الفصل التاسع عشر
علاقات بلاد النوبة بسياسة مصر الداخلية
لا شك في أن المنازعات السياسية الداخلية في مصر في عهد الدولة الحديثة كانت قائمة
على
قدم وساق منذ قام الخلاف على تولية الملك بعد «تحتمس الأول» وبخاصة أنه قد حدث في تلك
الفترة أن الوارثة الشرعية لعرش البلاد كانت «حتشبسوت» ابنته، وقد كان لها على ما يظهر
حزب
يشايعها في البلاد وآخر يناهضها، غير أن الوثائق التاريخية لم تدلنا قط على أن أهل السودان
كانوا يشايعون حزبًا دون آخر، كما لم نجد في مصر أن حزبًا كان يتطلع إلى بلاد السودان
بما
فيها من خيرات وما تحوي من قوة حربية ليضمها إلى جانبه. والواقع أن ظاهرة الأحزاب في
السودان لم تبرز في تلك الفترة كما وجدناها في الإمبراطورية الرومانية في عهدها المتأخر
في
الأقاليم التي كانت تحت سيطرتها، فقد كان هناك حزب القيصر والحزب المعادي للقيصر. وتدل
شواهد الأحوال على أن هذا الاتجاه قد ظهر في مصر في عهد الرعامسة المتأخر عندما وجدنا
أن
نائب الفرعون كان شبه حر وأنه كان ينحاز بقوته إلى الحزب الذي يميل إليه.
١
والواقع أنه في عهد الأسرة الثامنة عشرة لم تكن توجد لدينا وثائق تبرهن على النظرية
القائلة إن بلاد النوبة قد لعبت دورًا هامًٍّا بوصفها عاملًا قويًّا في سياسة البلاد
الداخلية، وعلى ذلك فإن نظرية الأستاذ «زيته» التي منها نفهم أن «حتشبسوت» قد طلبت المساعدة
للوصول إلى مطامعها السياسية في عهد زوجها «تحتمس الثاني» من أمراء بلاد النوبة يجب غض
النظر عنها.
٢ ومن جهة أخرى يجوز أن رحلة «حور محب» في بلاد النوبة قبل توليته عرش الملك كان
لها علاقة بالسياسة الداخلية، فمن الجائز أن الشجار الغامض الذي قام بين «حور محب» الذي
كان
القائد الأعلى للجيش والوصي على العرش في عهد «توت عنخ آمون» وبين مناهضة «آي» الذي كان
مسيطرًا على السلطة في «طيبة»، قد جعل الأول يفكر في رحلة إلى بلاد النوبة ليضم إلى جانبه
كبار موظفي الدولة حتى إذا جاء الوقت المناسب ضرب ضربته وقفز إلى عرش الملك. ومن ثَمَّ
نجد
أن «حور محب» عندما تولى عرش الملك قد عمل على توطيد مكانة البلاد السياسية من جديد وقضى
على كل المفاسد التي كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها، وكانت رحلته إلى بلاد النوبة
بعد
توليته العرش لنفس الغرض، كما نقرأ ذلك في منشور إصلاحه العظيم. وقد كان من أهم ما تصبو
إليه نفسه أكثر من أي ملك آخر أن تكون الأحوال في بلاد النوبة هادئة وأن يكون الموظفون
هناك
على ولاء للجالس على العرش، وعلى ذلك لا يكون هناك مجال للحزب المعارض ليكون له قدم راسخة،
ومن ثَمَّ لا يكون في بلاد النوبة أية حروب تطعنه من الخلف وتعوق سير الإصلاح الذي كان
يقوم
به في مصر.
أما ثاني عهد نجد فيه شجارًا سياسيًّا داخليًّا عظيمًا في مصر فقد كان في نهاية الأسرة
التاسعة عشرة، إذ كان قد خلف الفرعون «مرنبتاح» سلسلة من الملوك الذين اغتصبوا عرش البلاد
وهؤلاء لا يزال لدينا بعض الشك في ترتيب توليهم الملك،
٣ وعلى أية حال ظهرت بلاد النوبة في هذا العهد بوصفها عاملًا قويًّا في سياسة
البلاد الداخلية وما حيك فيها من دسائس. فنجد أن الملك «رعمسيس سبتاح» قد قام برحلة إلى
بلاد النوبة في السنة الأولى من حكمه لينصب نائب الملك «سيتي» في وظيفته «نائب
كوش».
٤ ولا نعلم إلى أي حد سار هذا الملك في رحلته في بلاد النوبة، غير أن شواهد
الأحوال تدل على أنه لم يذهب إلى أكثر من «بهين». هذا وقد أرسل الملك في نفس السنة رسوله
«نفر حور» بالهدايا
٥ وهاك النقش:
«السنة الأولى من حكم الإله الطيب «رعمسيس سبتاح» مُعْطَى الحياة. الثناء لحضرتك
ياحور سيد «بهين» ليته يمنح الحياة والسعادة والصحة، والقدرة على الخدمة والحظوة
والحب روح رسول الملك في كل الأراضي الأجنبية، وكاهن إله القمر (تحوت) الكاتب
(المسمى) «نفر حور» بن «نفر حور» كاتب سجلات الفرعون (له الحياة والفلاح والصحة)
عندما حضر بمكافآت لموظفي النوبة وليقود ابن الملك صاحب «كوش» في رحلته الأولى».
هذا ولدينا نقش من السنة الثالثة من حكم هذا الفرعون يشير إلى ضرائب «كوش»
٦ تركه هناك رئيس الرماة وهو من الأهمية بمكان وهاك النقش «حامل المروحة
على يمين الملك، وكاتب الفرعون والمشرف على المالية، وكاتب ديوان الملك لرسائل
الفرعون ومدير القصر في «برآمون» «بياي» لقد أتى ليتسلم جزية أرض «كوش»». وهذا
القائد كان له أهمية عظيمة كما سبقت الإشارة إلى ذلك من قبل.
ونفهم من مضمون النقش السالف الذكر أن الملك قد أرسل رجلًا ممن يثق بهم ليحمل له الضرائب
من كوش التي كان يوردها في العادة نائب الملك لعاصمة الملك. ويرجع السبب في ذلك أن الملك
كان في ذلك الوقت المضطرب لا يتسلم الضرائب بصورة منتظمة، ولذلك أرسل أحد خدامه المخلصين
وهو رجل حربي ليحمل له الجزية خوفًا من أن يضع بعضُ الذين لم يكونوا على ولاء له العراقيلَ
في سبيل إحضارها. ولا نزاع في أن النقشين الأخيرين الخاصين بإحضار الضرائب بوساطة مبعوثين
من الملك يكشفان عن حالة عدم الاستقرار في بلاد النوبة.
وإذا سلمنا مع الأثري «إمري» أنه كان يوجد ملك ثالث باسم «سيتي» قد اعتلى العرش بعد
«مرنبتاح سبتاح» فإنه من المحتمل أن يكون موحدًا «بسيتي» الذي كان نائبًا على كوش، وهو
الذي
خلف «رعمسيس سبتاح» على العرش.
٧ والواقع أن الترتيب الذي اقترحه «إمري» يحمل بدون شك كثيرًا من المتناقضات في
المادة التي لدينا، وذلك بوجود ملك يُدْعَى «سيتي» قبل «سبتاح»
٨ وآخر بنفس الاسم بعده. ومع ذلك يبقى وجه الغرابة في أن ملكين باسم «سيتي» لم
يفصل حكمهما إلا بمدة قليلة، وأن نائب الملك «حوري» الذي خلف «سيتي» في ولاية كوش كان
فعلًا
في السنة السادسة من حكم الملك «مرنبتاح سبتاح» يشغل هذه الوظيفة وعلى ذلك يكون «سيتي»
قد
ترك وظيفته بوصفه نائبًا للملك في زمن معلوم قبل اعتلاء العرش. وعلى الرغم من أن الموضوع
لا
يزال في حاجة إلى إيضاح فإنه مع ذلك من الممكن أن يكون هناك فعلًا نائب ملك من بلاد النوبة
قد اعتلى العرش وهذا ما يتفق مع الأهمية السياسية المتزايدة لبلاد النوبة، وهذا ما شاهدناه
في العهد السابق المباشر، ومن جهة أخرى يجوز أن من قال عنه «إمري» إنه «سيتي الثالث»
يمكن
أن يكون موحدًا «بسيتي الثاني» الذي يرجح أنه قد عاد إلى الملك ثانية بعد ترك الملك للفرعون
«رعمسيس سبتاح» مدة ثم أبعده ثانية، وبعد ذلك تزوج من أرملة مرنبتاح سبتاح «توسرت» في
مدة
توليه عرش الملك للمرة الثانية.
وعلى حسب كل ذلك لم يكن من الأمور المفاجئة أن تقوم مؤامرة على «رعمسيس الثالث» وأن
الحزب
المعارض للفرعون قد وجد سندًا في بلاد النوبة للوصول إلى غرضه، وقد شرحنا ظروف هذه المؤامرة
شرحًا مستفيضًا في الجزء السابع من تاريخ مصر القديمة.
٩ والدور الذي لعبته بلاد النوبة هو أن قائد الرماة في بلاد النوبة كان له أخت في
حريم «رعمسيس الثالث» وكانت في جانب المتآمرين على الملك وفي المحاكمة التي أمر بها «رعمسيس
الرابع» بعد موت والده وهي التي تصف لنا المتآمرين نجد أن قائد الرماة الْمُسَمَّى «بين
مواست» (ومعنى الاسم «الخبيث في طيبة»)، (ولا نعلم إذا كان هذا القائد هو نفس القائد
المسمى
«باكنآمون» المعروف في بهين أم لا)، ويلاحظ هنا أن الاسم الأول لهذا القائد لم يكن إلا
اسمًا مستعارًا نودي به لسوء فعلته. والظاهر أن أخت هذا القائد كان بينها وبين رئيس مكتب
«باكنآمون» صلة فأرسلت معه خطابًا لأخيها تحضه فيه على الثورة وبث العصيان في بلاد النوبة
على الملك. وقد لَبَّى الأخ هذا النداء ولكنه قُبِضَ عليه وقُدِّمَ للمحاكمة ووُجِدَ
مذنبًا، ولا نزاع في أن انضمام قائد الجيش النوبي للمؤامرة معناه خروج كل بلاد النوبة
على
حاكم البلاد الشرعي، وقد كان خطر ذلك أعظم بكثير مما لو كان المتآمرون متصلين بقائد الجنود
في مصر، وذلك لأنه لا يمكن أن تقوم حركة دون أن يَكشف أمرها، وهذا على عكس ما كان يحدث
بعيدًا في إقليم بلاد النوبة حيث يمكن الإنسان أن يراقب كل الأخبار الذاهبة إلى مصر،
وعلى
ذلك فإن من الممكن نشر أي مشروع من وراء ظهر الحكومة بكل هدوء وسكينة دون علم بما يجري
في
بلاد كوش.
ولم يكن نائب بلاد كوش من جهة أخرى ضمن المتهمين، ونحن نعلم أن نائب الملك الذي كان
في
عهد «رعمسيس الثالث» هو «حوري الثاني» وقد ظل يشغل هذه الوظيفة في عهد «رعمسيس الرابع».
وهذا يدل على أن هذا النائب قد ظل مواليًا للحاكم الشرعي وأن المتآمرين لم يصيبوا نجاحًا
كبيرًا، ولا أدل على ذلك من أن «رعمسيس الرابع» قد أفلح في تنصيب نفسه ملكًا على
البلاد.
وفي عهد آخر ملك في الأسرة العشرين تمزقت مصر شيعًا، وقد تحدثنا عن ذلك بإسهاب في
الجزء
الثامن.
١٠
وخلاصة القول في ذلك أنه قامت ثورة ما بين السنة الثانية عشرة والخامسة عشرة من عهد
«رعمسيس الحادي عشر» في مصر وتولى في خلالها «أمنحتب» رياسة كهنة «آمون» في مدينة «طيبة»
وقد اشترك فيها الأجانب واللوبيون بخاصة وقد كان نائب الملك «بانحسي» على اتصال وثيق
مع
الوجه القبلي، وتدل شواهد الأحوال على أنه حارب أسرة اللوبيين التي كانت وقتئذٍ في دور
التكوين، وقد وقعت الحرب في جهة «كينوبوليس-هارتاري» التي تقع على مقبرة من «هيراكليوبوليس»
(إهناسية المدنية) وكان «بانحسي» نائب الملك في كوش والقائد الأعلى للجيش هو المعيد حقًّا
للنظام في «طيبة» على أنه بعد انتهاء هذه الثورة لم يعد «أمنحتب» إلى وظيفته، إذ الظاهر
أنه
كان قد مات عندما رجع الأمن إلى نصابه، ولكن الذي تَوَلَّى مكانه وخلفه فيها «حريحور».
والظاهر أن الملك قد أفاد من هذه الثورة إذ أبعد رئيس الكهنة صاحب السلطان العظيم وبذلك
تغلب نائب الملك لكوش وشيعته عليه، أما «حريحور» فقد كان بمثابة أحد الضباط التابعين
لنائب
الملك «بانحسي» يقود جيش الوجه القبلي فكان في وظيفته هذه يلعب نفس الدور الذي كان يلعبه
يومًا ما «رعمسيس الأول» قبل تولي الحكم تحت قيادة «حور محب». والواقع الذي لا مراء فيه
أن
«حريحور» لم يكن يشغل وظيفة كاهن أكبر في عهد هذا الملك بل إنه ارتفع إلى هذه الوظيفة
السامية في ظل حماية الجنود النوبيين التابعين لنائب الملك «بانحسي». وقد ظل نائب الملك
في
وظيفته هذه بعد نهاية هذه الحروب وعاد إلى بلاد النوبة مقر عمله. وبعد العام السابع عشر
من
عهد الملك «رعمسيس الحادي عشر» حل «حريحور» محل «بانحسي» في وظيفة نائب الملك في كوش
وفي
الوقت نفسه قبض على مقاليد وظيفة الوزير في «طيبة» وبذلك أصبح بمثابة الحاكم الحقيقي
للوجه
القبلي وبلاد النوبة. وقد أصبح «حريحور» بوصفة الكاهن الأكبر «لآمون» المسيطر على كل
ثروة
معابد الإله «آمون» كما كان بوصفه وزيرًا يسيطر على كل إدارة الوجه القبلي، ومن جهة أخرى
فإنه بوصفه نائب الملك في كوش كان في مقدوره أن يحمي نفسه من أي ثورة تقوم عليه بمساعدة
الجنود النوبيين. ومما يلفت النظر أنه أبقى في يده وظيفة نائب الملك ونزل لفرد آخر يُدْعَى
«نب ماعت رع نخت» عن وظيفة وزير بعد السنة التاسعة عشرة من حكم «رعمسيس الحادي عشر».
وعندما
تولى «حريحور» عرش الملك أي بعد وفاة الفرعون «رعمسيس الحادي عشر» نزل عن وظائفه لابنه
«بيعنخي» أو بعبارة أخرى ورَّثها إياه.
١١
وبعد نهاية الدولة الحديثة كانت الأحوال السياسية في الجنوب في ظلمة حالكة وكذلك نجد
نفس
الغموض في عصر ما قبل ظهور الأسرة الكوشية التي برزت على مسرح التاريخ في الربع الأول
من
القرن الثامن قبل الميلاد. ولكن عندما زحف «بيعنخي» الذي يعد أول حاكم عظيم من الجنوب
واستولى على مصر التي كانت قوتها السياسية والثقافية قد انحطت فإنه قد جعل من نفسه بطل
مصر
الحقيقي الذي عمل على نشر معتقداتها الحقيقية، وبذلك كان ينفذ خطة رسمها لنفسه وهي نفس
الخطة التي سارت فيها نهضة عصر الرعامسة المتأخر حيث نجد بلاد النوبة الممصرة قد ظهرت
في
سياسة مصر الداخلية بوصفها عاملًا قويًّا بارزًا.
ومنذ تولت الأسرة الكوشية (أو الأثيوبية) زمام الأمور في مصر دخلت مصر في طور جديد
من
أطوار حياتها السياسية إذا اختفى فراعنتها وراء الستار فترة من الزمن برز خلالها سلالة
ملوك
كوش ولعبوا دورًا في إنعاش بلادهم وتوحيد القطرين الشقيقين تحت لواء واحد يحمله ملوك
«نباتا» في الجنوب.
هوامش