عصر ما قبل التاريخ في بلاد النوبة السفلى
دلت الكشوف الأثرية التي قامت في بلاد النوبة السفلى على أنه كانت توجد سلسلة مراكز للسكان يقع كل منها عند فم وادٍ أو خور من التي ألفت فيها رواسب النهر مساحات مختلفة الحجم صالحة للزراعة، وقد كان عماد هؤلاء السكان الذين يسكنون هذه المساحات في حياتهم هو الزراعة يؤازرها الصيد البري والمائي ونقل السلع من مكان لآخر. وقد بقيت حياة هذه الجماعات مستمرة ما بقيت الأرض صالحة للزراعة. وفي بعض الأحيان كانت تتكون طبقات جديدة من الغرين يرسبها النهر، كما كان النيل ينحسر عن طبقات أخرى فتصبح جافة قاحلة. ولقد دلت الحفائر التي عملت في هذه الجهات على أن مدافن كل جماعة من السكان قد استمرت ممثلة منذ عهد ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا على الرغم مما أصاب تلك المدافن من نهب وتعرية. أما عدد هذه الجماعات ومقدار ما كان عليه أهلها من سعادة فكان يختلف كثيرًا من عصر لعصر. وهذا الاختلاف يرجع أحيانًا إلى التغيرات التي كانت تحدث في منسوب النيل، وبعضه يرجع إلى الأحوال الإدارية والتجارية في البلاد فيلحظ مثلا أن ارتداد الزراعة من طبقات عليا إلى أخرى سفلي من الأرض بين عهد ما قبل الأسرات وعهد الدولة القديمة يرجع سببه إلى انخفاض في منسوب النيل العالي، في حين أن الزيادة العظيمة في عدد السكان في عهد الدولة الحديثة ثم في عهد البطالمة والرومان قد يرجع إلى إقامة المؤسسات الدينية التي كانت تعتمد في تموينها على الضرائب التي تُجْبَى من نقل السلع من السودان إلى مصر وبالعكس، وهذه المؤسسات لا تزال آثارها باقية حتى الآن.
وعلى ذلك نجد أنه قد أصبح لدينا في عصر ما قبل التاريخ ما يمكن أن نطلق عليه اسم «مصر الكبيرة» الموحدة من حيث الجنس والثقافة وتمتد من أول «وادي حلفا» حتى «الدلتا».
بدء الخلاف في حضارة القطرين
وهذا التطور العجيب الذي حدث في مصر في مدة قرن أو بضع عشرات من السنين لم تسهم فيه بلاد النوبة بنصيب ما، إذ لم يمتد الروح المصري الجديد الذي دب في أرض الكنانة إلى ما وراء الشلال الأول بعد «أسوان» بل ظلت تلك البلاد في سباتها العميق متخلفة عن ركب الحضارة، ومن أجل ذلك نجد هوَّة سحيقة بين الثقافة النوبية التي تنسب إلى العصر الحجري والثقافة التي ازدهرت في مصر الجديدة على يد «مينا». وهذه الهوَّة قد ازداد عمقها ولم تُسَدَّ قط طَوال العصور التاريخية. وقد زاد في شُقَّةِ التباعُد في المدنية في البلدين ظهور العنصر الزنجي الجنوبي بكثرة مُحَسَّةٍ. وهؤلاء من جنس مختلف عن سكان بلاد النوبة وعن المصريين أنفسهم في الوقت ذاته. وسنتحدث فيما بعد عمَّا أسفرت عنه نتائج أعمال الحفر من الوجهة الثقافية والاجتماعية.
المجموعة الثقافية A (رقم ١)
- (١) «الكوبانية» وتقع شمال «أسوان» على الشاطئ الأيسر للنيل.١٦
- (٢) وبلدة «رزق الله» الواقعة بالقرب من «دبود» في الجبانة رقم (٣٠).١٧
- (٣) وكذلك في جبانة «مريس» و«مرقص» رقم ٤١ في مستعمرة قريبة تابعة لها.١٨
- (٤) وفي بلدة «دهميت» في الجبانة الشرقية رقم ٤٣.١٩
- (٥) وفي «جرف حسين» بالجبَّانتين رقم ٧٣ و٧٩.٢٠
- (٦) وفي جبانات «دكة» ١٠١ إلى ١٠٣.٢١ وتحتوي على أكثر من ست مئة مقبرة وتعد من أعظم المدافن النوبية من عهد ما قبل التاريخ حتى العهد النوبي المتوسط أي المجموعة الثقافية C. وأقدم مقابر هذه الجبانة تقع في مستعمرة عتيقة في الجنوب وتمتد منها الجبانة نحو الشمال، وقد أقيم على الجبانة الجنوبية التي في هذه الجهة مقابر جديدة.٢٢
- (٧) وكذلك في «كوبان-العلاقي» في الجبانة رقم ١١١.٢٣
- (٨) و وفي «السيالة» بالجبانة رقم ١٣٤.٢٤
وفي هذه الجبانات السالفة الذكر نجد أن القبر كان صغيرًا ومسطحًا وأن الجسم قد وضع فيه مضطجعًا ومقرفصًا على الجانب الأيسر والرأس متجه نحو الجنوب وكان في العادة يُغَطَّى الجسم بحصير، أو جلد حيوان.
المجموعة الثقافية A (رقم ٢) وتقابل في التاريخ المصري العصر الأسري المبكر
علاقة مصر ببلاد النوبة في العصر الطيني٣٧
وجاء على لوحة للملك «عحا» عبارة «ضرب ستي» غير أننا لا نعرف إذا كان المقصود هنا بكلمة «ستى» هو بلاد النوبة أو مقاطعة «تاستي» أولى مقاطعات الوجه القبلي من الجنوب.
ثقافة المجموعة B في بلاد النوبة
علاقات مصر ببلاد النوبة في عهد ثقافة المجموعة B
ومما يدل كذلك على أن الحدود السياسية لمصر كانت بالقرب من «إلفنتين» أنه عندما أنشئت وظيفة «المشرف على الوجه القبلي» في النصف الثاني من الأسرة الخامسة كانت «إلفنتين» أو بعبارة أخرى المقاطعة الأولى من مقاطعات الوجه القبلي تعد الحد الجنوبي لنفوذ حامل هذه الوظيفة. ففي كل مرة ذكرت فيها على النقوش كانت تعتبر حدود الدولة منتهية عند الشلال.
وبهذه المناسبة عثر على قطعة بردي لها علاقة بمراقبة الحدود وجدت في نفس «إلفنتين»، غير أنها بكل أسف ممزقة ولم يمكن أن نستخلص منها نتيجة حاسمة.
قربان يقدمه الملك و«أوزير» سيد «ددو» (بوصير) لأجل أن يسير (أي «حرخوف») في سلام على الطرق الجميلة للغرب، وهي التي سار عليها المبجلون، ولأجل أن يصعد نحو الإله رب السماء بوصفه مبجلًا أمام … الأمير الوراثي (والتشريفاتي) ونائب الملك في «نخن»، ورئيس الشعائر في نخب (الكاب الحالية) والسمير الوحيد والكاهن المرتل المبجل عند «أوزير».
قربان يقدمه الملك لأجل أن يحدث خروج الصوت من أجله في الْجَبَّانَةِ والكاهن المرتل يقوم بتأدية الشعائر في كل أعياد رأس السنة وعيد «تحوت» وفي كل الأيام … حامل خاتم ملك الوجه البحري والسمير الوحيد والكاهن المرتل والمشرف على التراجمة.
لقد أتيت اليوم من ضيعتي، ونزلت من مقاطعتي، وبنيت بيتي وأقمت له أبوابًا، وحفرت بحيرة وغرست أشجار (جميز) وقد مدحني الملك وقد عمل والدي وصية في صالحي لأني كنت ممتازًا … ومحبوبًا من والدي ممدوحًا من والدتي ومحبوبًا من كل إخوتي وأعطيت الجوعان خبزًا وكسوت العريان وعبرت النهر بمن لا يملك قاربًا (في قاربي).
وأنتم يا أيها الأحياء الذين يسيرون على الأرض وسيمرون بالقرب من هذا القبر في أثناء انحداركم في النهر أو صعودكم إذا قلتم: ألفًا من الخبز وألفًا من جرار الجعة لأجل صاحب هذا القبر فإني سأتدخل من أجلكم في عالم الآخرة؛ لأني روح ممتاز مجهز وكاهن مرتل ذو فم مثقف.
على أن كل من سيدخل هذا القبر وهو نجس فإني سأقبض عليه كالطائر الجارح وسيحاكم على ذلك أمام الإله العظيم» (يقصد هنا المحاكمة أمام الإله «رع» أو أمام الإله «أوزير» الذي أصبح منذ نهاية الدولة القديمة إله الموتى الذي سيحاكم في عالم الآخرة).
وإني رجل يقول ما هو حسن ويعيد ما يحب (لا ينم)، ولم أقل قط ما هو خبيث لرجل قوى أو لأي إنسان لأني رغبت في أن تكون الأشياء طيبة من أجلي أمام الإله العظيم.
وإني لم (أفصل بين الأخوين) بطريقة تجعل الابن يحرم ميراث والده.
قربان يقدمه الملك و«أنوبيس» الذي على جبله والمشرف على الساحة المقدسة ليخرج الصوت بالقربان له في الجبانة لأجل المبجل عند «أنوبيس» رئيس جبله والمشرف على الساحة المقدسة …
الأمير الوراثي والسمير الوحيد والكاهن المرتل (والتشريفاتي)، نائب الملك في «نخن»، ومدير الملك في «نخب» وحامل الخاتم الملكي في الوجه البحري والسمير الوحيد والمرتل والمشرف على التراجمة، ورئيس الأسرار لكل الأوامر الخاصة بالحدود الجنوبية وصاحب الحظوة عند مليكه «حرخوف»، حامل خاتم الوجه البحري والسمير الوحيد والمرتل والمشرف على التراجمة الذي يحمل الضرائب المستحقة للزينة الملكية، والمشرف على كل البلاد الأجنبية الجنوبية، والذي ينشر الفزع من حور في البلاد الأجنبية والذي يفعل كل ما يرغب فيه سيده، وحامل خاتم الوجه البحري والسمير الوحيد والمرتل والمشرف على التراجمة المبجل عند «بتاح سكر».
الحملة الأولى إلى بلاد «يام»:
إن جلالة «مرنرع» سيدي قد أرسلني في الوقت نفسه مع والدي السمير الوحيد والمرتل «أري» إلى إقليم «يام» (مكان مجهول) لنكشف عن الطريق المؤدية إلى هذا الإقليم الأجنبي، وقد قمت بذلك في مدة سبعة أشهر وقد أحضرت كل الهدايا من هناك … وقد مدحت من أجل ذلك كثيرًا جدًّا.
الحملة الثانية:
ولم يشهد من قبل أن أي سمير مشرف على التراجمة قد فعل ذلك موغلًا في إقليم «يام» من قبل.
الحملة الثالثة إلى إقليم «يام»:
لقد أرسلني جلالته مرة ثالثة إلى بلاد «يام» فخرجت من (منف) متجهًا نحو العرابة المدفونة عن طريق إقليم الواحة (؟) وقد وجدت رئيس «يام» الذي كان ذاهبًا ضد بلاد تمحو (لوبيا) لمحاربتها؟ حتى حدود غرب السماء، وقد سرت معه خلفه حتى بلاد «لوبيا» (تمحو) وقد أخضعته إلى أن عبد كل آلهة مليكي. وبعد أن أخضعت رئيس «يام» انحدرت ثانية … حتى «أرثت»؛ وعند حدود «سثو» وجدت رؤساء «أرثت» و«سثو» و«واوات» … وعدت مع ثلاث مئة حمار محملة بالبخور والأبنوس وزيت حنكو وزيت ثاث وجلود الفهد وسن الفيل (؟) وكل محاصيل جميلة.
وعندما رأى رؤساء «أرثت» و«سثو» و«واوات» مقدار عظم جنود «يام» وقوتهم وهم الذين انحدروا معي نحو البلاط، بالإضافة إلى الجنود الذين كانوا قد أرسلوا معي فإن هؤلاء الرؤساء قد جلبوا إليَّ هدايا: ثيرانًا وماشيةً صغيرةً وقادوني بطريق جبال «أرثت» وكانت يقظتي بالغة أكثر من أي سمير ومشرف على التراجمة من الذين أرسلوا إلى «يام» قبلي، وعلى ذلك فإن الخادم «حرخوف» (يقصد نفسه) انحدر في النهر نحو البلاط وقد أرسل (أي الملك) إلى الأمير الوراثي والسمتر الوحيد والمشرف على حجرة المرطبات المزدوجة لاستقبالي ومعه السفن المحملة بنبيذ البلح (العرقي) والفطير والخبز والجعة. الأمير الوراثي وحامل خاتم الوجه البحري والسمير الوحيد والكاهن المرتل وحامل الخاتم الإلهي ورئيس أسرار كل الأوامر لحدود الجنوب.
خطاب الملك «بيبي الثاني» «لحرخوف»:
خُتِمَ بالملك نفسه في السنة الثانية للشهر الثالث من فصل الفيضان اليوم الخامس عشر. مرسوم ملكي للسمير الوحيد، الكاهن المرتِّل، ومدير التراجمة (القافلة) «حر خوف». لقد فهمت المقصود من خطابك هذا الذي أرسلته إلى الملك في القصر لِتُنَبِّئَهُ بأنك قد عدت سالمًا معافًى من بلاد «يام» بالجيش الذي كان معك. ولقد ذكرت في هذا الخطاب أنك أحضرت معك كل المنتجات العظيمة والطيبة التي منحتها «حتحور» سيدة «أماو» حضرة ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نفر كارع» (بيبي الثاني) الذي يحيا أبديًّا ومخلدًا. وقد ذكرت في هذا الخطاب أنك أحضرت قزمًا (دنج) يرقص رقصًا مقدسًا من أرض الأرواح (تا أخو) مثل القزم الذي أحضره حامل خاتم المقدس «بَاوِرْدَد» من بلاد «بُنت» في عهد الملك «أسسي». وقد قلت لجلالتي: «لم يحدث قط من قبل أن واحدًا مثله قد أحضر ممن زاروا «يام». حقًّا إنك فعلت ما يحبه ويمدحه سيدك، حقًّا إنك تمضي النهار والليل في عمل ما يرغب سيدك فيه ويحب ويأمر به. وجلالته يرغب في أن يمنحك كثيرًا من الشرف العظيم حتى تصبح زينة لابن ابنك أبديًّا لدرجة أن كل إنسان سيقول عندما يسمع ما فعلته لجلالتي: «هل هناك شيء مماثل لما عمل للسمير الوحيد «حرخوف» عندما عاد من بلاد «يام» وذلك بسبب اليقظة التي أظهرها لعمل ما يرغب فيه سيده، وما يحبه وما يأمر به.
عد حينئذٍ في الحال إلى البلاط منحدرًا في النهر واترك كل شيء آخر (؟) ولْتُحْضِرْ معك هذا القزم الذي جلبته معك من بلاد الأرواح حيًّا وسليمًا ومُعَافًى حتى يقوم بالرقص المقدس وليسري عن القلب وليسر فؤاد ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نفر كارع» عاش أبديًّا.
واعمل عندما ينزل معك في السفينة على أن يكون رجالك اليقظون حوله من ناحيتي السفينة، واعمل على ألَّا يسقط في الماء، وعندما ينام في الليل يكون رجالك اليقظون نائمين حوله في حجرته وفتش عليه عشر مرات كل ليلة؛ لأن جلالتي يريد أن يرى هذا القزم أكثر من كل منتجات بلاد «بُنت» وكنوزها.
كنت رجلًا يقول ما هو حسن، ويكرر ما يحب، ولم أقل قط شيئًا يسيء إلى رجل قوى ذمًّا في أي شخص، لأني كنت أرغب في أن تعرض الأشياء من جهتي حسنة في حضرة الإله العظيم. لقد أعطيت خبزًا للجائع وكسوت العريان ولم أقضِ قَطُّ بين أخوين بحيث يُحرَم ابنٌ متاعَ والده، ولقد كنت محبوبًا من والدي، ممدوحًا من والدتي ومحبوبًا من إخوتي ذكورًا وإناثًا. لقد أرسلني جلالة سيدي لأخرب بلاد «أرثت» فعملت ما مدحني عليه سيدي، ولقد ذبحت منهم عددًا عظيمًا. ومن بينهم أولاد الرؤساء والضباط المتفوقين من المحاربين (؟) لأني كنت بطلًا على رأس جيش عظيم من الجنود الأقوياء. وقد سُرَّ قلب سيدي مني لكل البعوث التي وَكَّلَ أمرها لي.
وعقب ذلك أرسلني جلالة سيدي لتهدئة الأحوال في هذه الممالك. وقد قمت بذلك حتى إن سيدي أثنى عليَّ كثيرًا أكثر من أي إنسان آخر. ولقد أحضرت معي رَئِيسَيْ هاتين المملكتين سالمَيْن معافَيْن إلى البلاط، ومعهما ثيران وماعز حية إلى البلاط، وكذلك أحضرت أطفال الرئيسين وضابطي المحاربين الذين كانوا معهما».
ودفنت والدي في هذا القبر من الجبانة، على أنه لم يدفن رجل في هذه الدرجة بالطريقة التي دفن بها. ثم نزلت في النهر نحو «منف» حاملًا معي منتجات هذه الأقطار الأجنبية وكذلك ما كان والدي قد جمعه … جيشي والنحسي (السود) … والخادم «سبني» قد أُثْنِيَ عليه في البلاط؛ ووجه الملك له مدحًا لأنه كان صاحب حظوة عظيمة عند الملك … وقد أعطيت صندوقًا من خشب الخروب يحتوى على عطور وزيوت، وكذلك منحت حقيبة من الكتان … وملابس. وكذلك أعطيت ذهب الجدارة، وكذلك تسلمت قرابين من اللحم والطيور … وعندما كانت تُقَرَّبُ الذبائح كان يذكر ما فعله لي سيدي.
وقد قيل للخادم «سبني» (أي له نفسه): لقد وصل مرسوم من القاضي الأعظم والوزير … بلدة «نخب» الكاهن الأعظم «أني» الذي كان وقتئذٍ في «برحتحور رسيت» قائلًا: «إنه يمكنني أن أحضر والدي في الحال ويمكنني أن أدفنه في قبره شمال «نخب». ولقد منحت ٣٠ أرورًا من الأرض في الشمال والجنوب وقفًا من الهرم المسمى «من عنخ نفر كارع» تقديرًا لي».
عندما كنت طفلًا ممنطقًا بالحزام في عهد جلالة الملك «تيتي» كانت وظيفتي هي مدير المخازن والمشرف على القصر الملكي وملاحظ المزارع؟؟ … والمرتل للقصر في عهد جلالة «بيبي». وقد رفعني جلالته إلى مرتبة سمير وحيد وكاهن مشرف على ضيعته الجنازية (أي هرمه).
وعندما كانت وظيفتي وهي … نصبني جلالته قاضي فم نخن (أي نائبًا عن نخن) وكان قلبه مفعمًا بي (أي يحبني) أكثر من أي خادم آخر. وقد سمعت الأحوال منفردًا مع الوزير عن كل الأشياء السرية وكنت أحقق باسم الملك فيما يتعلق بالخدر الملكي في محكمة الستة العظام العليا؛ وذلك لأني كنت ملء قلب جلالته أكثر من أي واحد من أشرافه، وأكثر من أي واحد من عظمائه، وأكثر من أي واحد من خدامه.
لقد رجوت جلالة سيدي أن يحضر لي تابوتًا من حجر «طره» الأبيض، وقد سمح جلالته أن يقلع حامل خاتم ملك الوجه البحري مع طائفة من البحارة تحت إدارته لأجل أن يحضر لي هذا التابوت من «طره». وقد حضر به في سفينة كبيرة من سفن القصر ومعه غطاؤه واللوحة والصدغان والقاعدة، ولم يعمل قط مثل ذلك الخادم آخر؛ لأني كنت ممتازًا في قلب جلالته، ولأني كنت محببًا لقلب جلالته، ولأني كنت في قلب جلالته (يحبني).
وعندما كنت قاضي ونائب «نخن» (فم نخن) لقبني جلالته السمير الوحيد والمشرف على مزارعي القصر، وقد حللت بذلك محل أربعة المشرفين على مزارع القصر هناك. وقد عملت حتى نلت مديح جلالته، عندما كنت أجهز القصر، وعندما كنت أنظم طريق الملك، وعندما كنت أنسق المحاط، وقد عملت كل ذلك بطريقة جعلت جلالته يمدحني من أجل ذلك أكثر من أي شيء.
وبمناسبة قضيته في الخدر الملكي ضد الزوجة الملكية «ورت حتس» التي أقيمت سرًّا فإن جلالته جعلني أدخل لأجل أن أسمع القضية، وقد كنت وحدي دون أن يكون معي وزير أو شريف بل كنت وحدي. وقد كنت كاملًا ومحببًا لقلب جلالته؛ وذلك لأني كنت ملء قلب جلالته. وكنت أنا الذي أعمل كاتبًا، وكنت وحدي مع القاضي نائب «نخن»، وذلك لأني كنت أشغل وظيفة المشرف على مزارع القصر. ولم يحدث قط أن حقق واحد مثلي في قضية سرية في الخدر الملكي، ولكن جلالته جعلني أحققها لأني كنت ماهرًا في قلب جلالته أكثر من أي شريف آخر وأكثر من أي عظيم آخر وأكثر من أي خادم آخر.
وقد شرع جلالته في القيام بحملة تأديبية على الأسيويين أسياد الرمال. وقد أَلَّفَ جلالتُه جيشًا من عشرات الآلاف العديدة من الرجال من كل الوجه القبلي من أول «إلفنتين» في الجنوب حتى «أطفيح» في الشمال ومن الوجه البحري، جندتهم إدارة الجيش المرتزِقة، وجميعهم في القلعة في داخل الحصون (؟) بين نوبي «أرثت» و«المزاوي» و«يام» و«واوات» و«كاو» وبلاد «تمحو» (لوبيا).
وقد قدت هؤلاء الجنود عن طريق جزيرة الشمال وبوابة «إمحتب» وإقليم «سنفرو» وذلك بوصفي أني كنت في هذه الوظيفة … وقد استعرضت كل واحدة من هذه الفرق ولم يحدث قط أن خادمًا قد استعرض جنودًا من قبل.
إن هذا الجيش قد عاد في سلام بعد أن حطم أرض أهل الرمال، وهذا الجيش قد عاد في سلام بعد أن محا معاقلهم، إن هذا الجيش قد عاد في سلام بعد أن اجْتُثَّتْ أشجار تينهم وكرومهم، إن هذا الجيش قد عاد في سلام بعد أن صَبَّ النيران في كل جنودهم. إن هذا الجيش قد عاد في سلام بعد أن ذبح كل جنودهم بعشرات الآلاف العدة، إن هذا الجيش قد عاد في سلام بعد أن ساق جنودًا عديدين من الأسرى. وقد مدحني من أجل ذلك أكثر من أي شيء.
وقد أرسلني جلالته خمس مرات قائدًا لهذا الجيش لأجل أن أخرب بلاد سكان الرمال في كل مرة يثورون بفصائل من الجنود، وقد قمت بواجبي حتى إن الملك مدحني من أجل ذلك.
وعندما قيل إن ثورة قامت لأمر من الأمور بين المتوحشين المجاورين لجهة «الكرمل» (بلاد «أنف الغزال») نزلت في سفن البحر مع فصائل من الجنود ورَسَوْتُ خلف المرتفعات الجبلية في شمالي بلاد سكان الرمال. وعندما قيد هذا الجيش على المرتفعات ذهبت وقبضت (على العصاة) بأجمعهم وكل واحد من الثوار هزم.
ولما كنت ضابطًا حاملًا للحذاء في القصر العظيم، فإن ملك الوجه القبلي والوجه البحري سيدي «مرنرع» قد نصبني أميرًا حاكمًا للجنوب من أول «إلفنتين» في الجنوب حتى «أطفيح» في الشمال لأني كنت كاملًا في قلب جلالته، بقدر ما كان قلب جلالته مبتهجًا بي، وبقدر ما كان قلب جلالته مفعمًا بي.
ولما كنت ضابطًا حامل الحذاء فإن جلالته مدحني من أجل يقظتي ومن أجل الحراسة التي قمت بها في القصر. وقد مدحني أكثر من أي شريف أو عظيم أو خادم.
ولم يُمْنَحْ قط هذه الوظيفة خادم من قبل. وقد عملت للملك بوصفي حاكمًا للجنوب بما يرضيه لدرجة أنه لم يوضع إنسان في مكان جاره، ولقد مارست كل عمل، وقد عملت حساب كل شيء حمل لحساب الخزانة في الوجه القبلي هذا مرتين، وكل ساعة عمل (سخرة) وضعت في الحساب لأجل البلاط في الوجه القبلي هذا مرتين. وقد ملأت وظيفة حاكم بصفة مثالية في الوجه القبلي، هذا وقد عملت كله لأجل أن أمدح من جلالته.
وبعد ذلك أرسلني جلالته إلى «إلفنتين» لأجل أن أحضر بابًا وهميًّا من الجرانيت بقاعدته وعارضتيه لأجل الحجرة العليا الخاصة بهرم «مرنرع» «خع-نفر- مرنرع».
وقد سحت نحو الشمال من هذا المكان حتى هرم «مرنرع» «خع-نفر-مرنرع» ومعي ست سفن نقل وخمس سفن جربها ثمانية أزواج في حملة واحدة. ولم تعمل حملة واحدة قط إلى «إبهات» و«إلفنتين» دفعة واحدة في حكم أي ملك وقد تم كل شيء أمر به جلالته بأكمله كما أمرني به جلالته.
أرسلني جلالته إلى محاجر «حتنوب» لأحضر منها مائدة قربان عظيمة من المرمر. وقد انحدرت في النهر من أجل الملك مع هذه المائدة المقطوعة من محاجر «حتنوب» في سبعة عشر يومًا، وجعلتها تحمل في النهر (نحو الشمال) في سفينة نقل. والواقع أني صنعت لهذا الغرض سفينة نقل من الخشب السنط طولها خمسون ذراعًا وعرضها ثلاثون ذراعًا وقد ركبت في سبعة عشر يومًا في أثناء الشهر الثالث من فصل الصيف. وعلى الرغم من أنه لم يكن ماء في قعر النهر فإني رسوت سليمًا عند هرم «مرنرع» (المسمى): «خع-نفر-مرنرع». وقد أنجزت كل شيء بشخصي على حسب الأمر الذي أعطانيه جلالة سيدي.
وقد أرسلني جلالته لتعميق خمس قنوات في الجنوب ولأجل أن أصنع ثلاث سفن واسعة وخمس سفن نقل مصنوعة من سنط بلاد «واوات» في حين أن زعماء بلاد «أرثت» و«واوات» و«يام» و«المزاوي» كانوا يوردون الخشب لهذا الغرض، وقد أنجزت كل ذلك في سنة واحدة (أي في بعث) وأنزلت (السفن) في الماء محملة بالجرانيت بكثرة لأجل هرم «مرنرع» المسمى «خع-نفر-مرنرع» («مرنرع» جميل عندما يظهر).
ولا نزاع في أن وجود هؤلاء العظماء في «إلفنتين» قد أكسبها ثروة طائلة وأضفى عليها بهاء ورونقًا وعظمة حافظت عليها في كل عصور التاريخ، ولا تزال من أجل ذلك حتى يومنا هذا مهبط الزوار من كل أقطار العالم؛ لما فيها من آثار جميلة وجو ممتع في أثناء الشتاء.
وتدل شواهد الأحوال على أن هؤلاء العظماء كانوا يقومون بلا شك بهذه البعوث لحساب الحكومة التي كانت مسيطرة على كل شيء. ولكن مما يؤسف له أن النقوش التي تركها لنا هؤلاء الموظفون الكبار على نحو ما رأى القارئ لم تصف لنا رحلاتهم في الجنوب إلا باختصار وهذه هي الحال في كل كتابات الدولة القديمة، إذ لا تعبر عن الوقائع إلا باختصار في كل النقوش التي وصلت إلينا؛ ولذلك ينبغي علينا ألَّا ننتظر تفاصيل ضافية عن هذه البعوث كما يرى القارئ في المتون التي أوردناها خاصة بهؤلاء العظماء.
على أن أكبر صعوبة تعترضنا في تقدير هذه النقوش هي الصعوبة الجغرافية التي تصادفنا في تعرف أسماء البلدان التي وردت في بلاد النوبة، فقد أصبح من العسير علينا تحديد مواقع الأماكن التي ذكرت في هذه النقوش، فنرى أولًا أن سرد أسماء الأماكن الجنوبية الواحدة تلو الأخرى كما جاءت في النقوش المختلفة لا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة حاسمة؛ وذلك لأننا نجد أن هذا الترتيب في النقوش المختلفة بل وفي النقش الواحد يتغير، فمثلًا نجد في نقوش «وني» أولًا أن البلاد «أرثت» و«المازوي» و«يام» و«واوات» ذكرت على هذا الترتيب وبعد ذلك نجد في النقش نفسه الترتيب التالي «أرثت» و«واوات» و«يام» ثم «المزاوي».
وكذلك نجد في القوائم المتأخرة مثل قائمة «الكرنك» التي يرجع عهدها لحكم «تحتمس الثالث» أن بعض الأسماء التي ذكرت في الدولة القديمة وحفظت لنا في هذه القائمة لا تقدم لنا مادة كافية لتحديد موقع هذه الأماكن. والواقع أن معظم هذه الأسماء غير معروف لنا كلية ولذلك لا يمكن تحديد موقعها. ولا يمكن أحدًا أن يصل إلى نتيجة من ترتيب هذه الأسماء لأن هذا الترتيب يختلف في القوائم المتعددة التي جاءت في النقوش الأخرى المعاصرة.
والواقع أن الأقزام كانوا مطلوبين بكثرة في مصر؛ وذلك لأنهم كانوا يقومون بالرقص الإلهي. ومما يجدر ذكره هنا أن العبارة التي نترجمها بالرقص الإلهي في هذا الصدد ليست مفهومة على الوجه الأكمل. وذلك لأنه يمكن أن تعتبر كلمة «إلهي» عائدة على الملك، لأنه كان يُعَدُّ إلهًا عند المصريين، وعلى ذلك يكون الرقص الإلهي تسلية الملك.
ويلاحظ أن الأقزام المحليين كانوا أحيانًا يُشَاهَدُونَ في الصور بوصفهم خدمًا، وكانت أجسامهم متناسبة الأعضاء؛ فنرى أن طول الذراعين والساقين متناسب مع الجذع، وكان عظم الرأس يتفق مع سائر الجسم، وقد كان نشاطه يمتد حتى النشاط الذي كان يقوم به قزم من أقزام السودان، وعلى ذلك فإن الأقزام النادرين الذين نجدهم في الصور يمثلون الأقزام الحقيقيين لا بد أنهم كانوا يَتَّخِذُونَ مكانة أخرى بصرف النظر عن أنهم أنفسهم كانوا قليلي الوجود بالبلاط، والواقع أنهم كانوا لا يُسْتَخْدَمُونَ في بيوت العظماء، وهؤلاء لا يمكن أن نعُدهم غلمانًا صغارًا يقومون بالخدمة؛ إذ يعترض ذلك الفرض صورة الجسم ولباس الرأس، وفي هذه الحالة يجب أن يكون الممثل هنا رجلًا وُلِدَ قميئًا، كما نشاهد أمثال هؤلاء المخلوقات في كل أجناس العالم، وعلى ذلك يمكننا أن نستبعد كثيرًا من الصور التي أظهرهم فيها المُفْتَنُّ لأسباب خاصة؛ إذ هم في الواقع مخلوقات صغيرة متناسقة الأعضاء، فنجد مثلًا شخصًا قميئًا قد رسم بجوار محفة سيده وهو يقود حيوان السيد المحبب إليه.
وعلى أية حال فإن أمثلة الأقزام قليلة جدًّا، وفي معظم الحالات نجد القزم قد صُوِّرَ بهيئة قبيحة فَيُرْسَمُ جذعه ورأسه مثل جذع ورأس رجل عادي، ولكنَّ ذراعيه وساقيه قصيرة مشوهة بسبب نقص في الغدة.
وعلى أية حال فإن ذكر «حرخوف» في نفس المتن الذي وضعه هو بأن مواطنًا آخر قد أحضر قزمًا من بلاد «بُنت» لا يعني أن رحلات التجار المصريين قد وصلت إلى هذا الحد في الجنوب؛ وذلك لأن هؤلاء الأقزام كما شرحنا من قبلُ ليسوا من فصيلة الأقزام الحقيقيين، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّا لا نعرف إلى أي بقعة شمالًا استوطن هؤلاء القوم في هذا العهد، إلا أنه من الجائز جدًّا أنهم جُلِبُوا بواسطة تجار الرقيق إلى المكان الذي كان يتقابلون فيه مع المصريين في بلاد النوبة.
- (١)
الأول من عهد الدولة القديمة عندما كانت كلمة «مزاي» تشير إلى إقليم صغير، ويحتمل أنه كان الإقليم الواقع شمالِي الشلال الثاني مباشرة.
- (٢)
الثاني من عهد الدولة الوسطى حتى عهد الأسرة السابعة عشرة عندما كان قوم «المزاي» لا يزالون نوبيين، ولكن الاسم أصبح عامًّا يشمل أناسًا يحتمل أنهم كانوا يعيشون بعد الشلال الثاني بمسافة كبيرة.
- (٣)
الثالث من عهد الأسرة الثامنة عشرة عندما كانت كلمة «مزاي» تستعمل بوصفها لقب وظيفةٍ وتعني رجال الشرطة ورُمَاةَ الصحراء، ويحتمل أنها قد فقدت في هذه الفترة كل علاقة فعلية مع بلاد النوبة والنوبيين.
ولدينا أسماء أماكن أخرى جاء ذكرها في متون الدولة القديمة مثل «ماخر» و«تررس» لم يمكن حتى الآن استنباط شيء عن حقيقة موقعها على وجه التأكيد.
طرق المواصلات بين مصر وبلاد النوبة
ذكرنا فيما سبق شيئًا عن الرحلات التي كان يقوم بها كبار رجال الدولة من «منف» عاصمة الملك وكذلك من «إلفنتين» إلى بلاد النوبة، وما كان بين البلدين من ارتباط تجاري، فكانت مصر في عهد الدولة القديمة تصنع سلعًا تحتاج إليها بلاد النوبة احتياجًا شديدًا، كما كانت الأرض الجنوبية تنتج كميات عظيمة من المواد الغفل — بالإضافة إلى تجارة العبيد الذين كانت مصر في حاجة إليهم. هذا ونعلم أن مصر كان يفصلها عن بلاد السودان ذلك الجزء المحدب الذي لا يأتي بثمار، وهو الإقليم الذي سُمِّيَ «كاش» أو «كوش» أو «أثيوبيا». فيما بعد، وكانت «كوش» نتيجة لذلك تعد أرض طرق تجارية، وقد كسبت أهميتها وقتئذٍ وإلى الأبد بما أوتيت من موقع جغرافي بوصفها حلقة الاتصال بين مصر وأواسط أفريقيا. ويمكن تتبع الطرق التي كانت تسير عليها التجارة في عهد الدولة القديمة من البيانات التي تركها لنا قُوَّادُ الحملات على جدران مقابرهم وعلى الصخور التي على ضفتي النيل. والظاهر أنها كانت نفس الطرق التي تُسْتَعْمَلُ حتى يومنا هذا. ففي عهد المهدي والخليفة التعايشي في السودان كانت التجارة قد قُضِيَ عليها تقريبًا. ومنذ عام ١٩٠٠م. فتحت حكومة السودان خطوط السكك الحديدية والبواخر النيلية؛ مما أنقص من تجارة القوافل، وبذلك تحول جزء عظيم من التجارة إلى طريق «بور سودان». ويلحظ أنه في القرن المنصرم من عصرنا كانت الطرق القديمة لا تزال مستعملة، وهي ثلاث طرق: الأولى طريق التجارة النيلية، والثاني الطريق التي تخترق الصحراء الشرقية، والثالث الطريق التي كانت تسير في الصحراء الغربية. وطبعي أن العامل الحاسم في صلاحية كل من هذه الطرق للسير عليه هو وجود الماء الذي يعد أهم عنصر للحياة في هذا الإقليم القاحل. هذا ولم يكن نهر النيل نفسه كله صالحًا للملاحة لما يعترضه من شلالات. وعلى أية حال كانت فيه مسافات صالحة لسير السفن منها مسافة طولها ثلاث مئة كيلو متر وتقع بين الشلال الأول والثاني، وكانت على ما يظن تستعمل للتجارة في عهد الدولة القديمة، وكانت متصلة بالنيل بقنوات عند الشلال الأول. هذا وتوجد مسافة أخرى صالحة للملاحة يبلغ طولها حوالي مئة كيلو متر وتقع بين «كوشه» و«دلقو». ثم المسافة الطويلة التي يبلغ طولها حوالي أربع مئة وخمسين كيلو مترًا في المنحنى العظيم الذي تقع فيه منطقة «دنقلة» الحالية، ولكن من جهة أخرى تكون الشلالات صالحة للملاحة في أثناء فصل الفيضان (أي مدة شهرين في السنة) ويمكن للسفن المحلية أن تقوم بالرحلة بين «دنقلة» و«حلفا» ثم تعود في تلك المدة.
ويتضح لنا من البيانات التي وصلت إلينا من عهد الدولة الحديثة أن الطرق النهرية كانت تستعمل سنويًّا لنقل الجزية التي كانت تُجْبَى من هذه الجهات كل عام.
وتدل النقوش التي تركها ملاحو السفن في عهد الدولة القديمة والدولة الوسطى على استعمال الطريق المائية حتى الشلال الثاني على الأقل. ومن المحتمل أن هذه الطريق كانت معروفة ومستعملة منذ أقدم العهود، وكانت الرحلة ذهابًا وإيابًا تستغرق في هذه الأحوال على الأقل مدة سنة فكان الرحالة يصعد في النيل في أثناء الفيضان ثم ينحدر راجعًا خلال الفيضان التالي. وتوجد على كل من شاطئ النهر طريق محاذية للنيل تتفرع عند المنحنيات التي في النهر لتخترق المسافة بطريق قصيرة تدعى «عقبة» في الصحراء، غير أن الرحالة يعود ثانية إلى النيل دائمًا لأجل أن يسير في محاذاة ماء النيل. والصحراوان اللتان تقعان خلف الوادي إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب تختلفان اختلافًا عظيمًا من حيث التركيب الجيولوجي ومن حيث السكان ونوع الطرق. ففي الصحراء الشرقية لا توجد واحات كبيرة ولكن توجد فيها أحواض عدة حيث يجتمع المطر الذي كان ينزل من وقت لآخر ويتجمع ويخزن في آبار، وهذه الصحراء الآن يسكنها من أول خط عرض قنا جنوبًا حتى منطقة الأمطار عدد قليل من البدو معظمهم من العبابدة والبشاريين، وفي الأزمان القديمة كان يقطنها كذلك قوم من البدو ربما كانوا من جنس مختلف.
- (١) من النيل بطريق «قفط»-«قنا» أو الأقصر حتى موانئ البحر الأحمر وأهمها الآن «القصير»، وفي عهد الدولة القديمة «ساو» (الآن وادي «جاسوس») وهي ميناء بلاد «بُنت».١٤١
- (٢)
وطرق القوافل المؤدية إلى المحاجر والمناجم المختلفة في «حتنوب» وجبل «فطيرة» و«حمامات» (على طريق القصير) و«أم روس» و«وادي العلاقي» إلخ.
- (٣)
وأعظم الطرق التي في الشمال الجنوبي تخرج من عند النيل في «دراو» شمالِي «أسوان» وتمر بسلسلة آبار يوميًّا تقريبًا وبعد مسيرة مدة تتراوح ما بين ستة عشر يومًا إلى عشرين يومًا تصل إلى النيل فوق بداية منحنى «دنقلة» العظيم. وفي الأزمان الحديثة تؤدي هذه الطريق إلى «شندي» و«سنار». ومن «شندي» تخرج طرق أخرى إلى «سواكن» أو «الحبشة» وتخترق الصحراء إلى «مروي» أو «كورتي» في مديرية «دنقلة»، ومن «سنار» كانت الطرق مفتوحة إلى «كردفان» و«دارفور» وغَرْبِيِّ أفريقيا أو إلى نقط تَجَمُّعِ مياه النيل الأزرق أو النيل الأبيض.
- (٤)
ويوازي تقريبًا طريق «دراو»-«سنار» الطريق المؤدية من «كرسكو» إلى «أبو حمد» وكانت في الواقع طريقًا مختصرًا في طريق النهر المحاذية لشريط انحناء «دنقلة» الكبير، وهذه الطريق تُقْطَعُ في ثمانية أيام وليس فيها إلا بئر واحدة في منتصفها تقريبًا.
وأهم الطرق للتجارة الكوشية الطريقان الشماليتان الجنوبيتان بطبيعة الحال فهما الوحيدتان الهامتان لها، ومن المحتمل أنهما اللتان كانتا تُسْتَعْمَلَانِ في الأزمان القديمة. والصحراء الغربية تمتاز بسلسلة الواحات التي تَمْتَدُّ بمحاذاة الوادي. ففي الأزمان الحديثة كانت طريق القوافل الذاهبة جنوبًا وهي «درب الأربعين» أو طريق «دارفور» تخرج من النيل عند «أسيوط» وتمر جنوبًا بالواحة الخارجة وبسلسلة من الواحات الصغيرة أو الآبار حتى واحة سليمة، ومن ثَمَّ تسير إلى «بئر السلطان» حتى «دارفور» وهذه الطريق الرئيسية يمكن الوصول إليها بطرق متقاطعة تؤدي إلى الصحراء من «جرجا» أو «سوهاج» و«أرمنت» أو «الأقصر» و«إدفو» وبوجه خاص من «أسوان». وطريق «أسوان» تتجه نحو الجنوب الغربي وتمر بِوَاحَتَيْ «كركر» و«دنقل»، و«بئر أبو نجيل» وتصل إلى «درب الأربعين» عند واحة «سليمة»، ومن واحة «سليمة» تؤدي طريق قصيرة إلى النيل ثانية عند «ساقية العبد» أو إلى جزيرة «ساي» على مسافة أربعين كيلو مترًا شمالِي «معبد صلب». وهناك طريق أخرى أطول تؤدي إلى رأس الشلال الثالث وهو إقليم دنقلة الجديدة (الأردي) وجزيرة «أرقو» ثم «كرمة».
وعندما يفكر الإنسان في الأهمية العظمى لبئر واحد تتوقف عليها حياة القائمين برحلة طويلة ومقدار ما يتعرضون له إذا طمرتها الرمال — وكثيرًا ما يحدث ذلك — أصبح من الصعب عليه أن يحكم على إمكانيات التجارة بالسير على طرق مختلفة؛ ذلك إلى أن السطو على القوافل في الوديان التي كانت آبارها مُحَافَظًا عليها كان كثيرًا بلا شك.
ويمكن أن نلخص القول عن كيفية اختيار طرق التجارة القديمة فيما يأتي:
عندما تكون الحاصلات المطلوبة في بلاد النوبة السفلى ويصعب نقلها بسرعة مثل الأحجار اللازمة للتمثيل وغيرها، ومثل قِطَعِ الخشب الكبيرة اللازمة لبناء السفن وغيرها، فإن طريق النقل بالنيل كانت هي المستعملة في هذه الحالة. ولكن عندما يكون المطلوب نقل بضائع خفيفة الوزن تنقل على ظهور الحمير على الطريق المحاذية للنيل. وفي هذه الحالة كان يتفادى الإنسان انحناءات النيل بإتباع الطريق القصيرة، أي باختراق الصحراء مباشرة، ثم العودة إلى الطريق المحاذية للنيل. وكانت الطريق المفضلة التي تربط البلاد التي خلف «الشلال الثاني» بالأراضي التي بعده هي طريق الصحراء المارة بواحات «كركر» و«دنقلة» و«سليمة» إذا لم يكن لدى المسافر أشياء يريد قضاءها في بلاد النوبة السفلى.
وتدل ظواهر الأمور، كما قلنا سابقًا، على أن التجارة كانت في هذه الأحوال احتكارًا للملوك، ولا أدل على ذلك من نظم الحكم في الدولة القديمة، فطالما ظلت الحكومة المركزية في «منف» قوية لا يفكر أحد في ارتكاب شيء يخالف القانون، وحتى في خلال عهد الملك «بيبي الثاني» الطويل الأمد (٩٧ سنة) عندما أخذ حكام الإقطاع ينفصلون شيئًا فشيئًا عن الحكومة المركزية فإن الحال بقيت كما هي عليه من حيث احتكار الملك للتجارة. وعلى الرغم من ذلك فإن ذكر هذه الحالة لم يرد في نقوش رؤساء البعوث قط، غير أن ذلك كان مفهومًا ضمنًا لأن هؤلاء المبعوثين كانوا دائمًا يتلقَّوْن تعليماتهم من الفرعون نفسه، كما كان هو الذي يعينهم للقيام بهذه البعوث، وهكذا كانت حال هذه التجارة عندما توجد حكومة مركزية قوية في عاصمة البلاد. وهذه الحال كانت كذلك سائدة في عهد «محمد علي» الذي قبض على زمام كل موارد التجارة بعد أن كانت في عهد المماليك في أيدي أشخاص مختلفين.
المعاملات التجارية
الواقع أننا لا نعرف إلا القليل عن المعاملات التجارية بين مصر وبلاد النوبة في هذا العهد، والظاهر أن هذه المعاملات في بادئ الأمر قد ظهرت عندما كانت الروابط السياسية تسير على سبيل الود والمصافاة، وكان قوامها المنفعة المتبادلة بين البلدين، فكان المصري يدفع للمواطن النوبي أجره على الأعمال التي يؤديها له، كما كان يشتري منه البضائع الغفل التي لم يجنها بنفسه، وعندما تَأَزَّمَتِ الأحوال السياسية بين القطرين فيما بعدُ، كان لزامًا على النوبي أن يدفع جزية تُدْعَى «تنجو» لمرور تجارته عند الحدود.
حاصلات بلاد النوبة
أما ما كان المصري يبحث عنه في بلاد النوبة بوجه خاص فهو المواد الغفل لا المحاصيل المصنوعة، وتأتي في المنزلة الأولى من هذه المواد التي لا توجد في مصر أو التي كانت توجد بقلة ولا تكفي حاجة البلاد.
وقد عدَّدَ لنا «حرخوف» عند التحدث عن رحلته الثالثة في مجاهل بلاد النوبة المحاصيل التي أحضرها من بلاد «يام» فيقول: «وعُدْتُ إلى مصر مع ثلاث مئة حمار محملة بالبخور والأبنوس وزيت «حنكو» وزيت «ثاث» وجلود الفهد وسن الفيل (؟) وكل محاصيل جميلة».
ومن المحتمل أن الأبنوس والعاج كانا يُجْلَبَانِ من بلاد النوبة في العهد الطيني إلى مصر وقد عُدَّتْ منذ ذلك العهد من المحاصيل التي كان لا ينقطع ورودها تقريبًا من بلاد النوبة، ومن المحتمل أن جلد الفهد كان يُجلب كذلك إلى مصر منذ العهود المبكرة، وإن كان لم يظهر استيراده بصورة محققة إلا في تلك الفترة، ولا نعلم من جهة أخرى إلى أي عهد وُجِدَ الفهد في مصر، ولكن على أية حال فإن الحيوانات المتوحشة كانت قد أَخَذَتْ في التقهقر إلى الغابات والأحراج بدرجة ما، ثم أخذت تختفي شيئًا فشيئًا في الجبال، والواقع أنه كلما كثرت الأراضي الزراعية في مصر أخذت هذه الحيوانات الضارية تختفي أمام المدنية إما في مناقع الدلتا حيث الأعشاب وإما في جنوب الوادي؛ ولذلك كان المصري يجلب السلع التي تؤخذ من هذه الحيوانات مثل جلد الفهد من الأراضي الجنوبية. وقد كان فهد جنوب مصر يُضْرَبُ به المثل في القوة والشراسة، وقد ورد ذكره بهذا الوصف في المتون الحربية والأدبية، هذا إلى أنه كان لا يزال يوجد كذلك بكثرة في عهد الدولتين الوسطى والحديثة.
والظاهر أن هذه السفن لم تكن كثيرة العدد كما يدل على ذلك متن «وني». هذا بالإضافة إلى أن كل أهالي بلاد النوبة كانوا يساعدون في إحضار مواد بنائها، وقد يدل هذا على أن العلاقات كانت سليمة بين البلدين، ولو ظاهرًا، على أنه من المحتمل أن «وني» قد استحضر معه سفنه في الحملة الأولى من مصر ليرى إذا كان في الإمكان تنفيذ الفكرة التي نَفَّذَهَا في الحملة الثانية، وهي كما قلنا بناء السفن في بلاد النوبة نفسها.
وفي أيامنا هذه تدل ظواهر الأحوال على أنه لا يوجد خشب كثير في بلاد النوبة، ولكن يظهر أن الوقت الذي استعمرت فيه مصر هذه البلاد كانت أخشابها مزدهرة وفيرة.
هذا إلى ما وجدته «مس مري» من جَبَّانَاتٍ للثيران في جهات الصحراء في بقاع لا يمكن أن تُرَبَّى فيها الآن حيوانات. وهذا يدل على ما طرأ على وجه الصحراء من تغيير في أيامنا هذه.
وعلى ذلك فإنه عندما يفكر الإنسان في أن الوديان كانت ذات أشجار باسقة يانعة، فإنه ليس من المستحيل أنه كانت توجد في الصحراء الواقعة غربِي بلاد النوبة، أو في شمال السودان فيلة ترتع في الأدغال التي فيها.
ومع ذلك فإن خشب بلاد النوبة لم يَقُمْ بالدَّور الذي كان يقوم به خشب بلاد «لبنان» لأن خشب بلاد النوبة كان من النوع الرخيص الذي يوجد منه كثير في مصر، ومعظمه كان من خشب السنط. ولما كان خشب النوبة من النوع العادي الرخيص فإنه لم يُسْتَوْرَدْ بحالته الطبعية إلى مصر بل كان يُصْنَعُ هناك كما حدَّثنا «وني» عن ذلك. فكان على عكس الخشب الذي يُسْتَوْرَدُ من لبنان.
هوامش
حيث تقول المؤلفة: إن السلالة الثانية من سكان «نقادة» قد أتوا من «آسيا» عن طريق «وادي حمامات» في حين أن السكان الذين كانوا موجودين قد وفدوا من الجنوب.
حيث يقول: منذ العهد العتيق أو بعبارة أدق منذ عهد ما قبل الأسرات عندما ظهرت لأوَّل مرة مساكن الفالحين للأرض في وادي النيل، أخذ المِصريون يوطدون التجارة والعلاقات الثقافية مع الأقوام والقبائل المجاورة، يؤكد ذلك أنواع المواد المختلفة التي جلبت إلى مصر من البلاد المجاورة وبخاصة الذهب والعاج والنحاس وحجر الأبسيديان؛ فقد تسلم المصريون الذهب من الصحراء الشرقية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر. وكانوا يجلبونه غالبًا من الجزء الجنوبي من هذا الإقليم الواقع جنوبِي طريق قفط — القصير. والواقع أن المركز الرئيسي على أية حال للذهب هو النوبة الواقعة على الحدود الجنوبية لمصر. وقد أرسل المصريون إلى بلاد الجنوب في أثناء طلبهم الذهب منذ الأزمان القديمة، وقد اجتهدوا أولًا في اختراق مجاهل هذه الأقاليم ثم عملوا على الاستيلاء عليها وفي الوقت نفسه عملوا على إيجاد روابط تجارية مع القبائل المتوطنة هناك. ومن الجائز أن هذا السبب نفسه هو الذي من أجله سميت العاصمة الجديدة لمصر العليا المدينة الذهبية (نبتي) ومن هذه العاصمة كانت تخرج الطرق التجارية ممتدة شرقًا وجنوبًا والواقع أنه هنا في المقاطعة الخامسة من مقاطعات الوجه القبلي قد عثر على أغنى مقابر عصر ما قبل الأسرات وعصر الأسرات المبكر. وتبرهن الكميات الكبيرة من أدوات الزينة المصنوعة صنعًا فاخرًا والقلائد الذهبية والأسوار ومقابض السكاكين الذهبية المحلاة بالصور والنقوش على مهارة صائغي هذا العهد. ولا غرابة إذن في أن الكلمة المصرية الدالة على «الذهب» كانت ت كتب بإشارة هيرغليفية تدل على قطعة من المجوهرات ويدل شكلها الظاهري على أنها قلادة محلاة بالخرز.
وقد أحضر المصريون العاج بكميات مماثلة من الأراضي الجنوبية. ففي العهد العتيق استعملوا العاج لصناعة مختلف الأشياء مثل الأساور والخواتم والملاعق ومقابض السكاكين والأمشاط، والقلائد والدبابيس وقطع الأثاث والأختام الأسطوانية، والآلات السحرية والتماثيل الصغيرة وأدوات الكتابة إلخ. وقد وجد كثير من هذه الأشياء في مقابر العهد العتيق ويوجد على تمثال للإله مين في قفط الممثل بعضو التذكير منتشرًا صورة فيل. وقد بقيت صناعة الحفر والعاج ممتازة الصنع حتى الأسرة الرابعة، ومنها تمثال الملك خوفو، وليس لدينا من الأسباب ما يحملنا على الظن أن الفيلة كانت في مصر القديمة كما زعم «برستد». ولا نزاع في أن سن الفيل كان يجلب من أقاليم جنوبية نائية، والمكان الذي كان يخزن فيه العاج هو المدينة الرئيسية للمقاطعة الأولى من مقاطعات الوجه القبلي، وكان موقعها على الحدود الجنوبية لمصر بجوار الجزيرة التي سميت لهذا السبب: جزيرة الفيلة. وتدل شواهد الأحوال على أن المصريين قد أحضروا من الأقاليم الجنوبية النعام وريشه وبيضه وقد عثر على صور نعام على أوانٍ من الطين من العهد العتيق.
وهذا رأي فيه شك كبير.