من سوريا فقط وهو ١٥٨٨ أسيرًا. ولم يصل إلينا ما أُتِيَ به
من بلاد النوبة.
ومما تطيب الإشارة إليه في هذه المناسبة التعابير التي كان يوجهها «آمون» للملك
فاستمع إليها: «إني قدمت لك نوبيين بعشرات الآلاف والآلاف والآسيويين بمئات الآلاف
من الأسرى» وهذا النطق الإلهي في الواقع يُعَدُّ غاية في الأهمية إذ جاء فيه عدد
النوبيين أقل من الذي ذُكِرَ لآسيا، ومن ثَمَّ نفهم أن نقطة الارتكاز الهامة في
السياسة الخارجية في عهد «تحتمس الثالث» كانت في الشمال أي في آسيا.
ومن جهة أخرى نجد أن عدد العبيد الأسرى في «كوش» كان أكبر منه في «واوات» والسبب
في ذلك طبعي، وذلك أن «كوش» تؤلف الإقليم الأكبر من بلاد النوبة، ومن جهة أخرى نجد
كما دُوِّنَ في أمر في خطاب خاص بالضرائب التي ينبغي أن يرسلها أهل «أرم» و«ترك».
وأهل «ترك» هم من قبيلة ممتازة من قبائل الجنوب.
٨٩ ومما يُؤْسَفُ له أن تفاصيل الخطاب غامضة. هذا وتقدم لنا لوحة «سمنة»
الخاصة بعهد «تحتمس الثالث» قائمة من الغنائم التي غنمت في «أبهت» وتنحصر أهميتها
فيما تذكره من أعداد ومن تقسيم الأسرى أنواعًا مختلفة.
قائمة بالغنائم التي غنمها جلالته في «أبهت»
المجموع |
١٠٥٢ |
نيوبيون أحياء |
١٥٠ |
مچي (مزاوي) |
١١٠ |
نوبيات |
٢٥٠ |
خادمات من النوبيين |
٥٥ |
أطفالهم |
١٧٥ |
المجموع |
٧٤٠ |
أيديهم* |
٣١٢ |
*
راجع: كان المحارب يقطع يد الجندي الذي قتله ويقدمها دليلًا
على أنه قهر عدوًّا وبقدر عدد الأيدي يكون مقدار ما قهره من
أعداء.
ويُلَاحَظُ في هذه القائمة التي تبحث في حصر غنائم الحرب أنها لا تقدم لنا صورة
عن مقدار ما كان يُوَرَّدُ من فرق العبيد سنويًّا، ومع ذلك فإن قوائم الجزية الخاصة
بتواريخ «تحتمس الثالث»، وكذلك التي تتبع المناظر تدل على نفس الأنواع من العبيد
الأسرى، فيذكر أولًا في كل حالة عبيد وإماء، ويلحظ في الصور الخاصة بالجزية النوبية
النساء مع أطفالهن بجانب الرجال الذين يحملون مختلف محاصيل الجنوب، وكانت الإماء
اللائي يُوَرَّدْنَ يُسْتَعْمَلْنَ بطبيعة الحال في بعض الأشغال وبخاصة في الغزل
والنسيج. وخلافًا لذلك كُنَّ يعملن في المؤسسات العمالية للعبيد.
وغالبًا ما كان يوجد بين هؤلاء الأطفال الأسرى أولاد الأمراء الذين كانوا
يُجْلَبُونَ إلى مصر بصفة رهائن وينشئون فيها تنشئة خاصة. ولكن من جهة أخرى نفهم أن
كل تجار الرقيق يجلبونهم صغار السن ويبيعونهم وكانوا في هذا السن المبكرة يسهل
تعليمهم لأغراض معينة وبطرق معينة، ومن ثَمَّ يكون خروجهم على السيد الجديد قليل
الاحتمال.
٩٠
وتذكر لنا حوليات الملوك كذلك ذكورًا نوبيين كانوا يعملون «تابعين» ويمكن تفسير
كلمة «تابعين» بوساطة متن من عهد «رعمسيس الثالث» حيث يقول:
إن أهل الجنوب قد أُحْضِرُوا إلى مصر وهناك كانوا يُسْتَعْمَلُونَ في حمل
الدروع وسَوْقِ العربات وأتباعًا وحاملي مراوح في رِكاب الفرعون،
٩١ والظاهر أن هؤلاء الصبية كانوا فتيانًا ويتمتعون بقسط وافر من
القوة والجمال كالمماليك في العهد الإسلامي في مصر، وقد اختيروا لهذا
السبب». والعدد القليل الذي جاء ذكره في تواريخ «تحتمس الثالث» لا بد أنه
كان خيرة العبيد أو الأسرى الذين كانوا يُرْسَلُونَ إلى مصر، أما غير هؤلاء
النخبة فكانوا يُسْتَعْمَلُونَ في الأقاليم. وعلى أية حال تعوزنا المعلومات
الدالة على أن هؤلاء العبيد الذين أُرْسِلُوا إلى مصر غير أسرى الحرب كانوا
من بلاد النوبة.
ويذكر لنا منشور «نوري» عبيدًا كان يملكها معبد «العرابة» في بلاد
النوبة
٩٢ وكذلك ذكرت مؤسسات الأسرى التي كانت في مصر بأنها لم تكن قاصرة على هذا
الإقليم من رقعة الدولة، وذلك لأنه ذكر لنا في نقشر ضرب اثنين من اللوبيين من
الأسرى في «أبو سمبل»، وهذا النقش قيل فيه عن «رعمسيس الثاني» ما يأتي:
«وهو الذي أحضر أهل بلاد النوبة نحو الشمال وأحضر الآسيويين بلاد النوبة
ونقل البدو نحو الغرب وجعل التحنو (اللوبيين) يسكنون في الجبال وملأ الحصون
التي بناها بالغنائم التي استولى عليها بسيفه الجبار».
٩٣
وكان الفرعون يختار من هؤلاء العبيد الذين استولى عليهم من بلاد
النوبة فرقة تُرْسَلُ إلى مصر، وعلى الرغم من ذلك فإنه ليس ببعيد أنه كانت توجد
تجارة رقيق مزدهرة وكان النوبيون أنفسهم لهم عبيد يدفعون منهم جزية للفرعون، كما
كانت الأشياء الأخرى تُرْسَلُ إلى مصر. وهؤلاء العبيد كان يتألف منهم أحط طبقة في
مجتمع تلك البلاد. وعلى ذلك فإنه في حين كنا نرى الأمراء يُضْطَرُّونَ إلى توريد
أبنائهم، فإنه كان من الجائز إرسال عبيد إلى مصر من بين النوبيين الأحرار.
وتدل شواهد الأحوال على أن استخدام النوبي ومكانته الاجتماعية في مصر كانتا
واحدة. ومما هو جدير بالإشارة هنا أولًا الأهمية الاقتصادية التي كان يمثلها العامل
الوطني الذي لم يكن حرًّا في مصر في عهد الدولة الحديثة حيث نجد أنه حتى المالك
الصغير والراعي كانا يشتغلان مع العبيد الذين كانوا يُجْلَبُونَ من الجنوب.
وتقدم لنا واردات أفريقيا الكثيرة المختلفة والنشاط العظيم الذي وجدناه في بلاد
النوبة صورة صحيحة عن الأهمية الاقتصادية الخارقة لحد المألوف التي كانت للمستعمرات
المصرية في جنوب الوادي. حقًّا إن الكشوف المستقبلية قد توسع دائرة هذه الصورة في
بعض نواحيها، ولكن ما لدينا من معلومات الآن ينبغي أن يضع أمامنا المواد
الْمُوَرَّدَةَ من هذه الجهات بدون أي نقص، فنعلم أن المصري أصبح يستغل ثروة
السودان على حسب نظامها الجديد الذي عمل في عهد الدولة الحديثة فصار يسيطر على تلك
البلاد حتى الشلال الرابع على قاعدة الاستيلاء على المواد الغفل اللازمة له
والضرورية لتجارته مع الأقاليم الثقافية الشمالية.
وعلى ذلك نرى أن المصري بضمه هذه البلاد الجنوبية أصبح في يده يسيطر به على
احتكار التجارة التي كانت هامة للبلاد الشمالية، يضاف إلى ذلك المبادلات التجارية
المصرية بالمحاصيل الثمينة مثل الذهب والمحاصيل الخاصة بأفريقيا مثل سن الفيل وخشب
الأبنوس ومنتجات النعام، أي ريشها وبيضها، ومن ثَمَّ أصبحت لمصر مكانة ممتازة في
شرقي البحر الأبيض المتوسط، لا بفضل محاصيلها الخاصة وحسب، بل كذلك بالدور الفاصل
الذي كانت تقوم به موارد الثروة الغنية التي كانت تستولي عليها من بلاد
النوبة.
هوامش