الفصل الحادي والعشرون
نظرة عامة عن الحالة الدولية في هذا العهد
هذه لمحة عاجلة عن أصل ملوك الأسرة الخامسة والعشرين من الوجهة الأثرية وسنحاول هنا
بعد
ذلك أن نذكر ما نعرفه عن ملوك هذه الأسرة وعلاقتهم بمصر وما جاورها من الأمم بقدر ما
تسمح
به الآثار معتمدين في ذلك على المصادر الأصلية، ولكن قبل أن نتناول تاريخ هؤلاء الملوك
بالبحث والاستقصاء يجب أن نلقي نظرة عامة عن أحوال الشرق في هذه الفترة وعلاقة مصر به
وما
آلت إليه أرض الكنانة في نهاية عهد اللوبيين في مصر وقيام دولة لوبية أخرى من الجنوب
لاحتلالها فنقول:
امتدت رقعة الدولة المصرية في عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في آسيا
وأفريقيا حتى وصلت إلى أعالى دجلة والفرات شمالًا وحتى الشلال الرابع جنوبًا، ولكن
لم تلبث أن طرأ عليها الوهن واستولى عليها الضعف وانتابها الانحلال حتى انكمشت في
عقر دارها ولم يبق لها من أملاكها الشاسعة خارج حدودها إلا سيطرة اسمية على بلاد
كوش. والواقع أن سكان أقاليم إمبراطوريتها في غرب آسيا لم تُسْتَعْمَرْ قَطُّ
استعمارًا حقيقيًّا بالمصريين ولم تتأثر تأثرًا فعليًّا بالثقافة المصرية. والواقع
أن الضعف الحربي الذي بدا على مصر في عهد الاضطرابات الداخلية التي ميَّزت عصر
«أخناتون» ونهاية الأسرة الثامنة عشرة قد مهد السبيل إلى قيام دولة قوية أخرى في
آسيا وبخاصة دولة «خيتا» التي كان لها كتابة هيروغليفية خاصة تحدثنا عنها عند
الكلام على مملكة «خيتا»، وقد حاول «رعمسيس الثاني» بشق الأنفس القضاء على هذه
الدولة الفتية فلم يلفح واضطر في آخر الأمر لعقد محالفة صداقة
١ ولكن في ذلك الوقت كانت دولة فتية أخرى قد أخذت تظهر في الأفق وبدأت
قوتها تزداد وخطرها يعظم حتى أصبحت تُعَدُّ في طليعة الدول العظام، تلك هي دولة
«آشور» التي كانت في بادئ أمرها دولة صغيرة ثم مستعمرة بابلية. وكانت «آشور» في
بداية العصر الذي نحن بصدده لا تزال منهمكة في حروبها مع مملكة «بابل» وبلاد «خيتا»
والبلاد الواقعة على حدودها. وهذه الحروب التي كانت قائمة على حدود آشور الشمالية
والشرقية من جهة وضعف مصر ووهنها الحربي من جهة أخرى قد أخلت سبيل بلاد فلسطين
وسوريا مدة من تدخل الدول العظمى التي كانت تتطلع إليها، ومن ثَمَّ نشأت تلك
المملكة الصغيرة التي كان لها مكانة ممتازة في تاريخ العالم المسيحي بما تركه أهلها
من سجلات، وأعني بذلك بلاد «يهوذا» و«إسرائيل». ففي تلك البقعة ظهر «داود»
و«سليمان» ملك «أورشليم» و«عمري» و«آخاب» ملك «السامرة» و«حيرام» ملك «صور» و«ابن
هداد» صاحب «دمشق» وكل هؤلاء كانوا يقفون في الطليعة بوصفهم رجالًا عظماء في
الأشعار التي كتبها لنا كهنة العبرانيين ويرجع الفضل في استقلالهم إلى انشغال الدول
المجاورة وبخاصة بلاد «مسوبوتاميا» ومصر بحروبها وإصلاح شئونها المرتبكة
وقتئذٍ.
غير أن معظم هذه الممالك الصغيرة كان مصيرها إلى الزوال على أيدي الأشوريين عندما
بدءوا يشنون حروبهم لنشر سلطان بلادهم على كل بقاع العالم المتمدين في تلك الحقبة
من الزمن، هذا إلى أن البقية الباقية منها قضى عليها كل من «كلديا» و«بابل» وهما
الدولتان اللتان وَرِثَتَا إمبراطورية «آشور»، وفي الوقت نفسه كانت هذه الدويلات
الصغيرة تعيش بوصفها وحدات سياسية ذات ثقافات متقاربة جدًّا. والواقع أن أهل «دمشق»
و«فينيقيا» والإسرائيليين كانوا كلهم من أعضاء سلالة واحدة وهي السلالة السامية.
وتدل تواريخهم على أنهم لم يتطبعوا بالطابع المصري بعمق، ولكن من جهة أخرى نجد أن
بلاد كوش كانت وقتئذٍ جزءًا لا ينفصل عن مصر من حيث الثقافة والإدارة، بل والدين
نفسه، وكان يفصلها عن التأثير الآسيوي أرض الكنانة نفسها. وقد بقيت بلاد كوش لمصر
لأنها كانت جزءًا من مملكة النيل العظيمة وليست ببلد أجنبي عنها قط طوال عصور
التاريخ تقريبًا.
وقد قلنا في غير هذا المكان
٢ إن «حريحور» أول ملوك الأسرة الواحدة والعشرين كان الكاهن الأكبر «لآمون»
والقائد الأعلى للجيش ونائب الملك في «كوش» في عهد الملك «رعمسيس الحادي عشر» آخر ملوك
الرعامسة، وقد وصل بعد جمع السلطة الحربية والإدارية في يده إلى تولي عرش ملك مصر، وقد
استطاع أن يوطد سلطانه في البلاد بطريقة سهلة وذلك بجعل الوظائف العالية التي كان يسيطر
بها
أصحابها على موارد البلاد الرئيسية في يد ابنه «بيعنخي»
٣ وقد أصبحت هذه السياسة تقليدية عند أمراء «طيبة» والواقع أنه قد أوجد في مصر
حكمًا مشتركًا سهَّل توارث العرش، غير أن هذا الإجراء جاء متأخرًا جدًّا لينجي كل مملكة
«طيبة» إذ قد ظهرت في ذلك الوقت أسرة ملكية في «تانيس» قبضت على زمام الأمور في كل البلاد
بصفة شرعية، غير أنه من وقت لآخر كانت وظيفة الكاهن الأكبر يتولاها أمير «طيبة» وقد تحدثنا
في الجزء الثامن عن تفاصيل وراثة العرش والتزاوج بين أسرة «طيبة» وأسرة «تانيس» وهي لا
تَهُمُّ المطلع على تاريخ مصر بصفة عامة، كما أنها لا تهم قط الباحث في تاريخ كوش. ولكن
من
جهة أخرى نجد أنها من حيث التطورات الاجتماعية والدينية يشارك فيها السوداني المتمصر
المصري
كل المشاركة. وتمتاز الحياة القومية في كل من مصر وكوش بأنها مركبة تمامًا ومعقدة إلى
حد
بعيد فنجد ظاهرًا أن الأحفال البراقة التي كانت تقام في البلاد الملكي لا تزال تمثل حول
شخص
الملك المقدس، وكانت المعابد الفاخرة والقصور الشامخة التي أقيمت في الماضي في عهد نضارة
الإمبراطورية وعزتها مزدحمة بالكهنة والموظفين المهيمنين والمتطلعين للوصول إلى المراتب
العليا والثراء الوفير، كل ذلك كان يؤلِّف جزءًا من نظام معقد كان لا بد من بقائه مَهْمَا
كانت الأحوال لأنه كان تقليدًا عتيقًا لا يمكن التخلي عنه. وقد سجل لنا التاريخ الحادث
تلو
الحادث في كل من المعبد وديوان الحكومة عن نظم عتيقة يرجع استمرارها لا لأنها تقدم بوجه
خاص
خدمات عامة للمجتمع، بل للمنفعة الشخصية المشتركة التي تربط جماعة كبيرة من الناس المتعلمين
الأذكياء بعضهم ببعض وذلك محافظة على بقاء كيانهم. وفي هذه الحالة نجد أن المنفعة الشخصية
تتطلب مقدارًا محدودًا من المقدرة على حفظ النظام في جمع الضرائب وفي المحافظة على قدسية
الملك والآلهة، وهكذا كانت الحال في مصر تلك السنين، غير أن العدالة في هذه الفترة كانت
مجرد سياسة كما كانت الإدارة لا تخرج عن كونها تمثيلًا ممسوخًا لحكومة صالحة بالمعنى
الذي
نفهمه في عصرنا، تكتب قوانينها على الورق، وتُتْلَى ألفاظها ولكن لا يُعْمَلُ بها.
وقد ظهر الحكم الفاسد الذي وضعه جماعة من الموظفين المصريين في كل ناحية من نواحي
الإدارات الحكومية، فنجد صغار الموظفين في تلك الفترة يسرقون حظائر الدجاج وبرك السمك
التابعة للمعبد، كما نجد عمال الجبانة ينهبون بطرق منظمة سافرة مقابر الملوك والملكات
التي
كانت تزخر بالحلي والأثاث الفاخر في «طيبة» نسها على مرأى من الحراس، بل بالاشتراك معهم،
وبعلم كبير الكهنة نفسه، وإنا لفي شك من وجود أي نوع من أنواع الحيل والمكر والخداع
والتدليس والسرقة والفساد والرشوة والظلم لم يكن شائعًا يرتكبه كبار الموظفين والكهنة
على
السواء، ونحن نعلم من المحاولة التي قام بها «حور محب» لتطهير نظام الإدارة القديم الفاسد
أنه حتى في هذا الوقت لم يكن في البلاد مستوى عالٍ من الأخلاق فعلًا، ولكن في ذلك الوقت
الذي نحن بصدده كان المبدأ الوحيد الشائع في طول البلاد وعرضها هو أن المصلحة العامة
ليست
إلا الدخل الخاص لكل فرد.
على أن أعمال السوء كانت بطبيعة الحال تعد جريمة يُحَاكَمُ عليها على حسب ما جاءت
به
الكتابات الدينية التقليدية غير أنها كانت حبرًا على ورق. مثال ذلك ما جاء في الفصل الخامس
والعشرين بعد المئة من كتاب الموتى وهو سرد الآثام التي كان الْمُتَوَفَّى ينفي عن نفسه
ارتكابها عندما يقف بين يدي إلهه لِيُحَاسَبَ على أعماله في الحياة الدنيا. والواقع أن
عدم
الاكتراث بنفس هذه المبادئ الدينية التي اعترف بها أتباعها كان باديًا للعيان؛ يضاف إلى
ذلك
أن ما كانت تنطوي عليه نفس المصري وقتئذٍ من احتقار ماجن لقوة الإله كان باديًا في كل
أعماله وأفعاله ولا أدل على ذلك من أن المصري كان ينهب قبر مليكه الذي يعده إلهًا بل
أبشع
من ذلك أنه كان يسرق متاع المعبد وحلي الإله، وهذا التضاد الصارخ قد يُفَسَّرُ بأحد أمرين،
إما بالجحود والكفر والإلحاد، وهذا ليس ببعيد في مثل هذه الأوقات التي ساد فيها الفقر
والجوع، وإما بالاعتقاد الشائع في هذا الوقت في قوة الأعمال الاحتفالية وما كان ينطق
به
المشعوذون من كلمات لتضليل الآلهة للحصول على غفران لكل جريمة يمكن ارتكابها كصكوك الغفران
التي حاربها «مارتين لوثر». والواقع أن نفي الْمُتَوَفَّى أمام الإله يوم الحساب ارتكاب
الآثام التي ذُكِرَتْ في الفصل الخامس والعشرين بعد المئة من كتاب الموتى كان يُعَدُّ
قطعة
من السحر أحكمت كلماتها وكان الغرض منها فرض محاكمة صالحة للمُتَوَفَّى، فكان هذا الفصل
في
الحق تعويذة سحرية يمكن للمحق وللظالم على السواء الحصول عليها؛ وكان كل فرد لديه نسخة
من
هذه الآثام التي دُوِّنَتْ بصيغة النفي يمكنه أن يعرف بها أسماء الآلهة القائمين على
حساب
الْمُتَوَفَّى يوم القيامة، ومن الواضح أنه منذ عهد متون الأهرام كان قوة مفعول معرفة
الاسم
من مبادئ السحر المصري وكان الرجل القوي هو الذي يعرف كل أسماء الآلهة، ولا أدل على ذلك
من
قصة «أزيس» والإله «رع» عندما سيطرت عليه بمعرفة اسمه الخفي.
٤
وعلى ذلك فإن هذا العصر هو الذي كانت فيه المتون السحرية تجلب السعادة في الحياة
الآخرة
وقد بلغت هذه المتون أعظم تطور وانتشار. وهي نفس المتون التي يضمها ما سُمِّيَ حديثًا
كتاب
«الموتى» وترجع نواته إلى عهود سحيقة في القدم، وقد دُوِّنَتْ هذه المتون في أوراق بردية
خاصة كانت تُدْفَنُ مع المتوفى، كما نقش بعض أجزاء منها على جدران المقابر وعلى توابيت
الموتى وعلى جعارين القلب وعلى التماثيل المجيبة
٥ وعلى أوانٍ منوعة وتعاويذ عدة مختلفة أشكالها. وكان جعران القلب يوزن في كفة
وريشة العدالة في كفة أخرى بدلًا من القلب الأصلي. أما التماثيل المجيبة فكانت تعمل من
أجل
العمل اليومي الذي كان يؤديه المُتَوَفَّى في حقول عالم الآخرة للإله. وعلى أية حال نلحظ
أن
هذه الأشياء كان يُحْصَلُ عليها بالدرس المضني الذي كان يقوم به الكاهن الكاتب أو كانت
تُشْتَرَى من هؤلاء الكتاب الذين خصصوا أنفسهم لهذه الحرفة وأمثال هؤلاء أيامنا هم أفراد
تلك الفئة الذين يكتبون الأحجبة والتعاويذ ويبيعونها للعامة وحتى للخاصة لقضاء حاجاتهم
لتكون حرزًا لهم من الشرور والمصائب. هذا وكان السحر الذي في يد الرجل الْمُعْدَمِ في
أغلب
الأحيان بطبيعة الحال من نوع رخيص ناقص وعلى ذلك كانت النتيجة التي يحصل عليها من هذه
التعاويذ الناقصة في عالم الآخرة ليعيش هناك مخلدًا كانت من نوع رخيص نسبيًّا فقد وجدنا
أن
بعض موميات فقراء القوم ذات منظر مفزع للغاية إذ كانت عظامها مختلطة ببعض عظام أفراد
آخرين،
والمدهش أن ما نقص من بعضها كمل ببعض خرق لتأخذ شكل مومية ومعها نقوش وكتابات لم تُرَاعَ
فيها أي عناية أو دقة، ولكن سواء أكان الرجل غنيًّا أم فقيرًا فإن قوة الكلمات السحرية
والشعائر التي كانت تُقَامُ هي التي كان يُعْتَمَدُ عليها لأجل البقاء في الحياة الآخرة.
ومن ثَمَّ نفهم مقدار ما كان للمتون السحرية من أثر في نفوس القوم، كذلك نفهم لماذا
وُضِعَتْ مع المتوفى أحيانًا إضمامات من البردي غاية في الروعة والجمال والتنسيق الفني
البديع الذي يصور لنا الحياة في عالم الآخرة التي كانت تعد في الواقع صورة من عالم الدنيا
في أبهج مناظرها.
أما عن الحياة اليومية العادية فنجد أن الفكرة التي كانت تسيطر على الخلق الشخصي
ساذجة
كذلك في بابها، والمادة التي لدينا عن هذا الموضوع ليست غزيرة كالتي وجدناها في الأفكار
والآراء الخاصة بعالم الآخرة والأبدية. ومع ذلك لدينا بعض متون قليلة تكشف لنا القناع
عن
معتقدات الطبقة المتوسطة وطبقة العمال الفقيرة الحال
٦ وهي نفس ما نشاهده في أيامنا هذه في مصر الحديثة تنطوي على أفكار بدائية أساسها
الاعتقاد في الموجودات الخارقة لحدِّ المألوف، وعلى أية حال كان من البدهي لأي عقل بشري
مهما ضؤل أن يفهم أن الأعمال الشريرة كان لا يُعَاقَبُ عليها في هذه الدنيا، وكان إغضاب
مخلوق خارق للعادة يُعَدُّ عملًا خطيرًا، ولكن مثل هذه الآثام التي كان معظمها خاصًّا
بالشعائر الدينية مثل لمس محراب بأيدٍ نجسة كان من الصعب تجنُّب ارتكابها وإذا حدثت كان
على
المذنب أو الفرد الذي وقع ضحية غضبِ الإله عليه أن يقدم قربانًا أو ما شابه ذلك تكفيرًا
عن
السيئة التي ارتكبها.
وإذا حوَّلنا نظرنا إلى المعتقدات اللاهوتية عند الطبقة العليا من الكتاب وجدنا تفسيرًا
لأصل الخليقة والعلاقات التي بين الإله والعالم السفلي وكلها تشبه من وجوه كثيرة معتقدات
كهنة «بابل» وقد وصل إلينا بعضها في «التوراة» في «سفر التكوين» وهذه المعتقدات تحتاج
إلى
شرح عميق، كما نجد ذلك في الشروح التي وضعها علماء اللاهوت عند العبرانيين والمسيحيين
والمسلمين في العصور المختلفة. ولكن بالموازنة نجد أن معرفة فقهاء المصريين كانت أغنى
في
تفاصيلها، ولكن أسس معتقداتهم بالنسبة للحياة والموت كانت معتقدات عامة الشعب، ولم تكن
الآلهة كما يتصورهم المصريون يختلفون عن الناس كثيرًا، ولدينا قصة نُقِشَتْ على جدران
مقبرة
كل من الملك «سيتي الأول» و«رعمسيس الثالث»
٧ وعنوانها «هلاك الإنسانية» وملخصها أن الإله «رع العظيم» قد صار مُسِنًّا وأخذ
بنو الإنسان يتراخَوْن في احترامه وبدءوا يلعنون اسمه فجمع مجلسًا من الآلهة وأمرهم بالحضور
في هدوء خوف أن يسمعهم الناس، وقد نصح الآلهة «رع» أن يرسل «حتحور» لتُهلك بني البشر
ففزع
الناس وهربوا إلى الصحراء فتعبتهم «حتحور» وعملت فيهم التذبيح مدة يوم فأحدثت بذلك ضحايا
لا
تُعَدُّ، حتى إن شفقة «رع» استيقظت من هول هذا الذبح، على أنه لم يكن في مقدوره إعادة
كلمة
القوة التي كان يتميز بها، وعلى ذلك دبر حيلة على «حنحور» وذلك أنه حصل على كمية وفيرة
من
الجعة ولوَّنها بعصير نبات أحمر لتظهر بلون الدم وصنع منها بركة في المكان الذي تخرج
إليه
«حتحور» في اليوم التالي لذبح الناس، ولكن «حتحور» قد جُذِبَتْ بالبركة التي كان لونها
كلون
الدم ووقفت تعجب بجمال وجهها في مرآة سطح البركة وشربت منها حتى ثملت لدرجة أنها نسيت
غرضها
الأصلي وبهذه الحيلة مُنِعَ الفناء الكلي لبني البشر على يد الإله العظيم الذي نطق بكلمة
القوة ثم ندم على الأمر الذي أصدره.
ولا غرابة إذن مع تداول مثل هذه الأفكار والمعتقدات أن نجد أهمية كبرى لأوامر الآلهة
التي
كانت تُعْطَى بطريق الوحي وتُؤَدَّى بوساطة إشارات ظاهرة يصدرها الإله في المعابد الكبيرة
وهي الإشارات التي كان يقوم باختراعها وتأديتها الكهنة مستعمِلين تمثال الإله من وراء
حجاب.
ومن الأمثلة الصارخة في هذا الصدد ما حُكِيَ عن الكاهن «منخبر رع» وهو الذي أصبح ملكًا
على
مصر فيما بعد،
٨ وما أوحى به الإله له فقد قضى على الثورة وأعاد النظام إلى نصابه بوساطة
الوحي.
هذه كانت حالة مصر في بداية العصر الذي نحن بصدده وكل هذه المعتقدات والعادات كانت
منتشرة
في كل البلاد حتى نهاية حدود بلاد كوش «فآمون رع» صاحب «الكرنك» كان هو نفس «آمون رع»
صاحب
«برقل» وما كان يأتيه الكهنة في «طيبة» من فعال وأعمال كان يأتيه إخوانهم الكهنة في «نباتا»
عاصمة ملك كوش.
والحادث العظيم السياسي هو استيلاء اللوبيين على عرش مصر حوالي سنة ٩٤٥ق.م. فكانت
الجنود
المرتزِقة الأجانب يعملون في الجيش المصري منذ عهد «رعمسيس الثاني» وجنود المزوي وغيرهم
من
رجال القبائل النوبية كانوا يعملون في جيش الفرعون وحرسه منذ عهد الدولة القديمة.
٩ وفي عهد الأسرتين العشرين والحادية والعشرين أصبحت الحكومة المصرية تعتمد بوجه
خاص على الجنود اللوبيين، وعلى الرغم من أن كلًّا من «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث» قد صدَّ
اللوبيين عند محاولتهم غزو مصر واستيطانها فإن هؤلاء القوم قد نجحوا في التسرب شيئًا
فشيئًا
إلى الوجه البحري بأعداد كثيرة من أسرهم وقد استوطنوا هناك وتمصروا بسرعة، وحوالي بداية
الأسرة الحادية والعشرين أصبح «ماوستا» بن «يويو واوا» كاهن الإله «حرسفيس (حرشف)» رب
«أهناسية المدينة» وأسس له ملكًا هناك ويعتقد «ريزنر» أن هذا الكاهن هو جد ملوك الأسرة
الأولى الكوشية. وقد ظل نسله يتولون وظيفة كاهن الإله «حرسفيس» مدة أربعة أجيال في «أهناسية
المدينة» وبعد ذلك أصبح «نمروت» الذي يمثل الجيل السادس لهذه الأسرة يُلقَّبُ «الرئيس
الأعلى العظيم» ثم استولى بعده ابنه «شيشنق» على عرش مصر وأصبح يُدْعَى «شيشنق الأول»
فرعون
مصر، وتدل شواهد الأحوال على الرغم من غموض تاريخ هذه الأسرة في بادئ أمرها كما أوضحنا
ذلك
من قبل
١٠ على أنها استولت على مقاليد الأمور في مقاطعة «أهناسية المدينة» وأن «نمروت» قد
أمدَّ سلطانه على كل الدلتا ومهد الطريق «لشيشنق» لاعتلاء عرش الملك دون أية معارضة تذكر
فكان مثل هذه الأسرة في ذلك كمثل المماليك حينما استولوا على مصر من ملوك الدولة الأيوبية
دون حرب أو قتال وقد كان «شيشنق» يقود بطبيعة الحال قوة عظيمة من قبيلته الشجعان وغيرهم
من
الجنود الذين كانوا تحت إمرته.
والواقع أن اللوبيين الذين تَمَصَّرُوا قد أَدْخَلُوا حيوية جديدة في مختلف الشئون
المصرية في داخل البلاد وخارجها، ويقال إن «شيشنق الأول» الذي جاء ذكره في
«التوراة»
١١ قد عقد معاهدة مع «سليمان». وأنه خرب «أورشليم» في السنة الخامسة من حكم
«رحبعام» بن «سليمان». ونقوشه في الكرنك تبرهن على أنه قام بحملة مظفرة في فلسطين وقد
عثر
بعث جامعة «هرفارد» في فلسطين في ساحة قصر «أخاب» في «السامرة» على إناء مُهَشَّمٍ من
المرمر عليه اسم «أوسركون الثاني» وهو أحد أخلاف «شيشنق الأول»
١٢ ومن المحتمل أن هذا الإناء كان هدية مصرية إلى ملك «يهوذا» ومن ثَمَّ نعلم أن
العلاقات بين اللوبيين و«أخاب» كانت على ما يظهر علاقة ودٍّ ومصافاة، غير أننا لم نجد
ما
يشير إلى مناهض لمصر في ذلك الوقت.
والظاهر أن الشئون الداخلية في مصر لم تتأثر كثيرًا بالسيادة اللوبية، وقد تحدثنا
بإسهاب
عن ذلك في الجزء التاسع من هذا المؤلَّف ولذلك فليس من الضروري هنا أن نتحدث عن توالي
الملك
في أيدي ملوك هذه الأسرة.
وخلاصة القول إن «شيشنق الأول» زوَّج ابنه «أوسركون الأول» ولي عهده من ابنة «بسوسنس»
آخر
ملوك الأسرة الحادية والعشرين وجعل ابنه الأصغر الكاهن الأكبر لآمون. ومن المحتمل أنه
كان
وقتئذٍ يقوم بعمل نائب كوش ومن المحتمل كذلك أن أخلافه الذين خلفوه في وظيفة الكاهن الأكبر
«لآمون» كانوا كذلك يقومون بأعمال وظيفة نائب كوش، غير أننا لا نكاد نعرف شيئًا هامًّا
عن
بلاد كوش وأحوالها في هذه الفترة اللهم إلا ما جاء عن ذكر الجزية وبعض مناوشات دُوِّنَتْ
في
نقوش ملؤها المفاخرة والزهو تركها لنا الفراعنة في تلك الفترة. ويمكن القول إننا لا نكون
قد
تورطنا في أخطاء إذا قلنا إن بلاد كوش كانت تُؤَلِّفُ جزءًا من النظام المصري في ذلك
الوقت
وأنها كانت تشاطرها أحوالها على الرغم من أن ما لدينا من وثائق لا يتحدث عن ذلك صراحة.
وحوالي عام ٧٥٠ق.م. أي بعد تولي «شيشنق الأول» ملك مصر بمئتي سنة أو بعد مُضِيِّ حوالي
ثلاث
مئة سنة عن آخر إشارة هامة عن بلاد كوش في النقوش المصرية ظهرت هذه البلاد مرة أخرى في
السجلات المصرية، لا بوصفها إقليمًا تابعًا لمصر، بل بوصفها مركزًا لمملكة مستقلة كانت
مدينة «طيبة» تعد آخر حدودها الشمالية. ومما يُؤْسَفُ له أن البحوث التاريخية لم تصل
حتى
الآن إلى إماطة اللثام عن أصل هذه المملكة على وجه التأكيد. وعلى أية حال نلحظ الحيوية
الأولى التي وجدناها في الأسرة اللوبية التي أسسها «شيشنق» قد أخذت تضعف وانقسمت البلاد
على
بعضها وأصبح كل أمير لوبي يحكم حكمًا مستقلًّا في الجزء الذي كان يسيطر عليه هو وجيشه
من
البلاد ولا يربطه بالفرعون إلا دفع الضرائب وسيادة اسمية، وهؤلاء الحكام قد سَمَّوْا
أنفسهم
في نهاية الأمر ملوكًا وقد استقل بعضهم فعلًا عن الفرعون.
ولا بد أنه في مثل هذه الأحوال قد حدث أحد أمرين، فإما أن يكون اللوبيون الذين كانوا
في
جبل «برقل» قد انتهزوا هذه الفرصة وانقضوا على مصر بجيش عظيم على رأسه «كشتا» واستولى
على
«طيبة» واتخذها عاصمة لملكه، أو يجوز أن الأمير اللوبي الذيكان تحت إمرته جيش كوش قد
جعل
نفسه بحالة ما مستقلًّا عن مصر في هذه الأصقاع. ويظن «ريزنر» أن هذا الرجل هو القائد
الأعلى
ابن الملك «شيشنق الثالث» وقد عُثِرَ له في «نوري» على نقش باسمه «باشدت باست»، والظاهر
أنه
لم يحمل قط لقب الملك ولكن الرجل الذي حمل لقب ملك مصر كان غيره، إذ دلت الكشوف الحديثة
على
أن رأس أسرة كوش كان يُدْعَى «ألارا». وعلى أية حال لا يزال موضوع الفاتح الأول لمصر
من
الجنوب من الموضوعات الغامضة لأننا وجدنا «كشتا» على عرش «طيبة» دون أي إشارة لقيامه
بأية
حروب أو ما يشير إلى أية حروب في عهده قط. والغريب المدهش في أمر هذا الملك أننا لم نعثر
على أثر منفردًا كما سنرى بعد إلا نادرًا جدًّا.
هوامش